الأحد، 7 أكتوبر 2018

كلّ عاشق نبيّ... كلّ عاشق رسول




مادونا عسكر/ لبنان
في الكون أسرار كثيرة يتأمّلها الإنسان ويبحث فيها ويتأرجح بين الشّكّ واليقين. قد يصل إلى بعضها لكنّه يعجز عن الإحاطة بها. وقد يعود إلى نقطة الصّفر مع كلّ بحث، إلّا سرّ العشق الإلهي هو الباحث عن الإنسان والمقترب منه بقدر ما يسمح هذا الإنسان وبقدر ما ينفتح على النّور الإلهيّ. والانفتاح على النّور هو انفتاح على لغة العشق الإلهيّ المختلفة عن لغتنا. لغة الصّمت والإصغاء، لغة الفناء في المحبوب حتّى تتجلّى الحياة كاملة.
النّبيّ هو حامل الكلمة الإلهيّة، كلمة الحبّ للعالم. وكلّ ناطق بحبّ الله رسول عاشق. والمقصود بالنّبوّة المعنى الأرحب والأشمل  للحبّ الإلهيّ. كلّ من أحبّ عرف الله وكلّ من عرفه أحبّه وأخبر عنه.  لذلك فلغة الحبّ هي الرّابط المشترك بين كلّ العاشقين لله. وكلّ عبّر بطريقته وبحسب اختباره الشّخصيّ في هذه العلاقة السّرّ/ Mystère الّتي يصعب تفسيرها ببساطة دون أن يمرّ من أراد الفهم بذات الاختبار. النّاظر من الخارج لا يفهم هذا التّجرّد والتّخلّي عن العالم والامتلاء بالله. والنّبيّ لا يحمل كلمة الحبّ الإلهيّ وحسب وإنّما يبذل كلّ جهد فكريّ ونفسيّ وروحيّ من أجل تحقيقها في العالم.
 الحبّ الإلهيّ فعل خلاصيّ للكيان الإنسانيّ. يحرّره من ذاته ليتعرّف على ذاته. وهذا هو المعنى الأصيل للخلاص. وهذا هو المعنى الكامن في فكر العاشقين ونقرأه في أعمالهم وتأمّلاتهم. ما قيمة الإنسان إن لم يكن حرّاً وما سبب وجوده وغايته إن لم يكن اختبار العشق الإلهيّ هنا ليتعرّف عليه ويحيا به أبداً هناك؟ العاشقون لله بلغوا حرّيّتهم بالعشق، الحرّيّة الإنسانيّة. فما عاد مهمّ أن يسعوا لحريّة ظاهريّة. العاشق لله هو الحرّ بامتياز لأنّه يدور في فلك العشق ويقتات منه ويحيا به بمعزل عن أيّ شيء آخر، في قلب الله.
يقول القدّيس باسيليوس الكبير: "الله هو الجمال الّذي يسعى إليه كلّ إنسان". وكلّما أوغلنا في هذا الجمال ازددنا جمالاً، وكلّما أمعنّا في هذا الجمال باتت العودة منه مستحيلة. وكلّ عاشق أدرك هذا الجمال حمله في كيانه ومنحه للآخر. وابن الفارض ليس ببعيدٍ عن هذا المفهوم العلائقيّ بالله حين قال في قصيدته (زدني بفرط الحبّ فيك تحيّراً):
ولقدْ خلوتُ معَ الحبيبِ وبيننا
سِرٌّ أرَقّ مِنَ النّسيمِ، إذا سرَى
وأباحَ طرفي نظرة أمَّلتهـــا
فغدوتُ معروفاً وكنتُ منكَّراً
فدهشتُ بينَ جمالهِ وجـلالهِ
وغدا لسانُ الحالِ عني مخبراً
فأدِرْ لِحاظَكَ في مَحاسِن وَجْهِهِ،
تَلْقَى جَميعَ الحُسْنِ، فيهِ، مُصَوَّرا
لوْ أنّ كُلّ الحُسْنِ يكمُلُ صُورَة
ورآهُ كانَ مهلَّلاً ومكبَّراً
من العسير أن تغرق في الجمال الإلهيّ ولا تخبر عنه ولمّا بلّغت فأنت نبيّ ورسول يقول للنّاس إنّ الله حاضر هنا، فامتلئوا منه وتبيّنوا جماله لتحييوا وتكتملوا. (فدهشتُ بينَ جمالهِ وجـلالهِ // وغدا لسانُ الحالِ عني مخبراً). وفي ذات السّياق يقول البار أغسطينس مناجياً الله: "تأخرتُ كثيرًا في حبّك أيّها الجمال الأعظم والفائق في القِدَم. كنتُ أبحث عنك خارجي؛ لكنّني وجدتك داخلي وفي صميمي". وهنا يتطلّع أغسطينس إلى السّماء الرّحبة الّتي في داخله وأشار إليها بالجمال الأعلى.  لكنّه يربط الجمال بالحبّ فالله جمال يعشقه الإنسان.
الحبّ فعل إلهيّ وردّ فعل إنسانيّ يخلص بالإنسان إلى رتبة النّبوة. "الحبّ مقامٌ إلهيٌّ. وصف الحقّ تعالى به نفسه". (محيي الدّين بن عربي) ويقول القدّيس يوحنا :"نحن نحبّه لأنّه أحبّنا أوّلاً". إذاً فامتداد الحبّ منه وإليه. وانسكاب الحبّ الإلهيّ في قلب الإنسان يحمّله مسؤولية تبليغ هذا الحبّ فيصبح بالتّالي نبيّاً.
عاشق لله إنسان مرتبط بالعلوّ والعمق، بالله وبالإنسان. إذ لا يمكن حمل الكلمة الإلهيّة واحتكارها. لا بدّ من تبليغها والاستبسال في زرعها في كلّ نفس.
ما يجمع بين العاشقين لغة الله لغة العشق. يقول جلال الدّين الرّومي:

تعالَ.. تعالَ 

لا يهمّ من أنتَ، ولا إلى أيّ طريقِ تنتهي

تعالَ.. لا يهمّ من تكون 

عابر سبيل.. ناسكاً.. أو عاشقاً للحياة

تعالَ.. فلا مكان لليأس هنا 

تعالَ.. حتّى لو أخللتَ بعهدك ألف مرة

فقط تعالَ لنتكلّم عن الله

الكلام عن الله التزام بالرّسوليّة والنّبوّة وكلّ الإرث الفكريّ الّذي تركه العاشقون شعراً كان أم نثراً، وكلّ العظات والتّأمّلات ما هي إلّا نفحات عطر حدّثت بالعشق حتّى فنيت به غير آبهة بحياتها. تواضعوا حتّى حلّقوا في سماء الله، تذلّلوا حتّى أشرقوا في الله وأشرقوا في حياتنا. ولو أنّنا درسنا في مدارسنا سيرة الحلّاج والرّومي وشمس الدّين التّبريزي ويوحنّا فم الذّهب ويوحنّا سابا وأغسطينس ورابعة العدويّة وسواهم ممّن هاموا بالله لما بلغنا ما بلغناه من تدهور إنسانيّ وتقوقع دينيّ وعنصريّة فكريّة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق