الأحد، 7 أكتوبر 2018

التّصوّف حالةُ عشقٍ فطريّة





مادونا عسكر/ لبنان


"كلّ حبيب لكَ يظنّ أنّك أنت له وحده لأنّه يشعر أنّه هو ليس لأحد سواك. يظنّ أنّك حالّ فيه وحده وأنّه كفء لسكناك، مع أنّك أنت مالئ السّموات والأرض. فكلّ واحد يراك كامل فيه كما في مرآة." (القدّيس يوحنّا سابا)
التّصوّف أبعد من مذاهب وطوائف وأعمق من تسمية مرتبطة بأشخاص محدّدين اختاروا أن يزهدوا أو يتنسّكوا. التصّوف حالة العشق الّتي خُلق عليها الإنسان. خلق الله الإنسان على صورته كمثاله (تكوين 27:1)، أي أنّه خلقه من صلب محبّته، ونفخ فيه نسمة حياة (تكوين 7:2). ولو لم يكن الله محبّة لما خلق الإنسان على صورته وإلّا كان إلهاً أنانيّاً. ولئن كان الإنسان على صورة الله الحبّ خُلق في حالة عشق، أي أنّه خُلق مهيّأً لعلاقة حميمة مع خالقه الّذي هو المحبوب الإلهيّ. لذلك نلاحظ عطشاً إنسانيّاً لا يرتوي إلّا بالحضور الإلهيّ. مهما بلغ الإنسان من اكتفاء في الحياة يبقى في داخله عطش إلى العلوّ، إلى الحقّ الّذي هو منه وعلى صورته. حتّى إنّ رفض هذا الوجود الإلهيّ لا ينفي هذا العطش وهذا التّوق إلى الرّباط الإلهيّ الإنسانيّ. فالملحد الّذي وصل إلى نقطة إلغاء الله، هو في حقيقة الأمر يبحث عن الحقيقة، وربّما يتمزّق من داخله لمعرفتها وبلوغها. لكنّ في داخله توق وظمأ إليها، ما يفسّر هذا العطش.
التّصوّف، الحالة العشقيّة الّتي كانت منذ البدء بين الله والإنسان هي صناعة حياة. الحياة الأبديّة الكامنة في الإنسان. فما نحياه ظاهريّاً ليس سوى قشرة هشّة تتلاشى كريشة مع هبوب نسيم لطيف. الحياة الحقيقيّة هي تلك الكامنة في أعماق الإنسان الّتي يعزّزها العشق الإلهيّ وتنمّيها العلاقة السّرّ مع الله. ليس الأمر سهلاً أن تتنبّه لهذه العلاقة مع الله، مع الحبّ. وليس يسيراً أن تكتشف عظمة هذا الحبّ في داخلك ولا تحرّك ساكناً، ولا ينتفض كيانك كلّه مكرّساً ذاته لمحبّة الله. والمتصوّف لا يحبّ الله وحسب، وإنّما عاين، وتلمّس، وذهل بالنّور، فغرق في الحياة بالفعل، الحياة الأبديّة. لأنّ من يعشق الله وإن ما برح في العالم يحيا أبداً. فالعلاقة مع الخالد خالدة. ومن لم يتعرّف هنا على العشق الإلهيّ لن يتعرّف عليه في ما بعد. ومن لم يستنر هنا لن يعرف ماهيّة النّور متى تجلّى كاملاً في ما بعد.
في اللّحظة الّتي تكتشف فيها الله الحبّ، يتبدّل فكرك ومفهومك للحبّ والحياة والموت، وكلّ الإشكاليّات الّتي من الممكن أن تواجهها. فهذا الاختبار العشقيّ جواب تلقائي على كلّ الأسئلة الّتي تراودك، وتقلقك. إنّه اللّحظة الّتي تلتقي فيها بالحقيقة وتتلمّسها وتهيم بها. تخطفك من ذاتك لتتعرّف على ذاتك، تبهرك حدّ العمى، لتعاين جمالك الّذي على صورة الله. تحرّك في داخلك طاقة الحبّ الأصيل الّذي كنت عليه منذ البدء لتصبح كتلة عشق تتنقّل في هذا العالم. وهل إذا ما عاينت الجمال تعود منه؟ وهل إذا ما همت في الحبّ تستطيب ما كنت عليه؟
بقراءة دقيقة لحياة المتصوّفين أي العاشقين لله الّذين ثملوا بالله، وسلبت عقولهم الحياة العشقيّة، نراهم أشدّ حكمة من علماء كثيرين. وذلك لأنّهم يتكلّمون اللّغة الإلهيّة. كما نشهد أنّهم خلقوا حالة إرباك لمن حولهم. فالعاشق لله يعكس نور الله الّذي اتّحدّ به بالحبّ ولا بدّ من أن يخلق حالة قلق للعالم، لأنّ من يقف أمام النّور تنكشف حقيقته. لذلك كانوا دائماً معرّضين للاضطهاد والموت، وذلك لأنّهم يحملون الحقيقة. العالم يحبّ خاصّته يقول الرّب في إنجيل يوحنا (19:15) ومتى أحسّ بخطر حامل حقيقة الحبّ يسرعون إلى التّخلّص منه.
ما هو الخطر الّذي يمكن أن يشكّله الحلّاج على الشّريعة حتّى تمّ قتله؟ فهل إنّ الشّريعة هشّة لدرجة أن يعطّلها شخص؟ وما الخطر الّذي شكّله بولس الرّسول، أو القدّيس أغناطيوس الأنطاكي، أو شمس الدّين التّبريزي، أو جلال الدّين الرّومي، أو السّهروردي وكلّ من عانوا بفرح الحبّ ظلم الظّلاميّين؟ إنّه خطر الحقيقة، خطر انكشاف النّفس الإنسانيّة بجوانبها المظلمة الرّديئة الّتي تخشى النّور.
هؤلاء الكثيرون الّذين عشقوا الله حتّى الموت لأنّ الموت ما عاد موجوداً بالنّسبة لهم، ما زالوا حتّى يومنا يقلقون الضّمير الإنسانيّ، لذلك كلّ ما أتينا على ذكرهم يقوى حضورهم أكثر فأكثر، فينتفض أؤلئك الغارقون في حقدهم وبغضائهم. هؤلاء الكبار إنسانيّاً الّذين اتّحدوا بالله بدّلوا مفهوم الدّين وانتقلوا من الظّاهر الدّينيّ إلى جوهره. فالدّين لم يغيّر شيئاً في العمق الإنسانيّ لأنّه عمل على الصّورة الخارجيّة. وأمّا الجوهر الدّينيّ الّذي هو علاقة مع الله الشّخص يخلق الإنسان من جديد وينقله من الظّلمة إلى النّور. وإلّا كيف نفهم تحوّل بولس الرّسول من فريسيّ متزمّت، مضطهد للمسيحيّين، الباحث عنهم لينكّل بهم ويتخلّص منهم، إلى رسول عاشق بلغ أقاصي الأرض بالكلمة. وكيف نفهم تخلّي جلال الدّين الرّومي عن العالم وحياته الجديدة الهائمة بالعشق؟ وكيف نفهم دفق الحبّ المكنون في قلب شهيدة العشق الإلهيّ رابعة العدوية إن لم نفهم هذه الحالات على ضوء الحبّ الإلهيّ. هؤلاء العاشقون ما زالوا أحياء بحضورهم وثقافتهم وشخصهم لأنّ من يتّحد بالله لا يموت. والاتّحاد بالله أمر حتميّ للعاشق لأنّه دون هذا الاتّحاد لا معنى لعلاقة بين الله والإنسان. يقول القدّيس كيرلس الكبير: "الخالق يقدّم نفسه لخليقته لتسعد به!". ويقول القدّيس ديمتريوس: "في هذه الحياة المؤقَّتة، يلزم أن نبحث باجتهاد عن الاتّحاد بالله، لنُحسب مستحقّين أن نكون معه وفيه إلى الأبد في الحياة الآتية. ولكي يُشعل الإنسان في قلبه مثل هذا الحبّ المقدَّس ويتَّحد مع الله في حبٍّ لا ينفصل، فإنّه يجب عليه أن يُصلِّي باستمرار وأن يرفع عقله إلى الله، وكما أنّ اللّهب يزداد اشتعاله كلَّما أُمِدَّ بالوقود باستمرار، هكذا الصّلاة الّتي تُمارَس كلّ حين، ومعها الفكر وهو متعمِّق أكثر في الله، يوقظ ويستحثّ الحبّ الإلهي في القلب. والقلب وهو مشتعل بالنار سوف يُدفئ الإنسان الداخلي، وسوف يُضيء له ويُعلِّمه ويكشف له كلّ الحكمة المخفيّة وغير المعروفة، ويجعله مثل صاروف ملتهب، ويجعله واقفًا دائمًا أمام الله بروحه من الدّاخل، ويجعله دائمًا يتطلَّع إليه بفكره، ويجتذب من هذه الرؤيا حلاوة الفرح الروحي."
هذا الاتّحاد، ذروة العشق، تقول فيه رابعة العدويّة: "ولقد جعلتك في الفؤاد محدّثي، وأبحت جسمي من أراد جلوسي، فالجسم منّي للجليس مؤانس، وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي". ويقول فيه القدّيس يوحنّا سابا:"أقطع حديثي مع النّاس لأتحدّث معك، أغلق بابي لتفتح أنت لي بابك. أحرم نفسي من الشّمس الطّبيعية لتشرق أنت لي، يا شمس البرّ والشّفاء في أجنحتها." ويقول السّهروردي المقتول:

بِكُلِّ صُبحٍ وَكُلِّ إِشراق // أَبكي عَلَيكُم بِدَمع مُشتاقِ

قَد لَسَعت حيّة الهَوى كَبدي // فَلا طَبيب لَها وَلا راقي

إِلّا الحَبيب الَّذي شغفت بِهِ // فَإِنَّهُ رقيَتي وَترياقي

الله حبّ في جوهره، وهو الحبّ الّذي كان والكائن والّذي سيأتي. إنّه العشق المتسامي الّذي إذا ما عرفته عرفت الله ولولاه ما عرفته. يوماً ستنتهي كلّ الأديان وستبقى الأنظار شاخصة إلى الجمال الأعلى، إلى الـ "هو الّذي هو"، إلى الّذي يرانا ولا نراه إلّا بقلوبنا العاشقة. "عند المغيب سوف تُمتَحن على الحبَ، فتعلّم أن تحبَ الله على النَحو الَذي يرضيه، وتتخلّى عن ذاتك". (القدّيس يوحنّا الصّليب)




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق