السبت، 7 مارس 2020

الذّاكرة وحدها لا تصنع شعراً


قراءة في قصيدة "رمل الذّاكرة" للشّاعرة اللّبنانيّة دورين نصر سعد



مادونا عسكر/ لبنان
"إنّ للذّاكرة عقلاً مثلما للعقل ذاكرة" (غاستون باشلار)
في هذه القصيدة تتعايش الشّاعرة دورين سعد مع الذّاكرة كعقل تعتزم أن تطلّ من خلاله على ملامح مستقبل محتمل. وإذ تستهلّ قصيدتها بجملة جازمة (لم تكن لحظة الكتابة مجانيّة) تعبّر عن معاناة خاصّة أعيتها الذّاكرة الملازمة للشّاعرة المتصادقة مع الماضي والغارقة فيه.
لم تكن لحظة الكتابة مجانيّة،
وضّبت فيها كلّ السّنوات السّابقة،
ورحلت...
إنّ الرّحيل يشهد لفعل الكتابة/ الارتحال، وبهذا تُكوِّن الشّاعرة في داخلها خطّاً فاصلاً بين الماضي والمستقبل وترحل إلى الماضي حيث تجد ذاتها فاعلة بشكل أو بآخر. فهي تجمع ذاتها الّتي تجدها في قلب الماضي وترحل إليه لتلاقي ذاتها فتحيي تلك الحالة الشّعوريّة الّتي تمنحها بعض الاطمئنان، وهي العالمة بأنّ الماضي تاريخ لا يمكن استعادته بالفعل إلّا من خلال الذّاكرة. (فاوضت الماضي لأستعيد منه/ نافذتي التي أغلقتها). يبدو أنّ الشّاعرة في نزاع مع الماضي، ولقد عبّر الفعل (فاوضتُ) عن قرار باستعادته وإحيائه بل استحضاره وتجسيده ليكون حاضراً مستديماً. وفي حين أنّ دلالة النّافذة غالباً ما تكون إطلالة على المستقبل، تقرّر الشّاعرة أن تفتحها على الماضي لتتنفّس من خلال الذّاكرة ما يحييها ويحرّك حياتها الرّاكدة. (أشمّ رمل الذّاكرة). وبهذه الدّلالة تجعل من الذّاكرة عقلاً داخل العقل/ عقل الشّاعرة أو وعيها الّذي من العسير أن يتفاعل مع الحاضر أو المستقبل؛ لأنّه مهيّأ إراديّاً للولوج في تفاصيل الماضي الّتي دلّت عليه لفظة (الزّوايا).
فاوضت الماضي لأستعيد منه
نافذتي التي أغلقتها
تلك الليلة
علّني أعيد فتحها،
فأشمّ رمل الذاكرة
الذي اندثر
في منعرجات الوقت،
وأحصي تلك الزوايا
التي كوّمت فيها أيامي المعطّلة...
يدلّ لفظ (الرّمل) على أشخاص أكثر منه على أمكنة، فالحزن الثّقيل الّذي تحمله القصيدة لا يشير إلى حنين إلى الماضي بشكل عام، وإنّما يدلّ على ارتباط خاص فقدته الشّاعرة وهي تتوق إلى العودة إليه لتتحرّك حياتها وتحيا. وما هذا الحزن إلّا عائق أمام الشّاعرة، فهي الغارقة بالقوّة في ماضٍ بعيد لا يعود، مقيّدة بالفعل في حاضر يتّجه كلّ لحظة نحو الماضي وهي عاجزة عن الخطو نحو المستقبل لأنّ الحياة بالنّسبة لها، هناك، حيث الأنفاس في الماضي البعيد. وقد لا تتمكّن من المضيّ إلّا من خلال الذّاكرة، لكنّها تمضي بشكل عكسيّ ما يجعلها عاجزة لأنّ الماضي يصبح حضوراً افتراضيّاً حتّى وإن كان الحقيقة الوحيدة في ذاكرة الإنسان، إلّا أنّه ما إن يندثر يمسي حقيقة غائبة. لذلك نرى الشّاعرة تفاوض دون أمل حقيقيّ في استعادة الماضي المندثر (فاوضت... عَلّني)
في عمقها، تعي الشّاعرة مدى عجزها، فهي تمسك بخصوصيّتها الكامنة في الماضي، لكنّها لا تستطيع شيئاً. وإن أرادت اختراق الظّلمة الحاضرة فلتوقف الزّمن لحظة حضور الماضي فعليّاً. ما هو غير ممكن بل مستحيل.
وأشعل نجمة
لتبرق في سمائي الداكنة،
تلك المواعيد التي أجّلتها
ما زالت عالقة
في قبضة يدي
لذلك تقف هنا في اللّحظة الحاضرة العابرة وتستحضر الرّغبة في الكتابة عن الماضي لكن دون جدوى. فالكتابة لم تمنحها سعادة لتجسد الماضي بكلّ مقوّماته لتستعيد أنفاسها. وإن دلّ فعل الوقوف على أمر فهو يدلّ على تعطّل الحياة لا على الثّبات. فالشّاعرة تجعل من المستقبل ماضياً قادماً، وكأنّي بها ترافقت وحزن معطّل للقدرة الإنسانيّة على جعل الماضي انفتاحاً على المستقبل.  فإذا كانت الكتابة رغبة غير متحقّقة فلن تجد فعلها الحقيقيّ في إخراج الشّاعرة من ذاتها لتعبّر بشكل أفضل عن حالتها الشّعوريّة. لذا بدا الحزن طاغياً ومعطّلاً لانطلاق الشّاعرة في التّعبير عن نفسها. فهي لم تعبّر عن عمق الحالة، ولم  تخرج القصيدة من عمقها الدّفين وإنّما من عقلها المحاكي الذّاكرة/ العقل.
وأنا
ها
هنا
واقفة
بين رغبتي في الكتابة
وخطواتي العابرة،
بين هيئة الماضي الاحتمالية
و ذكريات الغد التي لم ألمسها بعد...
لقد سجنها الماضي الحلم وقيّدتها الذّكرى البعيدة واستحوذ عليها الارتحال وسُلبت منها الإرادة الفاعلة واستحكم بها عقل الذّاكرة.
أجدني أراقب
تلك الوجوه التي لم أصادفها،
مع أنّ نشيجها يضجّ
في أعماقي...
ذاك الشريط الافتراضي
رقّعته بضوء تجمّد
في السماء
يوم غادرت بأيد فارغة...
وتركت كلّ ما كان لي
ككاتب رقد في كتابه،
و لم يصح بعد...
هي هنا بالقوّة وهناك بالفعل. وإن حرّكت فعل الإرادة فلِتتخلّى عن كلّ شيء في سبيل لا شيء. وهي غير متحكّمة بالماضي وبالتّالي لن تتمكّن من التّحكّم بالمستقبل، بل إنّها فاقدة لرؤيته. لذلك تفتقد القصيدة إلى رؤية خاصّة بالشّاعرة، كما أنّها تفتقد إلى عنصر الحزن البهيّ الّذي يحرّك عمق الدّلالات ويخلق بهاء خاصّاً للقصيدة. فالحزن المعادل للكآبة يجمّد المعاني ويوقف الزّمن ويحول دون تفجير الأعماق. وبهذا المعنى تمسي القصيدة مجرّد تعبير عن المشاعر بدل أن تستحيل عنصراً مقاوماً يفجّر الإبداع الخاصّ، فالشّعر لا يحيا ولا يكون مؤثّرا إلّا إذا كان متردّدا في معناه بين طرفين: الرّؤيا والحزن البهيّ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق