الثلاثاء، 18 ديسمبر 2018

السّؤال في مواجهة الوحدة والشّكّ.





قراءة في قصيدة للشّاعر التّونسي المكّي الهمّامي.


مادونا عسكر/ لبنان

- النّصّ:


مفردٌ، كَإِلَهٍ يحاصِرُهُ البَردُ في عَرْشِه
مفردٌ، كمُصادفةٍ. مفردٌ
مفردٌ، وشريد...
لي شُكوكُ، وأسئلةٌ صعبةٌ، وهزائمُ
مُرعبةٌ. هذه ثروتي، في الوجود.
وأعرفُ: خاتِمتي أن أعود،
إلى ظُلمَةِ القَوْقَعَة !

- القراءة:

"اللّغة ابتكرت كلمة "الوحدة" لوصف ألم أن تكون وحيداً وابتكرت كلمة "العزلة" لتصف شرف أن تكون وحيداً. (بول تيليش). والشّاعر المكّي الهمامي يتخبّط بين ألم الوحدة وشرف العزلة في في ما يشبه كتابة سيرة ذاتيّة تختصر الألم، ألم الشّاعر. ولئن كان الشّعر ينبع من الألم والتّجربة والاختبار ويصبّ في هيكليّة الجمال، ابتنى الشّاعر سيرته الذّاتيّة في عالم شعريّ. فنبتت بين السّطور رؤيته الفلسفيّة، وتجربته، واختباره الشّخصيّ مع ألم الوحدة، وقراره الوجوديّ بالانتهاء إلى شرف العزلة.
يحدّد لفظ (مفرد) الّذي يتكرّر أربع مرّات في القصيدة تقييم الشّاعر لذاته أوّلاً وموقعه من العالم ثانياً. ولعلّ هذا اللّفظ يترادف في القصيدة ومعنى الوحدة والتّفرّد والانعزال.

(مفردٌ، كَإِلَهٍ يحاصِرُهُ البَردُ في عَرْشِه)

تتجلّى المعاني متناقضة متنافرة في هذا البيت لترسم صورة عن عمق الألم في قلب الشّاعر. وكأنّي به يعبّر عن فقد لقدرة أو سلطة أو عجز (إله يحاصره البرد). وليس الشّاعر بصدد تأليه ذاته بل يأخذنا معنى لفظ (كإله) إلى أبعاد سلطويّة يتفرّد بها الشّاعر وحده ما لبثت أن تجمّدت (يحاصره البرد في عرشه). وما دلالة العرش إلّا رمز لخصوصيّة القدرة والسّلطة. ويقحم الشّاعر (البرد) ليكثّف معنى الألم، ألم الوحدة لينتقل المعنى من تفرّد كينونة الشّاعر إلى المعنى المراد منه الوحدة المؤلمة. ويتعمّق الألم ويتصاعد ليتماثل مع عدم الفهم الحقيقيّ لهذا الألم، أو التّأمّل بصمت له (مفردٌ، كمُصادفةٍ). وإن دلّت المصادفة على أمر عرضيّ تبيّن للقارئ تفرّد الشّاعر في ألمه الّذي يعتبره خاصّاً جدّاً أو لا مثيل له. ما جعله شريداً عن نفسه لا مأوى له. (مفردٌ// مفردٌ، وشريد...). فبقدر ما يشعر الشّاعر بالوحدة يغترب عن ذاته.
ترتبط السّطور الثّلاثة الأولى ببعضها لتشكّل بنية الشّاعر النّفسيّة المتخاصمة مع الواقع لتؤدّي إلى استفهام وجوديّ وحاجة لإدراك هذا الواقع، فيطرح ضمناً إشكاليّة كيف ولماذا. (لي شُكوكُ، وأسئلةٌ صعبةٌ) والصّعوبة تكمن في عدم القدرة على استيعاب وتفسير الواقع من جهة، وكيفيّة التّعامل معه من جهة أخرى. لكن يبدو أنّ هذه الشّكوك والأسئلة متجذّرة في الشّاعر، تحرّك صراع العقل مع الواقع الوجوديّ وتتلاقى مع الهزائم الّتي يصفها الشّاعر بالمرعبة. فيخرج المعنى عن إطار الواقع الآنيّ ليمتدّ إلى زمن يعرفه الشّاعر وحده ويتأمّله ويترافق معه. ما دلّت عليه عبارة (هذه ثروتي، في الوجود). فذاكرة الشّاعر مترعة بالاختبارات المؤلمة الّتي أدّت إلى الوحدة ونتجت عنها في آن لتشكّل غنىً على المستوى المعرفيّ والفلسفيّ، قد لا ينتشل الشّاعر من وحدته لكنّه يمنحه شرف العزلة.

وأعرفُ: خاتِمتي أن أعود،
إلى ظُلمَةِ القَوْقَعَة !

النّتيجة الحتميّة للألم الّذي يسبقه مخاض عسير فيخلص إلى الاختلاء بالّذات والعزلة عن المحيط لإمكانيّة رؤيته من زاوية أخرى تمكّن الشّاعر من الإجابة على الأسئلة الصّعبة وتلمّس الحقيقة لإزالة الشّكوك. لكنّ الخاتمة تشبه البداية أو عودة إلى نقطة الصّفر، فالشّاعر يدور في فلك التّساؤل الوجودي الّذي قدر لا يفضي بالضّرورة إلى إجابات واضحة. وقد يؤدّي إلى مزيد من التّساؤلات والاستفهامات. ولعلّ ظلمة القوقعة دلّت ضمناً على عدم تصالح الشّاعر مع الواقع والنّفور منه ليتصادق مع العزلة وإن كانت مظلمة. وكأنّي به يقول مع إليف شفاق: "ولقد آمنتُ مُبكّرًا بحقيقة إنسانيّة واحدة شهدتُ رفض اﻵخرين لها دونَ جدوى: الوحدةُ جُزءٌ مُلازمٌ لكينونة اﻹنسان."


الثلاثاء، 6 نوفمبر 2018

استبطان الذّات الرّائية في قصيدة "الدّاخل أرحب" للشّاعر يوسف الهمامي



مادونا عسكر/ لبنان
- النّصّ:
الدّاخل أرحـب
سقطتُّ في السّماء
كنت أعرجُ في أرض
بلا نافذة..
هناك على الحافّة..
أصرخُ لا يَسمعني أحد
..
أمشي ببطء كعادتي
أطلق بسملتي على البّاب
لكنّي لا أفتحه ..
..
الفكرة تقسو على العتبة
الإنصات لما تقوله الاشياء
يُكلّفني كثيراً..
..
أين الأرض..؟
الفسيلة كادت تذوي
في يدي..
لا أعرف أين أنا
غير أنّي أتّجه إلى هناك
العثراتُ أقسى
من أشواك الطّريق
**
أجثمُ في نفسي بصمت
لا محراب إلاّ في القاع الجليل
الّذي يغمرني ببياضه..
..
الدّاخل أرحب
الهذيان الذي أَغْرَقَنِي
في حكمته..
مَدَدْتُ في رحابه سجّادي
..
ما ثمّة آفاق موصدة..
وراء الغيم مباشرة
تتشرّع النّوافذ..
- القراءة:
في درجة متقدّمة من الاستنارة الشّعريّة، يرتدّ الشّاعر التّونسيّ يوسف الهمّامي إلى الدّاخل معلناً حقيقة أدركها بالفعل (الدّاخل أرحب) وكأنّي به يلج عمق المعنى القائل "وتحسب أنّك جـِرمٌ صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر". لقد دخل الشّاعر عمق هذه الحقيقة الّتي يحياها ومن خلالها يعيد قراءة ذاته ومحيطه واختباراته. ولعلّه يخطّ سيرة ذاتيّة من نوع خاصّ تنطلق من خارج إلى داخل، لا لتبيّن لنا انتقال الشّاعر من خارجه إلى داخله وإنّما يروي من خلالها يوسف الهمامي مسيرته نحو الاستنارة الفكريّة والرّوحيّة.
(الدّاخل أرحب) العنوان الحقيقة المستحوذ على الشّاعر الإنسان بمعنى أنّ الشّاعر وصل إلى رتبة خاصّة في الشّعر مكّنته من ولوج العالم الدّاخليّ الّذي عاشه بالقوّة واليوم يحياه بالفعل. الدّاخل أرحب ممّاذا؟ من الأرض أم من الكون أم من الشّاعر نفسه. ولعلّنا أمام المدخل إلى القصيدة (سقطتُ في السّماء) نتيقّن أنّ الشّاعر يعيد قراءة تاريخه على ضوء حضوره في لحظة نشوة شعريّة سماويّة فصلته عن كونه، فحلّق عالياً ثمّ سقط في المكان المعدّ لهذه الاستنارة. ويشير الفعل (سقطت) إلى ارتقاء سابق جعله في الأصل فوق العالم. فهو لم يستخدم لفظ (صعدت إلى السّماء) أو (رأيت السّماء) بل يتحدّث عن فعل سقوط في السّماء. وكأنّي به يشير إلى أنّ الدّاخل الأرحب هو السّماء. فيفهم القارئ أنّ السّماء حاضرة في كينونة الشّاعر وسقط فيها كفعل ارتحال نهائيّ وانفصال نهائيّ عن الأرض.
لم يكن الشّاعر غافلاً عن الحقيقة ولا يعرّف القارئ على حقيقة اكتشفها، وإنّما يعرّفه على القرار بولوجها. وهو يعي جيّداً أنّه كان على مشارفها فوضعنا أمام مشهدين. المشهد الأوّل السّماء الحاضرة فيه (سقطّت في السّماء) الدّالّة على التّحرّر من كلّ شيء، والمشهد الثّاني الخطوة المتعثّرة  بضعف الإنسان الّذي لم يتحرّر بعد، ما يشعره أنّه مقيّد بذاته (كنت أعرجُ في أرض  بلا نافذة.. ). النّافذة المفقودة في الأرض دلالة على الانغلاق الكلّيّ. ومن جهة الشّاعر هي دلالة على  صعوبة العيش في منطق هذا العالم (كنت أعرج). وتكمل المعنى عبارة (أمشي ببطء كعادتي ) تدلّ على سعي دؤوب للشّاعر ولكنّه سعي تنقصه الاستنارة ليعاين الحقيقة (أطلق بسملتي على البّاب / لكنّي لا أفتحه .. ).
الشّاعر أمام الحقيقة الثّابتة، يعاينها يتّصل بها بالرّجاء (أطلق بسملتي) لكنّه لا يلجها ليس لأنّه متردّد وإنّما لأنّ الوقت لم يحن بعد. الارتداد إلى الدّاخل أمر شديد الصّعوبة، ويتطلّب الكثير من التّأمّل والإصغاء إلى الصّوت العميق في قلب الإنسان. الشّاعر على عتبة الحقيقة يصغي بتمعّن إلى صوتها على الرّغم من كلّ الصّعوبات الّتي تواجهه نتيحة هذا الإصغاء الدّقيق. فالشّاعر يرى ويسمع ويعاين لكنّه محاط بأرض بلا نافذة. أي أنّه مقيّد بشكل أو بآخر بوجوده في هذا العالم. هو يحيا من جهة في السّجن الكبير/ الكون ويحيا من جهة أخرى الحرّيّة الدّاحلية/ السّماء. وهنا تتجلّى الغربة الّتي تشكّل ذروة الألم.
 (الإنصات لما تقوله الاشياء/ يُكلّفني كثيراً)/ (لا أعرف أين أنا/ غير أنّي أتّجه إلى هناك) إشارات إلى وعي الشّاعر الكامل بداخله الأرحب، لكنْ لا بدّ من السّعي لاستحقاق هذا الدّاخل. كما أنّه لا بدّ من قرار يُتّخذ في اعتناق هذا الدّاخل والمكوث فيه والتّحرّر من خلاله بمعزل عن المحيط.
أجثمُ في نفسي بصمت
لا محراب إلاّ في القاع الجليل
الّذي يغمرني ببياضه..
يجثم الشّاعر في السّماء حيث سقط فنفسه هي المكان الحقيقيّ الّذي يلتقي به بالحقيقة، بالسّماء، بالله. في نفسه، في عمق العمق، حيث لا حس ولا سمع ولا بصر يسكن الصّوت الإلهيّ الّذي يغمر الشّاعر ويطهّره ويحرّره ويكتبه. في هذا العمق الجليل يتحاور الشّاعر مع محبوبه الإلهيّ معتبراً هذا العمق هو المكان الأرحب المهيّأ للصّلاة (الدّاخل أرحب / الهذيان الذي أَغْرَقَنِي / في حكمته.. / مَدَدْتُ في رحابه سجّادي).
وإذا ما جثا الشّاعر في سمائه اتّحد بالصّوت والكلمة وتحرّر وبلغ الحقيقة (ما ثمّة آفاق موصدة)، بل انغمس فيها واغتسل بمائها (وراء الغيم مباشرة / تتشرّع النّوافذ..). الغيم الدّال على فيض الماء وانسكابه يشير إلى لحظة خاصّة وربّما دامعة انقشعت بعدها الحقيقة ولعلّه في هذه اللّحظة المقدّسة أطلق بسملته على البّاب وفتحه.

السبت، 3 نوفمبر 2018

مغازلة النّور في رحاب الخفقان



إذا كان العقل هو روح الحرّيّة كما يقول الشّاعر اللّوكسمبورغي (لينتز)، فلا بدّ من أنّه يرتقي درجات السّموّ العشقيّ. فروح الحرّيّة المتمثّلة بالتّفلّت من العناصر الّتي تحول بين الإنسان وبلوغ الحقيقة، تحتاج حالة عشقيّة خاصّة يخفق لها العقل. قد لا نتنبّه إلى الانجذاب العقليّ الّذي يحصل بين فكرين. ذاك الانجذاب الّذي يخلق حالة من الأسر والاشتياق إلى الحقيقة. فالعقل الفلسفيّ الّذي يسعى جاهداً باحثاً عن الحقيقة هو في حالة عشق لها. وهو المأسور بها، يكرّس حياة كاملة لملامستها. والتّبادل الفكريّ يؤجّج حالة الانجذاب ويسهم في خلق علاقة حميميّة سواء أكانت هذه العلاقة بين شخصين أو بين الله والإنسان كما نعاين حالة الانجذاب عند الصّوفيين. فالصّوفيّ عاشق انفتح بعقله على النّور الإلهيّ، وسمح له أن يتسرّب إلى قلبه. ما يعني أنّ العقل العاشق هامَ في النّور حدّ انخطاف القلب.
والعشق العقليّ مختلف عن البحث العقليّ؛ لأنّه بلغ رتبة أرفع من التّحليل والتماس المعرفة. إنّه لحظة ما بعد الحالة الصّوفيّة الّتي يتماهى فيها العقل المستنير والقلب المتقّد. فلا تنفصل الاستنارة العقليّة عن الانفتاح القلبيّ والرّوحيّ. قد لا تكون هذه الحالة ثابتة، لأنّها تخضع لبشريّة الإنسان، وقد تختلف من شخص إلى آخر، لكنّها قائمة بحدّ ذاتها. وبالحديث عن حالة عشقيّة فضرورة الاختلاف حتميّة. إذا كانت سطوة الكلمة تلتهم العقل وتؤثّر عليه بشدّة وهي، أي الكلمة، القوّة الخارقة الّتي تستحوذ على الفكر فتبدّله وترتقي به. فذاك يعني أنّ العقل يدخل في حالة عشق مع الكلمة وسرّها.
عندما بلغ الحلّاج رتبة ما بعد الحالة الصّوفيّة وانصهرت الاستنارة العقليّة بالهيام القلبيّ العاشق لله، هتف: "أنا الحقّ". وبذلك عبّر عن أرفع حالات العشق الّذي بلغ ما بلغه من معاينة للحقيقة. ما دفعه إلى الاستعداد للموت في سبيل التّحرّر الكامل ليلتقي بها. وإذا قال إنّه الحقّ، فليعبّر عن اتّحاد عشقيّ عقليّ قلبيّ، بل كيانيّ. يؤكد القدّيس غريغوريوس النّزينزي على أنّ الله لا يمكن إدراكه، ولكن  يستشفّه العقل بعض الاستشفاف، وذلك لكي يُعطى للعقل دافع وحافز لينجذب إلى الله، لأنّه حسب رأيه، عدم إدراكه كليًا فيه إحباط وفشل وخيبة أمل من الدّنو منه. هذا الاستشفاف العقليّ للحضور الإلهيّ  هو التّأمّل بإمعان في الحقيقة والانجذاب لها حدّ الالتحام بتفاصيلها، فيستسلم لها القلب العاشق. ونمسي أمام عشق متحرّر من العاطفة الهشّة، متدرّج صعوداً نحو العشق الإلهيّ. فالعشق أعظم من عاطفة، وأعمق من مشاعر قد تتبدّل في أيّ وقت وتحت أيّ تأثير. العشق حالة اختلاج العقل وانسحاق القلب أمام النّور وارتجاف المعرفة أمام الجمال الأسمى. فهل يخفق العقل إذا ما غازله النّور وأرسى بظلاله على جذوره المتمدّدة في القلب؟

مادونا عسكر/ لبنان


الوجود الإلهيّ بين ديكارت والقدّيس غريغوريوس



مادونا عسكر/ لبنان
لقد سبق القديس غريغوريوس النزينزي ديكارت بقرون بالحديث عن إمكانيّة إدراك الله عقليّاً. فالوعي العشقيّ هو وعي الكينونة الإنسانيّة الّتي يشكّل العقل فيها عنصراً أساسيّاً. لكنّه لا يتطرّف ويلغي كلّ مقوّمات الإنسانيّة. ويحرص على النّموّ بالنّفحة الإلهيّة الكامنة في الإنسان. "وجبل الرّبّ الإله آدم تراباً من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفساً حيّة."(تكوين 7:2) ونسمة الحياة الّتي هي أنفاس الله في الإنسان جعلته مهيّأً بكلّيته إلى الاتّصال بالله، عقليّاً وروحيّاً. وبفقدان أحد هذين العنصرين يختلّ توازن العلاقة. ما نقرأه بشكل أو بآخر في فكر ديكارت الّذي ذهب بالعقلانيّة إلى آخر حدودها دون إلغاء الإيمان. لكنّه أراد أن يقول إنّ العقل الّذي هو من الله كما الإيمان يمكنه أن يقدّم دلائل عقلانيّة لإدراك الوجود الإلهيّ. وإنّ العقل الصّافي إذا ما رتّب الأفكار وأعاد النّظر في أساليبه تمكّن من البحث عن الحقيقة.
انطلاق ديكارت من الشّكّ ما هو إلّا دلالة على الضّعف الإنسانيّ الّذي يعيه  ديكارت لكنّه بالمقابل يستخدم الشّكّ المنهجيّ الّذي ليس بالأمر السّهل، لأنّه يحتاج إلى استنفار دائم ووعي شديد. لقد شكّ ديكارت في الله كما في كلّ الموجودات ليثبت وجودها. وها هو يبلغ إثبات الوجود الإلهيّ بالمنطق العقلي الّذي يتساوى مع الإيمان عند ديكارت. لأنّه تحدّث عن إدراك الله بالنّور الفطري الحاضر في الإنسان. ولأنّه يرى أنّ الخطأ لا يأتي من العقل الّذي منحه الله للإنسان، وإنّما من كيفيّة تطبيق العقل على الأمور.
لكنّ القدّيس غريغوريوس لم يضع الوجود الإلهيّ موضع شكّ لبلوغ الحقيقة. كان القدّيس غريغوريوس داخل الحقيقة لذلك أمكنه الكلام عن الإدراك العقليّ لله. ولا بدّ من أنّه يتحدّث عن إدراك بالعقل المستنير  الصّافي الّذي اعتمد على النّور ليعاين النّور. فإذا ذهبنا بالعقلانيّة البحتة لإثبات الحضور الإلهيّ، تخبّطنا بالضّعف والمحدوديّة. فكيف يمكن للمحدود أن يدرك كامل حقيقة اللّامحدود؟ العقل الإنسانيّ بالكاد يتلمّس جزءاً يسيراً من هذا الحضور. "الله كان كائناً دائماً وهو كائن في الحاضر وسيكون دائماً إلى الأبد، أو بالحريّ، هو كائن دائماً. لأنّ "كان" و"سيكون" هي أجزاء من الزّمن ومن طبيعتنا المتغيّرة. أمّا هو فهو "كائن" أبديّ، وهذا هو الاسم الّذي أعطاه لنفسه عندما ظهر لموسى "أنا هو الّذي هو" (خروج 3: 14). لأنّه يجمع ويحوي كلّ "الوجود". وهو بلا بداية في الماضي، وبلا نهاية في المستقبل، مثل بحر عظيم لا حدود لوجوده، لا يُحدّ ولا يُحوى، وهو يتعالى كلّيةً فوق أيّ مفهوم للزّمان وللطّبيعة، وبالكاد يمكن أن يُدرك فقط بالعقل. ولكنّه إدراك غامض جداً وضعيف جداً. ليس إدراك لجوهره، بل إدراك بما هو حوله، أي إدراكه من تجميع بعض ظواهر خارجيّة متنوّعة، لتقديم صورة للحقيقة سرعان ما تفلت منّا قبل أن نتمكّن من الإمساك بها، إذ تختفي قبل أن ندركها. هذه الصّورة تبرق في عقولنا فقط عندما يكون العقل نقيّاً كمثل البرق الّذي يبرق بسرعة ويختفي."
ولمّا كان الإدراك العقليّ ضعيفاً جدّاً وبالكاد يتلمّس الحقيقة، أعوزته الاستنارة كي يتمكّن من ملامسة الجوهر الإلهيّ. والاستنارة درجة من الوعي الشّديد لكنّه وعيٌ إلهيّ نتج عن الاتّصال بالله، والعلاقة معه والانجذاب له. فالعقل المنجذب إلى الله يدرك الله وأمّا العقل غير المنجذب لا يمكنه ذلك. وذلك لأنّه يحتاج إلى العنصر الإلهيّ. ما يعني أنّه يحتاج إلى تنشيط العمل على الاهتمام بنسمة الحياة الّتي نفخها الله فيه. إنّ المتصوّفين الّذين يسمعون حديث الله في قلوبهم ويحاورونه لا يتخلّون عن العقل بل إنّهم يرتفعون به إلى الله. بمعنى آخر، المتصوّف عاقل يحاور العقل الإلهيّ أو العقل الأعلى. وليبلغ الحوار ما يبلغ من درجة قدسيّة ينبغي أن يرتقي إلى العقل الأعلى.  وإلّا فكيف يمكن لهم أن يفهموا اللّغة الإلهيّة؟ وبذلك يمكن القول إنّ عقل المتصوّف يتّحد بروحه فيفهم لغة الله البسيطة. وهي لشدّة بساطتها تستلزم من العقل أن يتحرّر من كلّ أسلوب تقليديّ وكلّ منهج معرفيّ يخرج عن إطار هذه اللّغة ليستحيل عقلاً في الله ولله. "أعتقد أنّ هذا الإدراك يصير هكذا، لكي ننجذب إلى ما يمكن أن ندركه، لأنّ غير المدرك تماماً، يُحبط أيّة محاولة للاقتراب منه. ومن جهة أخرى فإنّ غير المدرك يثير إعجابنا ودهشتنا، وهذه الدّهشة تخلق فينا شوقاً أكثر، وهذا الشّوق ينقينا ويطهرنا، والتّنقية تجعلنا مثل الله. وعندما نصير مثله، فإنّي أتجاسر أن أقول إنّه يتحدّث إلينا كأقرباء له باتّحاده بنا، وذلك بقدر ما يعرف هو الّذين هم معروفون عنده. إنّ الطّبيعة الإلهية لا حدّ لها ويصعب إدراكها. وكلّ ما يمكن أن نفهمه عنها هو عدم محدوديتّها، وحتى لو ظنّ الواحد منّا أنّ الله بسبب كونه من طبيعة بسيطة لذلك فهو إمّا غير ممكن فهمه بالمرّة أو أنّه يمكن أن يُفهم فهماً كاملاً. ودعنا نسأل أيضاً، ما هو المقصود بعبارة "من طبيعة بسيطة"؟ لأنّه أمر أكيد أنّ هذه البساطة لا تمثّل طبيعته نفسها، مثلما أنّ التّركيب ليس هو بذاته جوهر الموجودات المركبة". إنّ الطّبيعة الإلهيّة البسيطة الّتي تبدو عصيّة على العقل البشريّ تجذبه ليبحث عنها ويدور حولها ويتقبّلها كفكرة ثمّ كحقيقة تتسرّب إلى الكيان الإنسانيّ بالمحبّة، ما دلّت عليه عبارة (يتحدّث إلينا كأقرباء له باتّحادنا به). وهنا يتساوى العقل بالمحبّة،  فالمحبّة فلسفة إلهيّة ومنطق إلهيّ. وإذا  تمنطق العقل بها انجذب إليها أكثر وتشوّق إليها بألم يطهّر العقل والنّفس ليتمكّن الإنسان من محاورة الله. ولمّا كانت هذه الطّبيعة لا تمثّل نفسها، بدا من الصّعب تحديدها. فعندما نقول إنّ الله محبّة، لا نعني بذلك أنّ الله في مكان والمحبّة في مكان آخر، كما أنّنا لا نعني أنّ المحبّة جزء منه، بل المحبّة جوهر الله، بل هي الله. وحتّى لو وصلنا إلى هذا المفهوم- أي الله محبة-، فنحن ما زلنا عند حدود التّمتمات البشريّة لأنّه أعظم من ذلك وفوق كلّ شروحات بشريّة.
إنّ قواعد العقل البحثيّة تنطلق من بداية لتبلغ نهاية أو نتيجة، ما لا ينطبق على الله الّذي لا بداية له ولا نهاية. اعتمدت فلسفة ديكارت على افتراض الوجود الإلهيّ لكنّ ذاك لا يعني أنّه انطلق من نقطة بداية. وأمّا القدّيس غريغوريوس اعتمد على الاختبار الخاص مع الله، حضور الحبّ الّذي لا يخضع للابتداء والانتهاء، والمعادلات العلميّة. إنّه اللّابداية واللّانهاية، والخارج عن الزّمان والمكان. وهذا الاختبار البالغ الخصوصيّة يُخضع العقل للعشق فينصهر به فيعشق الإنسان الله بعقله كما بروحه. فيبلغ الله لا ليثبت وجوده بل ليحيا به وفيه.
"يمكن التّفكير في اللّانهائيّة من ناحيتين، أي من البداية ومن النّهاية، لأنّ كلّ ما يتخطّى البداية والنّهاية ولا يُحصر داخلها فهو لا نهائيّ. فعندما ينظر العقل إلى العمق العلويّ، وإذ لا يكون لديه مكان يقف عليه، بل يتكّئ على المظاهر الخارجيّة لكي يكوّن فكرة عن الله، فإنّه يدعو اللّانهائي الّذي لا يُدنى منه باسم "غير الزّمنيّ". وعندما ينظر العقل إلى العمق السّفليّ وإلى أعماق المستقبل، فإنّه يدعو اللّانهائيّ باسم "غير المائت" و"غير الفاني". وعندما يجمع خلاصته من الاتّجاهات معاً فإنّه يدعو اللّانهائي باسم "الأبدي"، لأنّ الأبديّة ليست هي الزّمان ولا هي جزء من الزّمان لأنّها غير قابلة للقياس. فكما أنّ الزّمان بالنّسبة لنا هو ما يُقاس بشروق الشّمس وغروبها هكذا تكون الأبديّة بالنسبة للدّائم إلى الأبد".
يدخل الإنسان حيّز الخلود في اللّحظة الّتي يومض العشق في وجوده فيخلد شخصه. لأنّه إذا كان العاشق يحاور الله ويصغي له ويتّحد به، وإذا كان العاشق متمنطقاً باللّغة الإلهيّة فلا بدّ من أنّه انفصل عن العالم ليحيا الأبد.

التّحيّر أوّل منازل الوصول



مادونا عسكر/ لبنان
"طوبى لمن حار" (ابن عربي)
يقول الشّيخ عبد الكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم الجيلي في كتاب المناظر الإلهيّة: "الحيرة هي عين الثّبوت. ونهاية ما يعبّر عنه في هذه الحيرة وهذا العجز بأن يقال: إنّه يجد كمالاته الإلهيّة الّتي هي له، على ما هي عليه من عدم النّهاية الّتي يعجز العلم عن الإحاطة بها من حيث أنّها لا نهاية لها". ويقول الشّيخ السّراج الطّوسي في كتاب اللّمع: "والحيرة بديهة ترد على قلوب العارفين عند تأمّلهم، وحضورهم  وتفكّرهم، تحجبهم عن التّأمّل والفكرة. والتّحير: منازلة تتولّى قلوب العارفين بين اليأس والطّمع في الوصول إلى مطلوبه ومقصوده، لا تطمعهم  في الوصول فيرتجوا، ولا تؤيسهم عن الطّلب فيستريحوا، فعند ذلك يتحيّرون".
وبين الحيرة والتّحيّر يغرق ابن الفارض في حوار داخليّ عميق ذي اتّجاهات  ثلاثة. الأوّل باتّجاه الحبيب والثّاني باتّجاه القلب والثّالث باتّجاه الذّات، فيبدو حواراً متكاملاً لكنّه يصبّ في وحدة العشق. الوحدة الّتي تمتزج فيها الذّات مع نور العشق الجاذب الّذي يتوق إليه العاشق وهو سابح فيه. إنّه رجاء الرّؤية والعذاب الّذي يمزّق قلب العاشق حتّى يبلغ الدّهشة. وتبلغ الحالة العشقيّة أوجها عند اشتعال القلب من شدّة الاشتياق لكنّ العاشق لا يكتفي ويطلب المزيد. بل إنّه من شدّة العشق يثمل ويسأل مزيداً من الثّمالة:
                زدني بفرطِ الحبِّ فيكَ تحيُّراً              وارحمْ حشًى بلظى هواكَ تسعَّراً

في طلب المزيد من التّحيّر لذة الشّوق الكامنة في القلب الّذي يرجو قرب القرب ورؤية المحبوب. لكنّه يعلم أنّ الرّؤية قد تحجب عنصر الشّوق حيث إنّه إذا رأى بطل الرّجاء. ويتألّم بشدّة في هذا النّزاع، بين نار التّوق ورغبة الرّؤية. لعلّ هذه الحالة هي ذروة العشق، كأنّ العاشق أمام مرآة يهمّ للمس اليقين لكنّ الزّمان والمكان يحاصرانه.
فاسمَحْ، ولا تجعلْ جوابي: لن تَرَى
وإذا سألتكَ أنْ أراكَ حقيقة ً

في الوعي العشقيّ إدراك تام  لطبيعة الحبيب، بمعنى أنّه يستحيل لقاؤه حسّيّاً في قلب الزّمن. لكنّ هذا الأمر لا يلغي السّؤال، فالعاشق يريد أن يرتاح من عذاب الاشتياق لأنّه بلغ ما بلغه من يقين تام بحضور المعشوق. وللحضور قوّة تستحوذ على الحواس أكثر ممّا يُظنَ. فيشعر العاشق كأنّه على بعد خطوة من هذه الرّؤية، وما يلبث أن يأسره المكان. فيضيق ذرعاً ويلتمس الرّؤية كظامئ في الصّحراء إلى قطرة ماء. فالرّؤية هنا ليست بالمعاينة الماديّة بقدر ما هي تنعّم بالجمال الأعلى. فالعاشق يرى ضمناً، لكنّه يريد أن يرى حقّاً (وإذا سألتك أن أراك حقيقةً). واستناداً إلى قول ابن الفارض نفهم أنّه ينعم برؤى القلب لكنّه يرجو رؤية وجهاً لوجه. ما يحيلنا إلى قول القدّيس بولس: "فإنّنا ننظر الآن في مرآة، في لغز، لكن حينئذ وجهاً لوجه. (1كورنثس 12:13). في الآن تتجلّى المعرفة العميقة في القلب فيتراءى المحبوب الحبيب واضحاً للعمق الإنسانيّ. لكن حينئذٍ، عند امتزاج العاشق بالمعشوق يكون اللّقاء وجهاً لوجه.
تلتبس المعاني عند ابن الفارض من جهة تعريف الحياة، ولهذا الالتباس فهم خاص عند الصّوفيّة أو في النّزعة الصّوفيّة. فمفهوم الحياة عند العاشق مغاير للمفهوم العام. ولعلّه لا يرى في هذه الحياة إلّا موتاً بانتظار الحياة الحقيقيّة.
                   إنّ الغَرامَ هوَ الحَياة ، فَمُتْ بِهِ                     صَبّاً، فحقّكَ أن تَموتَ، وتُعذَرَا

الغرام، العذاب الشّديد، هو الحياة، أي أنّ ما يحياه العاشق ليس سوى أنفاس تساعد الجسد على رجاء الحياة بالفعل. كأنّ الغرام رحلة مقدّسة نحو الحبيب، والموت به حياة. وعلى الرّغم من شقاء هذه الرّحلة وعذاباتها إلّا أنّها حقّ للعاشق وحقّ له أن يموت عشقاً وألماً وإلّا انتفى مفهوم الحياة. فالحياة الظّاهريّة ليست سوى قشرة، تنهار بطرف عين. لكنّ في عمق العاشق حياة أبديّة، بها يحيا ومنها يستقي عشقه وإليها يصبو. ويمسي عاشقاً رسولاً بل نبيّاً ومثالاً يحتذى به، بل كتلة عشق تتنقّل في العالم تبشّر بالحبيب. فعناصر العشق، الشّوق، والألم، والرّجاء تُخرج العاشق من العالم وتفصله عن المحسوس مجازاً. فيتأمّل التّاريخ الإنسانيّ بشفقة ويسعى جاهداً لإرشاده للطريق المستقيم، طريق العشق. فهو العالم بقيمة الحياة، والمتيقّن أنّها تبدأ هنا لتكتمل مع الحبيب. وكلّ ما دون ذلك أيّام تمضي هباء.
    قُل لِلّذِينَ تقدّمُوا قَبْلي، ومَن              بَعْدي، ومَن أضحى لأشجاني يَرَى
            عنّي خذوا، وبيَ اقْتدوا، وليَ اسْمعوا،       وتحدَّثوا بصبابتي بينَ الورى


وفي غمرة العشق، والشّوق المستعر، تتجلّى العلاقة متفرّدة بين العاشق والمعشوق. العلاقة السّرّ الّتي لا يدركها سواهما. ونرى أنّ ابن الفارض يكشف عن بعض هذا السّرّ فبعد الظّمأ إلى الرّؤية ينكشف له شعاع من النّور في خلوة مع الحبيب، حتّى إذا ما رأى ما يقوى على رؤيته بلغ  الدّهشة والذّهول، وغرق في  الثّمالة بعد الشّرب من كأس المحبّة. إنّه سرّ الجمال الأعلى غير المنطوق به. فالرّائي يتمتم إذ يعاين الجمال ولا يقوى على التّعبير أو الوصف. وينطبع جمال الجمال على وجه العاشق، فيصير معروفاً عند النّاس كما عند الحبيب. فالبحث عنه هو البحث عن الجمال، وكلّ من بحث عن الجمال كان يبحث عنه. وكلّ من لامس طرفه فهم سرّ الجمال. وكلّ من عشقه انطبع بجماله حتى امتزج به وحيا في دهشة الأبد واستحالت لغته إلهيّة:
         فأدِرْ لِحاظَكَ في مَحاسِن وَجْهِهِ،           تَلْقَى جَميعَ الحُسْنِ، فيهِ، مُصَوَّرا
    لوْ أنّ كُلّ الحُسْنِ يكمُلُ صُورَة ً،                 ورآهُ كانَ مهلَّلاً ومكبِّراً


المطران جورج خضر، حضور من نور




مادونا عسكر/ لبنان
"الموهوب عقليّاً يحبّ أن يقول الكلمة. هذا ليس خياره. هذا ما صنعه الله فيه."

وأنت تطالع كتابات نيافة المطران جورج خضر تحضر أمامك رسوليّته الكتابيّة وأمانته في تحقيق الهدف الأساس المرتبط جذريّاً بتجسيد المحبّة الإلهيّة من خلال تبليغها. "أنا المؤمن أكتب لأنّ الله فوّض إليّ ذلك، لأنّه يكلّم كلّ النّاس ببعض من النّاس. أنا لا أستطيع أن أحتفظ لنفسي بما أخذته منه. "بلّغ، أنّك مبلّغ". فالوحي للنّاس والرّسول رسول إليهم. أنت كلمة الله تحضنها وتعطيها. وما استودع رسول كلمة لنفسه." إنّ عظمة المطران جورج خضر تكمن في عبارته (أنا المؤمن). هذه العبارة تمزج ضمناً الإيمان كعلاقة حبّ مع الله والعقل المستنير ليكوّنا معاً الإنسان الكامل في الله، أي الّذي على صورته ومثاله. كما أنّ عبارة (أنا المؤمن) تعبّر عن الثّقة الحيّة في العلاقة الحميمة مع الرّبّ، والوثوق في المهمّة الرّسوليّة وعمق المسؤوليّة الملقاة على عاتق  المطران جورج خضر  كمبلّغ فاعل ليس في الرّعيّة وحسب، بل في الوجود كلّه. (أكتب لأنّ الله فوّض إليّ ذلك). والكتابة في معناها العميق مهمّة رسوليّة تنطلق من الفكر الإلهيّ لتمتدّ إلى الأرض كلّها. في شخصنا الحقيقيّ العميق تكمن موهبة الكتابة، فنصوغ الكلمات على وقع صدى صوت الله. فالله يقول فينا كلّ ما يريد، ويعكس من خلالنا جماله الأزليّ الأبديّ. يكتب المطران جورج خضر فيحقّق صوت الله في العالم ويعكس نوره ويبلّغ بأمانة هذا الفكر المرتبط بكلّ تفصيل من حياتنا.

"الإلهيّون لا يكتبون من أنفسهم ولكن ممّا استلموا ويعرفون بوضوح الفارق بين الّذي نزل عليهم من فوق والكلام الّذي من الدّنيا. وإذا قبض عليهم الإلهام يضّطرون إلى الكلام وإلّا أحسّوا بالموت." في هذا الكلام يكمن المفهوم الخاصّ للشعر. فسيّدنا خضر يجسّد ما قاله القدّيس بورفيريوس الرّائي: "من يريد أن يصبح مسيحيّاً، عليه أوّلاً أن يصير شاعراً، أن يتألّم. أن يحبّ ويتألّم، يتألّم من أجل من يحبّ." وهنا يعطي المطران خضر تعريفاً للانفصال عن الحبّ الإلهيّ في حال عدم نقله. بمعنى آخر، يصغي الكاتب إلى صوت الله العميق في داخله، ويشعر بالموت إذا تمنّع عن نقله لسبب أو لآخر. فالموت بحسب قول المطران خضر هو عدم نقل الكلمة الإلهيّة كما تلقّاها. وبقول آخر يبرز العمق الصّوفيّ عند المطران خضر حيث يقول: "الله لم يكلّمنا فقط بالكتب المقدّسة. فكثيراً ما يكلّمنا بالصّادقين وبالأبرار." فتتّسع دائرة الإصغاء إلى الله وبالتّالي نقل محبّته الإلهيّة، حتّى لا يحتكر أحد عمق الكلمة وقوّتها. "الحقيقة أنّ الرّب لم يكلّمنا فقط بالكتب الموحاة. هو يكلّمنا أيضاً بالنّاس المقدّسين بما قالوا أو بما سلكوا. هذا ما يسميه المسيحيّون شركة القدّيسين. عندنا من لم يقرأ الكتاب الإلهي مرّة لأنّه أمّيّ. له أن يصل إلى معرفة الرّب في القلب. الله ليس مقيّداً بكتاب." من خلال هذا القول تتبيّن لنا الحرّيّة الّتي بلغها قدسه الّتي تعتمد على معرفة القلب الأرفع من معرفة العقل. فالعقل يعرف بحدود وأمّا القلب المنفتح على الله يعرف بالله، ويبلغ المعرفة بالقلب، بالحبّ.
 في كتابات المطران خضر تجتمع عناصر الشّعر الثّلاثة: الحبّ، والألم، والوحي. وليس الحديث عن نظم شعريّ وإنّما عن إدراك أنّ الشّعر هو صوت الله، والجمال الّذي يتفجّر من علوّ وينسكب على العالم. الشّعر الّذي يفهمه الصّمت والحبّ والإيمان. والشّاعر الحقيقيّ هو ذلك الّذي أدرك أنّه يُكتَبُ ولا يَكتب، والمطران خضر المنغمس بصوت الله يقبض عليه الإلهام فينقل فكر المسيح المتّحد بفكره. فنشعر ونثق بأنّه على مثال بولس الرّسول يحمل في ذاته فكر المسيح ويهتمّ بما فوق. "قل حقيقة الله الّتي فيك وامشِ. من تكون لتهتمّ بكونك مبدعاً أم غير مبدع؟ من يحكم في نفسه؟ اطرح كتابتك على ورق وامش. يفهم من يفهم ويحبّ من يحبّ وأنت تنطوي في رحمة الله. الله لا تهمّه الكتابة الجميلة. يهمّه خلاص الكاتب. ويبقى الأثر المكتوب رحمة من الله.". ولئن اجتمع الحبّ والألم والوحي في كتابات سيّدنا خضر، وجدنا ما يقوّم فكرنا ومنهج حياتنا وينمّي إيماننا. فنحن أمام كاتب ينفذ إلى كيان القارئ بهدف تسريب النّور إلى عمق أعماقه، لا بهدف الاستعراض الكتابيّ أو الخضوع لأضواء الشّهرة الفارغة. نحن أمام أسقف يحضر فتحضر الكنيسة برسوليّتها ووهجها النّورانيّ الّذي يضمّ منطق السّماء وواقعيّتها. ويترفّق بالواقع الإنسانيّ ليحوّله إلى الله.

يكتب المطران خضر الحبّ كحقيقة واضحة تنطلق من حقيقة الحضور الإلهيّ  فتحرّك القلب ثمّ العقل حتّى يبلغا حالة الاتّحاد، فتكون بشكل متصاعد من العمق إلى الاستنارة العقليّة. فالهدف من الكتابة عند المطران خضر هو امتلاء القارئ بالحبّ. "أنت تكتب للآخرين أي في المحبّة، ليصبح الحبّ كلّ شيء فيهم. الكلمة إن لم تنقل تحرّك قلب ليست شيئاً. ونحن الّذين نعرف وجدانيّة الشّرق لا نفرّق بين العقل والقلب. حسب تعليم المتصوّفين في كنيستي إنّ العقل ينزل إلى القلب ثمّ يصعد إلى ذاته من القلب." وببلوغ حالة الاتّحاد العقليّ القلبيّ يتمّ التّجريد الكلّيّ وإخلاء الذّات حتّى يمتلئ الإنسان من الحبّ الإلهيّ والحبّ الإلهيّ فقط.  وهذه مهمّة الكاتب المؤمن، أي الكاتب الممتلئ من الحبّ الإلهيّ الواعي أنّ كلمته تخترق العمق الإنسانيّ لتوجّهه إلى الله. "ما علاقة الكاتب بالقارئ؟ الكاتب المؤمن لا تهمّه هذه العلاقة. يسعى إلى إقامة صلة بين القارئ وربّه. الكاتب ليس خالقاً. إنّه مترجم. يترجم حسّه بالخالق بكلام بشريّ. الكاتب المؤمن لا يعرف نفسه إلا دليلاً على الله. ليس عنده كلمة. إنّه غارق في كلمة الله تلبسه كما هي تشاء. عندما نقول عن شاعر إنّه مبدع هذا من باب التّجاوز الأدبيّ. أعظم شاعر في الكون ناقل الشّعور الإلهيّ لأنّ الله استعار لغة البشر ليخاطبهم." ما يعني أنّ الإبداع الحقيقيّ هو الّذي بنيَ بالحبّ، وليس أيّ حبّ وإنّما بالحبّ الجوهر والحقيقة. وأقصى درجة للإبداع، وأعظمها هي تلك الّتي توجّه الإنسان إلى جوهره الأصل، جوهر الحبّ. ولعلّ الذّروة الّتي بلغها المطران خضر هي تلك الّتي تتجلّى في قوله: "أنت تقلّد الخالق إذا فكّرت مثله أي إذا اقتربت منه في عمق كيانك. هذا فوق المستوى الذّهني. هذا اختبار وجدان لأنّ لله قلب ومن القلوب ما كانت شبيهة به." حين تكتب حبّاً وتخترق الكلمة قلب القارئ حبّاً ويتوجّه بالحبّ إلى الحبّ، فلست أنت من يكتب وإنّما الله يكتب.
إنّ في كلمات نيافته مرامٍ كثيرة تحتاج إلى وقفات كي يفكّ القارئ ما يستكنّ في أعصاب لغتها من معانٍ بليغة تشير إلى أنّه يكتب بوهج المحبّة المنبثقة عن الله الحبّ، لتتغلغل في أعماق النّفس فتروي الظّامئ وتشبع الجائع وتنير الدّروب المدلهمّة.


