الجمعة، 25 أكتوبر 2019

سبعة عناصر في تأمّل الحالة الرّاهنة



مادونا عسكر/ لبنان
"الثّورة ككلّ جرأة: في وقتها ومكانها عبقريّة وانتصار وفي غير ذلك حماقة واندحار". (ميّ زيادة)
لتكون الثّورة في وقتها ومكانها عبقريّة، ينبغي أن تستند إلى الوعي. ولا بدّ من الانتباه إلى دلالة كلمة "الثّورة" حتّى لا يلتبس المعنى على النّاس فينطلق بحماسة المندفع بردّات فعل تفجّر الكبت المتأثّر بتراكم المشاكل الّتي يرزح تحتها الإنسان.
الثّورة تعني اصطلاحاً التّغيير الأساسيّ في الأوضاع السّياسيّة والاجتماعيّة يقوم به الشّعب في دولةٍ ما. ما يعني أنّ الثّورة بمعناها الاصطلاحيّ تختلف عن الاحتجاج بمعنى الاعتراض على أوضاع سياسيّة واجتماعيّة. ولئن كانت الثّورة  تعني التّغيير الجذريّ في الأوضاع السّياسيّة والاجتماعيّة، تطلّب هذا التّغيير وعياً خاصّاً نما بنموّ الإنسان الثّقافيّ والمعرفيّ والحضاريّ فيستحيل عبقريّة وانتصاراً. وأمّا إذا خلا من الوعي فما هو إلّا حماقة تؤدّي إلى الفوضى المدمّرة والهلاك الحتميّ. والحماقة عكس الحكمة، تعبّر عن فوضى العقل وانعدام القدرات المنطقيّة الموجّهة لأي احتجاج أو معارضة أو استنكار لوضع ما. ولئن كانت الثّورة تغييراً أساسيّاً يقوم به الشّعب فلا بدّ لهذا الشّعب أن يكون واعياً بما يكفي ليحدّد أهدافه المتلازمة وأهداف ثورته وإلّا أتى فعله مجرّد تعبير عن غضب عارم، متى زال زال معه كلّ مطلب.
وحتى لا يكون الكلام وعظاً وإرشاداً وتنظيراً وإنّما تسليط للضّوء على التّفاصيل الّتي تكمن فيها الحقائق المؤدّية إلى تحقيق الأهداف، لا بدّ من تحديد عناصر الوعي الّذي قد يتمّ قمعه بأساليب عدّة:
- العنصر الأول: الوعي بتاريخ الشّعب وتبيّن تفاصيله والتّعلّم منه. فالشّعب الّذي تحتفظ ذاكرته بأهوال تاريخه ومصائبه الّتي أنهكت الوعي والعقل الجمعي فتفرّد كلّ فرد أو كلّ مجموعة في آراء خاصّة أو انتماءات خاصّة نتج عنها انغلاق خوفاً من الآخر المنفرد بآرائه وانتماءاته. الوعي بالتّاريخ يعني الابتعاد عن التّفاخر السّاذج والتّمجيد السّخيف للتّناحر والقتل وتبرير سفك الدّماء والمثابرة على تجميل الصّورة وخدعة طيّ صفحة الماضي دون البحث الجدّي في تصفية القلوب وتنقية الأذهان والسّعي إلى حاضر أفضل من خلال منهجيّة سلوك أفضل.
- العنصر الثّاني: الوعي بالمسؤوليّة وتحمّلها  بجدّيّة، واعتبار الشّعب مشاركاً بما وصل إليه الواقع من سوء. فغير صحيح أنّ الشّعب لا يتحمّل المسؤوليّة في الأحوال الرّديئة الّتي تصل إليها الشّعوب. ومن غير الصّحيح أنّ الحكومات وحدها هي من تتحمّل المسؤوليّة. فالشّعوب تنال الحكومات الّتي تستحقّها، وهذه الحكومات لم تأتِ من كواكب أخرى وإنّما هي من صلب المجتمع. وما أتت إلّا بمؤازرة من الشّعب. لا ريب أنّ المسؤوليّة تتفاوت بين الدّولة الّتي تدير البلاد والشّعب إلّا أنّ هذا التّفاوت لا يلغي مسؤوليّة أيّ فرد.
- العنصر الثّالث: الوعي بأنّ الحماس هو غير السّعي إلى تحقيق الأهداف. وبالتّالي لا بدّ من وضع أهداف محدّدة ليتمّ التّغيير الجذري. وذلك يتطلّب عملاً دؤوباً واجتهاداً وتعباً حتّى يتمّ التّغيير. وأمّا الشّعارات فهي ابنة اللّحظة وتتضخّم بقدر ما يتفلّت الوعي ويثمل الإنسان بالحماس والفرح الّذي ينتج عن إفراغ الغضب ونشوة الحرّيّة المؤقّتة في التّعبير عن الوجع والألم. الحماس وليد اللّحظة وأمّا السّعي إلى تحقيق الأهداف فمسيرة نحو التّطوّر والتّقدّم.
- العنصر الرّابع: الوعي بأنّ تطوّر الشّعوب يقوم على نظريّة بسيطة وهي أن يؤدّي كلّ فرد عمله على أكمل وجه، مهما كان بسيطاً. ففي كلّ مرّة يحصل فيها تقصير أو استهتار تتأثّر مسيرة التّقدّم والنّموّ الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسّياسيّ.
- العنصر الخامس: الوعي بحضور الآخر المختلف، أيّاً كان اختلافه واحترام حضوره بل والدّفاع عنه إذا لزم الأمر، بمعزل عن الأحكام المسبقة والشّتائم الّتي تعكس ذهنيّات مريضة غير مؤهّلة للمطالبة بالحقّ. وكلّ حقّ يقابله واجب، وكلّ واجب يقابله معرفة بهذا الواجب وكلّ معرفة يقابلها إعادة بناء للمفاهيم والتّصوّرات لبلوغ المعرفة بالمُطالَب به. فمن يطالب بإسقاط النّظام لا يعي جيّداً أنّه يتّجه نحو الفوضى الّتي ستتجلّى لاحقاً بالخروج عن النّظام والتّصرّف بهمجيّة. ومن يطالب بتشريع القوانين المواكبة للحداثة عليه أن يتعهّد بتطبيقها.
- العنصر السّادس: الوعي بأنّ مقولة أنّ الشّعب مصدر السّلطات خدعة كبيرة في بلدان ترزح شعوبها تحت وطأة السّعي وراء لقمة العيش فقط وتحت وطأة البطالة وتراجع العلم. يكون الشّعب مصدر السّلطات حينما يعي قيمته كشعب يحاسب دون ريبة وخوف من هم موظّفون في خدمته. وبقدر ما تتضخّم هذه المقولة في الأذهان بعيداً عن الوعي ينتج عنها تمرّد أعمى وحماس مفرط يُدخل الإنسان في فوضى مدمّرة.
- العنصر السّابع: الوعي بقيمة المحبّة الحقيقيّة بين الأفراد بغض النّظر عن الدّين والانتماء، والتّعاون من أجل تحقيق هذه المحبّة على ألّا تبقى ورقة اختياريّة يوم يكون الحماس سيّد الموقف. فالمحبّة هي الأساس وعليها تُبنى الأوطان وبها تتقدّم الشّعوب وتنمو وتتطوّر وتفهم أنّ الغلبة دائماً للمحبّين الّذين يبذلون أنفسهم ويقدّمون من ذواتهم ليكبر الوطن. المحبّة تبني والحقد يدمّر. المحبّة تنظّم الفكر والشّعور، وأمّا الحقد فجهل وعقم فكريّ وشعوريّ. المحبّة اتّجاه نحو إنسانيّة الإنسان وأمّا الحقد فعودة إلى حالة الهمجيّة الأولى وتعزيز للنزعة الفتك والتّخريب والانحلال.
تأتي ساعة تُحدَّد فيها مصائر الشّعوب وهي ساعة العقل والعقل فقط، بعيداً عن المشاعر المفرطة، والحماس المندفع، والشّعارات الفضفاضة، ونشوة الانتصار الخادع.  

الجمعة، 18 أكتوبر 2019

ميّ زيادة واعتدال ميزان الكتابة المتجنّية عليها



مادونا عسكر/ لبنان
"إنّ الوصم بتهمة الجنون وسيلة معروفة وناجعة للتّهميش الاجتماعيّ، تغني عن أيّ نقاش آخر" (مقدّمة كتابات منسيّة- أنتيا زيغلر)
استوقفني الفصل الأخير من كتاب "تربية" للمفكّر المصريّ سلامة موسى المعنون  بـ "ذكريات من حياة ميّ". ولعلّه أسوأ ما كُتب عن ميّ زيادة، إذ إنّه يُختصر في كلمة واحدة، "اللّاإنسانيّة". ولست أدري السّبب الّذي دفع سلامة موسى لإدراج هذا الفصل في كتاب سيرة ذاتيّة يحكي فيها فصولاً من مراحل حياته ويروي تاريخ العصر الّذي عاش فيه وتاريخ مصر والتّقلّبات الفكريّة والسّياسيّة ومؤّلّفاته الّتي وجّهته. ولئن كان عنوان الكتاب "تربية" ونوعه سيرة ذاتيّة، فلا ريب أنّ موسى أراد أن يروي كيف تطوّرت تربيته في شتّى مراحل حياته. ولكن، لماذا أقحم في الكتاب "ذكريات عن حياة مي"؟ وماذا أضافت هذه الذّكريات إلى تربيته أو ماذا تضيف إلى القارئ إذا ما كان موسى يرمي إلى أن يستفيد القارئ من خبراته الشّخصيّة؟ فالذّكريات الّتي رواها عن ميّ شوّهت صورة أديبة كان لا بدّ من أن تترسّخ في ذهن القارئ من جهة عبقريّتها الأدبيّة والفلسفيّة والفكريّة بدل أن يترك له صورة مشوّهة تتناقض كلّ التّناقض مع صورة أعمق وأجلى نستدلّ عليها من خلال مقالات وأدب وفلسفة ميّ.
إنّ مسؤوليّة الأديب والمفكّر تكمن في البحث في النّتاج الفكريّ والأدبيّ، ومسؤوليّته تقتضي الحفاظ على التّراث الثّقافيّ. غير أنّنا نرى  الأستاذ سلامة موسى ينقل صورة عن ميّ زيادة في أيّامها الأخيرة يستدعي بها شفقة القارئ الّذي يحسب غالباً أنّ كلّ ما يقوله المفكّر حقيقيّ.
يستهلّ الكاتب هذا الفصل بفقرة ترسم شخصيّة ميّ أخرى غير تلك الّتي تفرض نفسها بقوّة في مقالاتها الأدبيّة والفلسفيّة والنّقديّة. إذ فيها تبرز شخصيّة ميّ القويّة والفذّة. يقول الأستاذ سلامة: "عرفتها في 1914 وكانت حوالي العشرين من عمرها، حلوة الوجه مدلّلة اللّغة والإيماءة، تتثنّى كثيرًا في خفّة وظرف. وكان الدّكتور شبلي شميّل يحبّها ويعاملها كما لو كانت طفلة بحيث كانت تقعد على ساقيه. وكان يؤلِّف عنها أبياتًا ظريفة من الشّعر للمداعبة وما هو أكثر من المداعبة." وإنّي لأتساءل عن سبب ذكر هذا التّفصيل عن شبلي شميّل وميّ زيادة إن صحّ. ويضيف: "وكنت أصدر في ذلك الوقت مجلّة أسبوعيّة باسم المستقبل. وكنت أنا وشبلي شميّل على نيّة معيّنة مبيَّتة في إصدارها من حيث مكافحة الخرافات الشّرقيّة. ونشرت في أحد أعدادها حديثًاً مع مَي أطريتها فيه إطراء عظيمًا. وكان القارئ لكلماتي يلمح أكثر ممَّا يرى من الإعجاب الأدبيّ، ولكنّي مع ذلك حرصت على أن يكون إعجابي بها أدبيًّا فقط؛ ولذلك لم أتعمّق ميّ في تلك السّنين. وكانت أحاديثي لها اجتماعيّة أكثر ممّا كانت سيكلوجيّة." وكأنّ الأستاذ سلامة لم يكن في الأصل يبدي اهتماماً لأدب ميّ وهو نفسه القائل عنها في مقدّمة كتابها "المدّ والجزر": "وهناك أسف واحد يعتري الإنسان كلّما قرأ كتابًا لمي، وهو أسف شبيه بالغبطة؛ فإننا نغبّطها جميعًا لذكائها وسعة ثقافتها، ونودّ لو نجد عددًا كبيرًا من فتيات سوريا ومصر يقتفين أثرها في خدمة الحياة القوميّة العربيّة والعمل على رقيّها ورفعها، ولسنا نطمع في أن نجد من تساويها، ولكنّنا نودّ أن نجد من تدانيها."
من العجب أن يكتب أدباء ومفكّرون عن أديب أو عالم أو شاعر أفضل المعاني وهو حيّ يُرزق ثمّ يستفردون به بعد موته ليهشّموا صورته ويميتونه مرّةً ثانية في ذهن القارئ. فالأستاذ سلامة الّذي لم يطمع في أن يجد من يساوي ميّ يذكر في هذا الفصل أنّ ميّاً كانت على ثقافة واسعة في الأدب الفرنسيّ والإنكليزيّ. وكانت تتحدّث اللّغة الفرنسيّة والإنكليزيّة. وكانت إلى هذه الثّقافة النّادرة موسيقيّة وعلى دراية بكبار الموسيقيّين. إلّا أنّها لم تكن تبالي بالعلوم. ولم يكن يجد بين الكتب الّتي حفلت بها كتاباً واحداً في العلم. فاعتبر ذلك نقصاً في ثقافاتها لذلك كانت حين تؤلّف بقلبها وعاطفتها.
كيف لم يتنبّه الأستاذ سلامة إلى مقدّمة ميّ زيادة في كتاب الدّكتور يعقوب صرّوف "فصول في التّاريخ الطّبيعيّ من مملكتيّ النّبات والحيوان"؟ (كتابات منسيّة- ص841) ألم يقرأ مقال "كيف نقيس الزّمن" (مجلّة الزّهور- 1913- الأعمال المجهولة لميّ زيادة- جوزيف زيدان – ص 58)، ومقال "أربعون يوماً بعد وفاة أديسون" (كتابات منسيّة- ص 425) وغيرها من المقالات الّتي لعلّها ضاعت كما ضاعت مقالات كثيرة لميّ زيادة؟
ولئن تحدّث الأستاذ سلامة عن التّعمّق السيكولوجي الّذي لم يقم به إبّان معرفته لميّ، أورد في هذا الفصل أنّ ميّاً عاشت بالعاطفة دون التّفكير في المستقبل: "وخاصةّ هذا المستقبل البعيد حين يذوي الشّباب وتحتاج كلّ فتاة إلى حكمة العقل إذا ما ذهبت عنها حلاوة الوجه. وأهملت الزّواج والأمومة إذ كانت لاهية بشبابها تتلألأ أمام أضيافها الكثيرين كلّ مساء وكلّ هؤلاء الأضياف من الباشوات الأثرياء أو من الأدباء الأثرياء أو من الأدباء المعدمين. وكلّهم كان معجبًا وإن اختلفوا في مواضع الإعجاب...  وكانت مخطئة. وكان خطؤها خطأ الحياة. وكثير من النّاس يفهم النّجاح على أنّه نجاح الحرفة أو الثراء أو الجاه، ولا يفهمه على أنّه نجاح الحياة كلّها، نجاح الصّحة الّتي نعيش بها إلى يوم الوفاة، ونجاح الفلسفة الّتي توجّهنا في هذه الدّنيا، ونجاح الحرفة الّتي نحصّل منها العيش الإنسانيّ، بل كذلك نجاحنا في البناء العائليّ والبناء الاجتماعيّ."
لم يتحدّث أحد مثلما تحدّث ميّ عن البناء العائليّ وأهمّيّة الأسرة وتأثيرها في المجتمع والوطن. وحيت دعت إلى حرّيّة المرأة شدّدت على حرّيّتها الّتي تعود بها إلى المنزل والاهتمام بالعائلة. ولم يتحدّث أحد عن رصانة المرأة واتّزانها المعرفيّ والعقليّ بدل الانغماس في التّبرّج والأحاديث السّخيفة وإهمال أولادها كما فعلت ميّ. ولا يذكر الأستاذ سلامة أنّه نصح ميّاً أو دلّها على خطئها أو حثّها على الاهتمام بالمستقبل. بل إنّه يشرح أنّ شخصيّتها اضطربت عندما رافقها صراع داخليّ مزّق قلبها على الشّباب الذّاهب. فشرعت تخلط بين الحقائق والأوهام وتطلّ من نافذتها فتجد من يتربّصون بها بغية خطفها. ممّا دفع أهلها لحملها إلى لبنان خوفاً عليها فقادوها مقيّدة إلى مستشفى أو مارستان حيث بقيت سنوات ثمّ عادت إلى مصر. ولم يأتِ الأستاذ سلامة على ذكر عرقلة إلغاء الحجر عن ممتلكات ميّ في مصر بعد أن ألغي الحجر على ممتلكاتها في بيروت. (مأساة النّبوغ- سلمى الحفّار الكزبري – ميّ في الفريكة في جوار أمين الرّيحاني- ص 325) وتورد السّيدة سلمى كلّ مخطوطات الرّسائل الّتي تبادلها "المنقذون" كما سمّتهم ميّ، مع الجانب المصريّ.
يبدو أنّ الأستاذ سلامة يبرّئ أقارب ميّ ممّا فعلوه في حين أنّ ميّاً عانت ما عانته بفعل ظلم شديد وقع عليها منهم. ونراه في فقرة أخرى يروي أنّه زار ميّاً في مصر مع الأديب أسعد حسني الّذي كان صديقاً له. وآلمه أن شاهد ميّاً امرأة مهدّمة كأنّها في السّبعين، قد اكتسى رأسها بشعر أبيض مشعّث. وظنّها الخادمة، وانتظر أن تتنحّى ليدخل وصديقه. ويصف لنا الأستاذ سلامة ميّاً أشقى وصف، ويحدّد لنا ملامح اضطرابها وانهيارها. كأنّ يقول: "وقعدنا نتحدّث، فروت لنا كيف خطفوها من القاهرة إلى مارستان العصفوريّة في لبنان، وكيف كانوا يتربّصون بها على مقهى قريب في الشّارع القريب من منزلها. ثمّ شرحت لنا ما كابدته من عذاب في هذا المارستان، وجعلت تلومني لأنّي لم أسأل عنها. وتدفّقت دموعها كما لو كانت ميازيب. وجرى بكاؤها في تشنُّجٍ كأنّها كانت تلتذُّه. ثم هدأت، وأشعلت سجارة وجعلت تدخّن وتنفخ دخانها عليَّ مداعبة لأنّي أكره الدّخان، وهنا استولى عليها طرب فشرعت تضحك في إسراف يزيد على إسرافها في البكاء. وكانت تتشنّج بالضّحك كما كانت تتشنّج بالبكاء".
ميّ لم تستقبل أيّ شخص لم يسأل عنها. وبالعودة إلى "مأساة النّبوغ" ص 421، إبّان عودتها إلى مصر، نقرأ الآتي:
"وفي ذلك الصّيف استقبلت ميّ صحافيين مصريين أثبتا لها أنّهما كانا يتلقّفان أخبارها إبّان محنتها هما الأديب الصّحفيّ الأستاذ أسعد حسني رئيس تحرير مجلّة "العالم العربي" الّتي أنشئت بعد وفاة ميّ، والصّحفيّ طاهر الطّناحيّ. كان أسعد حسني قد عرفها في سنة 1932 فروى أنّه ذهب لزيارتها بعد رجوعها من لبنان قال: (طرقت باب بيتها فلّما فتحته ورأتني قالت:
- إنّي يا سيّدي لا أقابل أي إنسان لم يذكرني في محنتي!"
قلت:
- "ومن يدريك يا سيّدتي أنّي لم أذكرك؟ خذي هذه المجموعة من  الصّحف تجدي فيها كلّ ما كتبته عنك خلال غيبتك عن مصر".
وضحكت ميّ وهي تمدّ يدها لأخذ الصّحف ثمّ قالت لي مازحة:
"إذن ادخل... فقد جئت ومعك جواز المرور!"
فكيف يدّعي الأستاذ سلامة موسى أنّه زارها مع الأديب أسعد حسني؟ وكيف يذكر أنّها كانت مصابة بلوث عقليّ جعل تصرّفها شاذاً؟ وكيف ينقل لنا هذه الصّورة المقيتة المثيرة للشّفقة عن ميّ؟ في المقابل يقول الأديب اللبنانيّ مارون عبّود لمّا زارها في الفريكة: "إنّ في صمود تلك البنت المقهورة في وجه المصائب الّتي حلّت بها ما يذكّر بصمود الصّفصاف في وجه العواصف، ويدعو إلى الإعجاب بقوّة شخصيّتها، وقوّة إرادتها، وروح الدّعابة، وعزّة النّفس...". (مأساة النّبوغ- ص 372).

الجمعة، 11 أكتوبر 2019

فلسفة "المساواة" في فكر ميّ زيادة



مادونا عسكر/ لبنان
"وهْمَان كبيران يقودان الحياة؛ في أحدهما يحسبُ المرء نفسه حرّاً في العبودية على شرط أن تُغيِّر اسمها وشكلها وإن ظلَّ جوهرها ثابتًا لا يتغيَّر. وفي الآخر يعتقد المرء بصلاح البشر الفطري اعتقادًا مطلقًا. فهل تستطيع أن تقول الآن بعد أن شفَّت بصيرتك بنور الخلود أيُّ الوهمين أقلُّ خطرًا؟ وأنت الذي كنت زعيم الوهم الثاني، هل تستطيع أن تُنبِّئنا لماذا لا نفتأ نؤلم بعضنا بعضًا؟ ولماذا ــ ما دام الناس صُلَّاحًا ــ قضيتَ أنتَ عمرك في محاربة  الصالحين؟"(مي زيادة)
إذا كان كلّ كتاب يُقرأُ من عنوانه الّذي يضبط فحواه أو يحدّد المحور المراد الحديث عنه، فهذا الكتاب "المساواة" لمي زيادة  يُستدلّ إلى ينبوعه في الفصل الأخير. لا كخلاصة تغني عن قراءة الكتاب، وإنّما كمرحلة سابقة للكتابة بلغتها مفكّرة وفيلسوفة وهي تجول بطرفها متأمّلة عالماً غارقاً بمفاهيم ملتبسة، أو متناقضة، أو غامضة. ولعلّ هذا الفصل أتى كباكورة الأفكار والتّأمّلات والقناعات القابلة للتّبدّل والتّطوّر.
تستعرض ميّ في كتاب "المساواة" الّذي صدر سنة 1923، الطّبقات الاجتماعيّة، والأرستقراطيّة، والعبوديّة والرّقّ، والدّيموقراطيّة، والاشتراكيّة السّلميّة والاشتراكيّة الثّوريّة، والفوضويّة والعدميّة، ومناقشةً سياقها التّاريخيّ والاجتماعيّ والإنسانيّ. وتختتم بفصلين متخيّلين على الأغلب (يتناقشون ورسالة عارف)، لكنّهما فصلان يدلّان القارئ على طريقة ميّ في التّفكير والتّأمّل وأسلوب تفاعلها مع القارئ؛ لتجسّد له رؤيتها ومعرفتها إضافة إلى الواقع بشكل عام.
في الفصل ما قبل الأخير الّذي عنوانه "يتناقشون" تعيد ميّ صياغة الكتاب لكن بشكل حوار بين أشخاص يمثّلون غالباً الطّبقات الاجتماعيّة والمناهج الحكميّة والسّلطويّة ولكن بطريقة أقرب إلى القارئ من النّظريّات والأفكار الفلسفيّة والاستعراض التّاريخيّ. وفي ذلك إشارة إلى طرح التّأمّل الفكريّ بصورة أعمق من تلك الّتي نقرأها في النّظريّات. فيظهر في النّقاش المعلّمة وفتاتان تبدوان سطحيّتان  والأديب والاشتراكي المتحمّس والعالم الفيلسوف وأحد الوجهاء وذاك الّذي يعتنق كل رأي عابر ويمتدح الجميع، وميّ. لكنّ ميّاً لا تدخل النّقاش بشكل مباشر وإنّما تديره دون أن تتبنّى رأياً خاصّاً أو تعطي حكماً أو حلّاً. وتعترف ضمناً أنّ بحثها لم يقُدْها إلى يقين أو حلّ أو سبيل إلى المساواة فتقول: "إذا دلّ بحثي على أنّ لديّ شيئاُ معيّناً أقوله فقد فشلت حتّى في التّعبير عن رغبة ساقتني إلى معالجة هذا الموضوع الجموح"، لكنّي أرى أنّ ميّاً عالجت موضوع المساواة بطريقة مغايرة عن السّائد. لقد عرضت بحثها وجعلت القارئ يحلّل ويستنتج بل ويتبيّن أنّ المساواة وهم أو حلم من العسير تحقيقه مهما بلغت الأنظمة من سعي لتحقيقه. وبهذه الطّريقة يتحرّك العقل ويحضر السّؤال ويهدأ الاندفاع والحماس غير المجدي ليحلّ مكانه التّعقّل والتّأمّل ولينتهِ إلى ما ينتهي إليه. فميّ ليست بصدد طرح حلول، وإنّما هي بصدد تحريك العقل.
الفصل الأخير هو الأهم (رسالة عارف). وعارفٌ أديب وهو أحد المناقشين في فصل (يتناقشون) ولعلّه يرمز إلى ميّ أو إلى فكرها. فعلى لسانه وضعت تطلّعاتها وأفكارها وألمها النّاتج عن مراقبة الواقع الأليم الّذي يتطوّر ويتقدّم على جميع المستويات لكنّه يتراجع إنسانيّاً. وما ذلك إلّا نتيجة غرق في عبوديّة عميقة كامنة في النّفس الإنسانيّة إمّا طارئة على الإنسان وإمّا اختياريّة وإمّا لا واعية. ولعلّ ميّاً في هذه الرّسالة تناقش مع نفسها المساواة وتطرح تصوّراً لإمكانيّة وجودها.
"ما هي المساواة، وأين هي، وهل هي ممكنة؟ هذا ما أرغب في استجلائه في الفصول الآتية دون اندفاع ولا تحيُّز، بل بإخلاص من شكّلت من جميع قواها النّفسية والإدراكيّة محكمة "محلِّفين" يستعرضون خلاصة ما تقوله الطّبيعة والعلم والتّاريخ، ليثبتوا حُكمًا يرونه صادقًا عادلًا". هكذا استهلّت ميّ بحثها في موضوع المساواة. وفي "رسالة عارف" تطوّر فكريّ وإنسانيّ غايته إبراز تدرّج التّفكير عند ميّ ونموّه وتطوّره. فتقول على لسان عارف: "كنت في البدء أرى الحاجة كلَّ الحاجة في فراغ اليد فأنادي بالمساعدة دون حساب، وأتمنَّى أن يكون لحمي للجائع قُوتًا ودمي للظامئ شرابًا، والخلل حولي كنت أظنه خللًا فيَّ فقط، وزعمت جميع النّفوس من درجة واحدة فمضيت أجاهد لإعلائها إلى أوجٍ قطنته تلك النفوس القليلة التي وضعتها الحياة على طريقي فأثار النّبل منها احترامي وإعجابي. شببت فإذا بي مخطئ، وأن ما فيَّ من خلل مَنشَؤُه الطّبيعة البشريّة المتوازنة أجزاؤها نقصاً وكمالاً، ورأيت أنّ أنانيةً تسربلت بالحرير ليست بأطمع من أنانية ارتدت الأطمار، وأنّ كبرياءَ بدت في التّشامخ والصّمت والتّألُّه ليست بأكرهَ من كبرياءَ توارت في التذلُّل والتوسُّل والنحيب. وتبيَّنتُ في كل مرتبة أثرةً وتحيّزاً واستعداداً قصيّاً للجور والطغيان، بل تبيَّنتُ ذلك في كلّ فرد من أفراد المرتبة الواحدة والأسرة الواحدة. وعلمت أنّ بعض العقول قفر، وبعض القلوب صخر، وبعض النّفوس رموز حية لليأس والنكد، وبعض الصّور البشريّة انعكاس لتمثال الشّقاء الدائم، وأدركت للحرمان معانيَ جمَّة".
الحاجة الأساسيّة للإنسان هي تلك الكامنة في أعماقه، في ذاته المتأرجحة بين النّقص والكمال. وفي هذه النّفس تجتمع النّزعات والميول والعبوديّة والتّمرّد والنّزعة إلى الوحشيّة، وأخرى إلى الارتقاء بالنّفس الإنسانيّة، إلى ما هنالك من تناقضات في النّفس. العوز الإنسانيّ الحقيقيّ يكمن في الدّاخل. فالعوز الماديّ مقدور عليه إذا تضافرت الجهود، وأمّا العوز الإنسانيّ إلى التّحرّر من قيود النّفس فمن ذا الّذي بمقدوره أن يسدّه؟ ومن ذا يسدّ العوز الاجتماعيّ كالخلل في العلاقات أو الحرمان العاطفيّ أو الحرمان الحسّيّ كفقدان النّظر أو السّمع أو الصّحة أو النّسل؟ "فإذا تيسّرت معالجة الفقر ــ ولو معالجة نسبيّةــ بالنّشاط والعمل، فكيف تعالج أخرى ليس لموهبة أو صفة مهما شرفت وسمت أن تتغلّب عليها؟ وما هذا النّظام الّذين يزعمون فيه الإنصاف والمساواة، وهو لا يتناول سوى الظّاهر الممكن تعديله بلا سلب ولا فتك، في حين تظلّ جميع الحرمانات الأخرى تنشب في القلب أظافرها؟" وفي هذا القول إشارة إلى أنّ كلّ المناهج أيّاً كانت اتّجاهاتها وأيّاً كان سعيها الدّؤوب إلى سدّ العوز الإنسانيّ فإنّها لا تقوى على سبر أغوار النّفس العميقة وتحريرها.
بالمقابل، فإنّ هذه المناهج حين تظهر في المجتمعات منادية بالحرّيّة والمساواة على شكل تمرّد تتشكّل فيها الطّبقات، ولعلّه يزداد في النّفس الإنسانيّة العوز إلى المساواة. وقد تخرج عن السّيطرة وتعيد الإنسان إلى همجيّته الأولى فيفتك وينتهك بحكم التّمرّد والرّغبة في الحرّيّة المطلقة والتّفلّت من القوانين والشّرائع.
وتتساءل ميّ على لسان العارف: "هل يمكن الاقتناع بغير الاختبار الشّخصي؟ وهل يكون اليقين يقيناً إن لم يُبْنَ على اقتناع فردي؟" ولعلّ في هذا التّساؤل إشارة إلى اختبار الفكر أو النّظريّة أو المنهج على المستوى الفرديّ أوّلاً بدل الانخراط الأعمى في منهج ذا طابع إيجابيّ يزدهر نظريّاً لا تطبيقيّاً. أو تبنّي نظريّات أو فلسفات لمجرّد أنّها تحدث في النّفس رغبة في تحقيقها وهي في الواقع ليست كاملة ومحكمة. كأن يرفض نيتشه الدّيموقراطيّة والاشتراكيّة وينبذهما. أو كأن يقول أفلاطون إن أسوء أنواع الحكم الدّيمقراطيّة، ولا ريب أنّ ذلك تمّ عن اختبار تحليليّ منطقيّ أدّى إلى نتيجة رفض هذا المنهج أو ذاك.
يقود الاختبار الفرديّ المعتمد على العقل والمنطق والتّأمّل في الذّات أوّلاً إلى اكتشاف الّذات وثغراتها ونواقصها ورغبتها إلى الكمال. ففيها يجتمع كلّ شيء ومنها بفعل التعقّل والحكمة والاختبار يتكوّن الرّأي الشّخصيّ بدل الانجرار في موجة تحرّك الرّغبات والغرائز. "أعرف الحياة صالحة محسنة جميلة من الجانب الواحد وخادعة غادرة قبيحة من الجانب الآخر. إلّا أنّي "زرادشتي" من حيث إيماني بأنّ الغلبة النّهائية للخير والصّلاح والجمال. ولو أردت أن أعرِّف الحزب السّياسيّ أو الاجتماعيّ الّذي أنتمي إليه، لقلت إنّي أرستقراطيّ، ديمقراطيّ، اشتراكيّ سلميّ، اشتراكيّ ثورويّ، فوضويّ، عدميّ … إلى آخره. كلّ ذلك دفعة واحدة وبوقت واحد."
أليست هذه حقيقة الإنسان حيث تجتمع فيه كلّ التّناقضات؟ أليس الإنسان المستعبد للوقت والعمل والمال يظنّ نفسه حرّاً؟ أليس الدّاعي إلى الدّيمقراطيّة يرغب في السّيطرة والحكم فيستبدّ أحياناً؟ أليس المطالب بقوانين تضبط المجتمع هو نفسه يتوق إلى التّفلّت من القانون والشّريعة والعادات والتّقاليد؟
المساواة موضوع مؤجّل البحث فيه بعيداً عن الكلام المستهلك والأقوال الرّنّانة والمناقشات الفارغة والحماس المفرط. المساواة وهم أو لنقل حلم بعيد ما لم تقف النّفس الإنسانيّة أمام ذاتها محمكة النّظر إلى نواقصها وضعفها، معترفة بعدم قدرتها على السّيطرة على الطّبيعة. ولنقل إنّه ينبغي استبدال مصطلح المساواة بمصطلح آخر، ينطلق من الدّاخل إلى الخارج، ولا يكون حركة تمرّديّة وحسب ما تلبث أن تنقلب إلى حزب، أو سلطة حاكمة. يبدو المعنى الظّاهريّ للمساواة حسب تأمّل ميّ هشّاً أمام عمق المعنى وتمدّده في الإنسانيّة. لكنّ ميّاً لا تترك مجالاً لليأس أو الاستسلام، فتنتهي رسالة عارف بنفحة أمل:
"كفانا أن نرقُب سير الحوادث متّكلين على نفوسنا، محدِّقين في وجه الحياة بلا وجل، مستعدِّين لتبيُّن الصّلاح والحقيقة. ونحن أبداً كالأرض أمّنا الّتي تقبل البذور الصّالحة ثُمّ ترسلها غلَّة وخيراً، وإذا هوت عليها الأشجار اليابسة تجمَّدت في حضنها مادّة للنّار واللّهيب. ولنكن أبدًا مطلقين هذا الهتاف الجامع بين الإخلاص والحيرة، بين الزّفير والابتهال: ها أنا ذا وحدي أيّها اللّيل، فعلِّمني ما يجب أن أعلم! ها أنا ذا مستعدُّ أيّتها الحياة، فسيِّريني حيث يجب أن أسير!"

الجمعة، 4 أكتوبر 2019

ميّ زيادة والبحث في فلسفة التّعليم



مادونا عسكر/ لبنان
نشرت مي زيادة في صحيفة الأهرام سلسلة من المقالات تحت عنوان "كبار يعلّمون وصغار يتعلّمون" سنة 1929. وأتت هذه السّلسلة كرؤية شاملة لمنظومة التّعليم، تحدّثت فيها ميّ عن أصول التّعليم وكيفيّة ممارسة هذه المهنة الصّعبة المرتبطة ارتباطا وثيقاً بالإنسان. وتشدّد ميّ على سيكولوجيّة المعلّم وقدرته على الولوج عميقاً في ذات الطّالب ليبني إنسانيّته، فلا يكون المعلّم مجرّد ملقّن للمنهج التّعليميّ. ولا ريب في أنّ ميّاً كتبت هذه المقالات لتكون مرجعاً تعليميّاً ليستفيد منها كلّ معلّمٍ ومربٍّ. ومن يقرأ هذه المقالات اليوم، وخاصّة من المعلّمين والمعلّمات، فسيرى أنّ هذه المقالات موجّهة له في مجتمعاتنا الّتي ابتعدت في غالب الظّنّ عن التّربية والتّعليم، واكتفت بالتّلقين العلميّ. وإلّا فما هو تفسير خمول العقل في المجتمع العربيّ، وعدم قدرة الطّالب على التّحليل والجدل وتدريب العقل على السّؤال والاستنتاج؟ وكيف نفسّر قلّة وعيه الثّقافيّ وعدم محبّته للمدرسة وسعيه للحصول على درجات عالية بمعزل عن الفهم؟
تقول ميّ: "سرّ التّربية  والتّعليم في أن تثير الاهتمام وتحرّك الرّغبة وتحمل النّاشئ على طلب ما يفيده ويثقّفه ويحسّنه. وسرّ النّجاح للمدرّس والمهذِّب يقوم في معرفة الطّبائع والمواهب الملقاة بين يديه ومعرفة معالجتها ذاكراً تلك الكلمة الحكيمة الجامعة الّتي أورثناها العرب وهي "أثبت العروش ما ارتكز على القلوب". ما يعني أنّ هذه المهمّة الملقاة على عاتق المعلّم صعبة وشاقّة ولا تحتمل التّلكّؤ والاستهتار واعتبار مهنة التّعليم مجرّد وظيفة بدوام محدّد. وإنّما التّعليم يرادف تعبيراً خطيراً قد لا يلتفت إليه أغلب المعلّمين ألا وهو بناء البشر. وفي قول ميّ إشارة إلى أنّ على المعلّم أن يكون مثقّفاً، عارفاً بشتّى العلوم النّفسيّة والاجتماعيّة والتّربويّة... ولا تنحصر معرفته بالمعلومات الّتي خوّلته الحصول على شهادته أو بالمادّة الّتي يدرّسها. فبحسب ميّ زيادة التّعليم علاقة مباشرة مع كلّ طالب، من خلالها يستفزّ المعلّم ملكات التّلميذ ويحرّك رغبته في العلم والمعرفة مثيراً فيه السّؤال الّذي يؤدّي إلى هذه المعرفة، ليمسي العلم متعة لا عبئاً على المتعلّم.
ولا تفصل ميّ التّعليم عن التّربية بل إنّ بينهما وحدة هي سرّ نجاح العمليّة التّعليميّة، فتقول: "أمّا أنا فلا أستطيع فصل التّربية عن التّعليم. أليس أنّ ما يتعلّمه المرء يهذّب ناحية من شخصيّته لأنّه ينمّيها وينيرها؟ فالمعلّم مهذّب بطبيعته، وبمعاملته، وبمثله، ولا أرى خيراً من آداب اللّغة (أعني الآداب الرّفيعة النّاصعة الشريفة) كوسيلة للتّهذيب العلميّ." بمعنى آخر، تقول ميّ إنّ التّعليم بمعزل عن التّربية يصبح جافّاً ويفقد غايته الّتي هي بناء الإنسان. وأمّا التّربية فهي المتابعة والاهتمام والمعالجة والدّخول في تفاصيل من نربّي والأهم أنّها فعل محبّة عميقة بها يمنح المعلّم ذاته للطّالب. لذلك نرى معلّمين مؤثّرين في طلّابهم لأنّهم زرعوا فيهم شيئاً من ذاتهم. ما يجعل المعلّم متمدّداً في طلّابه من جيل إلى جيل. إنّ المعلّم ينقل النّاشئ من مشروع إنسان إلى إنسان إذا أيقن أهمّيّة تربية وتهذيب العقل والنّفس معاً.
ولم تهمل ميّ أيضاً الإشارة إلى أهمّيّة التّكامل في العمليّة التّربويّة التّعليميّة، تقول: "فلتّربية والتّعليم مهمّة هي الأخذ بيد النّاشئ والخروج به من حالة عقليّة ونفسيّة وجسديّة منحطّة، على ما يقولون، إلى حالة عقليّة ونفسيّة وجسديّة راقية، على ما يقولون أيضاً. فمجرّد تقرير وجوب التّربية والتّعليم يثبت وجود غاية يذهب إليها النّاشئ ويثبت وجود مثل عال يتلمّسه الطّالب في ما يتيسّر له من وسائل التّحصيل العلميّ والثّقافة الفكريّة والأخلاقيّة." وعمليّة النّقل هذه تفترض معلّماً مدرّباً على التّعامل مع النّاشئ، كما تفترض معلّماً يعي أنّه يهيّئ إنسان المستقبل، لا النّاشئ الجالس على مقعده الدّراسيّ لبضع ساعات، وهنا تكمن الصّعوبة وقد أقول الخطورة. فإمّا أن يبني المعلّم النّاشئ فكريّاً ونفسيّاً مؤهّلاً إيّاه ليكون إنساناً فاعلاً في المجتمع، وإمّا أن يهدمه من أساسه.
لكنّ المعلّم لا يتحمّل وزر هذا البناء وحده، لأنّه يحتاج إلى أدوات تمكّنه من هذه العمليّة، ألا وهي تجديد كتب الدّراسة والمطالعة، على أن يكون ذلك التّجديد مطابقاً لأصول العلوم الّتي تدرّس ولعقلية النّاشئ، كما تقول ميّ. كما تضيف: "التّجديد محتّم بحكم تطوّر العالم وتطوّر البيئة، وبحكم نموّ العلم الإنسانيّ الّذي يفاجئنا كلّ عام بل كلّ شهر بنتيجة مجهود جديد يضيفها إلى مباحثه ومعارفه واختباراته واكتشافاته واختراعاته، في سعيه المتواصل للتّعرّف بطبيعة الكائنات على مختلف أنواعها وللسّطو على مكنونات الخليقة والتّوغّل في أسرار النّفوس."إنّ هذه المشكلة الّتي تعالجها ميّ ممتدّة إلى عصرنا هذا. ولعلّنا نفتقد إلى هذا التّجديد الّذي ينقل الطّالب من حالة التّلقين إلى حالة البحث عن المعرفة.
تثير ميّ في إحدى هذه المقالات ضمن سلسلة (كبار يعلّمون وصغار يتعلّمون/ سنة 1929) موضوع قانون التّعليم الإجباريّ الّذي عمل عليه أولي الأمر في وزارة المعارف المصريّة  الّذي نصّ عليه نصّ الدّستور وعرضه البرلمان الجديد آنذاك لإصدار مرسوم ملكيّ به وتنفيذه مطلع عام 1930. مع أنّ وزارة المعارف  كانت تعدّ عدّتها لتنفيذ هذا المشروع تدريجيّاً في عشرين عاماً.  ولعلّه أسيء فهم ميّ في ما قالته وأبدت فيه وجهة نظرها فقوبلت بهجوم عنيف واتُّهمت بالرّجعيّة.
برأي ميّ زيادة أنّ التّعليم الإجباريّ بهدف دفن الأمّيّة وحسب دون قيد أو شرط عمليّة عبثيّة، ينتج عنها تفاقماً في البطالة. ولعلّ من هاجم ميّ لم يفهم بدقّة أنّ رؤيتها للموضوع ليست آنيّة بل إنّها ترى مستقبل أؤلئك المتعلّمين الّذين إذا لم يتمّ توجيههم بشكل صحيح بالغين البطالة والإحباط لا محالة. فالتّعليم ليس عمليّة عشوائيّة هدفها تخريج طلّاب متعلّمين وحسب. بل ينبغي بحسب ميّ التّنبّه إلى توجيه الطّالب وتبيّن قدراته نظريّة كانت أم تطبيقيّة. وتربط ميّ العلم بالعمل وإلّا واجه المجتمع مشكلة متعلّمين عاطلين عن العمل. ولا يخفى على أحد الكوارث الّتي تنتج عن البطالة على المستوى الاجتماعيّ والاقتصاديّ. وتعرض ميّ حلّاً لهذه المشكلة على الشّكل الآتي:
- وجوب مراعاة حالة التّعليم الاجتماعيّة وغايته المباشرة من التّعليم.
- وجوب إيجاد مدارس موافقة لليقظة الاقتصاديّة والتّجاريّة – تلك اليقظة المتحققّة في الواقع من بعض جهاتها ومن واجب الحكومة أن تنشّطها وترهفها عن طريق المدارس والتّعليم.
- وجوب عدم نسيان عند إعداد قانون التّعليم الإجباريّ وأيّ منهج دراسيّ أنّ مصر بطبيعتها بلاد زراعيّة وأنّ أكثر المتعلّمين يجب أن يبقوا في قراهم ومزارعهم فيكون تعليمهم اليسير أو الوفير وسيلة لتحسين حياتهم وتحسين وسطهم من مختلف نواحيه. ومن لا يذكر منّا حاجة الرّيف إلى الإصلاح والتّرقية؟
لا ريب أنّ ميّاً ليست ضدّ التّعليم، لكنّها مع التّعليم كمنظومة شاملة. فالهدف من التّعليم ليس تخزين المعلومات والدّراية بالكتابة والقراءة، بل إنّها نهضة الشّعوب وارتقاؤها وتقدّمها وتطوّرها. فما حال مجتمع أغلب المنتمين إليه عاطلين عن العمل؟ ممّا تقوله ميّ: "لو كانت الغاية من التّعليم جعل كلّ متعلّم أفنديّاً معسكره العام في القهاوي والبارات في انتظار وظيفة تهبط عليه من السّماء على أجنحة ملائكة الرّحمن، إذن لكان الجهل خيراً. ولو كانت الغاية من التّعليم قذف المتعلّمين إلى العواصم والمدن وتضخيمها وإرهاقها في حين يفقر الرّيف وتشلّ عنه الأيدي والجهود المطلوبة، إذن لكان الجهل خيراً..."، وهنا ترى ميّ البعد الكارثيّ لخطورة التّعليم الأوّليّ. أي التّعليم بشكله الظّاهري بهدف محو الأمّيّة وحسب. لا التّعليم التّنويريّ الذي يقود الشّعوب ويطوّرها. ما سيحوّله إلى داء للأمّة  في حال لم يقترن بالعمل بدل أن يكون دواء لها. وما حال بلادنا ومجتمعاتنا إلّا نتيجة لهذا الخلل القائم في التّعليم. فالتّعليم ليس رفاهيّة، وإنّما حقّ يقابله واجب الاندماج في المجتمع والنّهضة به، فينمو العقل ويتطوّر ويبني هذا المجتمع. ولكي تُفهم وجهة نظر ميّ أكثر ينبغي إلقاء نظرة سريعة على حال مجتمعاتنا الغارقة في البطالة والطّافحة بالمتعلّمين الّذين لا يسهمون في نهضة المجتمع. وذلك لأنّ هذه المجتمعات تفتقد إلى توجيه الطّالب والاستدلال إلى قدراته الّتي يمكن أن تخدم هذا المجتمع. وبحكم البطالة يتوجّه المتعلّم إلى أيّ عمل بهدف كسب القوت بالدّرجة الأولى لا بهدف خدمة مجتمعه بعلمه. وإذا انشغل مجتمع بكسب القوت وحسب فكيف له أن يتقدّم علميّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً؟
يشير الأديب طه حسين إلى الفكرة ذاتها في "مستقبل الثّقافة في مصر" سنة 1937 أي بعدما نشرت مقالات ميّ زيادة في صحيفة الأهرام بثماني سنوات قائلاً: "هؤلاء الشّبان الّذين يقبلون في المدارس والكلّيات بغير حساب، ثمّ يخرجون منها وقد ظفروا بالإجازات والدّرجات، ما عسى أن تصنع بهم الدّولة؟ إنّ مناصبها محدودة لا تزداد إلّا في بطء شديد جدّاً، وفي فترات متقطّعة، وهؤلاء الشّبان يكثرون، ويضخم عددهم في كلّ عام، وهم لا يقبلون على الأعمال الحرّة. والأعمال الحرّة نفسها محدودة، وتوشك أن تضيق بهؤلاء الشّبّان إذا اطّرد توسّع الدّولة في نشر التّعليم العام. فأمر هؤلاء الشّباب صائر إذن إلى البطالة، والبطالة منتجة للقلق، ثمّ إلى السّخط، ثمّ إلى اضطراب النّظام الاجتماعيّ، ثمّ إلى هذه العواقب الّتي قد لا نتصوّرها الآن، ولكنّها شديدة الخطر على كلّ حال".
وتجب الإشارة إلى بروز شخصيّة ميّ في هذه السّلسلة من المقالات بشكل أوضح. فتبدو لنا مفكّرة  صارمة ثاقبة النّظر. كما نستدلّ على عناد ومثابرة  لتعزيز وجهة نظرها وتحقيقها وشخصيّة فذّة تفرض ذاتها بقوّة بالكلمة والمناقشة والجدل المنطقيّ والرّؤية الشّاملة، وأنّها لم تكن سابقة لطه حسين وحده في طرح أفكار متقدّمة جدّا عن التّعليم وفلسفته، بل إنّ كلّ النّظريّات الحديثة حول التّعليم تراعي في خطوطها العريضة حاجات المجتمع من التّعليم والاهتمام بالمتعلم، والابتعاد عن التلقين، والسعي إلى إيجاد الطالب المفكّر المشارك في صنع المعرفة، وليس متلقّيا فقط، وهذا هو نفسه ما تحدّثت به ميّ زيادة في هذه المقالات الّتي أشرتُ إلى بعض ما فيها، مستعينة ببعض المقتبسات منها، ولا تغني بأية حال عن قراءة تلك المقالات والتّأمّل في أفكارها.