الأحد، 7 أكتوبر 2018

عبد القادر الجيلاني والدّخول في مطلق اللّحظة العشقيّة



مادونا عسكر/ لبنان
أن تكتب قصيدة صوفيّة فذاك أشبه بارتحال عاموديّ نحو الحالة العشقيّة العلويّة. وآخر أفقيّ، يترامى إلى عشق الكون وكونيّة العشق. فتمسي القصيدة حالة تبشيريّة بالله الحبّ، وحركة ثوريّة لشخصنة الجمال وتجسيده في سبيل جذب الآخر إلى عمق الحبّ الإلهيّ. كما أنّها أشبه بعظة جماليّة تتلى على مسامع القرّاء وأرواحهم فترتقي بهم جسديّاً وروحيّاً إلى فوق، حيث الفكر الإلهيّ الّذي تمنطق به الشّاعر وينقله إلى القارئ بومضات  نورانيّة. لذلك لا يمكن لأيّ شاعر أن يؤلّف قصيدة صوفيّة أو يتخيّل الحالة العشقيّة دون أنْ يحتاج إلى اختبار شخصيّ حميم مع الله، من خلاله، يتمكّن من نقل صدى صوته الدّاخليّ العميق.
الشّاعر الصّوفيّ يكتب انفتاح قلبه على النّور الإلهيّ، فيناجي الله ويعبّر له عن شوقه. لكنّه في الوقت عينه ينضح بالعشق السّاكن فيه فيحوّل كلّ طاقاته المعرفيّة العشقيّة إلى ألباب القرّاء عن وعيٍ تام بأنّه يبني في داخلهم صرح الجمال. من هنا أهمّية الكونيّة العشقيّة في القصيدة الصّوفيّة الّتي وإن كانت موجّهة بشكل مباشر إلى العلو، فهي تمتدّ على اتّساع الكون لتطول كلّ جوانبه، وذلك لأنّ مصدرها عشقيّ إلهيّ.
ملفتة ومدهشة أبيات عبد القادر الجيلاني في تجسيد هذا الانغماس العشقيّ الكونيّ الممتدّ من الأزل إلى الأبد، مروراً بتاريخ الوجود إذ يقول:
سَقَانِي إِلهيِ مِنْ كؤوس شَرَابِهِ
 فَأَسْكَرَنِي حَقَاً فَهِمْتُ بِسَكْرتِي
وما دلالة الكؤوس المترعة بشراب الله إلّا رمز خاص للتّعبير عن حالة رؤيويّة فاض العشق فيها حتّى أنار البصيرة لتفهم ما لم يفهمه العقل.
ثمّ يقول:
ذِرَاعِيَ مِنْ فَوْقِ السَّمَواتِ كُلَّهَا
وَمِنْ تَحْتِ بَطْنِ الحُوتِ أَمْدَدْتُ رَاحَتي
 فكأنّ الشّاعر احتضن العلو والعمق في لحظة شعريّة خاصّة فكانت الحالة الصّوفيّة، وكان النّصّ. وما ليث أن انغمس في الكون بأسره يبشّر بهذا العشق، ويتمدّد في تاريخه وتفاصيله ومراحل تطوّره الإنسانيّ:
شَرِبْتُ بِكَاسَاتِ الغَرَامِ سُلاَفَةً
بِهَا انْتَعَشَت روحِي وَجِسْمِي وَمُهْجَتِي
وَصِرْتُ أَنَا السَاقِي لِمَنْ كَانَ حَاضِراً
أُدِيرُ عَلَيهِمْ كَرَّةً بَعْدَ كَرَّةِ
أَنَا كُنْتُ مَعْ نُوْحٍ أُشَاهِدُ فِي الْوَرَى
بِحَاراً وَطُوقَاناً عَلَى كَفِّ قُدْرَتي
وَكُنْتُ وَإِبْراهِيمَ مُلْقَىً بِنَارِهِ
 وَمَا بَرَّدَ النِّيرانَ إِلاَّ بدَعْوَتِي
وَكُنْتُ مَعَ اسْمَعِيلَ في الذَّبْحِ شاهِدَاً
وَمَا أَنْزَلَ المَذْبُوح إِلاَّ بِفُتْيَتي
وَكُنْتُ مَعَ يَعْقُوبَ فِي غَشْوِ عَيْنِهِ
 وَمَا بَرِئَتْ عَيْنَاهُ إِلاَّ بِتَفْلَتِي
وَكُنْتُ مَعَ إِدْرِيسَ لَمَّا ارْتَقَى الْعُلا
 وَأُسْكِنَ فِي الْفِرْدَوْسِ أَحْسَنَ جَنَّةِ
وَكُنْتُ وَمُوسَى فِي مُنَاجَاةِ رَبِّهِ
 وَمُوسَى عَصَاهُ مِنْ عَصَايَ اسْتَمَدَّتِ
وَكُنْتُ مَعَ أيِّوبَ في زَمَنِ الْبَلا
 وَمَا بَرِئَتْ بَلْوَاهُ إلاَّ بِدَعْوَتِي
وَكُنْتُ مَعَ عِيسَى وَفِي الْمَهْدِ ناطِقَاً
 وَأَعْطَيْتُ دَاوُداً حَلاَوةَ نَغْمَتِي
يتّحد الشّاعر بالعشق الإلهيّ فيتّحد بالكون بأسره بل يوحي لنا باتّحاد عشقيّ كان منذ الأزل، وربّما من قبل إنشاء العالم، أشار إليه تكرار لفظ (كنتُ) في القصيدة بشكل عام عشر مرّات.  ويرمز الرّقم عشرة (10) إلى العالم الأرضيّ والعالم السّماويّ اللّذين اجتمعا في الشّاعر فتحدّدت كينونته، وقد أشار إليه الشّاعر في بداية قصيدته حيث قال:
ذِرَاعِيَ مِنْ فَوْقِ السَّمَواتِ كُلَّهَا
وَمِنْ تَحْتِ بَطْنِ الحُوتِ أَمْدَدْتُ رَاحَتي
فكأنّه يستحضر الأوقات النّبويّة الّتي حياها، ويؤكّد انصهاراً كونيّاً نما به ومعه إلى أن تحدّد تاريخه كينوته. فمن آدم حتّى عيسى تدرّجت الإنسانيّة وتشكّلت مراحلها. ويوغل الشّعر في عمق الوجود ليجعل من نفسه كائناً في كلّ نبيّ حمل رسالة الله وكلمته، فيكون بذلك هو النّاطق بالنّبوّة على مدى التّاريخ دون أن ينزع عن الأنبياء مقامهم.
أَنَا الذَّاكِرُ المَذْكُورُ ذِكْراً لِذَاكِرٍ
 أَنَا الشاكِرُ المَشْكُورُ شُكْراً بِنِعْمَتِي
أَنَا الْعَاشِقُ الْمَعْشَوقُ فِي كُلِّ مُضْمَرٍ
 أَنَا السَّامِعُ الْمَسْمُوعُ فِي كُلِّ نَغْمَةِ
أَنَا الْوَاحِدُ الْفَرْدُ الْكَبِيرُ بِذَاتِهِ
أَنَا الْوَاصِفُ الْمَوْصُوفُ عِلْمُ الطَّرِيقَةِ
 وبذلك يسكن الشّاعر المرتقي سلّم العشق ضمير كلّ إنسان منذ بدء التّاريخ وحتّى نهايته. بل يمنح ذاته قوّة العشق المتغلغل بما قبل الخلق (وَلِي نَشَأَةَ في الْحُبِّ مِنْ قَبْلِ آدمِ / وَسِرِّي سَرَى فِي الْكَوْنِ مِنْ قَبْلِ نَشْأَتِي)
 لا تعبّر (أنا) في هذه الأبيات عن تعالٍ أو تمجيد للذّات وإنّما تأتي لفظة (أنا) في سياق الاتّحاد العشقيّ وهي الّتي تحمل قيمتها من خلال هذا العشق فقط. وعي الشّاعر أنّه امتداد لهذا العشق وليس مصدره.
وَأَوْصِيكُمُو كَسْرَ النُّفُوسِ فإِنَّها
 مَرَاتِبُ عِزِّ عِنْدَ أَهْلِ الطَّرِيقَةِ
وَمَنْ حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ بِتَكَبُّرٍ
تَجِدْهُ صَغِيراً في عُيُونِ الأَقِلَّةِ
وَمَنْ كَانَ فِي حَالاتِهِ مُتَواضِعَاً
 مَعَ اللهِ عَزَّتْهُ جَميعُ الْبَرِيَّةِ
لقد حملت القصيدة بعمقها الرّوحيّ المتجلّي تجربة الشّاعر في الوجد الصّوفيّ، متساميا عن لحظته الزّمانيّة والمكانيّة، ليدخل في المطلق، هذا المطلق الممتدّ في كلّ ذات، وفي كلّ زمان ومكان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق