الجمعة، 13 ديسمبر 2019

جدليّة الثّبات بين الأرضيّ والسّماويّ / قراءة في لوحة "عاشقة البحر" - L'innamorata del mare – للرسّام الإيطالي بومبيو مارياني



مادونا عسكر/ لبنان


"ليس على الرّسام أن يرسم ما يراه ، بل ما سوف يُرى" (فنسنت فان غوخ)
إنّها الرّؤية الجماليّة، الثّورة الّتي تنتزع من العالم قبحه حتّى يستبين السّحر والجمال. عين الرّسّام بصيرة النّاظر إلى اللّوحة والمعاين للجمال. وبقدر ما يعاين الرّسّام الجمال ينقله إلى بصيرة النّاظر فيستفزّ دهشته وإنسانيّته وتستفيق في أعماقه نسمة الجمال الأولى. لذلك يقول الموسيقار السّويسريّ إرنست ليفي: "إنّ الإنسانيّة ستبدأ بالتّحسّن عندما تأخذ الفنّ على محمل الجدّ كما الكيمياء أو الفيزياء أو المال."  في الفنّ ثقافة الجمال، والإنسانيّة خُلقت على صورة الجمال الأسمى ولا بدّ لها من أن تتفاعل معه.
ينساب الجمال من  لوحة الرّسّام الإيطاليّ مارياني إذ يجسّد أعماق عاشقة البحر الّتي ترنو إلى السّماء. يتجلّى في اللّوحة البحر كرمز للحرّيّة المنطلقة نحو السّماء والدّالّة على الاتّصال الأرضيّ السّماوي الكامن في العمق الإنسانيّ. وتبرز السّماء كرمز للحرّيّة المطلقة الّتي بدأت مع رمزيّة البحر لتكتمل في السّماء. كما يعبّر في ذات الوقت عن التّناقض القاسي بين الأرض والسّماء، تجسّده الألوان المتضادّة. 
تقف العاشقة المتّشحة بالأبيض على أرض صلبة  متشقّقة  وقاتمة، أشبه بأرض خالية من الحياة. تستند إلى صخرة، وتتطلّع إلى فوق، متخطّيةً الخطّ الجامع بين البحر والسّماء. ما يدلّ على شوق إلى العلوّ الّذي لا ترويه رمزيّة البحر للحرّيّة ولا يحدّه ذلك الخطّ. وإن دلّت الصّخرة على الثّبات، فهي من ناحية أخرى تدلّ على القسوة، حيث التّضاد بين لونها وألوان السّماء. ففي حين أنّ السّماء تمتزج ألوانها بين الأزرق والأبيض والأصفر، تحافظ الأرض على لون واحدٍ قاتم. فتظهر قسوة الواقع مقابل فرح العلوّ ورحابته. قد تكون الأمواج اللّطيفة الّتي ظهرت في اللّوحة معبّرة عن تدرّج المراحل التّحرّريّة حتّى يستبعد الرّسام رمزية الموت عن هذا المشهد. فالبحر في هذه اللّوحة تحديداً  كما يظهر لنا من خلال الألوان الّتي اختارها مارياني لا يحمل معنى الموت.  
أمام أبعاد ثلاثة، الأرض والبحر والسّماء، تعكس نظرة العاشقة الهائمة  حزناً  نتج عن اختبار لقسوة الواقع، حوّلته إلى توق إلى التّخلّي عن الثّبات الأرضيّ الباحث عن الثّبات السّماويّ. تحيد نظرها عن الأرض كنوع من رفض للثّبات على الأرض الّذي يبدو في اللّوحة رامزاً إلى اختبار العلاقة بين العلوّ والعمق.
 تبدو العاشقة وحيدة ظاهريّاً لكنّ نظرتها تلمّح إلى امتلاء خاصّ يظهر في شكل حوار ضمنيّ صامت. دلّت عليه النّظرة إلى البعد الثّالث الخارجة عن إطار الأرض والبحر. ولعلّ الوقوف الثّابت على الأرض والنّظرة الثّابتة إلى السّماء ما هما إلّا إشارة إلى ثبات النّظرة الإيمانيّة والرّجاء بالحرّيّة. 
تتدرّج ألوان السّماء حتّى يصفو الأزرق نهائياً فتتناقض تماماً مع الأرض ويظهر البعد الرّابع، ألا وهو عمق العاشقة الّذي يرمز إليه ثوبها الأبيض. الأبيض المنبعث من وسط قتامة الأرض يطاول زرقة السّماء ويجعلنا نرى ما ينبغي أن نراه من جمال عاشقة اختبرت الأرض، اشتاقت إلى السّماء وتنتظر الاكتمال فيها.  
 


الجمعة، 6 ديسمبر 2019

مقامات العشق المتجليّة في وحدة الخلق/ نصوص للشّاعر التّونسي يوسف الهمامي نموذجاً



مادونا عسكر/ لبنان

إذا كان الشّعر ذلك العالم السّرّ الّذي يصعب تفسيره، فالشّاعر هو المبدع الّذي امتزج في هذا العالم وسبح في أثيره إلى غير رجعة. يتأمّل ما يحيط به بدقّة، فيتّجه أفقيّاً نحو الكون ومكنوناته وعناصره. ويتأمّل أسرار هذا الكون وأصوله وغايته وهدفه. فيتّجه عمودياً ليلج العالم الإلهيّ ويستبصر بهاءه. فيكون الشّعر أدباً في حضرة الجمال الإلهيّ. وبالتّالي فالشّعر تصوير لهذا الجمال انطلاقاً من يد الله مبدعة الجمال. فإذا ما كتب الشّاعر كان ريشة في يد مبدع الجمال يصوّر البهاء كتابة.
ولئن غاص الشّاعر في عالم الجمال الإلهيّ، غرق في حبّ الله الّذي لم يعد يبحث عنه. وإنّما يرنو إليه حبّاً، ويتّصل به عشقاً ويكتشف حقيقته هياماً، حتّى تنكشف له الرّؤى ويفيض الحبّ الإلهي ويمسي الشّعر أدباً في حضرة الحبّ الإلهيّ.  وفي حضرة الحبّ، لا بدّ من الحديث عن تجربة حقيقيّة تقودنا إلى التّساؤل عمّا إذا كان الشّاعر يرى فعلاً الله. فالشّاعر وهوَ في خضمّ المناجاة قد يقول ما لا يُقال، وقد لا يتمكّن من كتمان المكاشفة؛ وذلك لأنّ الحبّ أقوى من الكتمان وأعظم من الإخفاء.
إلّا أنّ نصوص الشّاعر يوسف الهمامي تخلص إلى ما هو أبعد من المناجاة والعبادة، لتخلق خطّاً صوفيّاً يقوده الوحيّ إلى تجلّي الحبّ الإلهيّ في النّصّ، بل إلى جعل الكلمة جسداً يتحرّك داخل النّصّ. فيظهر تفاعل الشّاعر مع الوحي، من جهة. ومن جهة أخرى انقياده التّلقائيّ إلى الإصغاء العميق إلى الصّوت المرتدّ في داخله، الّذي يبلّغ الشّاعر الشّعر. كما أنّه ينكشف ما هو أبعد من العشق في قلب الشّاعر. فإذا كان الشّعر أدباً في حضرة الحبّ الإلهيّ فلا ريب أنّ الشّاعر عاشق يتفاعل مع عشق يرفعه إلى مقام أرفع:
أنا لا أعشق
إنّما أتلذّذ جمال الله
في خلقه..
وما التّلذّذ بالجمال الإلهيّ إلّا ارتشاف وحي الحبّ والانصهار في تفاصيله، والتّماهي  وحقيقته. فنحن هنا أمام شاعر خاضع للشّعر تماماً يُكتَبُ ولا يَكتُبُ. يسمح للوحي أن يتسرّب إلى عمق أعماقه حتّى يعود ويعكس بهائه في القصيدة. يحيا تفاصيل الله ممتلئاً من العشق الإلهيّ. هذا الوجدان المغمور بالحبّ الإلهيّ والمتفاعل معه يعوزه اعتماد مبدأ عشق الإله الشّخص لا الفكرة. ما يدفعنا إلى قناعة تشرح رؤية الشّاعر لله:
أرى الله..
لم أعد أبحث عن براءة الواجهة
دِبْرُ القميص صار مثل قُبُله
(أرى الله/ لم أعد أبحث). عبارتان متلازمتان تبيّنان بلوغ الشّاعر قلب الحقيقة. يتعايش معها ويدور في فلكها. ولكن هذا لا يعني أنّ الشّاعر يرى شخص الله، أم أنّ الذّات الإلهيّة انكشفت له. إنّ كيان الشّاعر الهائم في العشق الإلهيّ يبصر الله الشّخص من خلال اتّحاده الرّوحيّ بشخص آخر، ألا وهو المحبوبة. هذا الاتّحاد العشقيّ المرتقي بالكيانين جاعلاً إيّاهماً واحداً. وتبدو هذه الوحدة متجليّة في نصوص الهمامي، وهي تتّخذ خطّ العشق الإلهيّ. وتشكّل درباً للوصول إلى الله، بل إلى رؤيته:
الله غمرني بك
حتى فضتُ بك
..حُبًّا لَهُ
/
أنت دابّة روحي إليه
أعيشك كي أعيش أبدا
تتشكّل الوحدة بين الحبيب والمحبوب بفعل المشيئة الإلهيّة، وتفيض حبّاً يعود إليه. فيحبّ الشّاعر محبوبته بقلب الله والعكس صحيح. ولعلّ هذه الوحدة تنفي حضور الشّخصين ضمنيّاً ليظهر شخصاً واحداً (الأنا- أنت) عابداً عاشقاً لله. الأنا في الأنت، والأنت في الأنا، والأنا- أنت في الله. فيصير الكلّ في الكلّ المطلق (الله). من هنا يمكن للقارئ أن يفهم أنّ الشّاعر يرى الله فعلاً في  حقيقة الوحدة. بل إنّه في عمق قلب الله حتّى أنّه يغيب عن ذاته ليتفرّغ لرؤيته وحسب من خلال المحبوبة:
سَجَدَ سهوًا
عندما مرّتْ بباله
وهو يصلي!..
يصلّي الشّاعر بالعشق المتحوّل إلى صلاة، فيسجد إذا ما مرّت المحبوبة بباله. يشير هذا النّصّ الشّعريّ المتّشح بالقداسة، إلى توجّه الكيان بكلّيّته إلى الله. فتغدو الصّلاة في الله وبالله ولله. سجود العقل المستنير (عندما مرّت بباله)، بلوغ الشّاعر مرحلة الصّلاة اللّاكلاميّة (لا أحد يتكلّم، لا أحد يسمع). اعتناق العشق مذهباً لبلوغ ذروة الصّلاة بل لبلوغ النّور الإلهي. الأنا- أنت، مسافة عشق بين الشّاعر والله:

أنت – أنا
لا مسافة بين مُعتكفٍ
وكَلِيمِه..
..
الحروف أنفاس
عند النّداء
يُصلّي الحميم بِحَمِيمِه
نصوص متكاثفة تجعل من الألفاظ لحظات شاعريّة، وليس فقط قصائد وجملاً شعريّة، محققّة رسالتها في الجمال اللّغويّ والمعنويّ المفتوح على المطلق والسّاعي إلى تماهي جميع الموجودات بما فيها اللّغة في ذات واحدة، يدلّ على الوحدة الشّموليّة للكون والإنسان والذّات الإلهيّة.

   



الجمعة، 29 نوفمبر 2019

في الفرق الدّقيق بين الشّهيد والضّحيّة



مادونا عسكر/ لبنان
كلّ زمن عبر ويعبر وسيأتي، يحمل في طيّاته آلاماً جمّة وجروحاً تحفر في النّفوس. وقد يتناسى الإنسان جروحه، إلّا أنّها تبقى في عمق العمق أثراً بالغاً يستيقظ كلّما تداعت الظّروف وتحرّكت السّياسات واندلعت الحروب وحلّ الموت وحصد آلاف الأرواح. قد يموت النّاس  دفاعاً عن الوطن، أو عن قضيّة سياسيّة أو حزبيّة أو دينيّة. وفي شتّى الأحوال ثمّة التباس حول اعتبار هؤلاء الأشخاص شهداء أم ضحايا. ولعلّنا نخلط بين مفهوم الضّحيّة ومفهوم الشّهيد. والفرق بينهما شاسع ودقيق، ولا يجوز استغلال مبدأ الشّهادة كلّما توفّي شخص في حالة حرب أو اشتباك أو تصفية حسابات سياسيّة أو حزبيّة أو فرديّة. كما لا يجوز استغلال مبدأ الشّهادة إعلاميّاً لخلق جوّ من التّشنّج وتعزيز التّحريض لإثارة للغرائز.
الشّهيد هو من اختار طوعاً أن يحيا مسيرة حياة توصله إلى الشّهادة. لذلك لا نستطيع أن نطلق على كلّ الّذين يموتون في أوطاننا لقب "شهداء". وبعد الخيار، يأتي القرار الّذي يجعل من مسيرة حياتهم، مسيرة خاصّة جدّاً تتأقلم مع الواقع الّذي آمنوا به، واعتبروه حقيقة مطلقة، وبالتّالي يتناسب القرار مع الخيار الّذي عاشوه. ومن هذا المنطلق، تبدأ مسيرتهم كشهداء، وتطال حياتهم وهم أحياء. هي مسيرة نضال، وسلوك طريق واضح وانطباع خاصّ لما آمنوا به، إلى أن يصلوا لعيش شهادة الدّم. هدف الشّهيد واضح، وهو يعي أنّ الخطّ الّذي اتّبعه يؤدّي به إلى شهادة الدّم، وهو مستعدّ دائماً إلى أن يضحّي حتّى النّهاية، ولو بسفك الدّماء. ويُطلق لقب "شهيد" على من اختار طوعاً ودون أيّ ضغط اجتماعيّ أو دينيّ أو عائليّ، بل بملء إرادته الحرّة أسلوب  حياته. كما يدفع الشّهيد ثمناً باهظاً للوصول إلى هدفه، والثّمن يخصّه وحده، ولا يمكن أن يحمّله لشخص آخر، ممّن يعرفونه أو حتّى يحبّونه من أهله أو أصدقائه أو معارفه .
إذاً، فالشّهيد، يختار مسيرة حياة، ويناضل في سبيل هدف، ويدفع ثمنه بإرادته الحرّة والطّوعيّة. وهذا الثمن بالنّسبة لمن اختار أن يكون في مصاف الشّهداء، يبلغ أقصاه في شهادة الدّم.
إلّا أن ما نراه فعليّاً هو إمّا التباس حول مفهوم الشّهادة، وإمّا استغلال له بهدف التّخدير أو امتصاص النّقمة أو إنعاش الغرائز في سبيل الفتك والانتهاك أو تحويل مسار الأمور. ولو دققنا في الأحداث التّاريخيّة والأحداث الحاليّة وجدنا أنّ قلّة من الضّحايا الّتي هلكت في الحروب والنّزاعات والصّراعات، شهداء. وأمّا الأغلبيّة فضحايا استُغلّوا وماتوا دون أن يكون هدفهم الموت.
فالضّحايا هم الّذين يدفعون ثمن أهداف غيرهم، ويموتون دون أن يختاروا ذلك، وهم أبعد ما يكون عن هذه الأهداف. فهؤلاء الّذين يلقون مصرعهم في انفجار أو في حادث إرهابيّ، هم ضحايا، لأنّهم لم يختاروا طوعاً أن يموتوا. لذا فالإنسان الضّحيّة يعيش الظّلم والقهر، وبالتّالي يدفع ثمن ما لم يختره وما لم يقرّره، وذنبه الوحيد أنّه أُقحم في لعبة الموت. هناك آخر قام عنه بخيار معيّن وقرّر، وبالتّالي يُسفك دمه دون هدف.
والضّحيّة شخص مجرّد من كلّ قرار، ويوظّف طاقته وقوّته كي يستمرّ بالرّغم من كلّ القرارات الّتي أُخذت عنه في سبيل أن تجعل منه ضحيّة. كما أنّه مجرّد من كلّ هدف إلّا هدف البقاء. فالضّحيّة تصارع البقاء وتناضل من أجل البقاء حيّة راجيةً تحقيق أهدافها على شتّى أنواعها. وهي لا تسعى وإن في ظلّ الصّراعات والنّزاعات إلى الموت.
الموت هو الموت، لا يفرّق بين إنسان وآخر. والأهم من الطّريقة الّتي يموت فيها الإنسان هو أسلوب الحياة الّتي يحياها. ولا بدّ من القول إنّ الموت في سبيل قضيّة ساميّة أسمى ما في الوجود، لكنّ الأهم هو السّلوك الحياتيّ لتحقيق هذه القضيّة. فالّذين يرحلون يتركون آثارهم مضاءة في الذّاكرة، وقد تتلاشى الذّاكرة مع الضغوطات الحياتيّة والانهماكات اليوميّة. وقد تنتعش ليخرج الفاشيّ من جسد الضّحيّة، كما يقول محمود درويش. إنّها الدّائرة المقفلة، دائرة العالم الغارق في الأنانيّة والاستغلال والصّراعات.
الّذين يرحلون، شهداء كانوا أم ضحايا يمضون إلى عالم أفضل من عالمنا التّعيس. والإنسان كائن مقدّس، وإن اختار الشّهادة فطوبى له، فما من حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل أحبّائه. وإن لم يختر وسقط وروت دماؤه الأرض، فدماؤه مقدّسة لأنّها دماء أريقت بفعل سطوة القهر والظّلم والانتهاك.

الجمعة، 22 نوفمبر 2019

تجلّيات صوفيّة الجسد والروح/ قراءة في قصيدة للشّاعر الفلسطيني فراس حج محمد




مادونا عسكر/ لبنان
- النّصّ:
صباحك شهوة القبلِ
أضيئي الكون واغتسلي
ومدّي لي يديك رضاً
فإن مداهما جُملي
حبيبة قلبي الأسنى
شفاهك لثمة العسل
أحبّك كلما انتبهت
عقائد قلبي الثّملِ
قصائدنا الهوى لغةٌ
معرّفة بلا خجل
تجلَّيْ يا أمان اللهِ
واروي الطّيف في مقلي
- القراءة:
يدور هذا النّصّ البديع في فلك النّور حيث النّشوة المترامية في كون الشّاعر العشقيّ، حيث تمتزج عناصر النّور (الصّباح/ الأسنى) بشخصه وبشخص الحبيبة، فيبرز الكون العشقيّ النّورانيّ الّذي تتجلّى فيه الحبيبة  إلهة تمنح الشّاعر الحياة/ النّور. وإذ يستهلّ البيت الأوّل بلفظ الصّباح والشّهوة والقبل، يحدّد مسار كونه الشّعريّ النّورانيّ المرتبط جذريّاً بالحبيبة (صباحكِ). وكأنّي بها مصدر النّور الّذي من خلاله يطلّ على العالم. ويبدو لفظ (صباحك) خاصّ بها، فهو لا يرنو إلى صباح هذا العالم، وإنّما إلى صباح مختلف، صباح المحبوبة الإلهة الّتي تشرق في عالمه وتحوّله إلى عالم خاصّ يحيا فيه الشّاعر. وارتباط صباحها بشهوة القبل يبيّن صوفيّة الشّاعر المرتبطة بالجسد والرّوح معاً، ما يدلّ على توجّهه بكلّه إلى كلّها. وهنا يبرز المفهوم الآخر للصّوفيّة الدّال على انشغال الشّاعر بأعلى الدّائرة الإنسانيّة حيث الجمال والنّور والحبّ، فيرتقي بالمحسوس عن المحسوس ويتدرّج من الشّهوة الحسّيّة إلى الشّهوة المقدّسة ومن القبلة الحسّيّة إلى القبلة المقدّسة.
تبدو الشّهوة مقدّسة بفعل حضور المرأة الإلهة الّتي يتقدّس بها الشّاعر الّتي يتضرّع إليها، إن جاز التّعبير، حين يقول (أضيئي الكون واغتسلي). في فعل الأمر (أضيئي) استدعاء للمرأة النّور الّتي بيدها حجب النّور أو إظهاره وكشفه. ثمّ يضيف (واغتسلي) كمعطوف على (أضيئي) مرتبط بالشّهوة. لكنّ فعل الاغتسال هنا متلازم والنّور الّذي منه تُستَمدُّ الشّهوة وإليه ترنو. ولعلّها إشارة من الشّاعر إلى صوفيّة العلاقة الجسديّة كفعل حبّ نورانيّ ينطلق من الحسّ ليخلص إلى اللّاحسّ في دائرة النّور. ومن مظاهر ذلك الاتّحاد، اتّحاد اللّغة بين الشّاعر والمحبوبة، كما يبدو في قوله:
ومدّي لي يديك رضاً
فإن مداهما جُملي
ففي اليدين اللّتين تبعثان الرّضا تمدّد الشّاعر في الكون وترسيخ للغته (فإن مداهما جملي). هو يصوغ قصائده بها وهي قالبها وقلبها من جهة. وهو المتّحد بها يشكّل الوحي الشّعريّ ويترجمه حسّيّاً بلغة الجسد المعبّر عن الحبّ ويرتقي به ومعه إلى اتّحاد الرّوح فيخلق القصيدة. ولمّا وُجدت القصيدة حلّت فيها لغة الحبّ فكان الحبّ هو القصيدة وكان الجسد والرّوح عنصرين لا ينفصلان في كونيّة الشّاعر.
وليست اليدان وحدها من يكون دليلا ومشاركا في هذه العلاقة، فالشّفاه كذلك وسيلة لنطق اللّغة الخارجة من القلب الّتي منها يستقي الشّاعر وحيه الكامن في قلبه المتيقّظ أبداً بفعل حضور المحبوبة النّور. وإذا أشار الشّاعر إلى ثمالة القلب فليعبّر عن نشوة النّور العارمة الّتي تفيض بتجدّد واستمرار:
حبيبة قلبي الأسنى
شفاهك لثمة العسل
أحبّك كلما انتبهت
عقائد قلبي الثّملِ
قصائدنا الهوى لغةٌ
معرّفة بلا خجل
إذ يوحي هذان البيتان بعري داخليّ بين الحبيب والمحبوبة يقودهما إلى الاتّحاد الكامل ضمناً. ولعلّه أعظم من اتّحاد بالمعنى الحصريّ للغة، وأعمق من وحدة الرّوح والجسد. إنّه المعنى العذب الّذي عبّر عنه جلال الدّين الرّومي قائلاً: "في كلّ ما قد تعرفه يبقى العشق وحده لا متناهياً". فقصائد الشّاعر المعرّفة بلا خجل قصائد عشقيّة لا ينضب وحيها؛ لأنّها نابعة من نقاء لامتناهٍ، وصفاء غير محدود يصبّ في قلب العشق، قلب الله، وصولا إلى قوله:
تجلَّيْ يا أمان اللهِ
واروي الطّيف في مقلي
"المرأة هي إشعاع النور الإلهي." (جلال الدّين الرّومي)، والمرأة عند الشّاعر نور الله وأمانه. وبفعل الاتّحاد العشقيّ يمسيان معاً إشعاع النّور. ولا يكون العشق عشقاً ما لم يقد العاشقين إلى الله. ولا يكون العاشق عاشقاً ما لم يرَ في معشوقه نور الله، وما لم يمتزج بهذا النّور ليسير به ومعه نحوه. إنّ الارتواء الحقيقيّ يكمن في ذلك الماء الّذي إذا ما ارتوى منه العاشق لا يعطش أبداً. ومن عمق الارتواء يتفجّر الشّوق الظّامئ إلى مزيد من الارتواء. فمن يغرق في النّور لا يرتضي الخلاص أبداً.


الجمعة، 1 نوفمبر 2019

الثّورة لا تصنعها العواطف الجيّاشة والحماس العنيد



مادونا عسكر/ لبنان
كلّنا فاسدون ونستحقّ المحاسبة والمحاكمة من قمّة الهرم إلى أسفله، من الطّفل الّذي لم يولد بعد، لكنّه يحمل جينات الفساد، إلى الشّاب المفعم بالحياة المنطلق نحو الحرّيّة دون وعي، إلى الشّيخ المضمّخ بذاكرة الحروب  والانقسامات وتخلّف عن غرز الوعي والاختبار، إلى رجل الدّين السّاكت عن الحقيقة الّذي يجنّد النّاس لتحقيق مآربه وتنفيث حقده، إلى المعلّم الّذي لا يؤدّي واجبه كمعلّم ومربٍّ ويستهتر بجيل كامل ثمّ يطالب بحقوقه، إلى الموظّف الإداري الّذي يقبل الرّشوة ويحتقر المواطن وينتهك كرامته من أجل عمليّة إداريّة بسيطة، إلى العامل البسيط والآخر المتخصّص، إلى الشّرطيّ المرتشي، إلى الّذين يدّعون الثّقافة وينشرون الغباء والتّفاهة والسّطحيّة، إلى الإعلام مقتنص الفرص الّذي يصحو فجأة على حرّيّة التّعبير بقدر ما يناسبه الواقع، إلى النّاخب المرتشي بحجة الجوع والفقر، إلى النّاخب الطّامح بالحصول على جنسيّة، إلى عبّاد الزّعماء المنجرّين كالغنم في قضيّة واهمة، إلى مدّعي كسر الحواجز الطّائفيّة المتربّصة بدمهم، إلى الغارقين حدّ الموت بالجهل والجلوس في المقاهي ينظّرون ويتبجّحون كلّما التقطوا جملة من هنا وهناك، إلى مدّعي الإيمان الّذين يكذبون على أنفسهم، إلى المتملّقين الّذين يحدّثوننا عن حرّيّة الرّأي والتّعبير، إلى المتحايلين على القانون وهم ذاتهم يطالبون بالقوانين، إلى المسؤولين المسعورين الّذين لم يهبطوا من الفضاء، بل أولئك الخارجون من النّاس إلى النّاس، إلى شعب صحا فجأة على المطالبة بالحقّ والحرّيّة والتّغيير وأرادها في الشّارع.
الشّارع وسيلة، وعندما يصبح غاية حوّل المجتمع بأكمله إلى فوضى مدمّرة يستفيد منها كلّ فاسد. الشّارع العنيد الّذي بنفسه أوقد المهرجانات الانتخابيّة وناضل من أجل أن يبقي زعيمه لأنّه يحقّق له مصالحه. الشّارع الّذي هو حقّ للجميع بحكم "حرّيّة التّعبير"، ويسمح لأيّ كان أن يستغل الظّروف ويحقّق شرّه، ويستعيد أمجاد الحربّ ويقف عند تقاطع الطّرقات ليمارس بشاعة قديمة دفينة في نفسه. الشّارع وسيلة لا أكثر، وعندما يصبح مترعاً بالنّاس بحجّة استرداد الوطن يمسي مغارة يأوي إليها اللّصوص. وغالب الظّنّ أنّ اللّصوص بيننا في ساحات الفوضى.
ثمّة خيط رفيع بين المطالبة بالحقّ ومصادرة حقّ الآخر، وخيط رفيع بين المطالبة بالحقّ والاتّجاه نحو الفوضى، بين أن تتظاهر وتحتجّ وتصادر الرّأي الآخر وتنتهك كرامته، بين الصّراخ والتّعبير عن الذّات. لا يمكن لشعب غارق في الجهل السّياسي أن يستفيق فجأة على الوعي به.  ولا تستفيق الحكمة في مدّة زمنيّة قصيرة. فالحكمة مسيرة وعي طويلة يبنيها كلّ أفراد المجتمع.  
الحقيقة في التّفاصيل الّتي لا نراها أو لا نريد أن نراها، في الطّيش المستشري وعدم الدّقة وملاحظة ما يتسرّب خلسةً. الصّورة جميلة ومبهرة  لكنّها لا تدلّ على التّحضّر؛ لأنّ التّحضّر يكمن  في الوعي والشّعوب لا ترتقي إلّا بالوعي وبمقوّمات الجمال. والوعي هو غير النّهوض من النّوم؛ إنّه البناء المتمدّد بأساساته الصّلبة في عمق الأرض والمرتفع المحلّق بقوّة العقل وضبط النّفس. التّسامح المفرط جميل، لكنّه تسامح يترادف ومبدأ غضّ النّظر إلى حين.
 أن تكون مثقّفاً لا يعني أنّك تختزن المعلومات وتعيد إنتاجها وتعبّر عنها في الإعلام. أن تكون مثقّفاً يعني أن تعي ما تقول أوّلاً، وتحدّد مقدّمات لنتائج وتسعى لتحقيق الأهداف بالفعل لا بالقول والصّراخ في الشّوارع. أن تخطّط بصمت، وتركّز على ما يدور حولك وتتعمّق في التّحليل لا أن تجترّ ما يقوله فلان وعلّان.  
أن تكون مواطناً حقيقيّاً يعني ألّا تدوس على أخيك المواطن وتنتهك كرامته لأنّك "ثائر". أن تدرك أنّ الوطن ليس مجموعة شعارات وهتافات، وإنّما عمل دؤوب وجدّ واجتهاد وبناء للفكر، لتحارب بالفكر لا بالغريزة. أن تفهم أنّ الوطن ليس مقهىً تثرثر فيه تحت غطاء النّدوات والاجتماعات المعزّزة للوعي. لماذا لم تُقَم هذه النّدوات في الجامعات والمدارس لدرء خطر الجهل والنّفاق والظّلاميّة؟ لماذا لم يُبنَ الوعي لعقود طويلة لبناء مجتمع أفضل لا يوصل أشباه مسؤولين؟ أين كان الواعون المثقّفون الوطنيّون؟ ونتساءل: ما الّذي أيقظ هذا الشّارع؟ ومن يحقّ له أن يتظاهر ويحتجّ ويعترض؟ وما هي نسبة المطالبين الصّادقين؟
كلّنا فاسدون؛ أمام الضّمير الحيّ الّذي يتهجّى الوضوح والحقيقة. أمام العقل المدمّر الّتي تظهره الحقيقة الكامنة في التّفاصيل. أمام الكبت المتفجّر والتّخوين الّذي يهدّد العقلاء. أمام الوقت الضّائع هباءً الّذي سينتج جيلاً عقيماً، لأنّ الثّورة أوّلاً وأخيراً ثورة العقل والفكر، والتّغيير تقوم به النّخبة لا العوام. وعلى مرّ التّاريخ نشهد للتّغيير على أيدي الأفراد العاقلة النّقيّة الّتي حدّدت أهدافها وحقّقتها بجهد وجدّ.
كلّنا فاسدون ونستحقّ المحاكمة؛ فمن يجرؤ على محاسبة نفسه والوقوف أمام ضميره وأمام نفسه ويتبيّن أنّ الوضع الرّاهن يحتاج للعقل، وللعقل فقط، لا للعواطف الجيّاشة والحماس العنيد والصّراخ الّذي يصمّ الآذان ولا يسمح للعقل أن يتصرّف؟
من أراد التّغيير فليبدأ بنفسه أوّلاً.

الجمعة، 25 أكتوبر 2019

سبعة عناصر في تأمّل الحالة الرّاهنة



مادونا عسكر/ لبنان
"الثّورة ككلّ جرأة: في وقتها ومكانها عبقريّة وانتصار وفي غير ذلك حماقة واندحار". (ميّ زيادة)
لتكون الثّورة في وقتها ومكانها عبقريّة، ينبغي أن تستند إلى الوعي. ولا بدّ من الانتباه إلى دلالة كلمة "الثّورة" حتّى لا يلتبس المعنى على النّاس فينطلق بحماسة المندفع بردّات فعل تفجّر الكبت المتأثّر بتراكم المشاكل الّتي يرزح تحتها الإنسان.
الثّورة تعني اصطلاحاً التّغيير الأساسيّ في الأوضاع السّياسيّة والاجتماعيّة يقوم به الشّعب في دولةٍ ما. ما يعني أنّ الثّورة بمعناها الاصطلاحيّ تختلف عن الاحتجاج بمعنى الاعتراض على أوضاع سياسيّة واجتماعيّة. ولئن كانت الثّورة  تعني التّغيير الجذريّ في الأوضاع السّياسيّة والاجتماعيّة، تطلّب هذا التّغيير وعياً خاصّاً نما بنموّ الإنسان الثّقافيّ والمعرفيّ والحضاريّ فيستحيل عبقريّة وانتصاراً. وأمّا إذا خلا من الوعي فما هو إلّا حماقة تؤدّي إلى الفوضى المدمّرة والهلاك الحتميّ. والحماقة عكس الحكمة، تعبّر عن فوضى العقل وانعدام القدرات المنطقيّة الموجّهة لأي احتجاج أو معارضة أو استنكار لوضع ما. ولئن كانت الثّورة تغييراً أساسيّاً يقوم به الشّعب فلا بدّ لهذا الشّعب أن يكون واعياً بما يكفي ليحدّد أهدافه المتلازمة وأهداف ثورته وإلّا أتى فعله مجرّد تعبير عن غضب عارم، متى زال زال معه كلّ مطلب.
وحتى لا يكون الكلام وعظاً وإرشاداً وتنظيراً وإنّما تسليط للضّوء على التّفاصيل الّتي تكمن فيها الحقائق المؤدّية إلى تحقيق الأهداف، لا بدّ من تحديد عناصر الوعي الّذي قد يتمّ قمعه بأساليب عدّة:
- العنصر الأول: الوعي بتاريخ الشّعب وتبيّن تفاصيله والتّعلّم منه. فالشّعب الّذي تحتفظ ذاكرته بأهوال تاريخه ومصائبه الّتي أنهكت الوعي والعقل الجمعي فتفرّد كلّ فرد أو كلّ مجموعة في آراء خاصّة أو انتماءات خاصّة نتج عنها انغلاق خوفاً من الآخر المنفرد بآرائه وانتماءاته. الوعي بالتّاريخ يعني الابتعاد عن التّفاخر السّاذج والتّمجيد السّخيف للتّناحر والقتل وتبرير سفك الدّماء والمثابرة على تجميل الصّورة وخدعة طيّ صفحة الماضي دون البحث الجدّي في تصفية القلوب وتنقية الأذهان والسّعي إلى حاضر أفضل من خلال منهجيّة سلوك أفضل.
- العنصر الثّاني: الوعي بالمسؤوليّة وتحمّلها  بجدّيّة، واعتبار الشّعب مشاركاً بما وصل إليه الواقع من سوء. فغير صحيح أنّ الشّعب لا يتحمّل المسؤوليّة في الأحوال الرّديئة الّتي تصل إليها الشّعوب. ومن غير الصّحيح أنّ الحكومات وحدها هي من تتحمّل المسؤوليّة. فالشّعوب تنال الحكومات الّتي تستحقّها، وهذه الحكومات لم تأتِ من كواكب أخرى وإنّما هي من صلب المجتمع. وما أتت إلّا بمؤازرة من الشّعب. لا ريب أنّ المسؤوليّة تتفاوت بين الدّولة الّتي تدير البلاد والشّعب إلّا أنّ هذا التّفاوت لا يلغي مسؤوليّة أيّ فرد.
- العنصر الثّالث: الوعي بأنّ الحماس هو غير السّعي إلى تحقيق الأهداف. وبالتّالي لا بدّ من وضع أهداف محدّدة ليتمّ التّغيير الجذري. وذلك يتطلّب عملاً دؤوباً واجتهاداً وتعباً حتّى يتمّ التّغيير. وأمّا الشّعارات فهي ابنة اللّحظة وتتضخّم بقدر ما يتفلّت الوعي ويثمل الإنسان بالحماس والفرح الّذي ينتج عن إفراغ الغضب ونشوة الحرّيّة المؤقّتة في التّعبير عن الوجع والألم. الحماس وليد اللّحظة وأمّا السّعي إلى تحقيق الأهداف فمسيرة نحو التّطوّر والتّقدّم.
- العنصر الرّابع: الوعي بأنّ تطوّر الشّعوب يقوم على نظريّة بسيطة وهي أن يؤدّي كلّ فرد عمله على أكمل وجه، مهما كان بسيطاً. ففي كلّ مرّة يحصل فيها تقصير أو استهتار تتأثّر مسيرة التّقدّم والنّموّ الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسّياسيّ.
- العنصر الخامس: الوعي بحضور الآخر المختلف، أيّاً كان اختلافه واحترام حضوره بل والدّفاع عنه إذا لزم الأمر، بمعزل عن الأحكام المسبقة والشّتائم الّتي تعكس ذهنيّات مريضة غير مؤهّلة للمطالبة بالحقّ. وكلّ حقّ يقابله واجب، وكلّ واجب يقابله معرفة بهذا الواجب وكلّ معرفة يقابلها إعادة بناء للمفاهيم والتّصوّرات لبلوغ المعرفة بالمُطالَب به. فمن يطالب بإسقاط النّظام لا يعي جيّداً أنّه يتّجه نحو الفوضى الّتي ستتجلّى لاحقاً بالخروج عن النّظام والتّصرّف بهمجيّة. ومن يطالب بتشريع القوانين المواكبة للحداثة عليه أن يتعهّد بتطبيقها.
- العنصر السّادس: الوعي بأنّ مقولة أنّ الشّعب مصدر السّلطات خدعة كبيرة في بلدان ترزح شعوبها تحت وطأة السّعي وراء لقمة العيش فقط وتحت وطأة البطالة وتراجع العلم. يكون الشّعب مصدر السّلطات حينما يعي قيمته كشعب يحاسب دون ريبة وخوف من هم موظّفون في خدمته. وبقدر ما تتضخّم هذه المقولة في الأذهان بعيداً عن الوعي ينتج عنها تمرّد أعمى وحماس مفرط يُدخل الإنسان في فوضى مدمّرة.
- العنصر السّابع: الوعي بقيمة المحبّة الحقيقيّة بين الأفراد بغض النّظر عن الدّين والانتماء، والتّعاون من أجل تحقيق هذه المحبّة على ألّا تبقى ورقة اختياريّة يوم يكون الحماس سيّد الموقف. فالمحبّة هي الأساس وعليها تُبنى الأوطان وبها تتقدّم الشّعوب وتنمو وتتطوّر وتفهم أنّ الغلبة دائماً للمحبّين الّذين يبذلون أنفسهم ويقدّمون من ذواتهم ليكبر الوطن. المحبّة تبني والحقد يدمّر. المحبّة تنظّم الفكر والشّعور، وأمّا الحقد فجهل وعقم فكريّ وشعوريّ. المحبّة اتّجاه نحو إنسانيّة الإنسان وأمّا الحقد فعودة إلى حالة الهمجيّة الأولى وتعزيز للنزعة الفتك والتّخريب والانحلال.
تأتي ساعة تُحدَّد فيها مصائر الشّعوب وهي ساعة العقل والعقل فقط، بعيداً عن المشاعر المفرطة، والحماس المندفع، والشّعارات الفضفاضة، ونشوة الانتصار الخادع.  

الجمعة، 18 أكتوبر 2019

ميّ زيادة واعتدال ميزان الكتابة المتجنّية عليها



مادونا عسكر/ لبنان
"إنّ الوصم بتهمة الجنون وسيلة معروفة وناجعة للتّهميش الاجتماعيّ، تغني عن أيّ نقاش آخر" (مقدّمة كتابات منسيّة- أنتيا زيغلر)
استوقفني الفصل الأخير من كتاب "تربية" للمفكّر المصريّ سلامة موسى المعنون  بـ "ذكريات من حياة ميّ". ولعلّه أسوأ ما كُتب عن ميّ زيادة، إذ إنّه يُختصر في كلمة واحدة، "اللّاإنسانيّة". ولست أدري السّبب الّذي دفع سلامة موسى لإدراج هذا الفصل في كتاب سيرة ذاتيّة يحكي فيها فصولاً من مراحل حياته ويروي تاريخ العصر الّذي عاش فيه وتاريخ مصر والتّقلّبات الفكريّة والسّياسيّة ومؤّلّفاته الّتي وجّهته. ولئن كان عنوان الكتاب "تربية" ونوعه سيرة ذاتيّة، فلا ريب أنّ موسى أراد أن يروي كيف تطوّرت تربيته في شتّى مراحل حياته. ولكن، لماذا أقحم في الكتاب "ذكريات عن حياة مي"؟ وماذا أضافت هذه الذّكريات إلى تربيته أو ماذا تضيف إلى القارئ إذا ما كان موسى يرمي إلى أن يستفيد القارئ من خبراته الشّخصيّة؟ فالذّكريات الّتي رواها عن ميّ شوّهت صورة أديبة كان لا بدّ من أن تترسّخ في ذهن القارئ من جهة عبقريّتها الأدبيّة والفلسفيّة والفكريّة بدل أن يترك له صورة مشوّهة تتناقض كلّ التّناقض مع صورة أعمق وأجلى نستدلّ عليها من خلال مقالات وأدب وفلسفة ميّ.
إنّ مسؤوليّة الأديب والمفكّر تكمن في البحث في النّتاج الفكريّ والأدبيّ، ومسؤوليّته تقتضي الحفاظ على التّراث الثّقافيّ. غير أنّنا نرى  الأستاذ سلامة موسى ينقل صورة عن ميّ زيادة في أيّامها الأخيرة يستدعي بها شفقة القارئ الّذي يحسب غالباً أنّ كلّ ما يقوله المفكّر حقيقيّ.
يستهلّ الكاتب هذا الفصل بفقرة ترسم شخصيّة ميّ أخرى غير تلك الّتي تفرض نفسها بقوّة في مقالاتها الأدبيّة والفلسفيّة والنّقديّة. إذ فيها تبرز شخصيّة ميّ القويّة والفذّة. يقول الأستاذ سلامة: "عرفتها في 1914 وكانت حوالي العشرين من عمرها، حلوة الوجه مدلّلة اللّغة والإيماءة، تتثنّى كثيرًا في خفّة وظرف. وكان الدّكتور شبلي شميّل يحبّها ويعاملها كما لو كانت طفلة بحيث كانت تقعد على ساقيه. وكان يؤلِّف عنها أبياتًا ظريفة من الشّعر للمداعبة وما هو أكثر من المداعبة." وإنّي لأتساءل عن سبب ذكر هذا التّفصيل عن شبلي شميّل وميّ زيادة إن صحّ. ويضيف: "وكنت أصدر في ذلك الوقت مجلّة أسبوعيّة باسم المستقبل. وكنت أنا وشبلي شميّل على نيّة معيّنة مبيَّتة في إصدارها من حيث مكافحة الخرافات الشّرقيّة. ونشرت في أحد أعدادها حديثًاً مع مَي أطريتها فيه إطراء عظيمًا. وكان القارئ لكلماتي يلمح أكثر ممَّا يرى من الإعجاب الأدبيّ، ولكنّي مع ذلك حرصت على أن يكون إعجابي بها أدبيًّا فقط؛ ولذلك لم أتعمّق ميّ في تلك السّنين. وكانت أحاديثي لها اجتماعيّة أكثر ممّا كانت سيكلوجيّة." وكأنّ الأستاذ سلامة لم يكن في الأصل يبدي اهتماماً لأدب ميّ وهو نفسه القائل عنها في مقدّمة كتابها "المدّ والجزر": "وهناك أسف واحد يعتري الإنسان كلّما قرأ كتابًا لمي، وهو أسف شبيه بالغبطة؛ فإننا نغبّطها جميعًا لذكائها وسعة ثقافتها، ونودّ لو نجد عددًا كبيرًا من فتيات سوريا ومصر يقتفين أثرها في خدمة الحياة القوميّة العربيّة والعمل على رقيّها ورفعها، ولسنا نطمع في أن نجد من تساويها، ولكنّنا نودّ أن نجد من تدانيها."
من العجب أن يكتب أدباء ومفكّرون عن أديب أو عالم أو شاعر أفضل المعاني وهو حيّ يُرزق ثمّ يستفردون به بعد موته ليهشّموا صورته ويميتونه مرّةً ثانية في ذهن القارئ. فالأستاذ سلامة الّذي لم يطمع في أن يجد من يساوي ميّ يذكر في هذا الفصل أنّ ميّاً كانت على ثقافة واسعة في الأدب الفرنسيّ والإنكليزيّ. وكانت تتحدّث اللّغة الفرنسيّة والإنكليزيّة. وكانت إلى هذه الثّقافة النّادرة موسيقيّة وعلى دراية بكبار الموسيقيّين. إلّا أنّها لم تكن تبالي بالعلوم. ولم يكن يجد بين الكتب الّتي حفلت بها كتاباً واحداً في العلم. فاعتبر ذلك نقصاً في ثقافاتها لذلك كانت حين تؤلّف بقلبها وعاطفتها.
كيف لم يتنبّه الأستاذ سلامة إلى مقدّمة ميّ زيادة في كتاب الدّكتور يعقوب صرّوف "فصول في التّاريخ الطّبيعيّ من مملكتيّ النّبات والحيوان"؟ (كتابات منسيّة- ص841) ألم يقرأ مقال "كيف نقيس الزّمن" (مجلّة الزّهور- 1913- الأعمال المجهولة لميّ زيادة- جوزيف زيدان – ص 58)، ومقال "أربعون يوماً بعد وفاة أديسون" (كتابات منسيّة- ص 425) وغيرها من المقالات الّتي لعلّها ضاعت كما ضاعت مقالات كثيرة لميّ زيادة؟
ولئن تحدّث الأستاذ سلامة عن التّعمّق السيكولوجي الّذي لم يقم به إبّان معرفته لميّ، أورد في هذا الفصل أنّ ميّاً عاشت بالعاطفة دون التّفكير في المستقبل: "وخاصةّ هذا المستقبل البعيد حين يذوي الشّباب وتحتاج كلّ فتاة إلى حكمة العقل إذا ما ذهبت عنها حلاوة الوجه. وأهملت الزّواج والأمومة إذ كانت لاهية بشبابها تتلألأ أمام أضيافها الكثيرين كلّ مساء وكلّ هؤلاء الأضياف من الباشوات الأثرياء أو من الأدباء الأثرياء أو من الأدباء المعدمين. وكلّهم كان معجبًا وإن اختلفوا في مواضع الإعجاب...  وكانت مخطئة. وكان خطؤها خطأ الحياة. وكثير من النّاس يفهم النّجاح على أنّه نجاح الحرفة أو الثراء أو الجاه، ولا يفهمه على أنّه نجاح الحياة كلّها، نجاح الصّحة الّتي نعيش بها إلى يوم الوفاة، ونجاح الفلسفة الّتي توجّهنا في هذه الدّنيا، ونجاح الحرفة الّتي نحصّل منها العيش الإنسانيّ، بل كذلك نجاحنا في البناء العائليّ والبناء الاجتماعيّ."
لم يتحدّث أحد مثلما تحدّث ميّ عن البناء العائليّ وأهمّيّة الأسرة وتأثيرها في المجتمع والوطن. وحيت دعت إلى حرّيّة المرأة شدّدت على حرّيّتها الّتي تعود بها إلى المنزل والاهتمام بالعائلة. ولم يتحدّث أحد عن رصانة المرأة واتّزانها المعرفيّ والعقليّ بدل الانغماس في التّبرّج والأحاديث السّخيفة وإهمال أولادها كما فعلت ميّ. ولا يذكر الأستاذ سلامة أنّه نصح ميّاً أو دلّها على خطئها أو حثّها على الاهتمام بالمستقبل. بل إنّه يشرح أنّ شخصيّتها اضطربت عندما رافقها صراع داخليّ مزّق قلبها على الشّباب الذّاهب. فشرعت تخلط بين الحقائق والأوهام وتطلّ من نافذتها فتجد من يتربّصون بها بغية خطفها. ممّا دفع أهلها لحملها إلى لبنان خوفاً عليها فقادوها مقيّدة إلى مستشفى أو مارستان حيث بقيت سنوات ثمّ عادت إلى مصر. ولم يأتِ الأستاذ سلامة على ذكر عرقلة إلغاء الحجر عن ممتلكات ميّ في مصر بعد أن ألغي الحجر على ممتلكاتها في بيروت. (مأساة النّبوغ- سلمى الحفّار الكزبري – ميّ في الفريكة في جوار أمين الرّيحاني- ص 325) وتورد السّيدة سلمى كلّ مخطوطات الرّسائل الّتي تبادلها "المنقذون" كما سمّتهم ميّ، مع الجانب المصريّ.
يبدو أنّ الأستاذ سلامة يبرّئ أقارب ميّ ممّا فعلوه في حين أنّ ميّاً عانت ما عانته بفعل ظلم شديد وقع عليها منهم. ونراه في فقرة أخرى يروي أنّه زار ميّاً في مصر مع الأديب أسعد حسني الّذي كان صديقاً له. وآلمه أن شاهد ميّاً امرأة مهدّمة كأنّها في السّبعين، قد اكتسى رأسها بشعر أبيض مشعّث. وظنّها الخادمة، وانتظر أن تتنحّى ليدخل وصديقه. ويصف لنا الأستاذ سلامة ميّاً أشقى وصف، ويحدّد لنا ملامح اضطرابها وانهيارها. كأنّ يقول: "وقعدنا نتحدّث، فروت لنا كيف خطفوها من القاهرة إلى مارستان العصفوريّة في لبنان، وكيف كانوا يتربّصون بها على مقهى قريب في الشّارع القريب من منزلها. ثمّ شرحت لنا ما كابدته من عذاب في هذا المارستان، وجعلت تلومني لأنّي لم أسأل عنها. وتدفّقت دموعها كما لو كانت ميازيب. وجرى بكاؤها في تشنُّجٍ كأنّها كانت تلتذُّه. ثم هدأت، وأشعلت سجارة وجعلت تدخّن وتنفخ دخانها عليَّ مداعبة لأنّي أكره الدّخان، وهنا استولى عليها طرب فشرعت تضحك في إسراف يزيد على إسرافها في البكاء. وكانت تتشنّج بالضّحك كما كانت تتشنّج بالبكاء".
ميّ لم تستقبل أيّ شخص لم يسأل عنها. وبالعودة إلى "مأساة النّبوغ" ص 421، إبّان عودتها إلى مصر، نقرأ الآتي:
"وفي ذلك الصّيف استقبلت ميّ صحافيين مصريين أثبتا لها أنّهما كانا يتلقّفان أخبارها إبّان محنتها هما الأديب الصّحفيّ الأستاذ أسعد حسني رئيس تحرير مجلّة "العالم العربي" الّتي أنشئت بعد وفاة ميّ، والصّحفيّ طاهر الطّناحيّ. كان أسعد حسني قد عرفها في سنة 1932 فروى أنّه ذهب لزيارتها بعد رجوعها من لبنان قال: (طرقت باب بيتها فلّما فتحته ورأتني قالت:
- إنّي يا سيّدي لا أقابل أي إنسان لم يذكرني في محنتي!"
قلت:
- "ومن يدريك يا سيّدتي أنّي لم أذكرك؟ خذي هذه المجموعة من  الصّحف تجدي فيها كلّ ما كتبته عنك خلال غيبتك عن مصر".
وضحكت ميّ وهي تمدّ يدها لأخذ الصّحف ثمّ قالت لي مازحة:
"إذن ادخل... فقد جئت ومعك جواز المرور!"
فكيف يدّعي الأستاذ سلامة موسى أنّه زارها مع الأديب أسعد حسني؟ وكيف يذكر أنّها كانت مصابة بلوث عقليّ جعل تصرّفها شاذاً؟ وكيف ينقل لنا هذه الصّورة المقيتة المثيرة للشّفقة عن ميّ؟ في المقابل يقول الأديب اللبنانيّ مارون عبّود لمّا زارها في الفريكة: "إنّ في صمود تلك البنت المقهورة في وجه المصائب الّتي حلّت بها ما يذكّر بصمود الصّفصاف في وجه العواصف، ويدعو إلى الإعجاب بقوّة شخصيّتها، وقوّة إرادتها، وروح الدّعابة، وعزّة النّفس...". (مأساة النّبوغ- ص 372).