الجمعة، 24 يوليو 2020

الحبّ رؤية واكتمال



مادونا عسكر/ لبنان
من أقوال الحلّاج الدّالة على عمق رؤاه القلبيّة قوله: "ما رأيت شيئًا إلَّا ورأيت الله فيه". وما هذه الرّؤية إلّا بلوغ الحلّاج  ذروة اللّقاء بالمحبوب الإلهيّ، بل ذروة الامتزاج بالكائن الخارج عن الزّمن والمتجذّر في عمق أعماق الحلاج في آن معاً. وبعيداً عن نظريّة الحلول والاتّحاد، يحملنا الفعل (رأيتُ) إلى المعنى الإنسانيّ المرتبط بالحبّ الأسمى. فعندما يقول الحلّاج "ما رأيت شيئاً إلّا ورأيت الله فيه" فهو يمزج المعنى الحسّي للفعل (رأى) بالمعنى القلبيّ. ويأتي المزج نتيجة لفعل الحبّ المتفجّر من داخل الحلّاج إلى الخارج.
الحبّ في أصله لا أصل له، فهو أشبه بمسّ يأتينا من خارج الكون، وللمحبّين المتفاعلين مع هذا الحبّ إشراقاتهم الخاصّة وتجربتهم الخاصّة. ولا يمكن قياس حبّهم على العاطفة الّتي يشعر بها كلّ إنسان. فالعاطفة شعور متناقض وقد يضعف ويقوى وقد يشتعل ويخمد. إنّه ما يُظنّ أنّه الحبّ. والعاطفة انجذاب محدود بالزّمان والمكان والأشخاص، وأمّا الحبّ فهو انجذاب كونيّ يتخطّى الزّمان والمكان والحدود فيلغي المسافة والوقت. وإذا ما انجذب المحبّ رمى بنفسه كما ترمي الفراشة بنفسها في نور المصباح حتّى تحترق.  وما حال رؤية الحلّاج لله في كلّ شيء إلّا  ارتمائه في هذا الحبّ حدّ الاحتراق بنوره فما عاد يرى في ما يرى إلّا هذا النّور. وتبدو لنا هذه الرّؤية جليّة في قصيدة الحلّاج "والله ما طلعت شمس ولا غربت"، إذ يعاين الحلّاج هذا الحبّ في حركة الكون بشكل عام:
والله ما طلعت شمس ولا غربت
إلا وحبّك مقرون بأنفاسي
يحيا المحبّ في حركة الكون الدّائريّة من طلوع الشّمس إلى غروبها بهذا الحبّ المقرون بأنفاسه. فإذا انقطع انقطعت الحياة. وهنا تأخذ الحياة بعدها الآخر والأعمق من حركة التّنفّس، إنّها حياة المحبّ الممتزجة بالحبّ الأصل. فلا تعود هذه الحياة تعني له شيئاً بحكم الانجذاب العشقيّ، ولا يرى منها حركتها إلّا ضمن هذا الانجذاب. فمن وجهة نظر المحبّ ليس من حياة وليس من عالم وليس من حركة، كلّ ما يراه ويعاينه هو الحبّ. وكلّ ما يقوله ويفعله ويسعى إليه هو الحبّ. وإذ يقول:
ولا جلست إلى قوم أحدّثهم
إلّا وأنت حديثي بين جلّاسي
فلا يريد بقوله فعل التّبشير وإنّما هي اللّغة الّتي تتحوّل من لغة باهتة إلى لغة تقاوم عجزها في التّعبير عن احتراق العاشق. لذلك يستحيل الحديث تلقائيّاً وبديهيّاً عن المحبوب كفعل حبّ يفوق قدرة إنسانيّة المحبّ على تحمّل هذا الاحتراق العشقيّ. فثمّة من اشتعلت النّار في كيانه فرمته أرضاً.
إنّ المحبّ يتحرّك باتّجاه المحبوب الجاذب بقوّة، والمضيّ إليه صعب، ومعرفة السّبيل أشدّ صعوبة، ويمسي الهدف الوحيد الإتيان إليه بأيّة وسيلة ممكنة.
ولو قدرت على الإتيان جئتكم
سعياً على الوجه أو مشياً على الراسِ
ويخرج المحبّ عن السّياق العام، والسّلوك العام سواء أكان سلوكاً اجتماعيّاً أم دينيّاً، ويتفلّت من الأطر المقيّدة لهذا الحبّ فيتخطّى ذاته والمجتمع والدّين والكون بأسره ليتحرّر وينصهر بالحبّ. فالنّظام الدّينيّ تحديداً لا يُرضي طموح المحبّ ولا يشفي غليله ولا يخمد ناره. بمعنى آخر، لا يكون الحبّ حبّاً إلّا إذا انطلق حرّاً ومتحرّراً من أيّ تفصيل وأي نظام. فليس من نظام خاصّ يعتمده المحبّ وإلّا لأحبّ جميع النّاس بذات الطّريقة. الدّين بشكله الظّاهريّ مرحلة يمرّ بها الإنسان حتّى يبلغ مقام المحبّ؛ لذلك يقول الحلّاج نفسه:  "كفرت بدين الله والكفر واجب عليّ وعند المسلمين قبيح"، وكأنّي بالحلّاج يفصل بينه وبين المسلمين، بين ما هو واجبه وما هو واجبهم. والمعنى في هذه الجملة دقيق جدّاً ولا بدّ من تبيّنه بما يتناسب ورؤية الحلّاج. فلقد جاءت الأحكام الشّرعيّة بالتّحذير من التّسرّع في إطلاق الكفر على المسلم. ولقد جاء عن الرّسول محمّد (ومن رمى مسلماً بكفر فهو كقتله) وفي الآية الكريمة: "يا أيّها الّذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا" (النساء:94) دعوة إلى عدم التّسرّع في إطلاق الكفر. ومن أسباب الكفر الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله، ما لم نقرأه أبداً عند الحلّاج. بل إنّ الحلّاج منجذب بقوّة إلى الله وهو المتحدّث عن الحقيقة المحمّديّة، وبالتّالي فالمعنى الّذي أراده الحلّاج بقوله (كفرت بدين الله) لا يتناسب ومعنى الكفر. كما أنّه لم يقل إنّ الكفر واجب على المسلمين، بل واجب عليه وهذا لشأن خاصّ به، نتج عن الانجذاب العشقيّ الخارج عن إرادة الحلّاج. إلّا أنّ هذا الكفر بدين الله ليس واجباً على المسلمين، فالحلّاج لا يسعى إلى محاربة الدّين، كما أنّه ليس موضوعه. وإنّما أتى معنى الكفر الواجب على الحلّاج في سياق الغوص عميقاً في العشق الإلهيّ. من هنا لا أهمّيّة لما يحكم به النّاس فدين الحلّاج هو الحبّ ودين النّاس للنّاس.
ما لي وللنّاس كم يلحونني سفهاً
ديني لنفسي ودين النّاس للنّاسِ
ولعلّ هذا البيت يتقابل  مع بيت محيي الدّين بن عربي:
أدين بدين الحبّ أنّى توجّهت
ركائبه فالحبّ ديني وإيماني
دين الشّيخ الأكبر هو الحبّ  ودين الحلّاج هو الحبّ، فالمحبّون الظّامئون إذا ما جذبهم الحبّ الأسمى حلّقوا في سماوات أخرى غير تلك الّتي يتمسّك بها العاطفيّون.



الجمعة، 17 يوليو 2020

ميّ زيادة والبحث عن الوطن



مادونا عسكر/ لبنان
لا أظنّ أنّ ميّ زيادة افتقدت للمعنى المتعارف عليه للوطن، كما أنّي لا أشارك رأي القائلين أنّها كانت تشعر بالغربة طوال حياتها استناداً إلى  قولها في نصّ لها تحت عنوان "أين وطني؟" في مؤلّفها "ظلمات وأشعّة": "ولدت في بلد، وأبي من بلد، وأمّي من بلد، وسكني في بلد، وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد." فميّ كانت تعرّف عن نفسها قائلةً: "أنا فلسطينيّة لبنانيّة مصريّة سوريّة"، ولا بدّ من أنّها كانت تعتزّ بكلّ من هذه الأوطان. إلّا أنّ ميّاً كانت تبحث عن وطنٍ آخر، أبعد  من الحدود الجغرافيّة وأعمق من مفهوم الأرض المحتضنة. وفي سؤالها (أين وطني؟) خفايا هذا البحث الدّاخليّ الّذي يسعى إليه كلّ مفكّر متى اكتشف في داخله أبعاده الكونيّة. إنّه البحث عن الذّات ببعدها الكونيّ.
"عندما ذاعت أسماء الوطنيّات، كتبت اسم وطني ووضعت عليه شفتيّ أقبّله، وأحصيت آلامه مفاخرة بأنّ لي كذوي الأوطان وطناً. ثمّ جاء دور الشّرح والتّفصيل فألممت بالمشاكل الّتي لا تحلّ، وحنيت جبهتي وأنشأت أفكّر. وما لبث أن انقلب التّفكّر فيّ شعوراً، فشعرت بانسحاق عميق يذلّني، لأنّي دون سواي، تلك الّتي لا وطن لها." الوطن الحقيقيّ الّذي كانت تبحث عنه ميّ هو الوطن الدّاخليّ العميق في النّفس والوطن الكونيّ اللّامحدود، وقد تكون في لحظات خاصّة وحميمة فكّرت في جذورها وانتمائها لوطن محدّد إلّا أنّ ما بين السّطور يبرز غربة من نوع آخر، غربة إنسانيّة تنتج عن الارتقاء إلى عالم الفكر والأدب والفنّ. الغربة عن العالم بأسره، عن تفاصيل الواقع الّتي ما يلبث المفكّر والأديب والفنّان أن يكتشف سخافتها وعبثيّتها فيمضي  أكثر فأكثر في اغترابه ويحيا حالة اللّاانتماء إلى هذا الواقع بالضّرورة. ما يخلق لديه شعوراً بالأسى والألم؛ لأنّه يطلّ على هذا الواقع بنظرة أخرى ويرنو إليه من علوّ كقول درويش في (لاعب النّرد):
لولا وقوفي على جَبَل
لفرحتُ بصومعة النّسر: لا ضوء أَعلى!
ولكنَّ مجداً كهذا المُتوَّجِ بالذّهب الأزرق اللّانهائيِّ
صعبُ الزيارة: يبقى الوحيدُ هناك وحيداً
ولا يستطيع النّزول على قدميه
وفي هذه الغربة القاسية يزداد الإنسان بحثاً عن الوطن الحقيقيّ. ميّ، دون سواها، تلك الّتي لا وطن لها وحيدة في علوّها وتبقى وحيدة ولا تستطيع النّزول على قدميها. وفي نصّها البديع (أين وطني) الّذي يبدو في الظّاهر شعوراً حزيناً باللاانتماء إلى جغرافيا محدّدة، إلّأ أنّه يبدو في الحنايا العميقة لاانتماءً إلى العالم بواقعه المرير والتّعيس غالباً فتقول ميّ: "ولكنّ الشّعوب تهمس همساً يطرق مسمعي: فهؤلاء يقولون أنت لست منّا لأنّك من طائفة أخرى، ويقول أولئك أنت لست منّا لأنّك من جنس آخر. فلماذا أكون، دون سواي، تلك الّتي لا وطن لها؟"، وفي هذا القول معانٍ كثيرة تبيّن غربة الإنسان عن الإنسان، كما تبيّن انتماءه الواهم إلى وطن حقيقيّ. فلفظ (الشّعوب) شامل يترادف والإنسان بشكل عام، والتّمييز الطّائفيّ والعنصريّ  يفعل في الدّاخل الإنسانيّ عميقاً ويؤذي إنسانيّته فيشعر بالغربة وهو في وطنه الجغرافيّ. وتذهب ميّ أبعد من ذلك لتبحث عن لغة مشتركة بينها وبين العالم: "بأيّ اللّهجات أتفاهم والنّاس، وبأيّ الرّوابط أرتبط؟ أأتقيّد بلغة جماعتي وهي، على زعمهم، ليست لي ولم توجد لأمثالي؟ أم أكتفي بلغة الغرباء وأنا في نظرهم متهجّمة عليها؟ أأصون عادات قديمة يحاربها اليوم النّاهضون أم أقبل الأساليب الحديثة فأكون لسهام المحافظين هدفاً؟".
إنّ ميّاً الّتي ناقشت الأدباء والمفكّرين لا يعوزها لغة تفاهم على المستوى الأدبيّ والفكريّ، وإنّما مراد قولها إنّها وهي الممعنة في تفاصيل الواقع وتقلّباته والتباسه وقسوته تفتقد للغتها الخاصّة واقعيّاً. لا بدّ من أنّه أصبح لميّ لغتها الشّخصيّة كنتاج للتّأمّل والتّفكير المستمرّ وهي الّتي لطالما عاشت في عالم المثل. لكنّ الواقع مختلف تماماً عن عالم المثل، عالم الأفكار والقيم. وهنا تصطدم بلغة العالمين. "سطت عليّ اليدُ الحديديّة، ومزّقتني  يد "الإخوان"، وانفضّ من حولي "المخلصون" لأنّهم إنّما خلقوا لمساعدة نفوسهم."
لا ريب أنّ ميّاً  تلمّست جوانب الإنسان المظلمة حتّى وإن كانت تحيا في عالم المثل، بيد أنّ الأمر أشدّ إيلاماً لمن هم في حالة من الوعي والنّضج والارتقاء. وفي قولها تعبير عن إحساس بالوحدة نتيجة مكائد وتخلٍ من أقرب النّاس إليها. ما يزيد من الغربة والألم. تبحث ميّ عن وطن الإنسان، عن انتمائه إلى إنسانيّته، وعلى الرّغم من المحيطين بها، إلّا أنّها على ما يبدو لم تجد الوطن الّذي ينبغي أن ينتمي إليه كلّ إنسان بعيداً عن الصّراعات والنّزاعات. فتعبّر في نهاية النّصّ قائلة:
"جرَّبتُ من الوطنيّات صنوفًا: وطنيّة الأفكار والأذواق والميول.
وتلك الوطنيّة القدسيّة المثلى: وطنيّة القلوب.
فوجدتُ في عالم المعنى ما عرفته في عالم الحسّ.
إلّا بقعة بعيدة تفرَّدت فيها الصّور وتسامت المعاني.
ثقَّفني أبناءُ وطني، وأدَّبني أبناء الأوطان الأخرى.
وأسعدني أبناء وطني، وأسعدني الغرباءُ أيضًا.
ولا ميزة لأبناء وطني في أنهم أوسعوني إيلامًا.
فقد نالني من الغرباء أذًى كثير.
فبأيّ الأقيسة أقيس أبناء الوطن؟
ولماذا أكون أنا وحدي تلك الّتي لا تدري أين وطنها؟"
إن صحّ أنّ ميّاً تفتقد لانتماء وطنيّ جغرافيّ لما قالت (ولماذا أكون أنا وحدي تلك الّتي لا تدري أين وطنها؟)  لأنّها ليست الوحيدة الّتي تشكو من هذا الأمر، فكثيرون ابتعدوا عن أوطانهم وشعروا بالغربة.   
يتكرّر لفظ (وطني) في هذا النّصّ سبع مرّات، وتتردّد عبارة (لا وطن لها) خمس مرّات. وما بين تحديد الوطن والسّؤال عنه تبحث ميّ عن هويّتها الوجوديّة الكونيّة المرتبطة بالوطن الإنسان، بالوطن المترفّع عن كلّ الأوطان.

الجمعة، 10 يوليو 2020

فلنصمد وحدنا لنخرج وحدنا



مادونا عسكر/ لبنان
(إلى علي الهق وسامر الحبلي وما تبقى فينا من إنسان)




كتب جبران خليل جبران قبل قرن ونيّف "مات أهلي جائعين، ومن لم يمت منهم جوعاً قضى بحدّ السيف، ماتوا وأكفّهم ممدودة نحو الشّرق والغرب وعيونهم محدّقة إلى سواد الفضاء". وها نحن بعد قرن نقبل على الموت جوعاً أو بحدّ السّيف، سيف العقول والنّوايا والنّعرات الطّائفيّة والكذب والنّهب وحكم الآلهة، آلهة الحرب. ولمن لا يعلم، فليعلم أنّ عليّاً وسامراً وسواهم ممّن يحملون لعنة العيش في ظلّ الآلهة انتحروا جوعاً وبؤساً. لم يمت علي وسامر وهما يحدّقان إلى الفضاء الأسود، فالسّواد في كلّ زاوية وكلّ نفس. ماتا بهدوء، وسترا وجههما بصمت العجز والألم، صمت لا يفهمه إلّا أولئك الّذين يغمّسون قوتهم بالدّمع والدّم.
أكتب إلى علي وسامر، لأنّه لو كتب تاريخ جديد فلن يذكرهم. ففي بلاد العرب يذكر التّاريخ غالباً السّفاحين، ويجعل منهم أبطالاً، ويدخلهم في تكوين الفكر البشريّ، فيدرّب الإنسان على المزيد من التّنكيل والإجرام؛ لأنّ مفهوم البطولة العربيّة سفّاح يدخل التّاريخ عنوةً ليتحكّم بمصير البشر. وأمّا الضّحايا فلا يذكرهم أحد! إنّهم مجرّد أعدادٍ يندرجون تحت راية الشّهادة، الخدعة الكبيرة والوهم المميت. ما هذه الأوطان الّتي لا تبنى إلّا بالموت؟ ما هذه الأوطان الّتي لا تحيا إلّا بدماء الأبرياء وجوع الأطفال؟ ما هذه الأوطان الّتي تطحن عظامنا وتسرق أنفاسنا وتنهب عقولنا وأرواحنا؟ هي أوطان من ورق، من رماد يتبعثر ويمضي في مهب الرّيح.
لم ينتحر علي وسامر بل قتلوا مع سبق الإصرار والتّرصّد، والآلهة متربّعة على عروشها. تجتمع وتتبجّح وتستنكر وتنظّر وتحلّل. لكنّ علي وسامر وسواهم ماتوا وانتهى. والقافلة تمضي مثقلة الخطى نحو المجهول وما من معين، وما من أحد يرفع عنّا لعنة سبعين عاماً من الاستقلال. وما من أحد يحاسب. ومتى سمعنا عن محاسبة الآلهة؟ الإله يُعبدُ فقط، وينبغي على العابد أن يظلّ جثّة تتنفّس  حتّى الموت، وإلّا فليمت ليحيا الإله!
خسر علي وسامر معركة العقل وانهزما بعنف. دحرهما الجوع الآتي بسواده الأعظم، وكسرهما بكاء أبناء قُدّر لهم أن يكونوا هنا، في هذا المنفى التّعيس. إنّها معركة العقل ولا بدّ من الصّمود حتّى نخرج من البئر وحدنا. فلا نريد أن نستعطف أحداً ولا نريد أن يهتمّ لأمرنا أحد. فلنصمد وحدنا ولنخرج وحدنا.
وإلى منظّري الكفر والإيمان، كفى تهريجاً وسخفاً، وكفى تنظيراً! من راح استراح.

الجمعة، 3 يوليو 2020

الصراع في رحلة البرزخ



مادونا عسكر/ لبنان
تتوجّه هذه القراءة نحو قصيدة "البرزخ" للشّاعر الفلسطينيّ كميل أبو حنيش، متّخذة من "البرزخ" والبرزخيّة منطلقا ومنطقا للتّحليل، ليكشف التّحليل عن تلك الأبعاد الدّلاليّة الّتي كَمِنَت في هذا اللّفظ، فانفجرت دلالته ليتشبّع منها النّصّ، وبالتّالي مآلات النّصّ وقدرته على الكشف عن قناعات الشّاعر الشّخصيّة وما يعيشه من صراعٍ نتيجة ما يحياه من أوضاعٍ خاصّة.
يعني البرزخ الحاجز بين شيئين، وما بين الموت والبعث، فمن مات دخل البرزخ. وللشّاعر قول آخر في البرزخ  الّذي أراد أن يبتنيه بنفسه ولنفسه مستنداً إلى ذاك المعنى، ومحوّلاً إيّاه إلى معنى  يتفجّر من عمق نفسه وأبعد ما يكون عن المعنى الدّينيّ الغيبيّ. البرزخ في قول الشّاعر رؤية خاصّة، وقد تكون فلسفيّة نتجت عن تأمّل خاصّ بالواقع الّذي يحكمه الزّمن المتوقّف والمعطّل، فشكّل حاجزاً بين رؤى الشّاعر الفكريّة والوهم الّذي يملي عليه التّمرّد، ولو ضمنيّاً، فيكون عنصراً إراديّاً يحتكم إليه الشّاعر، ليعبّر عن إرادته الحرّة. إلّا أنّ الشّاعر حمّل النّصّ الكثير من الغموض؛ ليعكس العمق الشّخصيّ، فتجلّت حركة النّصّ مكبّلة من جهة، ومن جهة أخرى متحرّكة بحركة حلم الشّاعر.
على مدخلِ الأبدية ِ
أخطو ِبقَدَميَ لا بِفُؤادي
افتتايحّة ملتبسة المعنى، تأخذ القارئ باتّجاهين. الأوّل يخلص إلى أبديّة ما بعد الموت، واتّجاه آخر يترادف ومعنى المؤبّد الأبديّ. إلّا أنّه من المرجّح أنّ الشّاعر ينطلق من الواقع الخاص الّذي يخطو إليه بقدميه تاركاً فؤاده حرّاً طليقاً، لكنّه، ضمناً، يتمرّد على هذا الواقع بأبديّته الخاصّة قائلاً:
وَأُملي بنفسي سِفرَ البدايةَ
وأَكسّرُ كلَ الدَوائِرِ والأغنياتِ الرَّذيلةَ
وأحبِسُ تِلكَ الإِشاراتِ حولي
أُفَكًكُ كُلَ الطَلاسِمَ مِن جانِبَي
ومِن فَوقِ رأسي وتحتي
وأُملي بِنَفسيَ ِسفرَ الخُروجِ
كأنّي بالشّاعر يعيد ترتيب قناعاته، وإن لم يعبّر عنها صراحةً، إلّا أنّ تعبير (أملي بنفسي) يبرز جليّاً إرادة الشّاعر في إعادة بناء الحياة بعيداً عن كلّ ما هو غير مفهوم. ما يشير إلى صراع عميق أنتجته أسئلة وجوديّة وحيرة لا خلاص منها إلّا ببناء وهميّ يؤسّس للبداية ويحدّد الخروج. وبالإشارة إلى لفظ (سفر) المترافق مع البداية والنّهاية يمنح الشّاعر بناءه طابعاً قدسيّاً ينزع عنه الواقع المعيش المقيت والمضطرب والمقيِّد. (وَلكن! سأترُكَ خلفي كُلّ العَجينِ/ وكلّ السّيوفِ/ وكلّ الوعودِ/ وكلَ الخطايا) لا تعود عبارات (العجين والسّيوف والوعود والخطايا) إلى الشّاعر، وإنّما هي مرتبطة جذريّاً بعمقه المتصارع وأسئلته الوجوديّة لذلك يضيف (وأخطو بقلبي إلى أرضِ حُلمي/ وأغزو بجيشٍ من الحبِّ). وهنا يبرز معنىً أوّل للبرزخ عند الشّاعر (أرض الحلم). يخرج حلم الشّاعر عن إطار الرّغبة ليدخل حيّز التّخيّل والفرق دقيق بين التّخيّل والرّغبة. ففي الحلم شيء من الحرّيّة والرّغبة في تحقيقها، وأمّا التّخيّل فهو بناء وهميّ يهرب إليه الإنسان لعدم القدرة على تحقيق ما يريد. ما يعزّز المعنى الأوّل للبرزخ عند الشّاعر.
بدأ الشّاعر رحلته البرزخيّة في القسم الأوّل من علو باسطاً إرادته المتمرّدة على مجمل حياته الشّخصيّة. وأمّا في القسم الثّاني فينزع إلى تفصيل الوقت الصّديق والعدوّ في آن.
أروّضُ وَقتي
كما اعتادَ فلاح
تطويع بغل الحِراثَة ِ
أهدهدهُ كي ينامَ قليلاً
وأبحَثُ عَن فُسحةٍ في مَنامه
لِكَي أحضُنَ الأُمنيات كأنثى
وأستَنبِتُ الحُلمُ في أرضِ وَهمي
يروّض الشّاعر الوقت العنيد ويخضعه للنّوم المرادف غالباً للموت. فلا يقول أقتله لسبب في نفسه بل يهدهده لينام قليلاً (يتوقّف) ليتجاوزه لاحتضان المستحيل أو ما هو صعب المنال ليزرع حلمه في أرض وهمه. وهنا  يتجلّى المعنى الثّاني للبرزخ عند الشّاعر، أرض الوهم. فيعبّر الشّاعر للقارئ عن الوقت الصّديق الوهميّ الّذي يتحوّل إلى عدوّ شرس ينتهك حياة الشّاعر ويعطّل مساره (يَعُضّ ويغدو وحشاَ طليقاً / وَينهَشُ مِنكَ طَراوَةَ لَحمِكَ / يَمتَصُ دَمَكَ) هذا العدوّ أقوى من الشّاعر، بل حرّ طليق يتمتّع بالسّلطة. إلّا أنّ الشّاعر يفصل بين الوقت كعنصر زمنيّ مسيطر ووقته الشّخصيّ. فالوقت الحرّ الطّليق غير وقت الشّاعر المقيّد مثله. 
سَيشتَدّ عودي قليلاً
وأدرجُ مَع كُلّ دَمعة عشقٍ بجوفِ الظَلامِ
وأضحَكُ مع كلّ أنُثى بِرأسي
وكُل لُحيظةَ هتكٍ بِعفَة َ وَقتي
المُزنّرِ مِثلي بِقيدِ الحَديدِ
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى الوقت المتماهي مع الشّاعر المنهك من قسوة الحياة المعبّرة عن الموت مجازيّاً. لكنّه يقاوم بالدّمع تارة والضّحك طوراً، وهو التّائق في عمقه إلى نصفه الثّاني أو صورته الأخرى المكملة للعشق.
يعتقد الشّاعر أنّ المسيرة في برزخه قادرة على جعله يكشف ألغاز الحياة، ولعلّه يظنّ أنّ لأسئلته الوجوديّة إجابات ما، أو أنّه قادر على حلّها أو أنّه غير قادر على مواجهة الحقيقة (سَأغفو قَتيلاً/ قُبيلَ تَمَكُن قلبي من معرفة السرّ) لذلك يدور قلبه في الفراغ (يَنمو ويَنأى ويَرنو ويَعمى ويَنمو ويَثنى ويَعدو ويَبقى/ دَليلي في قلبِ الظّلامِ الطَويل / ودَربي إلى الأَمنياتِ البعيدة ) وهنا معنى ثالث للبرزخ (الظّلام الطّويل)
أرض الحلم، وأرض الوهم، والظّلام الطّويل، ثلاث تجليّات للبرزخ. لكنّ الشاعر الّذي دخل الأبديّة بقدميه لا بفؤاده يبقى طليق القلب مستنيراً به.