النّاي بين قصيدتي جبران خليل جبران وجلال الرّومي



مادونا عسكر/ لبنان
الأدب سياق واحد يتكامل تدريجيّاً ويتطوّر شكلاً ومضموناً كلّما اقترب الأديب من ملامسة الآفاق الإنسانيّة ببصيرته وعمقه الإنسانيّ. وكلّما نشّط النّزعة إلى العلاء والتّحلق في الأثير نظر إلى العالم من فوق نظرة النّضوج الرّوحيّ المتمعّن في تفاصيل منهكة، ونظرة المتأمّل في الوجع الأساسيّ للإنسانيّة. وما يلبث وهو في غمرة التّأمّل أن ينحت سبيلاً جديداً أو يبشّر بعالم جديد يطمح إليه خالياً من الأوجاع. ولئن كان الأدب سياقاً واحداً، فلا بدّ من أنّه امتداد واستمراريّة. وكأنّي به دائرة يدور فيها ذوو النّفوس الرّفيعة الّتي بلغت ما بلغته من وعي روحيّ وحِكْميّ. وفي هذه الحال تتجلّى النّزعة الصّوفيّة عند أؤلئك الأدباء الّذين ما برحوا يتألّمون من الوعي والنضج، لأنّهم لامسوا الحقيقة، وتلمّسوا النّور. فبات من العسير عليهم أن يقبلوا الظّلمة.
ولعلّنا ندرك هذا الامتداد في قصيدتين من زمنين مختلفين ومن ثقافتين مختلفتين، إلّا أنّهما تدوران في فلك الدّائرة الإنسانيّة ذات الأصل الإلهيّ. فبين قصيدة "أنين النّاي" لجلال الدّين الرّومي، وقصيدة "المواكب" لجبران خليل جبران نقطة التقاء إنسانيّ وجوديّ تتجلّى من خلاله الوحدة الإنسانيّة في عمقها.
جلال الدّين الرّومي الّذي عاش بين سنة 1207 و1273، وجبران خليل جبران الّذي عاش بين سنة 1883 و1931، يمتزجان روحيّاً على الرّغم من المسافة الزّمنيّة بينهما. وذلك لأنّ الرّوح الإنسانيّة متفلّتة من الأزمنة والأمكنة ومرتبطة بالجوهر الإنسانيّ.
لسنا نعلم إن كان جبران خليل جبران قد اطّلع على نصوص جلال الدّين الرّومي، لكنّنا نتلمّس ما يشبه التآلف بين القصيدتين. ولعلّه يمكنني القول إنّ النّصّ الجبرانيّ انطلق بشكل أو بآخر من نهاية قصيدة جلال الدّين الرّومي حيث يقول متحدّثاً عن النّاي:
"إنّه يقصّ علينا حكايات الطّريق الّتي خضبتها الدّماء
ويروي لنا أحاديث عشق المجنون
الحكمة الّتي يرويها، محرّمة على الّذين لا يعقلون،
إذ لا يشتري عذب الحديث غير الأذن الواعية" (جلال الدّين الرّومي)
هدف القصيدتين إنسانيّ، فهدف جلال الدّين الرّومي هو الإنسان، وكذلك جبران خليل جبران. فالفكر الجبرانيّ بشكل عام يدور حول النّفس الإنسانيّة وصراعاتها وتناقضاتها. لكنّه في "المواكب" يتحرّك بشكل دائريّ في الوجود الإنسانيّ، مبشّراً بواقع مثاليّ أرقى من الواقع المذل الّذي يعيشه الإنسان. وجبران المؤمن بفطرة الإنسان الإلهيّة الّتي ليست سوى بضعة من الذّات الإلهيّة، وبهدف الوجود الإنسانيّ الّذي هو تجسيد رسالة الألوهة. يتماهى مع جلال الدّين الرّومي الّذي يؤمن هو الآخر بأصول الإنسان الإلهيّة، فيتحدّث في "المثنويّ" عن الإنسان وأصله الإلهيّ.
يبشّر جبران بالغاب الفاضل، إن جاز التّعبير، ذاك الّذي قُطع منه الناي بحسب جلال الدّين الرّوميّ فيقول:
مذ قطعت من الغاب، والرّجال والنّساء لأنيني يبكون
ويقول جبران:
كيف يرجو الغاب جزءا                 وعلى الكلّ حصل؟
وبما السّعي بغاب                  أملا وهو الأمل؟
الغاب موضوع الرّجاء في القصيدتين، فمنه وإليه يعود الإنسان. جبران الرّامي إلى الغاب الّذي هو شيء يرام إليه، يحاكي غاب جلال الدّين الرّومي المدرك لأصله الّذي يحنّ إليه ويرجوه إلى أن يعود إليه. وفي هذه المحاكاة تواصل ضمنيّ يعبّر من خلاله جلال الدّين الرّومي عن شوقه إلى الغاب الأصل، ويعبّر فيه جبران عن شوقه إلى الغاب الأصل والهدف النّهائي للإنسان، حيث الحرّيّة الإنسانيّة الكاملة، والواقع المعدّ للإنسان منذ البدء.
ليس في الغابات راعٍ              لا ولا فيها القطيع
ليس في الغابات حزن             لا ولا فيها الهموم
ليس في الغابات دين              لا ولا الكفر القبيح
ليس في الغابات عدل             لا ولا فيها العقاب
لهذه الأبيات دلالة عميقة تبيّن جوهر الغاب المرجو، وانفصاله عن الزّمان والمكان. كما يبيّن الحالة التّجريديّة الإنسانيّة متى بلغت الأصل. ويظهر من خلالها حزن جبران الواعي والعميق. إذ إنّه من عمق الحزن الإنسانيّ يبشّر بالغاب الحرّ. ومن عمق الحزن يتماهى جلال الدّين الرّومي مع البشريّة يبشّرها بالحبّ. إلّا أنّ جلال الدّين الرّومي يريد غرس الغاب في عمق الإنسانيّة، غير أنّ جبران يبشّر به كواقع منفصل تبلغه الإنسانيّة:
وهكذا غدوت مطرباً في المحافل
أشدو للسّعداء، وأنوح للبائسين
وكلٌ يظنّ أنّني له رفيق
ولكنّ أياً منهم (السّعداء والبائسين) لم يدرك حقيقة ما أنا فيه!!
امتزج جلال الدّين الرّومي بالإنسان، فروحه متّحدة بكلّ إنسان، إذ بلغ ما بلغه من عمق المحبّة الّتي تجعل البشريّة كلّها واحدة. لكنّ الإنسان غير واعٍ إلى الحال الّتي عليها جلال الدين الرّومي، أي ألم الاشتياق إلى الأصل الإلهيّ. ما يعني أنّ الإنسانيّة تتخبّط بواقعها غافلة عن أصلها الإلهيّ وسعادتها آنية مؤقّتة، وحزنها بؤس وأسى. وهو غير حزن الشّاعرين. ولو أدرك الإنسان سرّ أصله لنال السّعادة. ما يعبّر عنه جبران قائلاً:
وما السّعادة في الدّنيا سوى شبح           يرجى فإن صار جسماً ملّه البشر
السّعادة كامنة في السّعي إليها، وفي الشّوق الإلهيّ، وفي الغاب الفاضل الحرّ حيث الحبّ والخلود. إنّها نعيم الرّوح التّائقة إلى محبوبها عند جلال الدّين الرّومي والتّائقة إلى الحرّيّة في عالم الغاب عند جبران خليل جبران. الرّوح المتّحدة بالجسد في لحظة حرّيّة كاملة ليتجلّى الشّخص، الكيان. وغاية الوجود هو سرّ الرّوح غير الفانية لأنّها من الرّوح الكلّيّ الخالد، فيقول جبران:
لم أجد في الغاب فرقاً                       بين نفس وجسد
وغاية الرّوح طيّ الرّوح قد خفيت        فلا المظاهر تبديها ولا الصور
ويقول جلال الدّين الرّومي:
فالجسم مشتبك بالرّوح، والرّوح متغلغلة في الجسم
ولكن أنّى لإنسان أن يبصر تلك الرّوح؟
وفي لحظة انسجام كونيّ ينصت جبران إلى أنين ناي جلال الدّين الرّومي يحكي تلك الرّحلة إلى السّعادة، إلى الأصل الإلهيّ. فيترجم المعنى الّذي همس به النّاي في قصيدة جلال الدّين الرّومي.
في أنين النّاي عند جلال الدّين الرّومي حنين وشوق ولهفة، وأمّا عند جبران فأنين النّاي مرادف للعمل الإبداعيّ المستمدّ من الإبداع الأعلى والشّوق الدّائم إليه. وبذلك يعبّر جبران عن جوهر التّكوين الحضاريّ المرتبط بشكل وثيق بالفن والإبداع. وخلاص الإنسان من واقعه البائس مرتبط بالفنّ والجمال:
أعطني النّاي وغنّ                 فالغنا نار ونور
وأنين النّاي شوق                  لا يدانيه الفتور
والإصغاء إلى النّاي إصغاء إلى الجمال الّذي لا يفنى، وسعي إليه بألم الشّوق ونار العشق. لذلك عبّر جلال الدّين الرّومي قائلاً:
وهكذا كان النّاي صديق من بان
وهكذا مزّقت ألحانه الحجب عن أعيننا
 فمن رأى مثل النّاي سمّاً وترياقاً؟
ومن رأى مثل النّاي خليلاً مشتاقاً؟
فهذه الأداة الموسيقيّة الّتي تصدر اللّحن إذا ما نُفخ فيها الهواء تعبّر عن الحنين والاشتياق، وتؤسّس لحضارة الإنسان وخلاصه. النّاي نار يكشف الحجب عند جلال الدّين الرّومي، ونار ونور عند جبران خليل جبران يكشف للإنسان السّبيل إلى الجمال الأعلى. لكنّ لحن النّاي يحتاج إلى عقول مستنيرة  وأرواح واعية لقيمتها لتدرك وتفهم وتبلغ أصلها الإلهيّ.
أعطني النّاي وغنّ                 فالغنا سرّ الخلود
وأنين النّاي يبقى                  بعد أن يفنى الوجود
يغلق جبران الدّائرة في "المواكب"، ويعود إلى الواقع ولعلّه رأى فيه حلماً بعيداً
لكن هو الدّهر في نفسي له أرب               فكلّما رمت غاباً قام يعتذر
وللتّقادير سبل لا تغيّرها                       والنّاس في عجزهم عن قصدهم قصروا
ويقفل جلال الدّين الرّومي الدّائرة على يقين أنّ الواقع يحتاج إلى الوعي العقليّ والرّوحيّ ليتحوّل ويبلغ الحكمة:
الحكمة الّتي يرويها، محرّمة على الّذين لا يعقلون،
إذ لا يشتري عذب الحديث غير الأذن الواعية