الأحد، 7 أكتوبر 2018

الاغتسال في دموع الشّعر وضياء المحبّة




مادونا عسكر/ لبنان
الشّعر وليد الحالة الصّوفيّة تلك المتّسمة بعشق الله والتّوق لرؤيته والمكوث معه إلى الأبد. فيرتقي إلى رتبة الصّلاة، أي الحوار مع الله ومناجاته والتّوغّل في حبّه حدّ الانقطاع عن العالم. فلا يعود العاشق مبصراً إلّا للنّور الإلهيّ، والحضور الإلهيّ القويّ. ولا يعود قادراً على التّفلّت من هذا العشق وكأنّي بالله استرق كيانه وقيّده بالحبّ، أو أحرقه بنار العشق فذاب فيه حبّاً حتّى الامّحاء. ولئن ارتقى الشّعر إلى هذا المقام بفعل حالة العشق دلّ على فيضٍ لا مثيل له، تنسكب منه المشاعر عند أقدام الرّبّ دون حساب لأنّه المبادر أوّلاً بالحبّ.
وفي التّنقيب في الحالة العشقيّة عند سائر العاشقين لله نعاين فيضاً شعريّاً ينبع من فيض الله، لأنّه هو الحبّ الّذي إذا ما تغلغل في قلب الإنسان أشعله وتفجّرت منه أنهار ماء حيّ. "هل شعرت بالنّار الإلهيّة الّتي تنزل في القلب وتنطلق في الجسد كلّه والنّفس وتشعل القلب فيطير من شدّة احتراقها حتّى أنّ الأرض من تحته تتقد؟ هل أستطيع أن أصف لك اللّذة الّتي تفوق الإدراك؟" (القدّيس يوحنّا سابا).
لا يمكن لأحد أن يصف تلك اللّذة، ولا يقوى أحد على شرح تلك الحالة لا لغموضها وإنّما لأنّ الحبَّ/ الحقيقة لا يُشرح ولا يُفسّر وإنّما يُعاش ويُختبر ويُترجمه الكيان الإنسانيّ، قولاً وفعلاً. فالقول الخارج من القلب يستحيل شعراً عذباً يحاكي جمال الله، ويتواصل حبّاً مع الحبّ الأسمى. والفعل تخطٍّ للذّات والخروج منها لملاقتها حيّة في قلب الله.
أمام شخصيّتن بارزيتين وشجاعتين، نتحيّر من فرط الحبّ الذي سكبتاه عند أقدام الله، ونندهش من شعرٍ صاغته الأولى دموعاً تخبر عنها إلى أجيال فأجيال. والثّانية إرثاً أدبيّاً ما برح يفتن القلوب لشدّة ما جسّد الحبّ حتّى كدنا نبصره ونعاينه.
المرأة الخاطئة في إنجيل لوقا (5،36:7)، الّتي من فرط الحبّ غسلت قدمي السّيّد المسيح بدموعها ومسحتهما بشَعرها ودهنتمها بالطّيب. ورابعة العدويّة، الشّاعرة العاشقة، الّتي تيّمها العشق فأراقت الدّموع وسكبتها شِعراً يغذّي قلوب العاشقين. في الحركتين يتجلّى الشِّعر مقدّساً؛ فالدّموع قصائد صامتة تكشف عن معاينة الذّات على حقيقتها لحظة تنكشف أمام النّور. وقصائد رابعة العدويّة أقرب إلى الوحي، وكأنّي بها تصلّي إلى الله بكلام من نور.
يا طبيب القلب يا كلّ المنى
          جُد بوصل منك يشفي مهجتي
يا سروري وحياتي دائماً
          نشأتي منك وأيضاً نشوتي
قد هجرت الخلق جميعاً أرتجي
          منك وصلاً فهل أقضي أمنيتي
لقد اجتاح العشق الإلهيّ حياة رابعة فانفصلت عن ذاتها لتسكن إلى الله، واجتاح العشق المرأة الخاطئة فتحدّت مجتمعاً ينبذ المرأة ويحتقرها وتمرّدت على عادات وتقاليد كانت مستقرّة، لأنّ الحبّ قادها إلى الّذي هو الحبّ. "وإذا امرأة في المدينة كانت خاطئة، إذ علمت أنّ يسوع متّكئ في بيت الفرّيسيّ، جاءت بقارورة طيب ووقفت عند قدميه من ورائه باكية، وابتدأت تبلّ قدميه بالدّموع، وكانت تمسحهما بشعر رأسها، وتقبّل قدميه وتدهنهما بالطّيب." لقد وهبت هذه المرأة كلّ ما عندها في حضرة الحبّ (الدّموع/ الشّعر/ الطّيب)، وما الدّموع إلّا تعبير عن تقديم الذّات بكلّيتها للرّبّ وذلك بغسل النّفس من الذّنوب. فقد كانت تتزيّن بطيبها إرضاء للحبّ الأرضيّ، وأمّا الآن فتسكبه عند أقدام الحبّ الأسمى. وبهذا الانسكاب الكيانيّ الصّامت، تتلو المرأة الخاطئة أعظم قصيدة في الوجود، تتجلّى فيها كلّ معاني الحبّ. قصيدة لا يتلوها إلّا العاشقون الحقيقيّون الّذين ينظر الحبّ إلى عمق إنسانيّتهم ويحترم كرامتهم رغم كلّ شيء، فيزلزل كيانهم ويهزّ تركيبتهم المتناقضة ليحوّلها إلى وحدة سلاميّة تمضي في خطّ ثابت معه ونحوه. "قد غفرت خطاياها الكثيرة، لأنّها أحبّت كثيرا"، يقول المسيح عن هذه المرأة. ومعنى أنّها أحبّت كثيراً، أي أنّها دخلت في دائرة العشق الإلهيّ، وانجذبت له، وأحرقتها ناره حتّى رمتها أرضاً وكأنّي بها تموت لتحيا من جديد.
وأمّا رابعة الّتي تتناقض المصادر في تبليغنا سيرة حياتها، فبعضها يقول إنّها عاشت حياة الفسق والبعض الآخر ينفي، إلّا أنّها تمرّ بذات الحالة العشقيّة الّتي طرحتها أرضاً وأحرقت كيانها وأماتتها عن العالم لتحيا عشقاً لله.  قد يكمن الاختلاف في الشّخصيّتين، مع التّباين العقائديّ، ولكنّ الحالة واحدة، لأنّ اللّحظة الخاطفة للعشق واحدة.  ولا يمكن تفسير هذه اللّحظة علميّاً وتبيان هذا التّحوّل الفجائيّ الّذي ينقل الإنسان من الظّلمة إلى النّور في برهة خاطفة، برهة عشق. لكنّ المرأتين شاعرتان عاشقتان لله، والشِّعر إمّا أن يكون بالتّعبير الجسديّ وإمّا بالكلام. وهنا التقت المرأتان في الحالة وعبّرتا تعبيراً مختلفاً ظاهريّاً ولكنّه في العمق تعبير شعريّ عن الحالة الصّوفيّة.
"إنّها قصّة الإيمان حين يتغلغل إلى أعماق النّفس فيسمو بالرّوح إلى آفاق النّور، ويرتفع بصاحبه عن رقعة الطّين إلى هذا السّموّ الّذي لا يعرفه إلّا كلّ من عاش به وله. ويصبح كما عبّر عنه أحد الصّوفيّة: "نحن في نعيم لو عرفه الملوك لحاربونا عليه بالسّيوف." (هاني أحمد غريب)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق