السبت، 19 يناير 2019

السّعادة البشريّة وتجليّاتها الإلهيّة



مادونا عسكر/ لبنان
إنّ سرّ فرح الإنسان هو لقاؤه بالله. ولا يدرك هذا الفرح إلّا الّذين اختبروا عميقاً حضور الله السّعيد في أعماق نفوسهم. الله السّعيد أو الله السّعادة، ذلك هو فرح الإنسان الحقيقيّ والباقي تفاصيل تمهّد لهذا اللّقاء الّذي يستلزم نقاء القلب المحبّ. "طوبى للأنقياء لأنّهم يعاينون الله" (متّى 8:5).
لم يجد الإنسان تعريفاً حقيقيّاً للسّعادة؛ لأنّها غير مدرَكة في هذا العالم. ولعلّ مفهومها هشّ وسطحيّ عند الّذين يربطون السّعادة بالمادّة أو العاطفة أو النّجاح. إنّ هذه السّعادة ليست سوى حالة سرور مؤقّت ما تلبث أن تخمد في انتظار حالة جديدة. وأمّا اللّقاء بالله فهو حالة السّعادة الحقيقيّة الّتي لا تنتهي؛ لأنّ هذا اللّقاء يأسر الإنسان ويخرجه من ذاته ليغرق في القلب الإلهيّ. ومن يلج هذا القلب لا يمكنه العودة. فإذا كان الإنسان يدخل السّعادة في لحظة لقاء المحبوب الإلهي فكيف يمكن وصف السّعادة الإلهيّة؟ الإنسان ينتقل من حالة البؤس إلى حالة السّعادة عند اللقاء بالله، كما هو الحال في لحظة الخلق. بمعنى آخر، كان الإنسان حاضراً في الفكر الإلهيّ ثمّ خلقه الله على صورته كمثاله. وكما أنّه خُلق من صلب المحبّة الإلهيّة كذلك يُخلق من جديد من صلب السّعادة الإلهيّة. حين تلد الأمّ ابنها تشعر بسعادة لا يعرفها إلّا هي، ولا يدرك مكنونها إلّا الأمّ كمانحة للحياة. وترافقها هذه السّعادة كلّما التفتت إلى ثمرة أحشائها، وكلّما أعطت من ذاتها ليحيا ولدها وتظلّ تتنعّم بها إلى أن تلفظ أنفاسها الأخيرة. هذا الشّعور غير الموصوف الّتي تعجز اللّغة عن وصفه ويعجز العقل عن شرحه يمكن أن يجعلنا نتلمّس السّعادة الإلهيّة لحظة الخلق.
لقد خلق الله كلّ شيء بسعادة؛ لأنّه يرى أنّه حسن، أي أنّ فيه جمالاً خاصّاً. لكنّه لمّا أراد أن يخلق الإنسان قال: "لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا" (تكوين 26:1). والقول مرتبط بالصّنع، فدلالة القول تشير إلى أنّ الإنسان كان حاضراً في الفكر الإلهيّ والصّنع دلالة على ارتباط الفكر بالحبّ الإلهيّ، لأنّ الله صنع الإنسان على صورته، بعد أن خلق كلّ شيء بفعل "كن". (ليكن نور...) لكنّه لم يقل ليكن الإنسان، ما يدلّ على ارتباط مباشر وخاص بالصّورة الإلهيّة. وبعد خلق الإنسان نظر الله ورأى أنّ ما صنعه حسن جدّاً. تؤكّد عبارة (حسن جدّاً) سعادة اللّحظة، لحظة الخلق، اللّحظة الّتي خرج فيها الإنسان إلى نور الأرض. إنّها سعادة الله بالحضور الإنسانيّ، ولحظة انفجار الحبّ الإلهيّ الّذي أوجد الإنسان الّذي على صورة الله.

إذا كان في الأبناء شيء من صورة والديهم، فلا بدّ من أنّ في الإنسان صورة خالقه. ولا نقف عند الصّورة الماديّة، بل ندخل إلى عمق الصّورة وتفاصيلها. ففي الإنسان ما هو إلهيّ، وهنا ينبغي التّوقّف عند مفهومنا لله حتّى نتلمّس بعضاً من السّعادة الّتي ملأت الكون لحظة خلق الإنسان. كما يلزمنا أن نبتعد وننسى كلّ ما صُدّر إلينا عن الله  من إسقاط الفكر الإنسانيّ على الفكر الإلهيّ. ويعوزنا أن نرتقي ونرتفع إلى مستوى الكلمة الإلهيّة لندرك معنى السّعادة الإلهيّة.
الله ينظر إلى الإنسان بدهشة (ورأى أنّ ما صنعه حسن جدّاً). إنّها دهشة الحبّ الّتي تنعكس على الإنسان المتعطّش إلى جماله الأوّل (على صورته كمثاله). فيمسي في ذات الدّهشة عندما يلتقي بالنّور الإلهيّ. لذلك نرى كلّ العاشقين لله في حالة صمت وفرح واحتمال؛ وذلك لأنّهم يعاينون الصّورة الأصل والجمال الّذي خُلقوا على صورته. إنّها الدّهشة السّعادة الّتي تنمّي الحسّ الإنسانيّ الحقيقيّ. وإلّا فكيف نفهم سعادة الحلّاج المصلوب الّذي تفنّن في قتله مُعادو الجمال والحبّ؟ وكيف نتبيّن سعادة القدّيس أغناطيوس الأنطاكي وهو يخطو نحو الوحوش كما يطأ الملكوت؟ وكثيرون ممّن غمرتهم السّعادة الإلهيّة وأخرجتهم فعليّاً من العالم فتمازجت أرواحهم بالله، أدركوا السّعادة الّتي يبحث عنها كلّ إنسان. لكنّ الإنسان غالباً لا يعرف كيفيّة البحث، أم إنّه ينجذب إلى سعادة وهميّة فيبني حاجزاً بينه وبين السّعادة الإلهيّة.
الله السّعادة حقيقة يكتمل بها الإنسان وسيظلّ يتخبّط في قلقه وخوفه وفوضويّته ما لم يدرك هذه الحقيقة الّتي تعرّفه على سبب وجوده في العالم، ألا وهو اللّقاء بالسّعادة الإلهيّة.

السبت، 12 يناير 2019

وهْجَةٌ من صحوةِ السّرّ



مادونا عسكر/ لبنان
-1-
الهياكل تشكو تطفّل المعرفة
الأعمدة
تتهاوى في أروقة الفناء
من يدري؟
لعلّ الكون نائم في صحوة السّرّ
المعرفة والجهل
سيّان
ألستَ أنت
أن نخرج إلى النّور
إلى النّهار...
ألستُ أنا
أن أذوب في الأرض
لأستعيد اللّحظة الفكرة...
المعرفة قول
لم تدنُ منه الهياكل
ولم تحاكيه الأعمدة.
سنغدو
ريشةً
هائمة
في سحر الهواء
مفتونة بخفق اللّاشيء
نعانق النّور
ونلتقي
-2-
خفيةً
تسلّل فجرٌ واللّيل موصدٌ
وخفيةً
التحف البحر وشاح الإله
الماء،
قطرة تمدّدت
ثمّ انقبضت
في رحم الكون
لمّا رفرف الرّوح
هجعت الأحلام
هجد الحلم
-3-
نلتقي الآن
في زمن رضا عند الرّب
نموت قبل الموت
يُرجع الصّدى صوت السّنين المبدّدة
وكلّ الإشارات الغابرة
مجذوبة إلى فوق
أرواحٌ
أنهكها التّيّار الّرحيم
من أتلفه الشّوق
يُجيد الانتظار

الأحد، 6 يناير 2019

السّبيل إلى الكمال الإنسانيّ



نظرة في "درجات الكمال التّسع" للقدّيس يوحنا الذّهبيّ الفم
مادونا عسكر/ لبنان
كثيرون يبحثون عن الكمال وذاك مطلب إنسانيّ فطريّ يسعى إليه الإنسان. لكنّ هذا البحث عن الكمال غالباً ما يرتبط بالظّاهر الإنسانيّ فيتوه الإنسان عن الطّريق الحقيقيّ الّذي يبلّغه الكمال، خاصّة إذا كان غير مدركٍ لدلالة الكمال. أو يرتبط بالكمال الإلهيّ، وذاك غير ممكن دون المرور أوّلاً بالكمال الإنسانيّ. ما يسلّط الضّوء عليه القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم في "درجات الكمال التّسع"، مظهراً السّبيل إلى الكمال الإنسانيّ بهدف بلوغ الكمال الإلهيّ. وحين نتحدّث عن كمال إلهيّ لا نريد به المساواة مع الله. وإنّما الكمال الإلهيّ أو الاكتمال بالله هو اتّحاد عشقيّ يفوق التّصوّر كما يفوق قدرة الإنسان نفسه على العشق. فإذا بلغ الإنسان هذا الاتّحاد بلغ الكمال الحقيقيّ الّذي يخرجه من العالم ليحيا مع الله وبالله وهو في قلب العالم.
دخل القدّيس يوحنّا فم الذّهب في عمق التّركيبة الإنسانيّة المعقّدة، ولم يقف عند حدود الوعظ. فمعلّم المسكونة  يسهم في بناء الإنسان الكامل الّذي على صورة الله ومثاله.
 - الدّرجة الأولى: ألّا يبدأ الإنسان بظلم أخيه:
تتعدّد أوجه الظّلم ودرجاته. من الظّلم بالفكر، إلى القول، إلى الفعل. ولعلّ القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم أراد بالدّرجة الأولى معنى الظّلم الّذي ينطلق من الفكر الّذي لا يقلّ أهمّيّة عن الظّلم بالفعل. فالفعل نتيجة وبالتّالي فلا بدّ من استئصال الظّلم من الفكر أوّلاً حتّى لا يبلغ الظّلم الفعليّ. تلك هي الدّرجة الأولى الّتي تبدأ بتنقية الفكر أوّلاً فلا يبدأ الإنسان بظلم أخيه الإنسان. وعبارة (ألّا يبدأ) تضع الإنسان أمام حالته الأولى أو صورته الأولى الّتي على صورة الرّبّ، وتبقيه في حالة النّقاء حيث أنّه لا يقدم على ظلم أخيه ولا يكون المبتدئ بالظّلم. ما يعني أنّ المبتدئ بالظّلم لا يسعه ارتقاء أولى درجات الكمال؛ لأنّ في الظّلم تعدّياً على الآخر، وبالتّالي انفصال عن الله أي عن المحبّة. فكيف يمكن للإنسان عندها أن يخطو نحو الكمال؟
-  الدّرجة الثّانية: إذا أصيب الإنسان بظلم فلا يثأر لنفسه بظلم أشدّ، وإنّما يكتفي بمقابلة العين بالعين والسّنّ بالسّنّ (المستوى الناموسي القديم):
ينتقل القدّيس يوحنا الذّهبيّ الفم من الظّلم بالفكر ليعالج التّركيبة الإنسانيّة في ردود أفعالها. وهو الّذي يعي أنّه من غير الممكن أن يبلغ الإنسان الكمال دون الانتقال من مشروع إنسان إلى إنسان. كما أنّه من غير الممكن أن يتخلّى عن ردود أفعاله دون التّدرّب على ضبط النّفس ضمن إطار المحبّة وليس ضمن إطار القمع. (إذا أصيب الإنسان بظلم فلا يثأر لنفسه بظلم أشدّ)، وما عبارة (بظلم أشدّ) إلّا تدريب على ضبط النّفس فيكتفي الإنسان بردّة فعل طبيعيّة تجاه الظّلم الّذي أصابه. ويعامِل بحسب ما عومل وبحسب الطّبيعة الإنسانيّة الّتي ما زالت عند حدود الإنسان القديم الّذي لم يولد بعد من جديد بالمسيح. فالمولود من جديد مولود بحسب الرّوح فيصبح ابناً لله. وبحسب هذه البنوّة يتصرّف. ما يقودنا إلى الدّرجة الثّالثة.

 -
الدّرجة الثّالثة: ألّا يقابل الإنسان من يسيء إليه بشرّ يماثله، إنّما يقابله بروح هادئ:
إنّ ضبط النّفس هو ضبط فكريّ ونفسيّ في آن. فالإنسان إذا ما بلغ الدّرجة الثّالثة انشغل عن العالم مهتمّاً بما فوق. فيمتلئ هدوءاً وسكينة  تسمحان له بمقابلة فعل الشّرّ بصمت الحكمة والتّفهّم والمحبّة. وإلّا فكيف يقابل الإنسان الشّرّ بروح هادئ ما لم يكن ممتلئاً بالحبّ الإلهيّ؟ هذا الاستيعاب الفكريّ والنّفسيّ والرّوحيّ دليل تمرّس بالمحبّة الإلهيّة لأنّ الطّبيعة الإنسانيّة تميل إلى مقابلة الشّرّ بالشّر، إمّا انطلاقاً من الحقوق والواجبات، وإمّا انطلاقاً من ردّة الفعل التّلقائيّة دفاعاً عن النّفس. ومقابلة الشّرّ بروح هادئ لا تلغي الدّفاع عن النّفس كما يظنّ البعض، بل إنّ الرّوح الإنسانيّة الهائمة في المحبّة الإلهيّة تدرك عمق الآخر فتقابل بهدوء  لتُعمل الحكمة أي العقل المستنير في كيفيّة التّعامل مع هذا الفعل.  
 - الدّرجة الرّابعة: يتخلّى الإنسان عن ذاته، فيكون مستعدّاً لاحتمال الألم الّذي أصابه ظلمًا وعدوانًا :
يتّسم قول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم بالدّقّة: (يتخلّى الإنسان عن ذاته) فهو إن تمسّك بها أي إن تمسّك بإنسانيّته الخارجة عن المحبّة الإلهيّة فلن يكون مستعدّاً لتحمّل أي شيء. والتّحمّل قدرة تلقائيّة نتيجة الدّرجات الثّلاث الأولى. وهو يتطلّب وعياً شديداً ومحبّة كبيرة حتّى لا يستحيل إلى خضوع واستسلام. فالفرق شاسع بين الاستسلام والتّحمّل. الاستسلام خضوع لفعل الشّر وضعف وخوف. وأمّا التّحمّل فهو بهدف الارتقاء والتّرفّع عن فعل الشّر الّذي يهين المحبّة الإلهيّة ويجرح الله في صلب محبّته. فيكون تحمّل الظّلم إدراكاً لأسباب الفعل بقوّة وحكمة المحبّة.
 - الدّرجة الخامسة: في هذه المرحلة لا يحتمل الألم وحسب، وإنّما يكون مستعدًا في الدّاخل أن يقبل الآلام. أكثر مما يودّ الظّالم أن يفعل به، فإن اغتصب ثوبه يترك له الرّداء، وإن سخّره ميلًاً يسير معه ميلين:
قبول الآلام جزء لا يتجزّأ من المحبّة. وعلى عكس ما يظنّ البعض أنّ احتمال الألم نوع من تخدير للطّاقة الإنسانيّة. الاحتمال يحتاج إلى قوّة محبّة هائلة لا يقوى عليها إلّا من امتلأ حبّاً. "المحبّة تحتمل كلّ شيء، وتصدّق كلّ شيء، وترجو كلّ شيء، وتصبر على كلّ شيء." (1كورنثس 7:13). المحبّة تحتمل وتصدّق وتصبر، لأنّها قوّة بمنطق الله لا بمنطق العالم. ومن يتدرّج سلّم الكمال لا بدّ من أنّه تمنطق بالمحبّة الإلهيّة ووعى أنّها فعل إلهيّ لا إنسانيّ.
في الدّرجة الخامسة، بعد أن تخلّى الإنسان عن ذاته، أي أفرغها من التّشوّهات وامتلأ من الله يكون مستعدّاً ليحتمل الألم النّاتج عن غربته في العالم. لذلك يستغني عن كلّ شيء ويمسي كلّ مقتنىً غير مهمّ ولا قيمة له، لأنّ المحبّ خرج من منطق العالم وبات مأخوذاً بالنّور الإلهيّ. فأيّ قيمة لمقتنىً أو ملك أمام عظمة الله. "بل إنّي أحسب كلّ شيء أيضاً خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربّي، الّذي من أجله خسرت كلّ الأشياء، وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح" (فيليبي 8:3). وليس الحديث هنا عن آلام جسديّة؛ لأنّها أمر طبيعيّ، وإنّما الحديث عن ألم المحبّة.
 - الدّرجة السّادسة: أنّه يحتمل الظّلم الأكثر ممّا يودّه الظّالم دون أن يحمل في داخله كراهيّة نحو العالم:
يفقد السّالك درب الكمال كلّ قدرة على الكراهية؛ لأنّه ممتلئ بالمحبّة ومستنير بها. والامتلاء بالمحبّة يتحدّد بالقدرة العقليّة على الاستنارة والتّفكير بالمنطق الإلهيّ. كما يتبيّن من خلال السّلوك الّذي ينطلق من الحبّ الإلهي لا من الحبّ الإنسانيّ. يلغي هذا الامتلاء كلّ قدرة على الكراهية أو الحقد أو النّقمة فيصبح الإنسان حاملاً الطّبع الإلهيّ إن جاز التّعبير، غير مدرك لمعنى الكراهية أو الحقد.
-  الدّرجة السّابعة: لا يقف الأمر عند عدم الكراهيّة وإنّما يمتدّ إلى الحبّ... "أحبّوا أعداءكم":
لا يكفي ألّا نكره فالفاقد للإحساس لا يكره ولا يحبّ. وقد يمرّ أي إنسان في هذه الحياديّة إذا ما بلغ حدّة ما في مشاعره أو تعرّض إلى أذى شديد. إلّا أنّ الكمال لا يعرف هذه الحالة، لأنّ الإنسان السّاعي إلى الكمال مغمور بالمحبّة كفضيلة إلهيّة لا كشعور عاطفيّ تجاه أشخاص محدّدين. ولقد استند القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم على قول السّيّد المسيح "أحبّوا أعداءكم" ولعلّ الكلمة الأصحّ الّتي تضبط المعنى أكثر هي (معاديكم). فيصبح القول "أحبّوا معاديكم". لأنّ المحبّ العاشق لله لا أعداء له؛ لأنه لا يعتبر أحداً عدوّه.  لكنّه يواجه معادين للمحبّة. واللّافت في هذه العبارة (أحبّوا أعداءكم) أنّ الفعل (أحبّوا) في صيغة الأمر. ما يعني أنّ الحبّ الإلهيّ قرار وفعل إراديّ. الكمال هو أن تقرّر أن تحبّ. ما يصعب على الذّات الإنسانيّة المنفصلة عن المحبّة الإلهيّ، غير الممتلئة بها. لذلك نرى الإنسان يتخبّط بين مشاعر الحبّ والكره، وذلك لأنّ الحبّ الإنسانيّ عاطفة هشّة.
 - الدّرجة الثّامنة: يتحوّل الحبّ للأعداء إلى عمل، وذلك بصنع الخير "أحسنوا إلى مبغضيكم"، فنقابل الشرّ بعمل خير:
يدخلنا القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم في دائرة العمل الإلهيّ، عمل الحبّ. تقرّر أن تحبّ فتفعل وتعمل من أجل أن يمتلئ الكون كلّه حبّاً حتّى يتلاشى الشّرّ ويندثر. في الدّرجة الثّامنة، تبرز قيمة الخير كقوّة محوّلة لفعل الشّرّ. فمقابلة الشّرّ بالخير حكمة لا يفهمها إلّا من تمنطقوا بالمحبّة الإلهيّة. "أيّها الحبيب، لا تتمثّل بالشّرّ بل بالخير، لأنّ من يصنع الخير هو من الله، ومن يصنع الشّرّ، فلم يبصر الله." (3 يوحنّا 11:1) الممتلؤون من الله، من الحبّ يترفّعون حكماً عن كلّ ردّة فعل منافية للمحبّة، لأنّه إذا أبصرت الحبّ ومازجت روحك روحه فكيف لك ألّا تقابل كلّ أمر بالحبّ؟
 - الدّرجة التّاسعة والأخيرة: يصلّي المؤمن من أجل المسيئين إليه:
ذروة الكمال الدّخول في سرّ الحبّ، الصّلاة، الصلة بالله الحبّ. فالصّلاة ليست ترداداً لآيات وعبارات، وإنّما هي صلة عميقة بالله. صلاة في داخل الدّاخل من أجل أن يغزو الحبّ العالم حتّى يخلص من شقائه. وبذلك وإذا ما بلغ الإنسان رتبة الكمال امتزج بالله وبالإنسان. فالحبّ يسير باتّجاه عموديّ نجو الله وآخر أفقيّ نحو الإنسان وإلّا فكيف يمكن أن تحبّ الله الّذي لا تراه ولا تحبّ أخاك الّذي تراه؟ (1يوحنّا 20:4).

الألم الواعي في مواجهة الزّيف



مادونا عسكر/ لبنان
المرحلة الأخطر الّتي يمكن أن يبلغها الإنسان في مراحل حياته هي تلك الّتي يُشعره فيها العالم أنّه على خطأ إذا ما حافظ على مبادئه وقناعاته. فينهكه الصّراع الدّاخليّ بين الصّواب والخطأ، وقد يهزمه ويحوّله إمّا إلى الانعزال، وإمّا إلى الانجرار إلى تفاهات هذا العالم، وذلك بحكم عدم القدرة على المقاومة.
يجب أن نعترف أنّ هذا العالم الفاني لا يحمل الكثير من الفرح والاكتفاء للإنسان، وذلك بغضّ النّظر عن قناعاتنا الدّينيّة والفكريّة، وبغضّ النّظر عمّا سيؤول إليه هذا العالم. العالم، كمرحلة مؤقّتة، قصيرة كانت أم طويلة، هي مرحلة مربكة للتّفكير، كما أنّها تفترض تساؤلات عديدة في مواجهة إجابات شحيحة. والّذين يعيشون على هامش الحياة لا يلتفتون إلى أهمّية التّعمّق في جوهر العالم وقيمته وسببه وغايته. فهم يحاولون الاستفادة قدر الإمكان من ماديّة العالم ظنّاً منهم أنّ الحياة تكمن في تلك القيود الذّهبيّة. ومن قيد إلى قيد، يغرقون في دوّامة المادّة حتّى تشكّل عبئاً من العسير التّفلّت منه. ترادف دلالة المادّة كلّ ما هو فانٍ، وما هو الباقي في هذه الحياة؟
 يؤدّي هذا التّعلّق بالمادّة الفانية إلى ما نراه من حولنا من فساد وإهمال واستهتار وتفاهات لا تُعد ولا تحصى دون الأخذ بعين الاعتبار "الأنا" الّتي ينبغي البحث عنها. فيقتصر الموضوع على الاهتمام بالأنا الخارجيّة. وكلّما تمسّك الإنسان بأناه الظّاهريّة ابتعد عن أناه الحقيقية وعن الآخر أو اقترب منه بقدر ما تسمح المصلحة. فتمسي العلاقات مرتبطة بالمصلحة إيجابيّاً أو سلبيّاً وغير مرتبطة بالشّخص كشخص. المادّة نقطة التقاء زائفة تجعل من الحياة الظّاهريّة وهماً، لكنّها في العمق تخفي حقيقة تحتاج للبحث والتّأمّل. تلك الحقيقة لامسها أفراد قليلون فانعزلوا ليتعاملوا معها كحياة حقيقيّة. وما انعزالهم إلّا تفرّد في اتّخاذ قرار مقاومة العالم. فينفصلون عن العالم ولا يتعلّقون بشيء فيتحرّرون من كلّ شيء. يقاومون بعنف هادئ، بألم يرتقي بهم إلى مستوى الحقيقة، بحبّ لا يعرفه العالم. ولو عرفه لأدرك الموت الّذي يحياه. هؤلاء المنعزلون يعانون ما يعانون لا من العزلة بل من مستوى الإدراك الّذي بلغوه، وهو الحقيقة الزّائفة الّتي يحياها العالم، ويستمتع بها. الألم الحقيقي يكمن في قوّة الوعي، وبلوغ النّضج الّذي يسلّط الضّوء على عتمة الجهل الكامن في النّفس الإنسانيّة، فيهجرون أنفسهم ليلقوها في دائرة الحقيقة، دائرة العشق. وهم في هذه الدّائرة يواجهون العالم بصمت وحكمة ولكن بألم، ألم الواعين الّذين ما برحوا في العالم وهم منفصلون عنه. هم لا يقاومون أشخاصاً وإنّما منهج العالم الّذي لا يمثّلهم ولا ينتمون إليه.
من هذه المقاومة يتفجّر الفكر والجمال والحكمة، لأنّها على اتّصال بالحبّ، ولأنّها مقاومة داخليّة غير ظاهرة للعلن تسهم في التّوازن الإنساني والتّوق إلى ما بعد هذا العالم، حيث الحرّيّة والاكتمال. فيؤثّرون في بعض النّفوس، وينتشلونها من بؤسها الإنسانيّ، ويربكون أخرى مستعبدة.
هذا العالم بكلّ ما فيه بقعة ضوء باهتة يتصارع فيها الإنسان معها ومع ذاته دون أن يفهم سبب هذا الصّراع. يهدر الكثير من الوقت في بناء حقيقته الهشّة غير متنبّه إلى حقيقة أسمى ولد من أجلها ويخلص إليها. ولا يبلغ سلام القلب إلّا بقدر ما يستغني عن العالم غير متعلّق به، حاسباً إيّاه لحظة عابرة في أبديّة قائمة. 

الله بين تصوّر العلم والاختبار والحبّ



مادونا عسكر/ لبنان
الّذين يكرهون الله لا يعلمون أنّهم يحبّونه بشكل أو بآخر. فالمسألة غير متعلّقة بإرادتهم في الحبّ الموجّه إليه، بل هي متعلّقة بنوره المشرق على الأبرار والأشرار. في المنطق الإلهيّ، ليس من أشخاص أشرار، وإنّما أفعال شرّيرة تخاف النّور فتبني جداراً يعزلها عنه. وأمّا هو فحاضر أبداً.
الّذين يكرهون الله ويتّهمونه ويعيدون إليه أسباب مآسيهم ومعاناتهم، هم أولئك الّذين تربّوا على أنّ الله، إمّا حاكم متفرّغ لقهر الإنسان، وإمّا شخص مكرّس لتلبية طلباتهم. فيبقون عند مرحلة الطّفولة في ما يخصّ العلاقة معه. أطفال، إذا ما رُفضت طلباتهم، ثاروا وتحوّلوا إلى مُعادين. لكنّ هذا العداء يخفي حبّاً يتلازم والطّبيعة الإنسانيّة الّتي ما زالت في أسفل الدّائرة تحاكي رغباتها السّطحيّة والفانية. فالتّعلّق بأسفل الدّائرة الوجوديّة يحجب نظر الإنسان ويعيق التطلّع إلى فوق. ما يمنع بناء علاقة مع الله، لأنّ الحبّ البشريّ لا يستطيع أن يتسلّق مدارج النّور. ولئن كان الحبّ البشريّ مجموعة مشاعر قابعة في مستنقع الضّعف البشريّ، والتّناقض العاطفيّ، ارتبط بتصوّرات خاصّة عن الله غير معنيّة باختبار قلبيّ عميق، على ضوئه يلتقي بالله الشّخص، الله النّور، الله الحبّ. ما يحول بين الإنسان وهذا الاختبار هو إسقاط الأفكار الشّخصيّة على الفكر الإلهيّ بدل الانقياد إلى هذا الحبّ. أي أنّ الإنسان يريد إلهاً على قياس بشريّته الفانية. وفي ذات الوقت يريد إلهاً حاضراً له بشكل خاص، خاضعاً لرغباته، مذعناً لتساؤلات أشبه بتحقيق وعلى الله أن يجيب عليها وإلّا تمّت معاداته. ليست المشكلة في التّساؤلات، بل هي مشروعة ومطلوبة حتّى تتشكّل علاقة واعية بين الإنسان والله. لكنّ المشكلة في عدم احترام الإنسان لاختلاف الله عنه. وهذا يعود إلى التّربية القمعيّة الّتي تستبعد احترام الاختلاف. ما يؤدّي إلى تشكّل مشاعر الكره والعداء والرّفض وربّما المحاربة.
من أصعب المراحل الّتي تمرّ فيها النّفس الإنسانيّة هي تلك الّتي تحيا قلق محاربة الله. وهي لا تعي أنّها تحارب عبثاً، لأنّ الطّرف الآخر، أي الله، لا ينحدر إلى مستوى ردود الأفعال الإنسانيّة، وإلّا لانقرض الجنس البشري منذ البدء. فالله لا يحمل في ذاته أفعالاً وردّات أفعال، ولا يفعل أو لا يفعل. إنّه الفعل. النّور المتسرّب بصمت منتظراً تفاعلاً من الإنسان. الّذي يحارب الله يحارب ذاته ويتخبّط في مفاهيم وحقائق يلتقطها من هنا وهناك ويستند إليها وكأنّها حقائق مطلقة. فيقلق ويتساءل ويمعن في التّساؤل الّذي لا ينتظر جواباً، لأنّه يريد إدانة الله لا الحوار معه.
إنّ الّذين يطّلعون على حقائق ودراسات عن الكون والوجود ونقطة البداية والنّهاية، والدّراسات التّاريخيّة، يظنّون أنّهم كشفوا حقيقة الله المزيّف. بيد أنّ كلّ هذه الدّراسات والحقائق تبقى ضمن إطار التّجربة الإنسانيّة. وبناء عليه وجب الفصل بين الاقتناع بها والعلاقة مع الله. أن يبدأ الكون بشكل ما أو ينتهي بشكل آخر، فذاك لا يلغي الوجود الإلهيّ. فموضوع هذه الدّراسات ليست الذّات الإلهيّة، وإنّما هي بحث عقلانيّ عن حقيقة الوجود ولا ريب في ذلك. والبحث في التّاريخ الإنسانيّ وتبيّن أحداث معيّنة قد تتناقض والموروث الدّينيّ والإيماني لا تمس الحضور الإلهيّ، وإنّما تعبّر عن مسيرة الإنسان واختباراته التّاريخيّة الإنسانيّة. ولا يستطيع الإنسان أن يخضع الحضور الإلهيّ لفلسفته ومنطقه العقلانيّ؛ لأنّه ليس أمام معادلة حسابيّة أو فكرة. لذلك فالّذين بعد قراءات ودراسات علميّة وفلسفيّة وتاريخيّة واختبارات شخصيّة يكرهون الله أو يستبعدونه أو يرفضون مبدأ حضوره، هم عمليّاً لم يبلغوا شيئاً من المعرفة عن الله. فمعرفة الله مقتصرة على المعرفة القلبيّة أوّلاً، ثمّ العقليّة. ولا بدّ من فصل بين معرفة الله ومعرفة الحقائق الّتي يختبرها الإنسان عن الله. والفرق شاسع، فالأولى تعتمد على الحبّ الإلهيّ الّذي يجذب قلب الإنسان ويستحوذ عليه، وعلى التّفاعل الإنسانيّ القلبيّ. وأمّا الثّانية فتعتمد على مختلف الاختبارات الإنسانيّة الفكريّة والوجوديّة.
لم نسمع أو نقرأ عن متصوّف قال إنّه عرف الله، لأنّه يعي في عمق ذاته ومعرفته أنّه لم يعرف إلّا بعضاً من نوره وبلغ بعضاً من حبّه. وذاك يعود إلى إدراك العاشق الإلهيّ أنّه أمام حضور الحبّ الّذي يفوق كلّ تصوّر وكلّ منطق. ولأنّه تلمّس اللّغة الإلهيّة وانغمس فيها فاستنار وولج النّور وبات يرى الأمور من منطلق إلهيّ، ويفهم انطلاقاً من الفكر الإلهيّ ويحبّ الله بقلب الله لا بتفاعلاته البشريّة.
إنّ البشر على اختلاف أفكارهم وانتماءاتهم ومعارفهم ودرجات فهمهم ومستوياتهم العقليّة المتفاوتة، يتصوّرون الله بشتّى الطّرق. وأمّا العاشقون لله ورغم التّباعد الزّمني بينهم، أو اختلافاتهم الفكريّة والعقائديّة والمعرفيّة، إلّا أنّهم على فكر واحد، فكر المحبّة. يقودهم النّور إلى النّور فينسلخون عن مشاعرهم وعواطفهم ويمتلئون حبّاً وعشقاً، ويلجون العمق الإلهيّ بصمت وتواضع فيغتنون ويغنون.

التّطويبات الإلهيّة استفزاز للطّاقة الإنسانيّة المنطبعة بروح الله (متى 12،1:5)



مادونا عسكر/ لبنان
وأنت تبحث عن الله في في الجدالات الّتي لا تنتهي، والعلوم المتلازمة والدّقّة الحرفيّة وعجز اللّغة. وأنت تجاهد في سبيل أن تحتكر الحقيقة وتفرضها بعنف العقل وقسوة القلب، تغلق منافذ النّور دون أن تعلم، وتبرح مكانك في أسفل الدّائرة، مسجوناً في هوّة مظلمة مانعاً عن بصيرتك نور الله.
بالمقابل، يقتل الإنسان الكلمة الإلهيّة حين يعتبر أنّها موجّهة له فقط، وأنّه الحارس الوحيد لها، وأنّ الله يعوزه اللّجوء إلى العقل الصّغير الضّيّق المحدود لينثر نوره في العالم. إنّ النّور الإلهيّ حاضر منذ البدء. لا بدء له ولا نهاية، ولا يحدّه مكان وزمان وإنسان. يتسرّب إلى الدّاخل الإنسانيّ بقدر ما يسمح له هذا الدّاخل بالولوج عميقاً. لكنّ ثمّة لحظة خاطفة غير مفهومة أو غير مدركة أو معلومة يخطف فيها النّور محدوديّة العقل وخفقان القلب. فيتحوّل الإنسان وينقلب رأساً على عقب. فيولد من جديد، من فوق، وينقاد إلى النّور بالنّور نحو النّور. ويتدرّج في الدّائرة النّورانيّة حتّى يبلغ أقصى درجات العمى، والصّمم. يتلاشى الظّاهر الإنسانيّ ليتجلّى الإنسان الممتلئ من الله.
لكلّ إنسان اختباره الشّخصيّ في هذه العلاقة الحميمة مع الله، ولكلّ إنسان رؤاه، لكنّ النّور واحد والعشق واحد. وإن تعدّدت الطّرق يبقى الهدف واحداً، وتبقى الوسيلة الوحيدة تسليم القلب وتنشيط العمق الإنسانيّ والاهتمام بما فوق ليحلّ السّلام أسفل.
تطويبات تسع تنتقل بنا من العمق الإنسانيّ نحو العمق الإلهيّ بحسب المنطق الإلهيّ. قد يبدو للقارئ أنّها تدور في عالم الإلهيّات ويصعب على الإنسان سلوكها. بيد أنّ هذه التّطويبات التّسع تستفزّ الطّاقة الإنسانيّة المنطبعة بروح الله. ولمّا كان الإنسان يتنفّس بروح الله، ولمّا كان مخلوقاً على صورته كمثاله فلا بدّ من أنّه قادر على السّلوك إلهيّاً. بمعنى آخر، لا بدّ من أنّه قادر على السّماح للعشق أن يستبيح كيانه. فيعشق الله ليعشق الإنسان، ويمدّ يداً نحو الله وأخرى نحو الإنسان. فتتّصل السّماء بالأرض ويصبح الوجود واحداً.
"طوبى للمساكين بالرّوح لأنّ لهم ملكوت السّماوات"
من المهمّ جدّاً أن نضبط العبارات قبل الولوج فيها، فلا نتوقّف عند الظّاهر الحرفيّ مستبعدين وهج النّور الإلهيّ الّذي يفيض منها. الطّوبى، الفرح والهناء المرتبطة بالرّوح الفقيرة المستغنية إراديّاً عن كلّ غنىً مزيّف تبلّغ الإنسان قلب الله (ملكوت السّماوات). وبما أنّ النّصّ يبدأ بلفظ الرّوح، فلا ريب أنّه خرج عن الإطار الأرضيّ وبدأ من أعلى السّلّم. ما يعني أنّ الإنسان حاضر في السّماء (قلب الله) منذ اللّحظة الأولى، منذ البدء. والحالة الأصيلة للإنسان هي تلك الّتي تبدأ من أعلى لا من أسفل. والبدء من أسفل ما هو إلّا خطوات متعثّرة، تحصر الإنسان في الوجود الأرضيّ وحسب. وأمّا الفقر الرّوحيّ فهو إدراك عميق بالحياة الحقيقيّة الكامنة فيه، الحياة الإلهيّة. ليس ملكوت السّماوات نتيجة، بل إنّه حتميّة الوجود الإنسانيّ. لذلك يحيا البعيدون اضطراباً تلقائيّاً بعيداً عن الله. قد يكون اضطراباً معرفيّاً أو قلقاً وجوديّاً أو بحثاً عن الحقيقة وسط الفوضى العارمة. لكنّ القريبين يرون جليّاً الوجود الإلهيّ فيستغنون عن كلّ شيء بفعل الانجذاب والشّوق والإصرار على تحطيم أيّ حاجز يمكن أن يشكّل عائقاً بين القلب والرّؤية الإلهيّة. تلك هي الدّرجة الأولى الّتي تمهّد للقاء حميم، وتعزّز الحرّيّة الإنسانيّة بما يليق بها إلهيّاً.
في الدّرجة الثّانية نحو قلب الله يصوم الإنسان عن العالم ليفطر على العشق، غذاؤه الحقيقيّ وقوته الّذي لا يفنى. فيبلغ ما يبلغه من فرح عميق يمازجه حزن أعمق. ذلك الحزن الإلهيّ البهيّ الّذي يوقد نار العشق فيلتهب الكيان كلّه ويحترق شوقاً إلى الله. إنّه الحزن الّذي يُعزَّى بنور الله فقط. الحزن الّذي لا يعرفه من هم بعيدون، أو من هم متمسّكون بالقشور. وهو الحزن النّاتج عن الفرح، على عكس ما يتوقّع العالم. الفرح بالحضور الإلهيّ يقود إلى الحزن البهيّ الرّفيع الّذي يدفع الإنسان إلى المزيد من الاقتراب، وإلى المزيد من الاتّصال بدافع الاشتياق الّذي لا ينتهي.  (طوبى للحزانى، لأنهم يتعزّون.) وبقدر ما يتملّك الحزن البهيّ من القلب يتواضع ويحيا السّلام. (طوبى للودعاء، لأنهم يرثون الأرض.) فيخطو نحو الدّرجة الثّالثة (الوداعة) ليهيم في الأرض، لا التّرابيّة وإنّما الكونيّة. فإذا كانت الدّرجة الأولى مبتدئة في قلب الله، فلا ريب أنّ الآية لا تشير إلى الأرض كوجود مؤقّت وإنّما إلى الأرض بمعناها المرتبط بالوجود الواحد، الوجود الإلهيّ.
لكنّ  الفقر والحزن والوداعة تولّد جوعاً وعطشاً مستديمَيْن، دلالة على عيش السّماء. فالعشق الّذي يرتوي ويشبع لا يعوّل عليه ولا يمتّ بصلة إلى مفهوم العشق الإلهيّ. بل إنّ العطش يرتوي بالعطش، والجوع يشبع بالجوع، وهكذا ينتقل العاشق لله من جوع إلى جوع ومن عطش إلى عطش (طوبى للجياع والعطاش لأنّهم يشبعون). وهي الدّرجة الرّابعة الّتي يتدرّج بها العاشق داخل القلب الإلهيّ فيمتلئ رحمة بل يصبح كتلة رحمة متنقّلة في العالم. والرّحمة، الدّرجة الخامسة، هي التّفهّم والإحساس بالآخر أيّاً كان سلوكه. وذاك لا يعني التّبرير، وإنّما الرّحمة درجة روحيّة تمكّن العقل من العودة إلى الأصل في تفسير الأمور والوقائع وتفهّمها بهدف التّغيير والتّحوّل نحو الخير والحقّ والجمال. الرّحمة بحث عن الجمال في الإنسان، ومتى تمكّنّا من استخراج الجمال الإنسانيّ أمسكنا بيده ليمكث معنا في قلب الله. (طوبى للرّحماء لأنّهم يُرحمون).  ويمكن قلب الألفاظ في هذه الآية فتكون النّتيجة سبباً والسّبب نتيجة (طوبى لمن رُحموا لأنّهم يَرحمون). فمتى شعر الإنسان بالحضور الإلهيّ واستحوذ عليه العشق وتمنطق عقله بالفكر الإلهيّ فلا بدّ من أنّه سيرحم الآخر انطلاقاً من رحمة الله له. لذلك ذروة الصّلاة تكمن في طلب الرّحمة من الله. بهذا الطّلب يدرك الإنسان أنّه قاصر عن عشق الله كما ينبغي، وغير قادر بحكم الضّعف الإنسانيّ بلوغ أقصى درجات العشق. ومع ذلك فالله يرحمه ويفهمه فيرحم بدوره ويتفهّم.
في الدّرجة السّادسة (طوبى لأنقياء القلوب لأنّهم يعاينون الله) تنكشف عناصر النّقاء القلبيّ: الفقر الرّوحيّ، الوداعة، الجوع والرّحمة. النّقاء القلبيّ يبلّغ الإنسان علاقة عشق صرف مع الله. فهو يعشقه لا لهدف آخر إلّا العشق، ما يقوده إلى المعاينة. والمعاينة من (عاين) أي رأى وشاهد بعينيه، تدلّ على الحالة الإلهيّة الّتي بلغها الإنسان. بمعنى آخر تستحيل حاسّة النّظر حاسّة فاعلة بحسب الحضور الإلهيّ. فيرى العاشق ما لا يراه النّاس. وإلّا فكيف يقيم حواراً مع من لا يراه. وكيف يعشق من لا يعرف ولا يرى؟ العين الآرضيّة هي غير العين السّماويّة. العين الأرضيّة التّرابيّة تعاين التّراب وأمّا عين القلب، تعاين الله. ومتى عاين الإنسان الله فماذا يحتاج بعد؟
إنّ الولوج في قلب الله ومعاينته والامتزاج به ليس بالأمر اليسير لأنّه يفترض سلوكاً بحسب هذه المعاينة وهذا الامتزاج. المعاين لله تتأصّل علاقته بالنّور وينغمس في المنطق الإلهيّ وفي منطق الجمال. وأهمّ ما يعكسه الجمال، السّلام، الدّرجة السّابعة. (طوبى لصانعي السّلام، لأنّهم أبناء الله يدعون.)  ينبغي التّدقيق في عبارة (صانعي السّلام)، فالسّلام يُصنع ويُبنى بجدّ وتعب والطرّيق إليه مضنٍ وشاق، لأنّه يستلزم الكثير من الحبّ. والحبّ الإنسانيّ لا يجيد ذلك بمفرده بل هو يحتاج إلى الحبّ الإلهيّ. ولهذه الدّرجة السّابعة دلالة الكمال المشار إليها بالعدد (7) الّذي يرمز إلى الكمال. فالدّرجات السّبع الأولى تؤدّي إلى اكتمال الإنسان بالعشق. فينفصل نهائيّاً عن إنسانيّته الهشّة والحياة بالقوّة ليحيا الحياة بالفعل، الحياة الإلهيّة. لكنّ هذا الاكتمال يشكّل دينونة للعالم. بمعنى آخر، سيكون بمواجهة مع العالم، مع السّلوك الفاسد. فالنّور، إذا ما كشف الحقائق هدّد مصالح كثيرة، وأربك السّياق الإنسانيّ المنحدر بالإنسانيّة إلى الهاوية المظلمة. لكنّ العاشق بلغ ما بلغه من نعيم بالحضور الإلهيّ والاستنارة الإلهيّة، فأخرجاه من العالم قبل أن يطرده العالم:
 طوبى للمطرودين من أجل البرّ، لأنّ لهم ملكوت السّماوات.
 طوبى لكم إذا عيّروكم وطردوكم وقالوا عليكم كلّ كلمة شريرة، من أجلي، كاذبين.
الطّوبى الثّامنة والتّاسعة، درجتان تكمنان في ما بعد الاكتمال. حالة من الاستنارة والخروج من العالم. فلا يشعر العاشق إلّا بالحضور الإلهيّ. لذلك يحتمل الطّرد والاضطهاد والنّبذ. عمليّا هو لا يحتمل بالمفهوم الظّاهري للكلمة، بل هو أمر فوق مفهوم الاحتمال. العاشق حاضر هناك، في قلب الله، وليس حاضراً هنا. فيمسي الاضطهاد أمراً بديهيّاً بل مطلوباً للتّأكيد على الاكتمال بالله. أي أنّ العاشق المكتمل يفهم الاضطهاد على أنّه ارتباك واضطراب طبيعيّ من قبل من لا يفهمون ماهيّة العشق ومن لا يرون النّور الإلهيّ. فيسعد ويفرح وهو الّذي بلغ رتبة الأنبياء من حيث أنّه يحمل الكلمة الإلهيّة والنّور الإلهيّ. ما يبلّغه الدّرجة العاشرة الّتي يرمز ترقيمها إلى منتهى الكمال (10)، الّرقم الّذي يجتمع فيه رقم الكمال (7) مع (3) رمز العالم الإلهيّ، ذروة العشق وذروة الاستنارة.  (افرحوا وتهلّلوا، لأنّ أجركم عظيم في السّماوات، فإنّهم هكذا طردوا الأنبياء الّذين قبلكم.)

وهْجَةٌ من صحوةِ السّرّ



مادونا عسكر/ لبنان
-1-
الهياكل تشكو تطفّل المعرفة
الأعمدة
تتهاوى في أروقة الفناء
من يدري؟
لعلّ الكون نائم في صحوة السّرّ
المعرفة والجهل
سيّان
ألستَ أنت
أن نخرج إلى النّور
إلى النّهار...
ألستُ أنا
أن أذوب في الأرض
لأستعيد اللّحظة الفكرة...
المعرفة قول
لم تدنُ منه الهياكل
ولم تحاكيه الأعمدة.
سنغدو
ريشةً
هائمة
في سحر الهواء
مفتونة بخفق اللّاشيء
نعانق النّور
ونلتقي
-2-
خفيةً
تسلّل فجرٌ واللّيل موصدٌ
وخفيةً
التحف البحر وشاح الإله
الماء،
قطرة تمدّدت
ثمّ انقبضت
في رحم الكون
لمّا رفرف الرّوح
هجعت الأحلام
هجد الحلم
-3-
نلتقي الآن
في زمن رضا عند الرّب
نموت قبل الموت
يُرجع الصّدى صوت السّنين المبدّدة
وكلّ الإشارات الغابرة
مجذوبة إلى فوق
أرواحٌ
أنهكها التّيّار الّرحيم
من أتلفه الشّوق
يُجيد الانتظار