مادونا عسكر/ لبنان
يكفي أن نتأمّل جيّداً واقعنا الفوضوي والمضطرب على جميع الأصعدة؛ لنتبيّن
أنّ إنسان اليوم يعاني بشدّة من أزمة عقل. وتكمن الأزمة في كون أنّ العقل تمّ
تغيّبه إمّا عمداً لسبب أو لآخر، وإمّا سهواً بسبب الانهماك بالأوضاع الاجتماعيّة
أو الاهتمام المفرط بماض من الأمجاد الحقيقيّة أو الواهمة، أو الانشغال بما يعزّز نزعة التّمجيد الذّاتيّ المؤدّية إلى
اعتبار الإنسان محور الكون. إنّها أزمة العقل المتفلّت من أصول التّربية العقليّة،
فبات غير متّزن، فوضويّا، وغير قادر على الانضباط والتّحليل بغية الوصول إلى نتائج
منطقيّة. وكما أنّ الإنسان يتربّى على الأصول الاجتماعيّة والتّقاليد العائليّة
والمفاهيم العقائديّة منذ صغره، فلا بدّ من أن يتربّى أوّلاً عقليّاً بحيث يصبح
العقل شرارة الإشراق الأولى الّتي تبني الإنسان وتنمّيه فيتحكّم بغرائزه ونزعاته
ومشاعره. وحده العقل يضبط المسار الإنسانيّ ويقدّم وسائل عدّة لإدراك معنى الحياة
وأهمّيّتها بعيداً عن التّنظير وترداد الكلمات والعبارات وتكرار ما يملى عليه حتّى
يصبح هذا الإملاء حقيقته الوحيدة.
قد نغفل بشكل أو بآخر عن التّربية العقليّة الّتي تتضمّن بشكل أساسيّ تربية
الإنسان على شقّ مسار فكريّ خاصّ به. بمعنى آخر تدريبه على المقارنة والتّحليل
واستنباط الأمور وتبيان الصّواب من الخطأ واتّباع الدّليل واستخلاص الرّأي
الشّخصيّ الفرديّ بغض النّظر عن الأفكار المترسّخة في المجتمع وبغضّ النّظر عن
المعوّقات المجتمعيّة المعتمدة على العادات والتّقاليد. ولا بدّ من تفعيل هذه
التّربية العقليّة منذ الصّغر وبشكل بسيط يمكّن الإنسان من النّموّ على مبدأ البحث
الشّخصيّ وإعمال العقل في شتّى الأمور من أصغرها إلى أعظمها. فيكون الإنسان سيّد
نفسه بعقله المتّزن والمتحرّر ويكون سيّد قرارته واختياراته دون الانزلاق في
تيّارات الفوضى الفكريّة وتخبّط الأفكار العشوائيّة وارتباك الوعي في الأوقات
الّتي تتطلّب وعياً عقليّاً وفكريّاً.
تقود التّربية العقليّة إلى ضبط النّزعات الإنسانيّة وضبط المشاعر
المترهّلة، كما أنّها تصوّب المسار الفكريّ مانحة إيّاه الشّجاعة على القبول
والرّفض بقرار شخصيّ، واهبة إيّاه القدرة على الفهم الحرّ لا الفهم المرتبط بما
يتناسب وفهم الآخر أو مشيئة الآخر. التربية العقليّة تكسب الإنسان جرأة على قول
"لا" في الوقت الّذي ينبغي أن يقول "لا" متحدّياً كلّ عبث
بعقله أو طريقة تفكيره. إنّها جرأة العقل المتمرّد بهدوء على واقع واهم أو مفهوم
ملتبس أو وضع مبهم. إنّها جرأة يُستدلّ من خلالها على احترام الإنسان لعقله ورصانة
التّفكير واتّزان الشّخصيّة. فاحترام العقل الإنسانيّ يترادف ومبدأ الحرّيّة
الفكريّة الّذي يغني الإنسانيّة ويطوّرها، فلا تترسّخ الرّتابة والميكانيكيّة في
الذّهن الإنسانيّ. ما يؤدّي إلى تغييب العقل بل قتله فلا يبقى من الإنسان إلّا
فوضى المشاعر واضطراب التّعبير واختلال الذّكاء. لا بدّ من أن يتربّى العقل
ويتمرّس على نهج مبدأ المقدّمات والنّتائج في مسار منطقيّ يحرّره من أفكار عقيمة
ومعقّدة تعيق إدراكه لمعنى الحياة الحقيقيّ.
بقدر ما يكون العقل حرّاً شجاعاً يواجه الصّعوبات والتّعقيدات بتفكيكها
وتبسيطها؛ لأنّه تمرّس على انتظام التّفكير وترتيب الأفكار. وبذلك يمكنه أن يدرك
بشكل فرديّ وشخصيّ الحلول المناسبة. ذلك لا ينفي مشاركة الأفكار والآراء، وإنّما
ذلك يؤكّد تحمّل مسؤوليّة الفرد في اتّخاذ قراراته بعيداُ عن الانسياق إلى رأي
القطيع أو سيّد القطيع بعيداً عن الخوف من التّفلّت من السّياق العام أو المنهج
العام. فالدّليل على صحّة الأمور وصوابيّتها لا يكمن في الآراء السّائدة أو
المتعارف عليها أو المترسّخة، وإنّما الدّليل على صوابيّة الأمور يكمن في الدّليل
المتجلّي في الأدلّة الواضحة بين المقدّمات والنّتائج.
إن كان لا بدّ من احترام للعقل فلا بدّ من تربية عقلية بل تمرّد عقليّ على
كلّ ما لا يقدّم للإنسانيّة ما يليق بها من حرّيّة واحترام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق