الأحد، 6 يناير 2019

التّطويبات الإلهيّة استفزاز للطّاقة الإنسانيّة المنطبعة بروح الله (متى 12،1:5)



مادونا عسكر/ لبنان
وأنت تبحث عن الله في في الجدالات الّتي لا تنتهي، والعلوم المتلازمة والدّقّة الحرفيّة وعجز اللّغة. وأنت تجاهد في سبيل أن تحتكر الحقيقة وتفرضها بعنف العقل وقسوة القلب، تغلق منافذ النّور دون أن تعلم، وتبرح مكانك في أسفل الدّائرة، مسجوناً في هوّة مظلمة مانعاً عن بصيرتك نور الله.
بالمقابل، يقتل الإنسان الكلمة الإلهيّة حين يعتبر أنّها موجّهة له فقط، وأنّه الحارس الوحيد لها، وأنّ الله يعوزه اللّجوء إلى العقل الصّغير الضّيّق المحدود لينثر نوره في العالم. إنّ النّور الإلهيّ حاضر منذ البدء. لا بدء له ولا نهاية، ولا يحدّه مكان وزمان وإنسان. يتسرّب إلى الدّاخل الإنسانيّ بقدر ما يسمح له هذا الدّاخل بالولوج عميقاً. لكنّ ثمّة لحظة خاطفة غير مفهومة أو غير مدركة أو معلومة يخطف فيها النّور محدوديّة العقل وخفقان القلب. فيتحوّل الإنسان وينقلب رأساً على عقب. فيولد من جديد، من فوق، وينقاد إلى النّور بالنّور نحو النّور. ويتدرّج في الدّائرة النّورانيّة حتّى يبلغ أقصى درجات العمى، والصّمم. يتلاشى الظّاهر الإنسانيّ ليتجلّى الإنسان الممتلئ من الله.
لكلّ إنسان اختباره الشّخصيّ في هذه العلاقة الحميمة مع الله، ولكلّ إنسان رؤاه، لكنّ النّور واحد والعشق واحد. وإن تعدّدت الطّرق يبقى الهدف واحداً، وتبقى الوسيلة الوحيدة تسليم القلب وتنشيط العمق الإنسانيّ والاهتمام بما فوق ليحلّ السّلام أسفل.
تطويبات تسع تنتقل بنا من العمق الإنسانيّ نحو العمق الإلهيّ بحسب المنطق الإلهيّ. قد يبدو للقارئ أنّها تدور في عالم الإلهيّات ويصعب على الإنسان سلوكها. بيد أنّ هذه التّطويبات التّسع تستفزّ الطّاقة الإنسانيّة المنطبعة بروح الله. ولمّا كان الإنسان يتنفّس بروح الله، ولمّا كان مخلوقاً على صورته كمثاله فلا بدّ من أنّه قادر على السّلوك إلهيّاً. بمعنى آخر، لا بدّ من أنّه قادر على السّماح للعشق أن يستبيح كيانه. فيعشق الله ليعشق الإنسان، ويمدّ يداً نحو الله وأخرى نحو الإنسان. فتتّصل السّماء بالأرض ويصبح الوجود واحداً.
"طوبى للمساكين بالرّوح لأنّ لهم ملكوت السّماوات"
من المهمّ جدّاً أن نضبط العبارات قبل الولوج فيها، فلا نتوقّف عند الظّاهر الحرفيّ مستبعدين وهج النّور الإلهيّ الّذي يفيض منها. الطّوبى، الفرح والهناء المرتبطة بالرّوح الفقيرة المستغنية إراديّاً عن كلّ غنىً مزيّف تبلّغ الإنسان قلب الله (ملكوت السّماوات). وبما أنّ النّصّ يبدأ بلفظ الرّوح، فلا ريب أنّه خرج عن الإطار الأرضيّ وبدأ من أعلى السّلّم. ما يعني أنّ الإنسان حاضر في السّماء (قلب الله) منذ اللّحظة الأولى، منذ البدء. والحالة الأصيلة للإنسان هي تلك الّتي تبدأ من أعلى لا من أسفل. والبدء من أسفل ما هو إلّا خطوات متعثّرة، تحصر الإنسان في الوجود الأرضيّ وحسب. وأمّا الفقر الرّوحيّ فهو إدراك عميق بالحياة الحقيقيّة الكامنة فيه، الحياة الإلهيّة. ليس ملكوت السّماوات نتيجة، بل إنّه حتميّة الوجود الإنسانيّ. لذلك يحيا البعيدون اضطراباً تلقائيّاً بعيداً عن الله. قد يكون اضطراباً معرفيّاً أو قلقاً وجوديّاً أو بحثاً عن الحقيقة وسط الفوضى العارمة. لكنّ القريبين يرون جليّاً الوجود الإلهيّ فيستغنون عن كلّ شيء بفعل الانجذاب والشّوق والإصرار على تحطيم أيّ حاجز يمكن أن يشكّل عائقاً بين القلب والرّؤية الإلهيّة. تلك هي الدّرجة الأولى الّتي تمهّد للقاء حميم، وتعزّز الحرّيّة الإنسانيّة بما يليق بها إلهيّاً.
في الدّرجة الثّانية نحو قلب الله يصوم الإنسان عن العالم ليفطر على العشق، غذاؤه الحقيقيّ وقوته الّذي لا يفنى. فيبلغ ما يبلغه من فرح عميق يمازجه حزن أعمق. ذلك الحزن الإلهيّ البهيّ الّذي يوقد نار العشق فيلتهب الكيان كلّه ويحترق شوقاً إلى الله. إنّه الحزن الّذي يُعزَّى بنور الله فقط. الحزن الّذي لا يعرفه من هم بعيدون، أو من هم متمسّكون بالقشور. وهو الحزن النّاتج عن الفرح، على عكس ما يتوقّع العالم. الفرح بالحضور الإلهيّ يقود إلى الحزن البهيّ الرّفيع الّذي يدفع الإنسان إلى المزيد من الاقتراب، وإلى المزيد من الاتّصال بدافع الاشتياق الّذي لا ينتهي.  (طوبى للحزانى، لأنهم يتعزّون.) وبقدر ما يتملّك الحزن البهيّ من القلب يتواضع ويحيا السّلام. (طوبى للودعاء، لأنهم يرثون الأرض.) فيخطو نحو الدّرجة الثّالثة (الوداعة) ليهيم في الأرض، لا التّرابيّة وإنّما الكونيّة. فإذا كانت الدّرجة الأولى مبتدئة في قلب الله، فلا ريب أنّ الآية لا تشير إلى الأرض كوجود مؤقّت وإنّما إلى الأرض بمعناها المرتبط بالوجود الواحد، الوجود الإلهيّ.
لكنّ  الفقر والحزن والوداعة تولّد جوعاً وعطشاً مستديمَيْن، دلالة على عيش السّماء. فالعشق الّذي يرتوي ويشبع لا يعوّل عليه ولا يمتّ بصلة إلى مفهوم العشق الإلهيّ. بل إنّ العطش يرتوي بالعطش، والجوع يشبع بالجوع، وهكذا ينتقل العاشق لله من جوع إلى جوع ومن عطش إلى عطش (طوبى للجياع والعطاش لأنّهم يشبعون). وهي الدّرجة الرّابعة الّتي يتدرّج بها العاشق داخل القلب الإلهيّ فيمتلئ رحمة بل يصبح كتلة رحمة متنقّلة في العالم. والرّحمة، الدّرجة الخامسة، هي التّفهّم والإحساس بالآخر أيّاً كان سلوكه. وذاك لا يعني التّبرير، وإنّما الرّحمة درجة روحيّة تمكّن العقل من العودة إلى الأصل في تفسير الأمور والوقائع وتفهّمها بهدف التّغيير والتّحوّل نحو الخير والحقّ والجمال. الرّحمة بحث عن الجمال في الإنسان، ومتى تمكّنّا من استخراج الجمال الإنسانيّ أمسكنا بيده ليمكث معنا في قلب الله. (طوبى للرّحماء لأنّهم يُرحمون).  ويمكن قلب الألفاظ في هذه الآية فتكون النّتيجة سبباً والسّبب نتيجة (طوبى لمن رُحموا لأنّهم يَرحمون). فمتى شعر الإنسان بالحضور الإلهيّ واستحوذ عليه العشق وتمنطق عقله بالفكر الإلهيّ فلا بدّ من أنّه سيرحم الآخر انطلاقاً من رحمة الله له. لذلك ذروة الصّلاة تكمن في طلب الرّحمة من الله. بهذا الطّلب يدرك الإنسان أنّه قاصر عن عشق الله كما ينبغي، وغير قادر بحكم الضّعف الإنسانيّ بلوغ أقصى درجات العشق. ومع ذلك فالله يرحمه ويفهمه فيرحم بدوره ويتفهّم.
في الدّرجة السّادسة (طوبى لأنقياء القلوب لأنّهم يعاينون الله) تنكشف عناصر النّقاء القلبيّ: الفقر الرّوحيّ، الوداعة، الجوع والرّحمة. النّقاء القلبيّ يبلّغ الإنسان علاقة عشق صرف مع الله. فهو يعشقه لا لهدف آخر إلّا العشق، ما يقوده إلى المعاينة. والمعاينة من (عاين) أي رأى وشاهد بعينيه، تدلّ على الحالة الإلهيّة الّتي بلغها الإنسان. بمعنى آخر تستحيل حاسّة النّظر حاسّة فاعلة بحسب الحضور الإلهيّ. فيرى العاشق ما لا يراه النّاس. وإلّا فكيف يقيم حواراً مع من لا يراه. وكيف يعشق من لا يعرف ولا يرى؟ العين الآرضيّة هي غير العين السّماويّة. العين الأرضيّة التّرابيّة تعاين التّراب وأمّا عين القلب، تعاين الله. ومتى عاين الإنسان الله فماذا يحتاج بعد؟
إنّ الولوج في قلب الله ومعاينته والامتزاج به ليس بالأمر اليسير لأنّه يفترض سلوكاً بحسب هذه المعاينة وهذا الامتزاج. المعاين لله تتأصّل علاقته بالنّور وينغمس في المنطق الإلهيّ وفي منطق الجمال. وأهمّ ما يعكسه الجمال، السّلام، الدّرجة السّابعة. (طوبى لصانعي السّلام، لأنّهم أبناء الله يدعون.)  ينبغي التّدقيق في عبارة (صانعي السّلام)، فالسّلام يُصنع ويُبنى بجدّ وتعب والطرّيق إليه مضنٍ وشاق، لأنّه يستلزم الكثير من الحبّ. والحبّ الإنسانيّ لا يجيد ذلك بمفرده بل هو يحتاج إلى الحبّ الإلهيّ. ولهذه الدّرجة السّابعة دلالة الكمال المشار إليها بالعدد (7) الّذي يرمز إلى الكمال. فالدّرجات السّبع الأولى تؤدّي إلى اكتمال الإنسان بالعشق. فينفصل نهائيّاً عن إنسانيّته الهشّة والحياة بالقوّة ليحيا الحياة بالفعل، الحياة الإلهيّة. لكنّ هذا الاكتمال يشكّل دينونة للعالم. بمعنى آخر، سيكون بمواجهة مع العالم، مع السّلوك الفاسد. فالنّور، إذا ما كشف الحقائق هدّد مصالح كثيرة، وأربك السّياق الإنسانيّ المنحدر بالإنسانيّة إلى الهاوية المظلمة. لكنّ العاشق بلغ ما بلغه من نعيم بالحضور الإلهيّ والاستنارة الإلهيّة، فأخرجاه من العالم قبل أن يطرده العالم:
 طوبى للمطرودين من أجل البرّ، لأنّ لهم ملكوت السّماوات.
 طوبى لكم إذا عيّروكم وطردوكم وقالوا عليكم كلّ كلمة شريرة، من أجلي، كاذبين.
الطّوبى الثّامنة والتّاسعة، درجتان تكمنان في ما بعد الاكتمال. حالة من الاستنارة والخروج من العالم. فلا يشعر العاشق إلّا بالحضور الإلهيّ. لذلك يحتمل الطّرد والاضطهاد والنّبذ. عمليّا هو لا يحتمل بالمفهوم الظّاهري للكلمة، بل هو أمر فوق مفهوم الاحتمال. العاشق حاضر هناك، في قلب الله، وليس حاضراً هنا. فيمسي الاضطهاد أمراً بديهيّاً بل مطلوباً للتّأكيد على الاكتمال بالله. أي أنّ العاشق المكتمل يفهم الاضطهاد على أنّه ارتباك واضطراب طبيعيّ من قبل من لا يفهمون ماهيّة العشق ومن لا يرون النّور الإلهيّ. فيسعد ويفرح وهو الّذي بلغ رتبة الأنبياء من حيث أنّه يحمل الكلمة الإلهيّة والنّور الإلهيّ. ما يبلّغه الدّرجة العاشرة الّتي يرمز ترقيمها إلى منتهى الكمال (10)، الّرقم الّذي يجتمع فيه رقم الكمال (7) مع (3) رمز العالم الإلهيّ، ذروة العشق وذروة الاستنارة.  (افرحوا وتهلّلوا، لأنّ أجركم عظيم في السّماوات، فإنّهم هكذا طردوا الأنبياء الّذين قبلكم.)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق