رسائل إلى الذّات


* رسائل إلى الذّات (1)
إلى ذاتي الأخرى
مادونا عسكر/لبنان
أشواق وآلام تنعش قلبي وتنعش روحي، تقودني إليك أيّتها الذّات الأخرى .
إنّها أشواق الحنين إلى ذاك الحضور الخارق للوجدان، المحيط بالجسد. وآلام تفجّر كلّ الطّهر السّاكن في الرّوح، والنّقاء ما برح يفتك بالجسد.
إليكِ يا ذاتي الأخرى، أرسل همسات معطّرة بالطّهر والنّقاء، تلامس إنسانيّتك المستيقظة من ثباتها العميق. أناجيها، وأعانق وجدانها، أتلمّسه بحنان ملائكيّ، وأذوب رقّة في خلايا الرّوح.
أرني حضورك، أعاينه بحواسي غير المنظورة... أسمعيني صوتك، أريد أن أصلّي . 
يا ذاتي الحبيبة، يا روحي الهائمة في ملكوت المحبّة، أيّتها الملتحمة بكياني، أغيثيني فأنا أنهار وجداً، وأتوق إلى أن أتحرّر من سجن المحدود، وأن أنعتق من الزّمن. أغيثيني، واغني الحضور، فجّري ينابيع الفرح والغبطة. ارتقي بي، تسامي فوق هياكل الزّمن، وحوّلي الأثير معبد صلاة. أشعلي قلبي بخّوراً أمام الحبّ الأزليّ السرمديّ، واقرأيني تأمّلاً، يدركه صمت الحواس ..
الحضور يتثّكف، يتعاظم، 
ها إنّك بيني وبيني، بين تفاصيل اللّامنطق. إنّك متمازجة وروحي المرتقية نحو العلى، نحو المطلق.

ها إنّنا نخترق اللّامحدود، نرتفع، نسمو، نتمجّد ...

* رسائل إلى الذّات(2)

ألقى ذاتي فأخلص

كم بحثت عنك يا ذاتي الحبيبة في سراديب الحياة، وإذا بك ترقبينني من أقاصي الأرض وتهتفين اسمي الآخر.
كنت كلّما أجقم ليل الأماني جلست على صخرة  صمّاء أناجي بحر العالم الهائج وأسامر أمواجاً تتلاطم وتتصارع، أبحث فيها عن سكينتي فلا أعثر إلّا على حطام سفينة تتنازع عليها أيادي الأقدار وشراع تمزّقه رياح هوجاء فتهشّم بياضه الأمهق.
كم بحثت في الأفق عن خلاص من أيّام رمت بثقلها على ملامحي، وأخفت رنين النّبض من فؤادي الصّغير. ولكم حفرت في جلمد صلد لأسكب الفرح في قلوب صغار. وكنت يا ذاتي الحبيبة تصلّين الحبّ في حنايا روحي ليحمل إليّ نعمة الثّبات كي ألقاك يوماً في رحاب الأكوان.
يا ذاتي القريبة البعيدة، ها إنّ عينيّ شاخصتين إلى العلاء تستعطف قطرات السّماء تبلّل ظمأ الأمل، ويديّ ممدودتين إليك فاحضني حنان اليدين. واحصدي معي أيّاماً مضت بأتراحها واستقبلي أيّاماً ترسو في مرسى الصّبّ لتجني منه الفرح من شدّة الألم.
ما زال اليمّ يصارع ذاته، وأمواجه تتقاتل وتتحارب، وما زلت أجلس على تلك الصّخرة الصّماء، أرقبه، ولكنّي تخلّيت عن مخاطبته. فبلقائك يا ذاتي الحبيبة لم يعد لمطارحة العالم من معنى، وبات الوجوم يجتاح نفسي ويناجيكِ صمته البليغ.
أنت يا رفيقتي المصغية أبداً، لا يلوّث سمعك صخب ولا يربك بصيرتك جلبة. أنت يا ذاتي الأخرى مصدر النّور وبهجة الحياة، وميناء الخلاص في عالم يئنّ إلى الخلاص ولا يريد إليه سبيلاً.

* رسائل إلى الذّات (3)
غربتي عن ذاتي
مذ كنتِ كنتُ، كالكلمة في البدء كانت، ملتحمة بحروفها ثمّ تجسّدتْ حبّاً اقتحم تاريخ البشر. مذ كنتُ كنتِ ولكنّي تغرّبتُ عنكِ واغتربتِ،  وما عرفت مرارة ارتحالي إلّا عندما احتفيت بكِ بعدما عبثت السّنون بجثماني، ودارت به حول برحاء الشّجوِ.
لم أعِ حرقة العزلة وكربها إلّا وأنتِ تحضنين روحي، كما تضمّ الشّمس قمم الجبال فتنتشلها من أديم اللّيل ووحشته. ولم أنجُ من وِقر الدّمع إلّا بعد أن لامست أطراف أناملكِ وجنتيّ المشقّقتين.

يا ذاتي الحبيبة، كيف غفلت عنك عمراً كاملاً، أسير وحدي على الرّمال ولا ألحظ آثارك تواكب خطواتي. تمكّنت منّي البلايا، ولم أشعر بيدك تربّت على كتفي لتمنحني الأمان والطّمأنينة. صرعتني الأدهار وتشتّت في برّيّة العالم، ولم أسمع نداءك إلى أن تفجّر حضورك سيولاً من الرّقّة والحنان.
... والتحمنا يا ذاتي الأخرى كما تمتزج الجذور بترابها، وذبنا في لهيب الهيام ، كما يتعشّق النّسيم وريقات الياسمين، فيبدّد عطرها ليبعث الحياة  للأنام بعد إغماء عظيم .

بيني وبينكِ شوق قديم لا تروي غليله لحظة لقاء أبديّ، ولا يشبع جوعه انصهار كامل اجتاز بَوناً شاسعاً ليحلّ في صومعة الحبّ ويتنسّك فيها أبداً .فاغفري لي ارتحالي، يا ذاتي الأخرى، واصفحي عن نفس كانت لك منذ البدء وتثبت فيك إلى أبد الآباد.

* رسائل إلى الذّات(4)
لا مبالاة قاتلة

لم أحبّكِ يا ذاتي يوماً، ولم أكرهكِ، وهذه خطيئتي العظيمة الّتي ارتكبتها في حقّ من كان الأولى بحبّي. حرمتكِ من مشاعر مضطرمة ومن أخرى بليدة، خاملة، وأهلكتك بلامبالاة قاتلة، أقصتني  عنكِ.
تقدّم عليك كلّ معوز للمحبّة، ومضى العمر وأنا أحسب أنّي أعتني بما هو الأهمّ، وسلوت عنكِ يا من أنتِ الأحرى بالاهتمام والحبّ. ارتحلت عنكِ فتغرّب جمالي وتشتّت عطري، وغرقت في ثبات السّنين. ولمّا أينع نضجي، وهممت أتلذّذ ثماره، وعظني قائلاً: " لا يُستمرأُ الأُكل إلّا من جذور الّذات المحتجبة في دواخل الأنا. فذوقي وانظري ما أطيب ذاتكِ الأخرى واعشقي رونق جمالها فتتجمّلي، واسمعي صمتها البيّن فيبتهج إصغاؤكِ بشدو أسرار الأرواح المنصهرة."


* رسائل إلى الذّات (5)
شوق لا يبدّده لقاء
هل أبكي تلاقينا، أم أعبّ دفئه لينشرح صدري ويلقي باغتمامه في رمس الزّمان، وأدفن ماضياً لم يحمل في حناياه إلّا ذوبان أنفاس تختنق من الضّيق. هل أغتبط بفرح اللّقاء بكِ، أم أنتحب على أيّام خلت، تجرّعت من كأسها الوجيع بدل أن أرتشف عصير كرمتك الشّهيّ.
أشتاقك يا ذاتي الحبيبة، وقد حلّ اللّقاء، كما تشتاق الشّمس كلّ ليلة إلى أحضان اليّمّ. وأنتظركِ وقد سكنتني، كما ينتظر الدّجى ملامسة نجمة الصّبحِ. أنشد حنانك المتدفّق من ينابيع النّقاء، ليظلّل كياني فيدمّث قسوته، ويخترق ربس آدميّتي فيرمّم ما هدّت براثن الحياة.
فامكثي عندي يا ذاتي الأخرى وانحني عليّ كما يتدلّى الهيدب ليجسّ أرضاً ظمآنة إلى قطرات السّماء.   

* رسائل إلى الذّات(6)
قصيدة تكتمل

أنتِ قلتِ لي هلمّي، فقلت ها أنا ذا... في ذلك اليوم، كنت أرسم قصيدة على مشارف غابة ظليلة، وكنتِ تقطفين كلماتها من شجرة معرفة الخير، وتحفظينها لي في أبيات مصوغة من لآلئ الكلمات.
وإذا بهمسك يلوح كشعاع الشّمس حين يودّعها أمير السّماء، وإذا بكِ تلاطفين ورودي كما النّسيم العليل يناجي الأقحوان بعد شتاء عنيف. رأيت صوتك ينادي قصيدتي وسمعت بهاءك يداوي مرارة التّعابير، فلجت الغابة ألقاكِ يا ذاتي الحبيبة لتكتمل ملامح القصيدة وترنّم الأبيات سرّ اللّقاء.
وقف النّهى عند مشارف الغابة، يحرسها من المنطق فاللّقاء حقيقة أرواح تتخاطب وتتعانق كما يلامس الأرز أطراف السّماء ويبوح لها بأريج حبّه، فتطرب وتنتشي.


* رسائل إلى الذّات(7)
تكلّمي... فأنا أصغي
ولد حبّنا في قلب السّماء قبل إنشاء العالم، ثمّ جاب عطركِ  أقاصي الأرض يبحث عن جناني، يمنّي النّفس بالتّلاقي.
ولمّا نضبت نداوة المشاعر ولسعت شمس الأيّام  أنهار الأمل فشحّ رجاؤه، همستِ في روحي حبّك الخجول المتعطّش. فانسدلت الأنوار ترطّب السّمع وتُسكر التّأمّل، وإذا بنور الحبّ ينشد، فتتدفّق العذوبة إلى جذوري، فتزهر بكائر كرمتي.
تكلّمي يا ذاتي الحبيبة فإن قلبي الصّغير يصغي، واحمليني حيث تشاء يداك، نطوف معاً في عالم اللّيل السّرمديّ.
كوني الرّيح لشراعي، والفكر ليراعي، واللّحن لقيثارتي، والألوان للوحتي، وسطّري على صفحتي البيضاء أهازيج عشقكِ ودوّني في سفر الخلق قصائد الالتحام الأبديّ.


* رسائل إلى الذّات(8)
صلاة الامتلاء
مادونا عسكر/ لبنان
لمّا آن أوان الورد، وأعلن الملاك قدوم الحبّ في مجده العظيم، ضممتكِ إلى قلبي، أصلّي حبّيَ الكبير. ارتبكت الشّفاه واضطرب القلب، واختلج في الأحشاء، وإذا بكلّ ذرّة من الكيان تنشد الفرح القدسيّ، وتهلّل اتّحاد اللّيل بالنّهار. فلا يعود يعاين إلّا النّور المتدفّق من ينبوع الحبّ الأزليّ.
والتفتّ إليكِ يا ذاتي الحبيبة، وإذا بك انتفيتِ في أعماقي، تبدّدين الشّجن، وتنثرين البخور في حنايا الرّوح وتصلّي فيّ بأناة لا توصف. تجاهرين بحبّك وتبدّلين خابيتي العتيقة بقدس أقداس تدخلينه مرة واحدة تخشعين فيه وتحتوينه.
هل أقول بعدُ، تعالي يا ذاتي الحبيبة واسكنيني، وأنت مكثت أبداً في الجسد والرّوح؟ هل أقول أحتاجك وقد أصبحت ملء الكيان، هل أقول أحبّك وقد ظلّل حبّك كوني الرّحب؟
يا من رأيتني وحدك كاملة بدون عيب، كما اختارني الحبّ قبل إنشاء العالم، وقرأتني حروفاً مقدّسة، وكتبتني بندى السّماء على صفحات التّاريخ، أنشودة حبّ سرمديّ، ينفي وجود المكان، ويقصي حدود الزّمان.   


* رسائل إلى الذّات(9)
لم يعد للقرب والبعد معنى

وبعدُ،
لم يبق في الجسد ما يحدّث بحبّكِ يا ذاتي الأخرى، وهو الحائر الضّامر، والعاجز عن ملامسة النّعمة. لم يعد الوعي يستحق أن يدرك المعنى المحتجب في روحانية الشّمس، وأسرار القمر.
أتت السّاعة الّتي تسكب فيها روحك ظلالها الرّؤوفة على غمد روحي، ونذوب في زرقة السّماء، ونطفو على أمواجها السّاكنة.
هي ساعة الانتقال من الظّلمة إلى النّور، والغوص في سناه، والإبحار في الأمد حيث ينتفي معنى البعد والقرب، والقدوم والرحيل، والتواعد والانتظار.  تنتفي حروف العطف والتخيير والشّك والاستفهام والنّفي والسّببية والزّمانية والمكانية.
لم يعد من مدلول للسّؤال، ولا حاجة للجواب. فقد التّحليل أهمّيّته، وفرغ من جفافه. انكفأت دموع الحزن، وانقطعت الأنفاس، وسكتت الكلمة.
مات المعنى، دفنته في اللّامعنى، وأحييت اللّغة الأخرى الّتي لا تدركها إلّا العين الثّالثة.



 * رسائل إلى الذّات(10)
الرّسالة الأولى
انتهى الكلام، وهرب المعنى، ولم يبق سوى طيف حروف تتلألأ على صفحة ماء الحياة. بضعة حروف ترقب الأيّام الأخيرة ليكتمل رسمها في سفر الحياة، وتتحوّل إلى حروف نورانيّة، تحيا أبداً في دائرة النّور.
إليكِ يا ذاتي الحبيبة، أكتب رسالتي الأولى، فاقرئيها رؤية عشق أبديّ، واسمعي معالمها ترتّل لوحات الأبد، وانظري الصّوت ينسكب خفراً وعفّة، في كؤوس من حرير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق