الأحد، 7 أكتوبر 2018

النّفري والانفتاح على النّور الإلهيّ



مادونا عسكر/ لبنان
"سرّ، فأنا دليلك إليّ" (النّفّري)
بعد مقتل الحّلاج، يقول الدّكتور يوسف زيدان، صمت الصّوفيّون حوالي قرنٍ ونصف. ولعلّ صمتهم كان خوفاً من مصير شبيه بمصير الحلّاج أو لعلّه أيضاً مسيرة تأمّل مفعمة بالإصغاء والعشق. إلّا أنّ النّفري خرج عن صمته لينقل لنا ما يشبه الوحي، بل إنّ النّفري انفتح على النّور الإلهيّ حتّى أنّه ارتشف النّور وصاغه بلغة مكثّفة  ورمزيّة تتخطّى المعنى الحرفيّ. إذ من العسير نقل اللّغة الإلهيّة بوضوح تام، فالإنسان مهما بلغ من معرفة وقرب من الحقيقة لا بدّ من أنّ اللّغة عاجزة عن إبراز المعنى التّام. فالمنطق الإلهيّ مغاير للمنطق الإنسانيّ، كذلك اللّغة. وبالتّالي وجب الغوص في العمق حتّى يتمكّن الإنسان من تلمّس مقاصد الله. الله، سيّد التّاريخ، يزرع الكلمة في قلب العالم، ونوره المغدق على العالم لا ينضب. من أنواره، يستقي العاشقون فينطقون بالإلهيّات.
"المواقف والمخاطبات"، كتاب ارتكز على ثلاث عبارات (قال لي/ أوقفني/ يا عبد). وكأنّي بالنّفري غارق في رؤيا وينقل وحياً. فتكرار الفعل (قال) بانتظام دلّ على إصغاء تام من قبل النّفري حتّى يتمكّن من فهم اللّغة الإلهيّة ونقلها. والفعل (أوقفني) يشير إلى حضور النّفري في حضرة الكلمة. (أوقفني وقال لي)، إشارة إلى ولوج النّفري في عمق اللّحظة، لحظة التّجلّي الّتي تخرج عن الزّمان والمكان. ولا نعرف شيئاً عن سيرة النّفري وتكوينه الصّوفيّ واختباره الشّخصيّ مع الله. وكأنّي به نقص ليظهر الله. ولم يبق منه إلّا النّفحات الإلهيّة.
يصغي النّفري إلى صوت الله العميق في قلبه  ويصف بدقّة عمق هذا الصوت من خلال ما يرتدّ في داخله من لغة إلهيّة. فيقول: "وقال لي قربك لا هو بعدك وبعدك لا هو قربك، وأنا القريب البعيد قرباً هو البعد وبعداً هو القرب." كذلك يقول: "وقال لي القرب الّذي تعرفه مسافة، والبعد الّذي تعرفه مسافة، وأنا القريب البعيد بلا مسافة."  "وقال لي أنا أقرب إلى اللّسان من نطقه إذا نطق، فمن شهدني لم يذكر ومن ذكرني لم يشهد."
بقدر ما يقترب المتصوّف من النّور يتبيّن أسرار الكون، لا لعبقريّة في ذاته، وإنّما بفعل الاقتراب من النّور الكاشف للحقائق. والموضوع ليس بالسّهل كما يُظنّ، بل إنّه يحتمل ما يحتمل من الصّعوبة والمشقّة بقدر ما يغمر الإنسان سعادة وغبطة. فلئن تمكّن النّفري من نقل الكلمة الإلهيّة أفرغ ذاته ليمتلئ من الله. ولقد بلغ ما بلغ من التّحرّر الدّاخليّ فظهرت الكلمة وإنْ بالرّموز والإشارات. وللرّمز مساحة كبيرة من الحرّيّة الّتي تسمح بقول المسكوت عنه كما تسمح للفاحص بالغوص في أبعاد الكلمة. "وقال لي أنت معنى الكون كلّه". وقال لي أريد أن أخبرك عنّي بلا أثر سواي". إذا كان الإنسان معنى الكون كلّه، فلا ريب أنّ فيه يتمّ البحث عن المعنى الإلهيّ. بمعنى آخر، إنّ في الإنسان نفحة إلهيّة تقوده إلى معرفة الله وإلّا فبيننا وبينه هوّة عميقة تحول بيننا وبينه. لكنّه مهما بلغنا من معرفة وإصغاء يبقى المعنى الأصيل في القلب إذ تعجز اللّغة عن التّعبير عنه عند اهتياج العشق. كذا يقول النّفري: "كلما اتّسعت الرّؤية ضاقت العبارة". العبارة الّتي تحجب المعنى ولعلّها إذا بلّغت تبلّغ الجزء اليسير منه. "وقال لي هذه عباراتي وأنت تكتب فكيف وأنت لا تكتب؟". في هذا القول سرّ المسكوت عنه، لا لخوف وإنّما لتوهّج الكلمة والعجز عن وصفها؛ لأنّها كنه لا وصف.
ولبلوغ المعنى ينبغي إدراك العلم، ولكنّ العلم الّذي في الله لا في الإنسان. فهو النّبع الّذي منه يستقي الكلّ المعرفة والحكمة. "وقال لي من لم يغترف العلم من عين العلم لم يعلم الحقيقة ولم يكن لما علمه حكم، فحلّت علومه في قوله لا في قلبه، كذلك تحلّ في من علم." "وقال لي إن كنت أجير العلم  أعطاك الثّواب، وإن كنت أجير المعرفة أعطتك السّكينة. ولفظ (العلم) في الفكر الإلهيّ مساوٍ للحكمة. فبالحكمة الإلهيّة يدرك الإنسان بعض الحقائق، لأنّ بها، أي الحكمة، يستنير العقل ويتّجه صعوداً نحو الله، فينظر إلى العالم بالفكر الّذي في الله. "ابتغاء الحكمة يبلغ الى الملكوت" (الحكمة 21:6)
وإذا كان كتاب "المواقف" يعكس رؤيا أو اختباراً عشقيّاً حميماً عاشه النّفري مع الله، فكتاب "المخاطبات" ينقلنا إلى إدراك النّفري لمعنى الحضور الإلهيّ، أشارت إليه لفظة (يا عبد). فلا ريب أنّ النّفري ككلّ الصوفيّة يعرف حجمه أمام الله ولكن يمكننا القول إنّ كلمة (العبد) تعني العابد أو خادم العشق الإلهيّ. "يا عبد إن لم تعرف من أنت منّي لم تستقرّ في معرفتي." "يا عبد إن لم تستقرّ في معرفتي لم تدرِ كيف تعمل لي." "يا عبد إن عرفت من أنت منّي كنت من أهل المراتب."
لله علامات في التّاريخ لا يمكن تجاهلها. ومهما غرق هذا الكون في شقائه وبؤسه لا بدّ من ناظرين وباحثين عن وجه الله في قلب المآسي والأزمات. فوجهه الّذي لا يغيب وعينه الّتي لا تنام وحضوره الّذي ليس مثله يفعل في الكون بقوّة متمنطقة بالحبّ والجمال. إنّ الّذين يبحثون عن الله في اتّجاهات شتّى، يضلّون لا محالة. فالله، هنا، فيك، أقرب منك إليك. إن أصغيت إليه بصمت تسمعه، وإن أغمضت عينيك تراءى لك نوره، وإن عشقته تجلّى.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق