الجمعة، 27 سبتمبر 2019

ميّ زيادة ومسألة النسوية



مادونا عسكر/ لبنان
"لا أطلب للمرأة المساواة بالرّجل لاعتقادي أنّها تفوقه سموّاً بقلبها. والنّظريّات الّتي ترمي إلى تسويتها بالرّجل تحول حتماً بينها وبين عالمها الخاصّ الّذي به- به وحده- تظلّ محلّقة فوق كلّ أفق يستطيع الرّجل في جدّه وعبقريّته أن يبلغه. فالمساواة هبوط لها، لا صعود." (ميّ زيادة)
إذا كانت ميّ زيادة قد استحقّت أن تكون رائدة من رائدات النّهضة النّسائيّة العربيّة الحديثة، فلّأنّ ميّاً وعت أنّ ما للمرأة للمرأة وما للرّجل للرّجل. ولئن كانت ميّ على درجة عالية من الثّقافة، مطّلعة على تاريخ المرأة في الفترة الّتي سبقت سجنها، من تّصوّرات وعقائد انتزعتها من مكانها الحقيقيّ الأصيل، فهمت أنّ المساواة هو انحدار للمرأة من ذلك المكان الأصيل لا ارتقاء لها.
المساواة بين شخصين هي جعلهما متعادلين ومتماثلين. ما لا يحقّق صورة المرأة وذاتيّتها، لأنّها كما أشارت ميّ تفوق الرّجل سموّاً بقلبها. ولا ريب أنّ ميّاً مدركة للتّكوين العميق للمرأة المختلف عن الرّجل على المستوى الفكريّ والنّفسيّ والرّوحيّ، فكيف لها أن تماثل الرّجلّ وتتخلّى عن تلك السّمات الّتي لا يمكن للرّجل مهما فعل أن يبلغها؟ وبإشارتها إلى عالم المرأة الخاصّ تحدّد ميّ للمرأة ملامح حضورها في محيطها ومجتمعها بل في الكون بأسره. هذا العالم الّذي لا يمكن للرّجل أن يخترقه حتّى وإن نادى بتحرير المرأة وتثقيفها وتعليمها. فهو ينظر إلى الموضوع من خارج المرأة، ولا يدخل في تفاصيلها وتكوينها وتركيبتها. لذلك فميّ تقدّر مبادرة الرّجل أمثال المعلّم بطرس البستاني ورفاعة الطّهطاوي وقاسم أمين في المناداة بتعليم المرأة وتثقيفها، إلّا أنّها أدركت أنّ من يحرّر المرأة هي المرأة نفسها، وإلّا وقعت في فخّ قمعٍ من نوع آخر. تقول ميّ في محاضرة لها بعنوان "غاية الحياة" ألقتها في جمعيّة "فتاة مصر الفتاة": "صاح قاسم أمين في القوم يهديهم، ولكنّه لم يفته أنّ تحرير المرأة في يدها أكثر منه في يد الرّجل"، فالمرأة تعرف حاجاتها العميقة وتتبيّن أزمتها المؤلمة الّتي من خلالها تطالب بحريّتها. لكنّ هذه المطالبة لا تثمر ولا تلقى وقعاً مؤثّراً، وقد لا تنجح إلّا إذا تمّ توجيهها بصرامة ووعي واتّزان حتّى لا تنزلق المرأة في مطبّات الفوضى والاستهتار. لذلك نرى ميّاً تحثّ المرأة لا على المطالبة بحقوقها وحسب، بل على إدراك واجباتها والتّمسّك بها وتطوير أساليب التّعامل فيها لكي تتحقّق حقوقها. فمن لا يعرف واجباته ويلتزم بها لا يستطيع أن يطالب بحقوقه. وهذه إشارة مهمّة لكون ميّ تعاملت مع هذا الموضوع إنسانيّاً أكثر منه أنثويّاً. وبهذا تكون قد تناولت حرّيّة المرأة بشكل أكثر عمقاً ورقيّاً.
في مقال لها عن "الفتاة المصريّة وموقفها اليوم" نُشر في صحيفة "السّياسة" تواجه ميّ بشدّة الصّحافة المتهكّمة على الفتاة والمنتقدة لها باستهتار فتقول: "إنّ موقف الفتاة أهمّ وأعسر من أن يتناوله المتشائمون بالتّشنيع والزّراية والتّنديد ورمي ابنة مصر الحديثة بالغلوّ في التّبرّج، والشّرود عن حدود الاحتشام، وإغفال اللّياقة والكرامة فيما خطت إليه من بسطة الحرّيّة. وموقفها أدقّ وأرفع من أن يغمره المدّاحون بذلك الصّنف الهلاميّ المائع من الثّناء الّذي يخيّل أنّه بضاعة "تحت الطّلب" بالجملة سواء أكان المطلوب منها بعضها، أو ما يختلف على صنفها كلّ الاختلاف؛ ففي الحالين إنّما يفسد من الفتاة ذوقها، ويعكّر عليها وجدانها، ويلتبس أمامها وضوح المعاني والأشياء، ويضاعف في تشويش نفسها الحائرة." وفي هذه السّطور لغة شديدة القوّة، تنطلق فيها ميّ من داخل المرأة إلى خارجها، أيّ من دوافعها الشّخصيّة الكامنة في نفسها إلى المجتمع المحيط بها. وما انتقادها لهؤلاء المتشائمين والمسيئين للفتاة إلّا توجيه للفتاة نفسها في دعوة ضمنيّة لاتّخاذ مسار متّزن حتّى تتحرّر نفسها فلا تتشوّش. فمن جهة تواجه معها الانتقادات المتناولة سلوكها، ومن جهة أخرى تحمل المجتمع على إدراك تفاصيل هذا السّلوك لكي يتفهّم بدل أن ينتقد. فتضيف: "ابنة هذا الجيل كابنة كلّ جيل، لها عيوب ولها حسنات، وإن بدت العيوب مكبّرة لأنّنا نعيش على مقربة منها في حين ضربت بيننا وبين الماضي الحجب. وتشترك في تكوين هذه الميول عوامل شتّى: من وراثة، إلى وسط، إلى ألم، إلى سرور، إلى فرق بين عقليّة هذا الجيل وعقليّة الجيل الّذي تولّى أمره، إلى وحدة الفتاة بين نزعاتها وحاجاتها وحيرتها وسط قوم قلّ أن يعترفوا بأنّ لها شخصيّة غير شخصيّتهم  وأنّها تعيش في زمن غير الّذي كانوا فيه فتياناً". وهنا تكمن أهميّة إدراك كيفيّة نقل المجتمع من عقليّة إلى عقليّة متطوّرة تتيح له استيعاب الفتاة وتفهّم سلوكها وتوجيهه والولوج في تكوينها الذي تأثّر بالتّربية والمجتمع  وتوعيتها  على بناء ذاتها وفهم معنى حرّيّتها. فالانقلاب الحاصل في داخل الفتاة ينبغي ضبطه بالتّفهّم والتّوعية والاستيعاب والتّوجيه.
لذلك فالحرّيّة عند المرأة بحسب مي زيادة تتكوّن من عنصرين أساسيّين: التّعليم والعمل. التّعليم الّذي يسهم في تثقيفها وعقلنتها وارتقائها الفكريّ والعلميّ وتهذيب طباعها وتنمية ملكاتها ومواهبها. والعمل الّذي يحقّق حرّيّتها بمعناه العميق لا بالمعنى الّذي جنحت إليه المرأة فأغرقها بنوع من الفوضى. إذ إنّها حين غرقت في العمل، غالباً ما تخلّت عن واجباتها الأساسيّة كأمّ وزوجة ومدبّرة منزل. وتذهب ميّ عميقاً في هذا الموضوع لتشير بدقّة إلى عامل الوقت المهدور حتّى وإن نالت المرأة تعليمها. فالأوقات الّتي تقضيها دون عمل كفيلة بتحطيم قدرتها على التّطوّر والارتقاء. "فماذا تراها تصنع في هذه الفترة من الزّمن الطّويلة كانت أم قصيرة؟ بأيّ الأفكار وأيّ العواطف وأيّ الأعمال تراها تشغل ساعات النّهار والفراغ؟ وكيف تتصرّف في هذا الوقت حساسيّتها الوثّابة النّاضرة الفيّاضة؟"، التّعليم والعمل يسهمان في تكوين الشّخصيّة الإنسانيّة. فالتّعليم الّذي يهدف إلى استنارة العقول يكمّله العمل الّذي يطوّر هذا العقل ويمنحه خبرات عديدة تمكّن المرء من خوض غمار الحياة بعيداً عن التّفاهة والسّخافة والسّطحيّة والاهتمام بما لا ينفع.  
بالمقابل تتحقّق حرّيّة المرأة بالنّسبة لميّ زيادة في واجباتها أوّلاً، فتقول:"يصيحون: علّموا المرأة لتستنير، علّموها لتكون حرّة، علّموها لتشعر بكرامتها ككائن إنسانيّ، علّموها لتتعرّف حقوقها فتخرج مسلّحة بها إلى ميدان الحياة الفسيح... وأنا أقول: علّموا المرأة  فيكون لها شرف الرّجوع إلى داخل المنزل، ففي داخل المنزل الحرّيّة الحقّة والكرامة الإنسانيّة الحقّة، وانتصار الحقّ انتصار الواجب، وفي داخل المنزل ميدان الحياة الفسيح والعمل الأعظم الّذي يذيع النّور في بني الإنسان. إنّ المرأة الّتي لا تدرك عظمة المنزل- سواء أكان قصراً أم كوخاً- ولا تقدّر أهمّيّته وعذوبته ومبلغ تأثيرها فيه فتلك امرأة جاهلة ولو هي فازت بنصف دستة من الشّهادات الدّنيا والعليا والّتي هي بين بين!".
إنّ ما رنت إليه ميّ حرّيّة مسؤولة وواعية ومتّزنة، فلا حرّيّة من دون هذه العناصر الثّلاثة وإلّا استحال حال المرأة فوضويّاً مدمّراً. ولا شكّ أنّ في قولها توجيهاً للمرأة للحفاظ على مقامها كزوجة وأمّ وبذلك تماهٍ لصورتها مع الرّجل. فالعودة إلى داخل المنزل عودة إلى علاقة أفضل مع الرّجل، تتّسم بالوعي والتّبادل الفكريّ والعاطفي لكن على مستوى ندّين لا يختلف الواحد عن الآخر إلّا بالتّركيبة الإنسانيّة. المرأة الحرّة هي تلك الّتي تجيد إدارة محيطها وتجيد التّأثير فيه من خلال تعاطيها معه. ولقد أشارت ميّ في مكان آخر أنّ المرأة الغارقة في العبوديّة تربّي جيلاً من المستعبدين. وبالتّالي فحريّة المرأة مرتبطة بحرّيّة الأجيال القادمة ولا ترتبط بها فقط.
إلّا أنّ ميّاً لم تكتفِ بالاهتمام بتحرير المرأة، وإنّما انتقدتها بهدف استفزازها للعودة إلى واجباتها لتؤكّد حرّيّتها الحقّة. فقد آلمها أن ترى الأمّهات منشغلات عن أطفالهنّ ومنصرفات عن مسؤوليّاتهنّ: فخاطبتها قائلة: "صغيرك ينادي فلماذا لا تجيبين، يا أمّ الصّغير؟ لست بالعليلة لأنّي رأيتك منذ حين تميسين بقدّك تحت قبّعتك والجواهر تطوّق العنق منك. أنت صحيحة الجسم، فلماذا لا تسرعين؟ ألا تحرقك دموع الطّفل الّذي لا ترين؟ ألا يوجعك الشّهيق الّذي لا تسمعين؟ عودي من نزهاتك الطّويلة وزياراتك العديدة، وأحاديثك السّخيفة، عودي واركعي أمام الصّغير واستسمحيه عفوا." (بكاء الطّفل- المؤلّفات الكاملة لميّ زيادة- تحقيق سلمى الحفّار الكزبري- ص 306)
يلفت د. جوزيف زيدان النّظر في "الأعمال المجهولة لمي زيادة" إلى قلة كتابة ميّ حول تحرير المرأة إذا قارنّاها مثلاً بباحثة البادية الّتي رغم قصر عمرها، كتبت مجموعة كبيرة من المقالات عن قضيّة المرأة. كما يشير إلى أنّ تلك الكتابات الّتي كتبتها ميّ حول المرأة تتّسم بالاعتدال والتّعميم وتجنّب الخوض في أمور حسّاسة مثيرة للجدل كموقف الإسلام من المرأة. ويعيد ذلك إلى حذر ميّ من الخوض في هذه المواضيع الدّقيقة لأنّه تمّ انتقادها بشدّة من الأديب المصري محمد لطفي جمعة عام 1922 بسبب بعض آرائها. إلّا أنّني أرى ميّاً امرأة كتبت الكثير في القليل الّذي بين أيدينا، وإذا صحّ أنّها توخّت الحذر فلأنّها امرأة لا تحبّ المناداة المتهوّرة والصّراخ الفارغ، وإنّما تسعى إلى بلوغ هدفها بذكاء حادّ. فالقوّة لا تكمن في التّعرّض لمواضيع مثيرة للجدل بقدر ما  تكمن في القدرة على إيصال الفكرة واستفزاز العقل ليبحث فيها وعنها. ومن يقرأ كتاب ميّ زيادة عن ملك حفني (باحثة البادية) يهيّأً إليه أنّ ميّاً مازجت صوتها بصوت باحثة البادية وأكّدت آراءها وتطلّعاتها بما يخصّ المرأة. وبعملها الدّؤوب وتفاعلها الحقيقيّ مع الحركات النّسائيّة  وترصّدها رسائل القرّاء في باب أوجدته في القسم النّسويّ الاجتماعي من "السّياسة الأسبوعيّة" تحت عنوان "خلية النّحل"، لتمكين القرّاء من طرح أسئلتهم وتولّي آخرين الإجابة عنها، استحقّت ميّ أن تكون من رائدات النّهضة النّسائيّة والإنسانيّة. والأهمّ أن من يقرأ اليوم من السّيدات كتابات ميّ زيادة عن تحرير المرأة يعيد النّظر في أمور كثيرة بلبلت المرأة وشوّشت تفكيرها ونفسها ولعلّها أغرقتها في الفوضى دون أن تشعر. ما يعني أنّ حضور ميّ اليوم بحجم حضورها في الماضي، وقوّة تأثيرها في تكوين المرأة يعيد التّوازن إلى من فقدن توازنهنّ ويجدّد فكر من اعتبرنَ أنّ الحرّيّة  خروج عن الواجبات وإفراط في الأنانيّة وغلوّ في الاهتمام بالظّاهر.
"المرأة امرأة قبل أن تكون حسناء"، تقول ميّ. ولفظ امرأة ينطوي على معانٍ أسمى وأجلّ وأعظم وأعمق من ظاهر يحدّد ملامح الحرّيّة أو مساواة ملتبسة تدخل المجتمع  والأجيال في فوضى مدمّرة. لقد كانت ميّ صاحبة فكر عميق تمسّ صلب المسألة النّسويّة بوعي متقدّم ورؤى ناصحة قبل أن تشيع تلك الحركات ويختلط الحابل فيها بالنابل، ويمتزج الوضوح بالغامض.

الجمعة، 20 سبتمبر 2019

ميّ زيادة تلك الكاتبة المتفرّدة ثاقبة النّظر



مادونا عسكر/ لبنان
"يُخيّل إليّ أنّ آلهة اليقظة والنّشاط شاءت أن تتفقّد الشّرق حوالي منتصف القرن الماضي فنشأت فئة من فضليات النّساء على مقربة من الرّجال الّذين قُدّر لهم أن يكونوا عاملين في صرح الشّرق الجديد. فولدت عائشة عصمت تيمور في مصر سنة 1840م، وولدت في تلك الأعوام بسوريا وردة التّرك، ووردة كبا، ولبيبة صدقة وغيرهنّ. وولدت زينب فوّاز صاحبة "الرّسائل الزّينبيّة" و"الدّرّ المنثور" في صيدا سنة 1860م. وولدت في العام نفسه فاطمة عليّة ابنة المؤرّخ التّركيّ جودت باشا. وهي رغم كونها كتبت بالتّركيّة فإنّ لها الحقّ أن تُذكر بين أديبات العرب لأنّها عرفت لغتهنّ، وانتشر صيتها في أقطارهنّ، وعاشت طويلاً في بلادهنّ..."
بهذه السّطور البليغة استهلّت ميّ زيادة كتابها عن الشّاعرة اللّبنانيّة وردة اليازجي. وفي هذه السّطور وما تلاها من بحث قيّم عن وردة اليازجي، وفي نفس الاتّجاه عن عائشة عصمت تيمور وملك ناصف حفني (باحثة البادية) تتجلّى للقارئ شخصيّة ميّ كاتبة مقتدرة وقادرة على تحليل الشّخصيّة المراد الحديث عنها، وعلى تقدير عطائها وجعله في مرتبة عالية حتّى يتمكّن الجميع من التّعرّف إليها. وفي هذا الاستهلال إشارة إلى وعي ميّ بحضور المرأة الأديبة  الفاعل. فكأنّها تقول إنّ الشّرق يفتقد إلى جوهر الكلمة ما لم تحضر فيه كلمة المرأة. كما تبرز ميّ كناقدة تجيد استخراج الجمال ممّا اطّلعت عليه من شعر وفكر وأحاديث مطوّعة إيّاه بأسلوبها البليغ ومشتغلة على النّصوص، تبيّن جمالها ومضامين سطورها، كما تنتقد بصرامة ما يخالف تطلّعاتها وخبراتها وآراءها.
من جهة أخرى، ونحن نطالع الكتب الثّلاثة لميّ زيادة عن باحثة البادية وعائشة تيمور ووردة اليازجي، تتشكّل أمامنا شخصيّة ميّ الإنسانة الواثقة من نفسها، العارفة مكانتها من العالم المحيط بها ومن قريناتها من الأديبات بل ومن الأدباء. ففي هذه الكتب الثلاثة تتحمّل مسؤوليّة أدبيّة في تسليط الضّوء على أديبات ساهمن في بناء الصّرح الأدبيّ، حتّى وإن تمّ تجاهلهنّ وإقصائهنّ عن التّكوين الفكريّ الأدبيّ وعدم اعتبارهنّ مراجع أدبيّة يمكن الاستناد إليها.
إنّ عمل ميّ في هذه الكتب، وتحديداً، في كتابها "باحثة البادية"، علامة مميّزة  أكّدت من خلالها ميّ وعيها الأدبيّ والإنسانيّ، فأظهرت لقارئ عصرها سمات أديبات تتفرّد كلّ منهنّ بأدبها. كما تظهر لقارئ اليوم  أهمّيّة تراثه الّذي ينبغي أن يُحفظ بالفكر والقلب حتّى يرتقي ويصبح بمصافّ الشّعوب المتقدّمة، لأنّ الشّعوب لا ترتقي إلّا بقدر ما تهتمّ بتراثها الأدبيّ والفكريّ والجماليّ.
عبّر العالم والأديب اللّبناني ومؤسّس صحيفة المقتطف يعقوب صرّوف عن أهمّيّة عمل ميّ في مقدّمة كتاب "باحثة البادية" بقوله: إنّ ميّاً نموذج جديد للنّقد في العربيّة بالأسلوب الّذي جرت عليه. فإنّها مهّدت لكلّ فصل من هذه الفصول، وختمته وعلّقت عليه من آرائها الخاصّة وأقوال أئمّة الكتّاب بما يدلّ على واسع علمها وبعد نظرها، وعلى أنّها جارت أكتب الكتّاب الأوروبيّين في هذا النّوع من البحث والانتقاد". ما يعني أنّ ميّاً اتّخذت أسلوباً نقديّاً خاصّاً بها مع استنادها إلى مخزونها المعرفيّ، ووضعت من ذاتها داخل العمل. فحين تُذكر وردة اليازجي أو عائشة تيمور أو ملك حفني، تُذكر ميّ. ولعلّه بذلك يمكن القول إنّها طوّرت الأسلوب النّقديّ.
حين أرادت ميّ  أن تكتب عن أعمال باحثة البادية ووردة اليازجي وعائشة تيمور، ارتكزت بداية على السّمات الشّخصيّة لكلّ منهنّ، جسديّة كانت أم نفسيّة. وبذلك يكون نقدها قد استند إلى تحليل لحركات الجسد والتّأمّل في الشّخصيّة وسلوكها ضمن محيطها ومدى تأثير هذا السّلوك في نوع الكتابة. فتذكر على سبيل المثال عن حضور وردة اليازجي الأدبيّ القويّ في عائلة أدبيّة. وتذكر ميّ أنّ شقيق وردة اليازجي الشّاعر الشّيخ ابراهيم اليازجي كان يصمت تهيّباً في حضور شقيقته فيكون لها الحديث وله الإصغاء. وإن ذكرت ميّ هذا الأمر فلترسم للقارئ شخصيّة وردة اليازجي وتأثير هذه الهيبة  في العمل الأدبيّ. فتكون بذلك قد انتقدت العمل انطلاقاً من الشّخصيّة على المستوى الفكريّ والنّفسيّ مستخلصة من بين السّطور أهميّة أدب العمل المراد نقده. ما يعني أنّ نقد ميّ احتاج معرفة دقيقة للشّخص المراد نقد عمله، لأنّها تعتبر أنّ عصارة الوجدان والعوامل النّفسيّة والظّرفيّة تؤثّر في عمق العمل. والّلافت أنّ لميّ تعريفات نقديّة خاصّة تأتي على ذكرها في سياق الحديث عن الشّاعرة المصريّة عائشة تيمور. فتعتبر أنّ النّقد ليس ببلاغ عسكريّ يعلن الأحكام العرفيّة، ولا هو منشور أسقفيّ يحرم عضواً من شركة المؤمنين وشفاعة القدّيسين، ولا هو بأمر المعلّم القرويّ غضب على تلميذ مسكين لم يحفظ أمثولته كما ينبغي...
تفهم ميّ النّقد على أنّه نظرة فرد  معرّض للخطأ في عمل فرد آخر معرض للخطأ يختلف عنه ميولاً وكفاءة ووراثة. ما يدلّ على أنّ النّقد في مفهوم ميّ ليس تجاهلاً للأخطاء أو قبولها وغضّ النّظر عنها، وإنّما هو حالة من التّجرّد يدفع النّاقد للتّماهي مع المنقود والشّعور به وبكلماته ولعلّه يمكن القول بلوغ حالته أثناء الكتابة ليتمكّن الناقد من بلوغ أهدافه النّقديّة. وفي كتاب باحثة البادية تذكر ميّ شرطين أساسيّين ليكون النّقد مفيداً: الأوّل، أن يكون قوّة فطريّة مكتملة لا جزئيّة، والثّاني، أن يكون الإطّلاع والملاحظة والاختبار قد أوسعته تهذيباً وتصفية. والشّرطان لازمان متماسكان  إلّا أنّ الملكة الفطريّة أكثر ضرورة لأنّ وجودها يقبل المزيد والاتّساع.
إنّ ميّاً ناقدة بالفطرة وهذا منحها آفاقاً إبداعيّة واسعة. فالنّقد، في نظرها، موهبة فنّيّة تصقلها المعرفة، ويغنيها الاطّلاع والاختبار الشّخصيّ. وإلّا فكيف يمكن التّماهي مع المنقود إن لم يكن النّاقد قد اختبر ولو بجزء بسيط ظروفاً حياتيّة تؤهّله للتّوغّل في شخص الآخر؟ ومن اللّافت أيضاً أنّ ميّاً سعت بشكل أو بآخر إلى إعادة بناء مفاهيم قد تكون ملتبسة في ذهن الإنسان؛ كأن تشير إلى مفهوم التّعصّب في سياق الحديث عن باحثة البادية المسلمة المتمسّكة بالأصول والشّريعة: "سيرى فريق أنّ باحثة البادية كانت متعصّبة. ذلك ممّا لا ريب فيه وكيف ينتظر أن تكون غير متعصّبة؟ أليست بشراً، أو ليس التّعصّب من أشدّ العواطف ملاصقة للنّفس؟ حدّثوني عن تسامح من لم يكن متعصّباً لأضحك قليلاً!"؛ وبذلك إشارة إلى التّعصّب كسمة إنسانيّة أصيلة في الإنسان، إلّا أنّ ميّ نالت منها الجانب العميق لا السّطحيّ بمعنى التّشدّد الأعمى. وتضيف ميّ أنّ التّعصّب الجنسيّ والقوميّ والعلميّ والفلسفيّ والأدبيّ والاجتماعيّ والحزبيّ والفرديّ وتعصّبات أخرى لا أسماء لها تسير موكباً هائلاً سرّيّاً لا يبرز إلّا التّعصّب الّذي ننعته بالدّينيّ. من هنا يمكن الاستدلال على ناقدة تحيط بالعمل بجوانبه المتعدّدة وتسبر أغواره بهدف أن ترسّخ في ذهن القارئ مفاهيم تسهم في تطوّر وعيه من جهة، وبهدف تعميق النّظرة في العمل الأدبيّ من جهة أخرى.
وإنّ ما قيل في كتاب "باحثة البادية" يوم ظهوره سنة 1920 يحدّد لنا ملامح ميّ زيادة الأديبة والنّقديّة الّتي لم نرها على حقيقتها في أغلب ما كتب عنها. كأن يُعتبر كتاب باحثة البادية أوّل كتاب فيه نموذج للنّقد العلميّ، وأوّل كتاب في تاريخ سيّدة عربيّة وضعته سيّدة عربيّة. (مي زيادة: قطوف من التّراجم الأدبيّة)
ولا يتّسع المقال لذكر كلّ ما قيل في كتاب ميّ عن باحثة البادية، لكنّ ما يهمّني ويهمّ القارئ في ما ذُكر عن جلالة ميّ الأدبيّة وقوّتها الفكريّة وعلمها الواسع وبلاغتها الأدبيّة وتأثيرها في الوعي الأدبيّ، والأهمّ من هذا كلّه عينها النّاقدة وقلبها الّذي يرى ما لا يُرى وقدرتها على الإحاطة بمواضيع شتّى وضبطها حتّى لا يملّ القارئ، وحتّى يستفيد ويتجذّر في وعيه أهميّة وعظمة الكلمة.
لقد ظهرت ميّ في هذه الكتب الثّلاثة تحديداً أديبة من الطّراز الأوّل. أديبة متفرّدة وباحثة ثاقبة النّظر، دقيقة القراءة والبحث، واسعة الأفق، متحرّرة في عمق أعماقها. مع العلم أنّ ميّ لم تتمتّع بالحرّيّة كإنسان. تذكر الأديبة سلمى الحفّار الكزبري في كتاب "مي زيادة أو مأساة النّبوغ، ج1، ص326" أنّ والدة ميّ كانت تحظر عليها الخروج من البيت وحدها أو مع أصدقاء مقرّبين متقدّمين في السّنّ. كما يرى د. جوزيف زيدان في مقدّمة كتابه "الأعمال المجهولة لمي زيادة" أنّه ليس من قبيل الصّدف أن ينفضّ صالون ميّ بعد وفاة والديها، فقد كانا الواجهة الّتي تحتمي بها وتختفي وراءها. فميّ لم تكن لتستطيع أن تتمتّع بحرّيّتها حتّى ولو قُدّمت لها على طبق من فضّة، لأنّها كانت بنت ظروفها وبيئتها في نهاية المطاف. لكنّ افتقاد الحرّيّة الخارجيّة لم يفقد ميّ اتّزانها الفكريّ والنّفسيّ بل لعلّه زادها تحرّراً فكريّاً ونفسيّاً ومقدرة على معاينة الآخر من الدّاخل. فالحرّ من داخله، وحده يستطيع أن يبلغ عمق الآخر ويعترف له بالنّبوغ والجمال ويقدّره حقّ تقدير. ولئن  كانت ميّ حرّة فكريّاً وروحيّاً تمكّنت من الكتابة بعبقريّة عن أديبات عربيّات، ما لا تقدم عليه أغلب كاتبات اليوم. فنكاد لا نعثر إلّا نادراً على كاتبة عربيّة تكتب عن كاتبة عربيّة وتسلّط الضّوء على إبداعها في الشكل العميق الّذي قدّمته ميّ عن الأديبات الثّلاث. وأمّا السّادة الأفاضل الّذين يتحفون القرّاء بعناوين سخيفة عن ميّ زيادة لا تمتّ بصلة إلى أدبها، وبدل أن يردّدوا ما يقرؤونه هنا وهناك ويستبيحون سيرة ميّ زيادة، حريّ بهم أن يعودوا إلى أدبها وكتاباتها الّتي نحتاج إلى وقت طويل لقراءتها وتأمّلها وتبيّن عبقريّة هذه الأديبة الّتي لا ريب في أنّها أثّرت في محيطها الأدبيّ، ويمتدّ هذا التّأثير إلى العصر الحاضر.  

الخميس، 12 سبتمبر 2019

ميّ زيادة وتربيتها للفكر الإنسانيّ الشّامل



مادونا عسكر/ لبنان
"الخالد بتقديري هو من خطا بجماعته خطوة حاسمة في الميدان الّذي تفوّق فيه. الخالد هو الّذي جعل وسطه، بفضل جهوده، خيراً ممّا كان قبل ولادته. الخالد هو الّذي ثقّف وأنمى جانباً من الشّخصيّة العامّة، فكان له في تكوينها أثر لا تمحوه الأعوام والدّهور." (ميّ زيادة)
بهذا المعنى العميق للخلود، كانت ميّ تعي أنّ الكتابة نقش في النّفوس، وولوج في تكوين الفكر الإنسانيّ. وليست الكتابة مجرّد رصفٍ للكلمات وتعبيراً عن المشاعر أو تعبيراً عن الذّات. إنّها عمليّة تثقيف وتنوير وتطوير للعقل. لذلك من اطّلع على أدب ميّ زيادة، وتحديداً خطاباتها المتعدّدة الّتي كانت تلقيها في أيّة مناسبة دُعيت إليها، يراها تستدعي التّاريخ والثّقافات المتعدّدة بما يتناسب ومناسبة الخطاب، ما يعني أنّ خطاباتها لا تندرج ضمن إطار المدح أو الكلام المنمّق، بل كانت تنتهز هذه الفرص لتحفر رقيّ الفكر في الوعي الجمعيّ، فتستفزّ العقل للتّساؤل والتّأمّل والنّقاش. فكلّ خطاب أو مقال لميّ فيه ما فيه من التّفاصيل الّتي تغني العقل وتحيله للبحث، كأنّي بها تريد في ذلك الخطاب أو المقال أن تزرع في المستمع والقارئ بذور المعرفة والعلم والثّقافة. وهناك فرق شاسع بين زرع المعرفة واستعراضها؛ فالزّرع يفترض جهداً شاقّاً ووعياً متكاملاً ورصانة فكريّة، تفتح نافذة الأسئلة لدى القارئ، وأمّا الاستعراض المعرفيّ ففوضويّ ولا يؤثّر في القارئ.
يستشف القارئ من خلال مقالات ميّ وخطاباتها أهمّيّة حضورها وجلال هذا الحضور في الوسط الأدبيّ، فهي الكاتبة المحاطة بهالة الفكر، وليست معنيّة بأيّ أمر غير هذا. فإذا تحدّثت عن الوطن خلا أسلوبها من الشّعارات الرّنّانة والكلام الّذي يمرّ بالنّفس ليشعلها، ثم ما تلبث أن تخمد الشّعلة لسطحيّة الكلام وتكراره. وإنّما ميّ زيادة تعرض تأمّلها ووعيها بشكل محاكاة أو نقاش مع القارئ فتوقظ في داخله تساؤلات عن فهمه الشّخصيّ للوطن. وإذا تحدّثت عن التّآخي بين الأديان، استدعت التّاريخ كما قرأته بوعي وحياديّة وإنصاف مشيرة إلى تفاصيل وأحداث تاريخيّة، ترفع من مستوى القارئ الفكريّ، ولا تنحدر به إلى حضيض الغرائز. وإذا تحدّثت عن الثّقافة الغربيّة أدخلت القارئ في حضارات تعرّفت عليها فعرّفته بها، لا لتبهره بهذه الحضارات، وإنّما لتقدّم مثالاً آخر للحضارة مع الحرص على عدم التّمثّل بها والتّخلّي عن الهويّة الخاصّة. وإذا تحدّثت في العلم كشفت عن كاتبة متميّزة ومتفرّدة في المعرفة، تجيد نقل الرّؤية العلميّة ليفهمها القارئ، ما يندر في وسط الكاتبات بشكل عام. وإذا تحدّثت عن المرأة آثرت تسليط الضّوء على قدراتها ومسؤوليّاتها وعلمها ومعرفتها بعيداً عن إقحام الرّجل في ما يشبه التّنافس أو الحرب، فموضوعها في هذه الكتابات ليس الرّجل وإنّما المرأة. وإن ذكرت الرّجل فلأنّه لا يمكن تجاهله كعنصر في المجتمع، وإنّما أرادت ميّ أن ترفع من قدرة المرأة الفكريّة وتسليط الضوء على شخصيّتها وتركيبتها الإنسانيّة. "تتهيّب المرأة أمام مقدرة الرّجل لاعتقادها أنّه أبرع منها في الإلمام بالأمور من جميع جهاتها. فما أشدّ خيبتها يوم ترى الرّجل الذّكيّ الحسّاس لا يدرك ولا يريد أن يدرك من الحسنات أو السّيّئات إلّا وجهاً واحداً فقط (ميّ زيادة)
 ولئن كانت ميّ تشقّ طريق الخلود، سعت جاهدةً لبلوغ أكبر عدد من القرّاء، وذلك من خلال عدم انحيازها لأحزاب أو سياسات أو مواضيع معيّنة. فعلى سبيل المثال، رفضت ميّ معالجة شؤون المرأة فقط والالتزام بمجلّات نسائيّة وحسب، لأنّ هذا الالتزام يحدّ من تطلّعاتها وطموحها في التّأثير في التّكوين الفكريّ العام، و"تشير مقالاتها في "الأهرام" إلى عزمها على الخروج من الدّائرة المحدودة للمجلّات النّسائيّة والأدبيّة والثّقافيّة الّتي كانت تكتب لها سابقاً بالدّرجة الأولى، لتصل إلى جمهور أوسع من القرّاء." (مقدّمة كتابات منسيّة للمستشرقة أنتيا زيغلر، دار نوفل، بيروت، ط1، 2009).
يعدّ هذا الخروج من دائرة المواضيع المحدودة وبلوغ جمهور أوسع من القرّاء تحقيقاً لمفهوم الخلود كما أرادته ميّ. ومع أنّها كانت ترفض رفضاً قاطعاً أن تتدخّل في السّياسة إلّا أنّها وبذكاء حادّ لعبت دوراً سياسيّاً مهمّاً.
و"في معزل عن السّياسة" لعبت ميّ زيادة دوراً سياسيّاً لا يستهان به، سواء شهّرت بانتهاك حقوق مصر الشّرعيّة بنظام القضاء المختلط، أو طالبت بمبادرات إداريّة في شؤون تخطيط المدن، أم تذمّرت من التّقصير في المجال الصّحيّ، أم سعت في صدّ مشاريع قانونيّة لتشديد الرّقابة على الصّحافة، أو منع المسكرات، أم اتّخذت من الدّيكتاتوريّة في ظلّ سياسة اليد الحديديّة لمحمد محمود مناسبة لتأمّلاتها حول الحكومات والشّعوب، أم أثارت مناقشات كتلك الّتي دارت حول إدخال التّعليم الإجباريّ في مصر الّتي احتلّت الصّفحة الأولى في "الأهرام" لعدّة أسابيع.
بذلك كلّه وغيره، صارت ميّ زيادة مرجعاً للنّقد وحجّة أخلاقيّة اجتماعيّة ساهمت بأوجه مختلفة بتكوين الرّأي العام، إمّا من خلال مقالاتها وتعدّد ردود الفعل عليها، أو بالرّدّ العلنيّ أحياناً على رسائل قرّاء طلبوا نصيحتها ومساندتها، أو بشكل استطلاع للرأي مثل الاستفتاء حول إنشاء شرطة نسائيّة في مصر؛ فقد انهال على جريدة الأهرام على إثرها أكثر من ألف رسالة من رسائل القرّاء، نشرت منها ما يزيد عن الثّلاثمائة في الأسابيع التّالية." (مقدّمة كتابات منسيّة للمستشرقة أنتيا زيغلر). كما يذكر الباحث الفلسطينيّ د. جوزيف توفيق زيدان في مقدّمة كتابه "الأعمال المجهولة لمي زيادة" ص 25، أنّ رأي جلّ الّذين كتبوا عن أنّ ميّ لم تكن تُعنى بالسياسة لا يمكن التّمسّك به، لا سيّما بالنّظر إلى مقالاتها في "الأهرام"، وإن أسهمت الكاتبة نفسها في خلق هذا الانطباع من خلال أقوالها.  كما كان لميّ مساهمات إذاعيّة تمثّل استثناء يذكر، فعبر هذه الوسيلة الإعلاميّة الّتي كانت حديثة العهد اتّجهت الكاتبة إلى جمهور جديد مواصلة شقّ طريقها إلى عامّة النّاس. (مقدّمة كتابات منسيّة للمستشرقة أنتيا زيغلر)
إذاً، فميّ أديبة متمدّدة في الوعي الإنسانيّ من خلال معرفتها الواسعة وحضورها الأدبيّ والثّقافيّ، وتواصلها المباشر مع القرّاء ومناقشتهم من خلال الرّسائل والمقترحات والاستفتاء. وما هذا التّمدّد إلّا تأكيد على أنّ كلمة ميّ تأصّلت في الوعي الإنسانيّ، وساهمت إلى حدّ بعيد من خلال تحرّرها الفكريّ في أن تبني فكراً موازياً لدى القارئ. فميّ لم تكن مجرّد كاتبة تدغدغ حسّ القارئ ببعض العبارات الجميلة أو الصّور الخياليّة الّتي تداعب مشاعره. بل كانت امرأة فكر تخلق نقاشاً حيّاً بينها وبين القارئ في جميع المواضيع، التّاريخيّة منها والعلميّة والوطنيّة والاجتماعيّة والفكريّة والسّياسيّة. ما يجعلنا نكوّن صورة واضحة عن أديبة جليلة تؤثّر في الأدب العربيّ الّذي عاصرته، كما تؤثّر في الأدب المعاصر بل في تكوين فكر الإنسان المعاصر، من ناحية الارتقاء بالفكر وتنوير العقل.
نحن أمام ميّ زيادة المرجع، وقد أقول المدرسة الّتي تعلّم بكلمتها كيف نربّي الفكر الإنسانيّ على جميع المستويات بدل أن نغرقه في التّفاهات، بل بدل أن ندخله في هيكليّة التّفاهة.
قد لا نفهم لماذا لم تدخل ميّ في تكويننا المعرفيّ، أقلّه ككاتبات، وقد نفهم إذا تتبّعنا تفاصيل عديدة من شأنها أن تثير التّساؤلات حول عدم انتباهنا إلى مرجعيّة أدبيّة وثقافيّة يمكن أن تغني فكرنا وخبرتنا في الكتابة. ومن ضمن هذه التّفاصيل عدم التّركيز على الفكر والانشغال الأكبر بالبوح عن المشاعر وعدم التّوغّل الجدّيّ في المعرفة. من ناحية أخرى، لعلّنا ما زلنا بعيدين عن النّطق بالحكمة، حكمة المرأة. ولعلّنا لا نقدّر ذواتنا حقّ التّقدير انطلاقاً من قدراتنا الشّخصيّة. وإنّما غالب الظّنّ أنّنا ما زلنا نبحث عن ذواتنا جاعلين الآخر محور البحث. وأعني بالآخر الرّجل الّذي ما برحنا ننافسه لنثبت حضورنا. بيد أنّه ينبغي إثبات الحضور بمعزل عن المنافسة معه والقياس عليه.
قد لا نفهم لماذا لم نقرأ عن ميّ إلّا صورة هشّة بعيدة كلّ البعد عن صورتها الحقيقيّة وحضورها الجليل في الوسط الأدبيّ. وقد نفهم، إذا أعملنا العقل في الخبر كما يقول ابن خلدون، وولجنا سياقاً أدبيّاً وتاريخيّاً وحلّلنا بعض الشّخصيّات الّتي عاصرت ميّ زيادة من خلال سلوكهم الحياتيّ وعقدهم الذّكوريّة وانفصام شخصيّتهم  ونظرتهم للوجه الواحد للمرأة، وربّما خوفهم من الحضور المتحرّر مقابل تأصيل وتجذير الفكر الدّينيّ.  كلّها أسباب ممكنة ومشروعة التّساؤل. إلّا أنّه ما من خفيّ إلّا سيظهر، وما من مكتوم إلّا سيُعلن عنه، ليصبح واضح النّور يعشي ذوي الأعين كليلة النّظر.   

الأحد، 8 سبتمبر 2019

الأديبة ميّ زيادة: امرأة فوق العاديّ



مادونا عسكر/ لبنان
"أليس من المدهشات أنّ مظاهر الباطل أقدر في الإقناع أحياناً من مظاهر الحقّ؟" (مي زيادة)
من المدهشات أنّه تمّ الاهتمام المكثّف بسيرة حياة ميّ زيادة العاطفيّة، وربّما المتخيّل، أو ربّما المزوّر، أو بتعبير أفضل المشكوك فيه. ومن المدهشات أنّه بالاطلاع الجدّيّ على مسيرة ميّ الأدبيّة نلقى امرأة قضت حياتها في الكتابة باللّغة العربيّة، وبلغات أخرى، والبحث وبناء الفكر والتّرجمة والمناقشات الثّقافيّة والأدبيّة. وكلّ أديب يعلم جيّداً أنّ الكتابة الجادّة تفترض وقتاً وجهداً شاقّاً وبحثاً دؤوباً ومخزوناً معرفيّاً، ما يعني أنّ ميّاً لم يكن لديها الوقت لتلك العلاقات الغراميّة المروّجة، حتّى وإن تمّ الاستدلال إلى هذه الحالات العاطفيّة من خلال رسائلها. إلّا أنّه تمّ التّركيز على هذه الرسائل بما يتناسب والمراهقات الفكريّة الّتي ما زالت في طور النّموّ، ويحلو لمن كرّسوا الوقت هباء لهذه الرّسائل أن يجتذب القارئ بتحليلات سخيفة عن أديبة قضت عمرها في الكتابة.
ومن المدهشات كذلك، أنّه لا يتمّ التّركيز على مراسلات ميّ الثّقافيّة الّتي يرد ذكرها في كتاب ضخم جمعته وحققّته وقدّمته المستشرقة الألمانيّة أنتيا زيغلر، الّذي ضمّ أكثر من مئة وسبعين عملاً للأديبة مي زيادة، ما بين مقالة ومحاضرة وقصّة قصيرة وقصيدة منثورة وخاطرة  وقصص للأطفال. وهي من مختلف الدّوريّات والكتب، وباللّغات العربيّة والإنكليزيّة والفرنسيّة والإيطاليّة. وتذكر المستشرقة أنتيا زيغلر في مقدّمة الكتاب أنّها أدرجت الصّياغتين الإنكليزيّة والإيطاليّة في هذه المجموعة، لأنّهما توثّقان أنّ ميّ زيادة كانت معروفة بكتاباتها حتّى في البلاد الأوروبيّة، وبين أوساط أوسع من القرّاء، وأنّ صيتها جاوز جماعة المستشرقين الغربيّين ممّن كانت على صلة معهم، والزّوار الأجانب لصالونها، خلافاً للوصف المعتاد عنها في الكتب. كما تذكر أنّ ميّاً قدّمت لكتاب بقلم الدّكتور يعقوب صرّوف "فصول في التّاريخ الطّبيعي من مملكتي النّبات والحيوان" الصّادر عام 1931. على أنّه لم يكن مألوفاً في ذلك العصر أن تقدّم امرأة لكتاب رجل، بل على العكس، فالكاتبات هنّ اللّاتي كنّ بحاجة إلى تقديم ما يشبه خطاب توصية بقلم رجل حتّى يتضمّن عدداً محترماً من القرّاء لمؤلّفاتهن. (مقدّمة كتابات منسيّة للمستشرقة أنتيا زيغلر، دار نوفل، بيروت، ط1، 2009).
كيف يمكن الإغفال عن أديبة بهذا الحجم، تمتلك من الثّقافة ما لم تمتلكه إلّا نساء قليلات في زمنها وربّما في الزّمان الحاضر. وتقتني من المعرفة ما يفتقده أغلب من يدّعون أنّهم أدباء وأديبات. إنّ امرأة بحجم ميّ زيادة، كانت أقرب ما يكون إلى المرأة الإلهة في الأزمنة ما قبل التّصوّر التّوراتيّ عن المرأة، في تلك الأزمنة الّتي كانت فيها المرأة مقدّسة، وإلهة مانحة للحياة. والحياة لا تقتصر على إنجاب الأطفال، وإنّما يتمدّد معناها لتشمل الحياة ككلّ، فكريّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً وعلائقيّاً.
امرأة أديبة بحجم ميّ زيادة أثرت البناء الفكريّ والاهتمام بتنوير العقول؛ لذلك شكّل صالونها الأدبيّ حركة أدبيّة لا بدّ من أنّها أثّرت في الأدب العربيّ. وفي هذا الصّالون الأدبيّ الّذي اجتمع فيه كبار الأدباء والمثقّفين والمثقّفات العرب والأجانب ناقشت ميّ فكريّاً وأدبيّاً، وليس كما يظهر في بعض التّحليلات أنّ صالونها لم يرتده إلّا الرّجال، ناقشت مي المثقّفين، كما المثقّفات، ولعلّها عدّت المثقّفين الرّجال أنداداً، ونظرت إليهم كرجال فكر. وأمّا هم، وفي غالب الظّنّ، آثروا اللّقاء بالأنثى في ميّ وحسب. وإلّا فلماذا لا نجد رأياً أو ملاحظة أو نقداً أو تقريراً عن بعض هذه النّقاشات؟ فجُلّ ما نقرأه أنّ بعض الأدباء كانوا ينتظرون يوم الثّلاثاء؛ ليرتادوا إلى صالون ميّ الجميلة والمثقّفة واللّبقة. لقد اجتمعت ميّ بأندادها كامرأة الأزمنة الغابرة، المرأة المقدّسة بفكرها وعلمها ومعرفتها، وتصرّفت معهم على هذا الأساس دون أن تعي في ذاتها هذه القداسة الأنثويّة. فعلى ما يبدو اختبرت ميّ هذه القداسة الأنثويّة لا عن وعي كامل، وإلّا لما كان حالها في نهاية المطاف هو الحال الّتي آلت إليها من إهمال وعدم تقديرها حق قدرها، التقدير اللّائق بها كامرأة مثقّفة، وليس كأنثى جميلة يحوم حولها الكثير من الفَراش، ولكن للأسف، هي من احترقت، وسلم البقيّة.
وبالعودة إلى الإطار الزّمنيّ لحياة ميّ الّتي تفرّدت بين نساء عصرها اللّواتي كنّ غير قادرات على التّعبير والانفتاح بحكم التّقاليد البالية، نفهم سبب نظرة الأدباء لها وسعيهم  لصداقتها، ولكن ما لا نفهمه هذه العنجهيّة والكبرياء الّذي جعل من بعض هؤلاء الأدباء أن يغضّوا النّظر عن أدبها. وربّما نفهم بالنّظر إلى واقع كلّ زمن نظر فيه الرّجل إلى المرأة أنّها أنثى وحسب، ولا يُنظر إليها إلّا للتّقرّب منها ولا يُهتمُّ لما تقدّم إلّا بهدف مصادقتها. ولست أعمّم، وإنّما في الغالب هذه هي الحال، وهذا ما يمكن استنتاجه من واقع ما زالت فيه المرأة مستبعدة حتّى وإن ظهر بعض ممّن يشيدون بقيمة المرأة وعملها وهم نادرون جدّاً. تلتفت ميّ زيادة إلى هذه الحالة الملتبسة الّتي يخلقها الرّجال بوعي زائف ومزيّف بقولها: "من ظريف النّكات في الثّناء على المرأة الذّكيّة قولهم (إنّها تجاري الرّجال). ولماذا لا تكون مجارية نفسها الّتي تكتشفها كلّ يوم؟".
امرأة بحجم ميّ، امرأة إلهة، لا يمكن أن تفهم الحبّ كما يفهمه كثيرون على أنّه عاطفة. هي تفهمه انطلاقاً من معرفتها وثقافتها. تقول ميّ: "المرأة حبّ، والرّجل فكر."، ولئن كانت المرأة حبّاً، فهي لا تستدعي الحالة العاطفيّة، وإنّما تحيا الحبّ بمعناه الألوهيّ في حركة حياتيّة شاملة. ما لا يستطيع الرّجل أن يفهمه غالباً، لأنّه يبحث في المرأة عن الأنثى الخاضعة، لا عن المرأة النّدّ والمكافئ والنّظير. يبحث عن الأنثى الّتي ترضي غروره لا عن المرأة الحياة والاحتواء. وما يؤكّد أنّ ميّ لم تكن تعي هذه المرأة الإلهة الكامنة فيها انسحبت إلى ميولها العاطفيّة. ما نستدلّ عليه في جزء من رسالتها إلى العقّاد: "لا تحسب أنّني أتهالك بالغيرة من جبران، فإنّه في نيويورك لم يرني، ولعلّه لن يراني، كما أنّي لم أره إلاَّ في تلك الصّور الّتي تنشرها الصّحف، ولكنّ طبيعة الأنثى يلذّ لها أن يتغاير فيها الرّجال، وتشعر بالازدهاء حين تراهم يتنافسون عليها.. أليس كذلك؟ معذرة فقد أردت أن أحتفي بهذه الغيرة، لا لأضايقك، ولكن لأزداد شعوراً بأنّ لي مكاناً في نفسك، أهنّي بها نفسي، وأمُتّع بها وجداني." ويبدو من هذا الاعتراف الصّادق الّتي باحت به ميّ ببساطة ودون مواربة، أنّ ميّاً ملاك نظيف لا يخفي مشاعره، ولا يحجب دوافعه. ميّ امرأة نظيفة من داخلها حدّ البساطة الّتي منعتها من إدراك الدّسائس المحاكة لها.  تقول ميّ: "أنا امرأة قضيت حياتي بين قلمي وأدواتي وكتبي ودراساتي، وقد انصرفت بكلّ تفكيري إلى المثل الأعلى، وهذه الحياة  أي المثالية التي حييتها جعلتني أجهل ما في هذا البشر من دسائس."، وفي هذا القول إشارات كثيرة إلى شخصيّة ميّ وداخلها العميق. إنّ من يحيا في عالم المثل، عالم الفكر يصبو إلى كلّ ما هو مرتقٍ عن الواقع، ولعلّ الخطأ يكون في عدم لمس الواقع والابتعاد عن اختباره بحقّ وإدراك خباياه وبعض النّوايا السّيّئة. إنّ ملائكيّة ميّ حالت دون لمس هذا الواقع. فكانت وهي المفكّرة والأديبة والممتلكة المعرفة بسيطة في عمقها، تتعامل مع الآخر وكأنّه يرافقها في عالم الفكر.