الأحد، 7 أكتوبر 2018

المتصوّفون وشريعة الحبّ الإلهيّ



مادونا عسكر/ لبنان
"لقد خلقتنا لك يا الله و تظلّ نفوسنا مضطربة حتّى  تستريح فيك" (المغبوط أغسطينس)
إذا كان الإنسان المتّسم بالضّعف البشريّ والمحدوديّة على المستوى الفكريّ والنّفسيّ والرّوحيّ تأسره ومضة عشق من حيث لا يدري، فيهيم عشقاً. وينعزل ليتأمّل سرّ هذا العشق المبلّغ الحقيقة، ويبيع كلّ شيء ليشتري هذه السّعادة الفائقة التّصوّر بروحه وعقله وأحياناً بدمه. وإذا كان الإنسان المتضادة عواطفه والمتقلّبة، والحامل للتّناقضات العاطفيّة والسّلوكيّة، الإنسان الهشّ الّذي يتهاوى ببساطة، يخرج إلى العالم ليبوح بهذا العشق ويبشّر به النّاس حتّى وإن وصل به الأمر إلى الموت. وإذا كان هذا الإنسان المخلوق من تراب يعصف به العشق ويرفعه  إلى ذرى الأعالي، فيغيب عن العالم وهو ما برح فيه. إذا كان الإنسان يحبّ بهذه القوّة فكيف يكون حبّ الله؟
قبل الغوص في الإجابة لا بدّ لنا أن نتساءل إذا ما كان الله حاضراً فعلاً، أم إنّه مجرّد وهم كما يقول البعض أو فكرة تطوّرت عبر العصور أو اختراع إنسانيّ؟ والسّؤال نابع من مأساة الإنسانيّة قبل كلّ شيء. فالإنسان يقف مذهولاً عاجزاً أمام أحداث وأزمات ونزاعات دمويّة وكوارث مدمّرة ويتساءل: "أين الله من كلّ ما يحدث؟ لماذا لا يتحرّك؟" كثيرون تخلّوا عن الله واستبعدوه، وآخرون أنكروا وجوده، وآخرون يتّهمونه ويحقدون عليه. ولعلّ عدم البوح بهذه الأمور علناً والاحتفاظ بها في القلب خوفاً، يعذّب الإنسان ويقلقه. فالإجابات إمّا مخدِّرة وإمّا غير مقنعة وإمّا قمعيّة. أين هو الله؟ كيف نثبت وجوده؟ كيف نتأكّد من حضوره ومعيّته؟ كيف نفكّك هذا السّرّ الّذي يستميت العقل في سبيل معرفته؟
إذا أردنا أن نتلمّس حقيقة الوجود الإلهيّ لا بدّ لنا من الانطلاق من الإنسان، تحديداً أولئك المتصوّفين الّذين يعكسون بعضاً من العشق والنّور الإلهيّ. أولئك المختلفون في العقائد والانتماءات والتّوجّهات، والجنسيّات، والبعيدون بعضهم عن بعض زمانيّاً ومكانيّاً طريقهم واحد، ألا وهو العشق الإلهيّ. هذه الحالة، أي العشق، الّتي يشتركون فيها بلا لبس تؤكّد حضور شخصٍ يجذبهم بعشقه فيتفاعلون معه بلا حساب. ولا يجوز أن نطلق على هذا الشّخص صفة المُحبّ لأنّه لو كان مُحبّاً وحسب لوقع في إمكانيّة الضّدّ أي انتفاء فعل الحبّ. يولد الإنسان مهيّأً للعشق الإلهيّ لكنّه لا يولد عاشقاً مكتملاً، فبلوغ تمام العشق يعوزه جهاد روحيّ وفكريّ. ما يعني أنّ اللّحظة العشقيّة المتولّدة في الإنسان، الّتي تجذبه وتبدّله وتخلقه من جديد مرتبطة بمصدر لا يتبدّل ولا يتغيّر. ولا بدّ من أن يكون هذا المصدر شخصاً فالحبّ تفاعل بين شخصين. ولمّا كان لا يتبدّل ولا يتغيّر فذاك يعني أنّه لا يفعل وإنّما هو الفعل Le verbe. وعدم التّبدّل يدلّنا على كينونة هذا الشّخص غير المرتبط بالزّمان والمكان لأنّه لو ارتبط لدخل في التّناقضات الكونيّة والإنسانيّة وبالتّالي سنشهد تبدّلاً على مستوى المتصوّف. بيد أنّنا نراه في ثبات عظيم يزداد عشقاً وهياماً ويلوذ أكثر فأكثر في العشق حتّى يموت عشقاً. والحوار القائم بين المتصوّف العاشق الّذي نراه والمعشوق الّذي لا نراه يؤكّد حضور الشّخص المصغي لهذا الحوار كما يؤكّد تفاعلاً يقينيّاً نستدلّ عليه في الحالة الصّوفيّة العشقيّة الّتي تتوقّد في قلب المتصوّف وفي اختباره الحياتيّ وسلوكه.
تعلّمنا الحالة العشقيّة أمرين مهمّين: الأوّل أنّ المتصوّف المشبع بالعشق الإلهيّ ينظر إلى كلّ تفصيل في هذا العالم بعين الحبّ. لذلك لم نسمع متصوّفاً يتساءل عن حقيقة الوجود الإلهيّ. هو يحيا في العالم ويخدمه على قدر ما يتيسّر له انطلاقاً من الحبّ. يقرأ الكتب المقدّسة ببصيرة الحبّ، لذلك يفهم بصمت وحكمة. وهذا هو الفرق بين المتصوّف العاشق والآخرين. ما زال كثيرون واقفين عند حدود الحرف القاتل ويستغلّونه ليتحكّموا ويستحكموا ويتسلّطوا على البشر. ولعلّهم السّبب الأساس في ابتعاد النّاس عن الله. أولئك الّذين قال فيهم القدّيس بولس: "بسببكم يُجدّف على اسم الله". المتصوّف ارتفع عن الحرف الّذي يقتل ولاذ بالرّوح المحيي فعرف الحبّ، وتعرّف على الشّخص، مصدر الحبّ. فلماذا لا يسأل المتصوّف عن حقيقة الحضور الإلهيّ؟ ولماذا يبحث عن وجه الله في الأزمات والمصاعب؟ ذلك لأنّه لا يحتاج للسّؤال وهو في قلب الحقيقة الّتي هي العشق بذاته. فكيف يسأل عمّن يراه؟
المتصوّفون يعكسون احترام الله لاختلافنا عنه، فيحترمون اختلافه عنّا ويدركون أنّه ليس خادماً لمتطلّباتنا وإنّما شريكاً لكلّ خطوة في حياتنا. كما أنّهم بسلوكهم العشقيّ يدينون المتسلّطين المدّعين الإيمان الّذين يحاربون ويقاتلون ويقتلون باسم الله. فالشّعاع البسيط يكشف الظّلمة. كما أنّهم يعكسون حضور شخص العشق باتّحادهم به فحين نراهم نرى قبساً من نوره وبعضاً من حبّه الّذي لا يدرك. وأقول بعضاً لأنّه يصعب على الإنسان أن يحيط بالحبّ الإلهيّ الكامل. من هنا نفهم معنى أنّ من يرى الله يموت. فيبرز الموت ببعدٍ آخر مغاير عن الّذي نعرفه. إنّه لحظة اكتمال الحضور واللّقاء بين الله والإنسان. قال جلال الدّين الرّومي: "لن أموت قبل أن أعرفك. قال من يعرفني لا يموت". المحبّون فقط يعرفون الحقائق الإلهيّة لأنّهم يتفاعلون معها ويعاينونها ببصائرهم بالحبّ. "من لم يحبّ لم يعرف الله، لأنّ الله محبّة" يقول القدّيس يوحنّا الإنجيليّ. ولم يعنِ بقوله فكرة أو نظريّة بل إنّه اختبر عميقاً أنّ المعرفة مرتبطة بالحبّ، ولا تكون إلّا بالحبّ. ولا يصل الإنسان إلى الله إلّا بالحبّ. ما يدحض كلّ فكر وحكمة ونظريّة وأيديولوجيا وبحث علميّ لأنّ الله لا يُعرف إلّا بالحبّ. المتصوّفون ومن شدّة العشق يبحثون عن الرّحمة أمّا من لم يذق طعم العشق بعد فيبحث عن العدل ومنتهى العدل منتهى الظّلم. المتصوّفون يتفهّمون وأمّا الآخرون فيدينون ويحكمون. المتصوّفون ارتفعوا وارتقوا عن الشّريعة وأمّا الآخرون فمنغمسون بها لمصالحهم الشّخصيّة. لقد أدركوا أنّ الشّريعة الوحيدة هي الحبّ ومن أجلها خُلقوا وإليها يصبون.
الله الشّخص هو الحبّ ولو لم يكنّ حبّاً لما شهدنا هؤلاء المتصوّفين العاشقين هائمين حتّى الموت. ولرأيناهم يتبدّلون وتارة يحبّون وطوراً يحقدون. ولأنّ الله حبّ لا يمكن أن نطلب منه الشّرّ، ولا يجوز أن نحتكره في صفوفنا ليثأر لنا. ولا يُستطاع أن ننحدر به إلى مستوى منطقنا بل ينبغي أن نرتفع إلى الفكر الّذي فيه بالحبّ. عندها نحترم أنّه مختلف عنّا بالطّبيعة والفكر والعشق.
يقول القدّيس يوحنّا سابا: "تجاسرت لأتكلّم عن الحبّ الإلهيّ فإذا بي أتكلّم عن الله لأنّ الله محبّة." ولعلّي تجاسرت وبقيت عند حدود التّمتمات. ومن ذا الّذي إذا عشقه أسعفته اللّغة وهي العاجزة والقاصرة؟ ما عرفه إلّا المحبّون وما أحبّه إلّا منفتحو القلوب والبصائر. وما اختلفوا على حضوره وتسميته ووصفه. سمّهِ ما شئت، إنّه الحبّ.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق