الأربعاء، 24 يوليو 2019

الإبداع وعزلة الحرّيّة


مادونا عسكر/ لبنان



إذا كانت الكتابة تعبيراً عن الذّات فيحتاج هذا التّعبير إصغاء للصّوت الدّاخليّ الّذي يودّ التّحرّر من ضجيج الدّاخل، حتّى يؤثّر في القارئ ويعبّر عنه. وبقدر ما يصغي الكاتب إلى هذا الصّوت ينطلق في رحاب الإبداع، وتتفجّر كنوزه الكامنة في الأعماق، تلك الّتي تؤسّس لتاريخه الإبداعيّ ولشخصه كمرجع أدبيّ.
لا يمكن لإنسان متخبّط في ضجيج العالم وضجيج نفسه أن يصبح كاتباً ويبدع. ذاك ما يتلمّسه القارئ اليوم في أغلب الكتابات الّتي يقرأها الّتي تشبه عصرنا. فنلاحظ أنّ بعض الأعمال المسّماة أدبيّة ليست سوى خربشات فوضويّة تتمركز حول البوح عن المشاعر السّطحيّة، أو حول ما يتمّ نقله عن الواقع بسخافة مفرطة، أم إنّ الكاتب يكتب من فراغ فيأتي العمل فارغاً هشّاً. والكتابة من فراغ دليل انغماس في ضوضاء العالم من جهة. ومن جهة أخرى، سطوة الأنا على الكاتب تعيق مسيرته نحو العمق، فيكون هو المحور لا الفكرة المراد التّعبير عنها وتفكيكها لتتجسّد جمالاً.
ليس الكاتب لنفسه، بل للإبداع المعطى له بنعمة خاصّة، وبالتّالي فهو خادم هذا الإبداع. لا يحتكره لإبراز أناه، وإنّما للارتقاء بها. ولا يحوّلها إلى أداة تترجم انفعالات تؤثّر في القارئ آنياً، تدغدغ مشاعره إلى حين ثمّ تندثر باندثار الوقت. إن وُجد الإبداع فليخلق تاريخاً جديداً، يتجدّد بحضور الكاتب. وإن كانت الكتابة لا تحفر عميقاً في النّفوس فلأنّها تخرج من فراغ، لا من صمت عظيم وسلام حقيقيّ يمتلك كيان الكاتب.
الصّمت والسّلام سمتان يصير إليهما الكاتب بفعل الانعزال عن العالم. وقد لا يكون هذا الانعزال ظاهريّاً بقدر ما يكون داخليّاً. بمعنى آخر، الانسلاخ الضّمني عن الضّجيج المحيط بالكاتب، والابتعاد قدر الإمكان عن الظّاهر يسمح له بالتّوغّل في نور الحقيقية الّذي سيكشف له ما يودّ معرفته في ذاته أوّلاً ثمّ في الآخر ثمّ في الوجود ككلّ. ما يعوزه إلى الصّمت ليتمكّن من مراقبة أدقّ الأمور وتبيّن حقيقتها، ولا يأتي الصّمت والسّلام من فراغ، بل بفعل مجهود خاصّ واجتهاد في نبذ كلّ أمر لا يخدم إبداعه ويخلّد له.
العزلة قرار داخليّ من شأنه استثمار الإبداع بكلّيّته، ولن يكون الأمر سهلاً إذا ما تمحور الكاتب حول أناه ليجذب القارئ إلى شخصه. ولن يقوى على التأثير به دوماً إذا ما تمسّك بأناه وقدّمها على النّصّ. ذاك لا يعني أن يتخلّى الكاتب عن أناه، لأنّه بها يجسّد الجمال ومنها يستقي بهاء إبداعه، لكنّه بانعزاله عن السّطحيّات يتّحد بالنّصّ، وينصهر بالكلمة والمعنى حتّى يستحيل لغة يتحدّث بها القارئ.
لا بدّ للكاتب أن ينعزل كي يقوى على الإصغاء إلى صوته الدّاخلي ويتحرّر من أصوات كثيرة تصمّ أذنيه وتعطّل بصيرته. فيتعرّف على ذاته ويكتشف إبداعه بشكل مستمرّ. كلّ القوّة تكمن في تلك العزلة الدّاخليّة الّتي تفصله عن العالم وهو فيه؛ فينحصر عقله بالتّأمّل، بالدّاخل أوّلاً، ثمّ الخارج، ولا يتأثّر بالمجاملات والإطراءات؛ لأنّ هدفه البحث عن اليقين وملامسة الرّؤى.
ينعزل الكاتب فيرى بوضوح ما هو أبعد من الواقع، ويعاين ما هو فوق الوعي ليبلغ تفاصيل تائهة عن القارئ، فيشعل قلبه ويغرقه في كون من الجمال والمعرفة، وكلّما تفجّر الإبداع ازداد الخوف الإيجابيّ الّذي يشكّل رادعاً للغرور والتّباهي. كاتب لا يخاف من الجمال يتلاشى أمام حكمة القارئ ونقده، فالخوف خطوة تأنٍّ نحو المزيد من العزلة بهدف حرّيّة الإبداع وانطلاقه نحو مزيد من الجمال والدّهشة. بالخوف يصوغ الكاتب نصوصه ويثبت أمام رهبة القلم وقوّة اللّغة وعجزها في آن، وكأنّي به مع كلّ نصّ جديد يكتب المرّة الأولى والنّصّ الأوّل، حتّى يستحيل النّصّ الأخير مفتوحاً على المطلق.


الجمعة، 12 يوليو 2019

البعد النّهيويّ للحالة الشّعريّة في ديوان "ما يشبه الرّثاء" للشّاعر الفلسطينيّ فراس حج محمد



مادونا عسكر/ لبنان
إنّه ما يشبه الرّثاء، لكنّه ليس رثاء بالمعنى الاصطلاحيّ  الّذي هو غرض من أغراض الشّعر الغنائيّ يقوم على بكاء الميت وذكر صفاته الحميدة. فما بين أيدينا ديوانٌ يكشف عن وعيٍ خاص ودقيق وشامل بالواقع الّذي اختبره الشّاعر وعاشه. يطلّ الشّاعر فراس حجّ محمّد به على القارئ، ويسلّط الضّوء على ظلمات واقعيّة، يلمسها حسّيّاً لكنّه يبدو وكأنّه يتحدّث عنها من خارج الواقع. دلّت على ذلك القصيدة الأولى (هكذا أتيتكم/ ص7) الّتي اختصرت بشكل أو بآخر وعي الشّاعر لتفاصيل الإنسان المتناقضة الّتي أنهكت التّاريخ الإنسانيّ، وأنهكت الشّاعر.  وقد دلّ عنوان القصيدة على معنى ضمنيّ  يبيّن غياب الشّاعر عن الواقع؛ ليعود إليه بعد تفكّر وتأمّل عميق. هذا الوعي بدقائق الأمور حالة شديدة الصّعوبة، فالإنسان في هذه الحالة تختلف رؤيته للأمور وتتبدّل مفاهيمه وقناعاته، وتدخله في دائرة التّأمّل الّذي كلّما أبحر فيه اشتدّ الألم.
يستخدم الشّاعر فعل القول بصيغة المتكلّم سبع مرّات ولعلّه أراد أن يبلغ منتهى القول. (أتيتكم لأقول/ كيف أقول؟/ أنتظر الرّدّ من امرأة أقول لها/ وأقول: أنا الغريب هنا وهي الغريبة هناك/ أقول أو لا أقول/ هنا سأقول). تتدرّج الحالة الشّعريّة بين فعل القول الأوّل المترافق وفعل (أتيتكم) وفعل القول الأخير المحدّد إطاره بالانفتاح على الكمال والبعد النّهيويّ للحالة الشّعريّة.
سأجلو الذّاكرةْ
وأحتّ وهم القلب
وأكفر بالقصائد المتعلقة على ضفاف السّنوات
أكفِّر عن خطاياي القديمةْ
لعلّي أولد من جديد طفلا بلا أمنيات خائبةْ
وأستريحُ على نهارٍ أبيضِ الخطوات نحو الآخرةْ
هنا سأقول:
إنّي انتبهت للون شَعري
وطول أعشابي على جسد النخيلْ
لا شيء ينفعُ بعد اليومْ
غير أنّي استمعتُ لوقع خطوي في الظّلالْ
في هذا المقطع من قصيدة (وأخيراً) يعبّر الشّاعر عن وقفة أمام ذاته الشّعريّة الّتي بلغها في لحظة انتقال من الإنسان إلى الشّاعر متوغّلاً في عمق المفهوم النّهيويّ. وكأنّي به يتحدّث من هناك، من مكان آخر، من واقع آخر يرنو إليه بالرّجاء، أو بالاستنارة العقليّة (لا شيء ينفع بعد اليوم/ غير أنّي استمعت لوقع خطوي في الظّلال). في هذين السّطرين نفحة صوفيّة تبلّغ تحرّر الشّاعر من كلّ شيء إلّا من الشّعر الّذي يرتفع بالإنسان إلى أعلى الدّائرة الإنسانيّة. لذلك استخدم الشّاعر عبارة (هنا سأقول)، محدّداً إطار قوله الأبعد من الحدود ومنبّهاً إلى ارتفاعه فوق العالم ثمّ النّزول إليه ليقول بطريقة أخرى.
أنا
أنتم، وأنتنَّ، وأنتِ، وأنتما ....
وهما، وهنَّ، وهم، وأفرادهما....
كلها ضمائر شاهدهْ:
متكلمهْ،
متخاطبهْ،
إلا «أنا »
و «أنا » ضمير غائبٌ.
لفظ الأنا المستخدم ستاً وأربعين مرّة مفتاح الدّيوان ومحوره وسببه وغايته. فالشّاعر أغلق ذاته على ذاته بل توحّد معها ولعلّه بلغ ما بلغه من اتّحاد الذّوات الإنسانيّة عندما يدرك الأنا أناه في الذّات الشّعريّة. (أنا ضمير غائب) يترادف وحالات الأنا عند الشّاعر المعبّرة عن الغربة/ الغياب. غاب الإنسان فكتب الشّاعر واغترب الشّاعر ثمّ عاد ليقول. والأنا المراد الإشارة إليها في الدّيوان هي الأنا الشّاملة جسديّاً ونفسيّاً وروحيّاً. لقد عبّر الشّاعر عن أناه بأدقّ تفاصيلها أمام أناه أوّلاً كفعل اغتسال داخليّ يؤسّس لانفتاح أعمق على الحالة الشّعريّة . فالشّاعر ينقل للقارئ هذه الحالة بعد فعل اغتسال الأنا ليكون الشّعر في أبلغ مقام.
نصّان موجعان سوادويّان ينفضان الغبار الأسود عن أنا الشّاعر. (فكرة/ ص 14) (أحزان مدنّسة/ ص 17)  لقد احتلّ هذان النّصّان الصفحات الأولى من الدّيوان  كتعبير عن فعل اختلاء بالذّات وانفتاح على النّور الشّعريّ حتّى معاينة أسفل الدّائرة الإنسانيّة واقتلاعها كفعل انتقال من أسفل إلى علو. من هنا سيأتي القول أصفى وأنقى بعيداً عن الوعظ. فلئن بدأ بغسل أناه  أراد الشّاعر معالجة الوجع الواقعيّ بالوجع الشّعريّ المرتبط بالوعي. عندئذٍ يمكنه  الحديث عن المثقّف، المرأة، الوطن، السّياسيّ، الشّعر، الحبّ... لأنّ هدف الشّاعر الاكتمال الكلّيّ.
متى تأتينَ طبعتيَ النهائيةْ؟
فتكملين النقص كل النقصِ
يا آي الجلالْ
فلا تتقاعسي عني وتبلجي سفرا شهي الاكتمالْ
والاكتمال لا يكون إلّا بالموت. ذاك ما نفهمه من لفظ الموت واشتقاقاته اللّغويّة الحاضرة في الدّيوان. (الموت/ الموتى/ مات/ الممات) يتدرّج الموت في الدّيوان من الموت الجسديّ إلى الموت المعنويّ إلى الموت الرّوحيّ إلى الموت الخلاص ثمّ في الختام إلى الموت الكمال.
لا تستوي الأفكار فيَّ وتعتم الألفاظُ
تنطفئُ اللّغةْ
تصابُ بالإيضاحْ
على حين غرّةٍ من سؤالْ
والجملة أعمدة أثريّة بليغة في الظّلّ
تموتُ كشمعةٍ في الرّياحْ
يا أيهُّا اللّا شّيءْ
أطبق طباقكَ واستبدّ كحرفِ جرّْ
لا شيءَ أصعبُ من مرض اللّغةْ
وهنا بلغ الشّاعر منتهى العجز أمام اللّغة القاصرة عن إبلاغ مقاصد الحالة الشّعريّة. فالخلاص في الموت اللّغويّ أي الصّمت البليغ المتكلّم. إلّا أنّه في قصيدة (رثاء) ص 127 يستخدم الشّاعر عبارة (قد مات) ثلاث عشر مرّة وينهي القصيدة بعبارة (يا ليته ما مات) يكون عدد مرّات استخدام الفعل (مات) أربع عشر مرّة. وإن دلّ الرّقم (7) على الكمال الرّوحيّ فالرّقم (14) هو مقياس مضاعف للكمال الرّوحيّ. وتكرار عبارة (قد مات) ما هو إلّا تكرار تأكيديّ على حالة الخروج من الواقع والارتقاء إلى فوق أحكمها الشّاعر بجملة (يا ليته ما مات) ففي حالة الموت الخلاص حالة تحرّر من كلّ ما يقيّد الشّاعر فكريّاً ونفسيّاً وروحيّاً وواقعيّاً.
قولي لكلّ خليّة في الكونِ،
ذبذبةٍ، وأغنيةٍ، وساقيةٍ
«بأنّ الشاعر المحمومَ في آماله متكاملا مع ظله
هو راحل مع سرّه، وبوهمه قد ماتْ
قولي لهُم: «قد مات »
فما شكل الصباح بدونه
يا ليتهُ...
ويلاه يا ويلاه يا ويلاه
يا ليته ما مااااااااااااااااااتْ
(ليت) حرف تمنٍّ يتعلّق بالمستحيل غالباً، وهنا يستحيل على الشّاعر العودة إلى ما كان عليه. وفي استحالة العودة علوّ وارتقاء نحو الأعلى. وما هذا الارتقاء إلى مشقّة وعذاب من نوع آخر كقول درويش في (لاعب النّرد):
لولا وقوفي على جَبَل
لفرحتُ بصومعة النّسر: لا ضوء أَعلى!
ولكنَّ مجداً كهذا المُتوَّجِ بالذهب الأزرق اللّانهائيِّ
صعبُ الزيارة: يبقى الوحيدُ هناك وحيداً
ولا يستطيع النّزول على قدميه
إنّها حالة التّفرّد والانفراد الّتي فيها تختلف النّظرة للأمور فيكون الشّقاء والعذاب من نوع آخر. ثمّة تقارب بين مرثيّة درويش وما يشبه رثاء فراس حج محمّد. الاثنان يكتبان من علوّ، من فوق لا يدركه إلّا من تدرّج إلى فوق. الاثنان يكتبان الأنا المدركة، لا الأنا الظّاهرة. لذلك يبدو الدّيوان محكم الإغلاق. بمعنى آخر، إنّه ديوان صاغه الشّاعر بقول الأنا المائتة عن العالم، الحيّة فوق الجبل حيث مجد الشّعراء.

الأربعاء، 3 يوليو 2019

دهشة القمر الظّميء



مادونا عسكر/ لبنان
-1-
بالأمسِ
لمّا سافر إلى مآله
وانتهى
نما في لهيب الدّائرة
واختفى
خلف ستائر النّبوّة المنسيّة
بالأمسِ المشرفِ على أكمَة مجهولة
زرع في الدّهر دهراً ومضى
تبخّرَ
كما الأبصار عند خواتمها
كما الرّحيل عند حلول المجيء
لا يعلم الأنبياء أنّهم
قوافل النّور
المتمدّدة في رحاب الشّوك النّديّ
إلّا
عندما تهوي الكتب
وتذوي اللّغة
في إشراقة الهيام
-2-
إذا اشتعل القلب
تجلّت القصيدة
مقاماً متوقّداً
في فراغ الفراغ
ليس من شعرٍ في الأعماق الخامدة
والعقول المتيقّظة
الشّعرُ
اشتياق الله إلى همس القلب
-3-
تشبّث بدهشة قمرين
ينتحلان
عقيدة الجرح الرّحيم
يتلبّسان
حالة الوجد السّقيم
يثوران
كلّما
تراءت لهما
يدان مخمورتان
تباركان
عصير الكرمة المقدّسة
تلاعبان
أطفالاً لمّا يولدوا بعد
ليس في المقامات أعلى
من يدين
تشبّثان بدهشة قمرين
يستحضران القداسة القديمة
في ظلّ عتمة المدينة
-4-
لمّا كان للقديم
عينٌ
تعانق الشّفق والغسق
ارتوت الظّلال من شغف
الظّمأ الأعلى
الكلّ في حلمٍ
والعين ساهرة
الكلّ في ثبات القلق
حتّى يسكن إلى غفوة إلهيّة.