الأحد، 7 أكتوبر 2018

معاينة الأنا على نور الحبّ الإلهيّ



مادونا عسكر/ لبنان


تكمن وحدة كيانيّة خاصّة بين كلّ الشّغوفين بالعشق الإلهيّ. فكأنّهم يمتلكون لغة خاصّة تنبعث من قلوبهم فيتواصلون من خلالها. وتراهم ينطقون بقول واحد وإن اختلفت انتماءاتهم وعقائدهم، ومهما باعد بينهم الزّمن. وذلك لأنّهم على علاقة حميمة بمن هو فوق الزّمان والمكان واللّغات. ويثبتون في ذلك أنّ اللّغة الإلهيّة استحقاق ينالونه بفعل السّعي جاهداً في طريق الحبّ الموجّه كلّيّاً إلى هذا المتسامي المحبّ، الله.
هذه اللغة الإلهيّة أداة بحث معرفيّ في مكنون الذّات وليس في مكنون الذّات الإلهيّة. فإذا ما أتقنها العاشق لله توغّل في نفسه فعرفها. ولجلال الدّين الرّومي اختبار حقيقيّ في هذا الصّدد إذ يقول: "إن كنت تبحث عن الله فهذه مشكلة. الله فيك وأنت لا تدري". يماثله في ذلك قول المغبوط أغسطينس: "كم كانت نفسي جزعة يا إلهي، وأنا كحمل ضالّ حينما بحثت عنك بعيداً بينما كنت أنت فى داخلي". بين الرّومي وأغسطينس بعد زمنيّ كبير لكنّ اللّغة واحدة والمعرفة واحدة والقلب واحد. وكأنّي بقول الرّومي يشرح قول أغسطينس فيعبّر عن حضور إلهيّ يشمل التّاريخ كلّه. فالإنسان تحت نظر الله اليوم وأمس وغداً، وقلبه العاشق أسير اللّحظة الإلهيّة. ويتبيّن من خلال هذين القولين أنّ مراد الإنسان ليس البحث عن الله بل عن الذّات حتّى يلقى الله السّاكن فيه. ومتى تعرّف على حضوره عرف نفسه.
"اعرف نفسك بنفسك" قال الفيلسوف سقراط. وبذلك يضع الإنسان أمام المعضلة الأشدّ صعوبة. فهل يملك الإنسان هذه القدرة على ولوج الذّات ومعرفتها وتبيان تعقيداتها؟ وإذا كانت الفلسفة قد طرحت هذه الإشكاليّة من باب المنطق العقليّ إلّا أنّ العشق الإلهيّ كسر هذه القاعدة إن جاز التّعبير، وأكّد أنّ معرفة النّفس ليست معضلة منطقيّة فلسفيّة، وإنّما هي إشكاليّة الأنا/ الله. عندئذٍ يمكننا القول: "اعرف نفسك بالحبّ الإلهيّ". لأنّه إذا كان المطلوب معرفة النّفس بالنّفس فالفكرة موضوع التباس، لأنّ الأمر يتطلّب الكثير من الوعي والتّجرّد وحضور المسافة بين الأنا والأنا حتّى يعرف الإنسان نفسه. وأمّا البحث عنها في إطار الحبّ فالأمر ممكن؛ لأنّ العمق الإنسانيّ يعاين الأنا على نور الحبّ الإلهيّ.
وأمّا القاعدة الثّانية الّتي كسرها العاشقون لله هي البحث عن الله. فمن العسير أن تبحث عن الله بهذه البساطة الّتي يتصوّرها النّاس. فكيف يمكن للإنسان أن يدرك ما هو مخالف لطبيعته؟ فأتت اللّغة الإلهيّة العشقيّة لتبيّن أنّ البحث عن الله ينطلق من الأنا من حيث الإصغاء للصّوت الدّاخليّ الكامن في عمق الأعماق الإنسانيّة، ألا وهو صوت الله.

"رأيت ربّي بعين قلبي
فقلت من أنت؟ قال أنتَ!
فليس للأين منك أينُ
وليس أين بحيث أنتَ
أنت الّذي حزت كلّ أين" (الحلاج)
إنّ الفعل (رأى) في هذه الأبيات يشير إلى اختبار شخصيّ حميميّ مرتبط بعين القلب الّتي عاينت الرّبّ. إذاً فالقلب مركز هذا البحث وهذه الرّؤية. ولا بدّ من أنّ القلب يعني البعد الإنسانيّ الآخر غير الطّبيعة الجسديّة. يذكر الكتاب المقدّس في سفر التّكوين أنّ الله خلق الإنسان على صورته كمثاله، ما يعني أنّ في الإنسان عنصر إلهيّ، إن جاز التّعبير. وبهذا العنصر يدرك الإنسان الله، فيدرك نفسه. وما يعني أنّ إدراك النّفس مرتبط جذريّاً بالتّعرّف على الحبّ الإلهيّ لأنّه بالحبّ تكون المعرفة.
"بحثتُ عن الله، فلم أجد سِوى نفسي . بحثت عن نفسي، فلم أجد سوى الله ." (جلال الدّين الرّومي)/ "عندما عرفت نفسي عرفتك أيضاً لأنّ معرفتي لك نور لسبيلي" (المغبوط أغسطينس). معرفة الله تنير سبل الإنسان فيستنير عقله وتنطلق روحه، وبذلك تتجلّى له الحكمة والعشق فيعرف نفسه ويعرف الله.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق