الاثنين، 12 أكتوبر 2020

عوالم الكينونة في لا نهائيّتها

 


قراءة في نصّ للشّاعر التّونسيّ يوسف الهمّامي

مادونا عسكر/ لبنان

- النّصّ:

المكان : نُقطةٌ

الزمان : نفسٌ

الفعل : كُنْ

..

الفستان مفتون بما يشفّ عليه.

- القراءة:

في مشهد قد يكون إشراقيّاً يطرح الشّاعر يوسف الهمّامي خلاصة الوجود بحسب رؤيته الخاصّة في نصّ يوحي شكلاً للقارئ كما لو أنّه يسير في ثلاثة اتّجاهات (المكان والزّمان والفعل) بيد أنّه نصّ يحمل في عمقه وحدة وجوديّة ويخرج عن مبدأ الجهة استناداً إلى (النّقطة والنّفس وكُنْ).

المكان مكان الشّاعر والزّمان زمانه ولا ضير في قول إنّ الفعل يعود له إذا ما فهمنا عميقاً  دلالة النّقطة بوصفها رمزاً غير مساوٍ للمكان ودلالة النّفس المتباعدة عن الزّمان ودلالة كن العائدة للشّاعر. وذلك من خلال فصل المكان والزّمان والفعل عن النّقطة والنّفس وكُنْ بنقطتين فصلتا المعنى العامّ عن المعنى الخاصّ. والمعنى الخاصّ أعمق ممّا يبدو للقارئ. ولعلّ هذا النّصّ هو الدّائرة المرتبطة بالنّقطة الّتي وضعها الشّاعر في المقام الأوّل قبل النّفس والفعل. وغالب الظّنّ أنّه يشير إلى الإنسان الكامل بالمفهوم الصّوفي فيتماهى مع محيي الدين بن عربي في قوله: "الدائرةُ  مطلقةً، مرتبطةٌ بالنقطة. النقطةُ مطلقةً، ليست مرتبطةً بالدائرة. نقطةُ الدائرة مرتبطةٌ بالدائرة" ما يمنح القارئ مفتاح النّصّ للدّخول إلى عمق المعنى الخاصّ، معنى الاختبار الصّوفيّ عند الشّاعر.

من الملاحظ أنّ الشّاعر عرّف المكان ولم يعرّف النّقطة بل جعلها نكرة، فحدّد المكان فاصلاً إيّاه عن النّقطة الدّالّة على ما هو غير محدّد. وبهذا الفصل انفصل الشّاعر نفسه عن المكان المحدّد  وخلق مكانه الخاص، دائرته الخاصّة المرتبطة به (نقطة).  فيصبح المعنى مكان الشّاعر نقطة، وهو تماهٍ مع الوجود ككلّ. فهو النّقطة المتّحدة بالوجود لكنّها النّقطة العليا. بمعنى آخر، ارتقى الشّاعر عن الوجود ولم يزل يتماهى معه. ولمّا أوجد الشّاعر مكانه الخاصّ خلق زمانه الخاصّ (نفس) فأمسى للشّاعر دائرته الخاصّة بفعله (كن) فالشّاعر، النّقطة العليا، خلق الدّائرة المرتبطة بالنّقطة والنّفس. ومعنى الخلق هنا علويّ وهو غير المعنى الانعزاليّ أو الانطوائيّ. فالشّاعر منفتح على العلوّ ومتّحدٍ بالعالم الإلهيّ وهو المخلوق والخالق. وأظنّ أنّه استند إلى الحديث القدسيّ: "وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ". كما استند إلى الآية 82 في سورة يس: "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ"، والاستناد إلى الآية أو الحديث القدسيّ استناد روحيّ يقينيّ بالنّقطة المرتبطة بالدّائرة أو الإنسان المرتبط بالله كما الشّاعر المتماهي مع العالم الإلهيّ. ولعلّي أستشفّ من المعنى العميق للنّصّ أنّ الشّاعر صاغ نصّه بذات الانفتاح العلويّ فأتى النّصّ دائريّاً لا بداية له ولا نهاية فينطلق من:

المكان : نُقطةٌ

الزمان : نفسٌ

الفعل : كُنْ

إلى المعنى الأكبر والأعمق،

كُنْ الفعل

نقطة المكان

نفس الزّمان

فبات الفستان الّذي يرمز إلى الجسد أو الثّوب أو اللّباس الشّرعيّ الّذي ينبغي ألّا يكون شفّافاً، مفتوناً بما يشفّ عليه. وكأنّي بالشّاعر يصف دائرته النّوارنيّة أو يحاول أن يترجم حالة النّور الّذي يحيا في دائرته، أو لعلّه يبيّن للقارئ حركة الكلمة النّور والفعل واليقين فيحمله من المكان إلى اللّامكان ومن الزّمان إلى اللّازمان. وقد يأخذنا المعنى العميق للنّصّ إلى ما أورده السّهروردي في كتابه (نـزهة الأرواح) بعض كلامه الفلسفيّ الصّوفيّ الّذي يشير فيه إلى تلك الأنوار وحضورها في مذهبه العشقيّ: "أوَّل الشّروع في الحكمة الانسلاخ عن الدّنيا، وأوسطه مشاهدة الأنوار الإلهيّة، وآخره لا نهاية له." ويبدو أنّ الشّاعر شرع في الانسلاخ عن الدّنيا ولكن بتجربة خاصّة قد تتمايز عن المعنى المتعارف عليه للانسلاخ عن الدّنيا إلّا أنّه منغمس في مشاهدة الأنوار الإلهيّة.

 

الخميس، 1 أكتوبر 2020

لأنّ الحياة تستحقّ أن تعاش

 


مادونا عسكر/ لبنان

من يفهم الموت كحقيقة ثابتة وراسخة يحيَ بسلام.

إذا كان التّواضع هو أن يعرف الإنسان حجمه ومكانه من هذا الوجود، فالتّواضع كذلك هو قبول الموت كنهاية حتميّة وحقيقة لا لبس فيها. ومن المرجّح أنّنا كوّنّا فكرة خاطئة عن الموت أم أنّنا تشبّعنا بمفهوم خاصّ عن الموت حرمنا من الاستمتاع بالحياة نفسها. ومع اختلاف الثّقافات والحضارات والمفاهيم وربّما المعتقدات تشبّثنا بالخوف من الموت، وأقصينا الحياة نفسها فتضاعف الخوف مرّة من الحياة وأخرى من الموت؛ فتسرّبت إلى حياتنا ثقافة الموت لتعطّل مسار الحياة كما ينبغي أن يكون.

"على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة". هكذا يقول محمود درويش، وهو على حقّ، ولا ريب في أنّ المعنى العميق الكامن في قوله يرشدنا إلى عشق للحياة يحفّزنا على الاستمرار مستمتعين بحياتنا، متجنّبين الظّلم الشّخصيّ لمنهج حياتنا الخاصّة. فنسعى جاهدين إلى الاستمتاع بالحياة من خلال تحديد الأهداف وتحقيقها بإصرار وعزم مهما كانت بسيطة، بعيداً عن ضياع الوقت بالسّخافات والنّزاعات الّتي لا طائل منها.   

غالباً ما تحمل الذّاكرة الإنسانيّة ثقل الظّلم من المجتمع، أو الظّروف، أو من الأفراد إلّا أنّ الإنسان قلّما يتساءل عمّا إذا كان قد ظلم نفسه. وإذا ما أدرك أنّه ظلمها فقلّما يحاول إعادة النّظر في الاهتمام بها. فلا يكفي أن نتساءل، ولا يكفي أن ندرك مدى الظّلم الّذي قد نلحقه بذواتنا، بل يجب أن نتجاوز الأمر إلى قرار الاستمتاع بالحياة. والمنبّه لهذا الاستمتاع هو الموت.

كلّ يوم يمضي هو من جهة خطوة متقدّمة نحو الموت ومن جهة أخرى يوم ناقص من الحياة، وإذا فكّرنا بشكل جيّد أدركنا كيفيّة العيش على هذه الأرض، وتمنّعنا عن تعقيدات كثيرة ومعوّقات أكثر تحول بين سلوكنا الحياتيّ الجافّ والاستمتاع الحقيقيّ بالحياة. والاستمتاع هو غير الاستهتار وعدم المبالاة بقيمة الحياة. وإنّما الاستمتاع هو أن نجعل الحياة أقلّ تعقيداً وأكثر سلاسة، فنهدم تلك الجدران العنيدة الّتي بنيناها بحسب ما يرى المجتمع والتّقاليد والأعراف وكلّ ما يمكن أن يقيّد الإنسان فكريّاً ونفسيّاً ويمنعه من الانطلاق والفرح وإدراك الجمال. وإذا فكّرنا بوعي أكبر فهمنا أنّ كلّ مرحلة من حياتنا مضت هي شكل من أشكال الموت. فعندما تمعن النّظر في الطّفل الّذي كنته – مثلاً- تدرك أنّه مات ولا تحمل منه إلّا الذّكرى، وكذلك كلّ مرحلة من الحياة. قد تتذكّر وتحزن وتشعر بالحنين وتودّ لو أنّك تستطيع أن تستعيد لحظة واحدة مضت، لكنّ الموت هو الموت. فتقبّل ببساطة وتواضع ومحبّة وتتطلّع إلى الآن والمستقبل ويبقى الماضي صديقاً أميناً تحمله في داخلك لتحيا بشكل أفضل،  لكنّه يبقى ماضياً مات ولن يعود.

إنّ قبول واقع الموت ببساطة وتواضع يمنح الإنسان آفاقاً واسعة من الإبداع والتّغلّب على الصّعوبات واحترام قيمة الحياة ومعناها. فتصحو مع كلّ صباح لترى أنّك حيّ ويمكنك أن تستمتع وتحلم وتحقّق ما يمكن تحقيقه من أحلام وأهداف وتتطوّر وتبدّل جزءاً من هذا العالم بتغييرك لنفسك. يكفي أن نعي أنّ الموت نهاية لنكوّن ثقافة الحياة ونمضي قدماً بشجاعة وثقة واستغناء عن متاهات لا حاجة لها، وعن صراعات غبيّة لا تستحقّ حتّى أن نتحدّث عنها.

فكّر وأعد النّظر بمفهومك للموت واعشق الحياة واستمتع بكلّ خطوة تخطوها ناجحة كانت أم فاشلة. فكّر بحريّة وأحبب كثيراً واغرف من اللّحظة ما أمكنك فأنت لا تملك سواها. أحبب حياتك وتأمّل جمالك أنت مهما كانت الظّروف واستمتع بالقليل أو الكثير؛ لأنّ على هذه الأرض ما يستحق الحياة.