‏إظهار الرسائل ذات التسميات أحبب وافعل ما تشاء. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات أحبب وافعل ما تشاء. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 18 يناير 2017

أحبب وافعل ما تشاء (5)


 أرني محبّتك حتّى أصدّق أنّك مؤمن.
مادونا عسكر/ لبنان
كان العالم "ألبر أنشتاين" عائداً إلى أميركا بعد رحلة قضاها في أوروبا، فاستوقفه أحد الصّحفيّين في المطار سائلاً إيّاه عمّا إذا  كان يؤمن بوجود الله. فردّ العالم الشّهير: "حدّد لي مفهومك عن الله وسأجيبك إن كنت أؤمن أو لا". 
غالباً ما يُردُّ على هذا السّؤال بتلقائيّة إيجابيّة، وكثيراً ما تنطوي الإجابة على تأكيد وفخر وتعالٍ، إذ إنّ بعض المؤمنين يعتبرون ذواتهم أرفع من غيرهم ويصنّفون أنفسهم بشراً من الدّرجة الأولى. الإجابة على سؤال (هل تؤمن بوجود الله؟)، تفترض جواباً دقيقاً مرتبطاً بالصّدق والوعي، والإخلاص للذّات.  يسهل علينا إعلان إيماننا ولكنّه يصعب علينا ترجمة هذا الإيمان ما لم يكن يقيناً ثابتاً، راسخاً في عمق الذّات الإنسانيّة. قد نظهر كمؤمنين بممارستنا لطقوس عدّة ومختلفة، وبتطبيقنا لنصوص كتابيّة شتّى، أمّا ما يخفيه البعض في دواخله ليس إلّا خوفاً من نار أو طمعاً في جنّة. وهنا ينتفي مفهوم الإيمان الحقيقيّ، إذ إنّه قابل للتّبدّل والتّحوّل في أيّ لحظة انعدم فيها الخوف والطّمع.
الإيمان هو تصديق ما لا يُرى، والمعنى متناقض إذا ما حلّله العقل، فالتّصديق يحتاج للإثبات والدّليل. بيد أنّ الإيمان بالله لا يحتمل من الأدلّة الحسيّة والعلميّة إلّا اليسير منها، ويبقى دليل المؤمن شخصيّاً ولا يمكن تلقينه للآخر، كما لا يمكن جعله معادلة حسابيّة منطقيّة قابلة للبرهان والتّأكيد.  بالمقابل، إذا أيقنا أنّ الإنسان أبعد من كائن بيولوجيّ يدرك الأمور الحسّيّة فقط، ويحمل في ذاته توقاً إلى المطلق، وقدرة على تحسّس ما لا تعاينه الحواس، كالحبّ والجمال والفنّ...،  وأنّ بإمكانه تغذية بصيرته، تلك القوّة الدّاخلية القادرة على تلمّس وتبيان ما لا يرى، وتهذيب عقله فيمتلك الحكمة، سيصبح تعريف الإيمان غير متناقض، ويمسي الإيمان تصديق ما لا يرى بالحواس وإنّما يُرى بالبعد الدّاخليّ والرّوحيّ للإنسان. والتّصديق يفترض عاملين أساسيّين، الأوّل وهو الثّقة بمن نؤمن، والثّاني، الحبّ، إذ إنّه لا يمكن تصديق من لا نحبّ.
- الإيمان الثّقة: 
نحن نؤمن أقلّ بكثير ممّا نقول، وإلّا لاختفت شكوكنا وتساؤلاتنا واستفهاماتنا حول حقيقة وجود الله، ولسيطر علينا الذّهول والدّهشة بشكل مستمرّ، ولعشنا حياتنا بخشوع مستديم، إذ إنّ الإيمان أي الثّقة الثّابتة بالله أقوى من أن يحتملها العقل البشري، لذا يبقى العقل مضطرباً ومشكّكاً وباحثاً عن الحقيقة. والأهمّ أنّه لو بلغ إيماننا أقصى درجاته لما شهدنا خلافات واختلافات حول طرائق الوصول إلى الله. من هنا تتباين الثّقة، العنصر الأوّل، بين شخص وآخر، نسبة لدرجة قبول العقل البشري هذه الحقيقة ونسبة للسّماح لهذه الحقيقة بالتّسرّب إلى القلب.  وبكلامنا عن ثقة، نحن نعرّف الإيمان على أنّه علاقة وبالتّالي وجود الثّقة يفترض وجود شخص نؤمن به ونصدّقه تصديقاً كاملاً، لأنّنا تلمّسنا حضوره الشّخصيّ واختبرنا مرافقته لنا. ولو بحثنا جدّيّاً لوجدنا أنّنا نثق بالله أقلّ بكثير ممّا ندّعي بدليل اضطرابنا وقلقنا في الأزمات والصّعوبات، حتّى يصل بنا الأمر أحياناً إلى اعتبار أنّ الله تخلّى عنّا.
إنّ مفهوم الله يختلف من شخص إلى آخر ومن مجموعة إلى أخرى ومن ثقافة إلى أخرى، إلّا أنّه إن بقي في إطار الفكرة أو المفهوم، فلا يمكن عندها الحديث عن ثقة، فالثّقة ضمن العلاقة تحتاج لشخص وليس إلى وهم. والفكرة قد تكون وهماً والأيديولوجيا قد تتبدّل أو تتطوّر، أو حتّى تُدحض، وبالتّالي الثّقة بالله تتخطّى الثّقة بفكرة لتتحوّل إلى ثقة بشخص حيّ، يتفاعل معنا ونتفاعل معه، يخاطبنا ونخاطبه، ندعوه ويستجيب، وبالتّالي كمؤمنين ومن خلال هذا التّفاعل نبني علاقة مع الله ترتكز على الثّقة والتّصديق بأنّه الّذي يرانا ولا نراه، ويحضر معنا كلّ حين. 
هذه الثّقة الّتي تشكّل عماداً للإيمان ينبغي أن تنطلق من وعي وإدراك عقليّين، فيغدو الإيمان حقيقة يقبلها العقل ويُسمح لها بالتّسرّب إلى القلب ليتمكّن هذا الأخير من معاينة ما لا يُرى. إيمان أعمى وغير واعٍ هو إيمان باطل وكاذب وغير مرتكز على أسس متينة تثبّت عامل الثّقة بين الحبيب والمحبوب. والإيمان الأعمى ينطلق من مبدأ الموروث، في حين أنّ الإيمان العلاقة يُبنى على اختبار شخصيّ، وليس على موروث. لا ريب أنّ الإنسان يحتاج إلى مبادئ إيمانيّة معيّنة، بيد أنّه يحتاج للبحث الشّخصيّ والاختبار الشّخصيّ لهذه العلاقة، فلا تعود قابلة للتّزعزع. عندما يقودنا المنطق إلى وجود الإله، الشّخص الحيّ، وينفتح قلبنا عليه، عندها يمكننا المجاهرة بالإيمان، وما عدا ذلك إمّا يدخل في إطار الخوف من إله لا نعرفه وإمّا في إطار الانسياق ضمن مجموعة أحكمت السّيطرة علينا بمفهومها لله، وسيطرت على عقلنا وتمكّنت من قلوبنا، وإمّا أعجبتنا فكرة التّسلّط على الآخر باسم الله واستباحة ملكه وعرضه وكرامته.
لو ألقينا نظرة على الواقع فسنجد الكثير ممّن يدّعون الإيمان مقابل القليل الّذي يؤمن حقّاً ويتفاعل مع الله الحيّ، فينتج عن إيمانه هذا أعمال تخرج عن القوقعة الطّائفيّة، وحرّيّة تتخطّى قيود الانغلاق في دين لتبحث عن الشّخص الموثوق به (الله). فتصبح العلاقة بينه وبين الله علاقة متجرّدة وحرّة، تنطلق من الإنسان نحو الله، في بحث مستمرّ عن الحقيقة.
الثّقة بالله هي القدرة على تخطّي الذّات، والقوّة الّتي تدفع الإنسان لرؤية الموثوق به  بشكل جليّ من خلال حضوره الفعّال والحيّ.
- الإيمان الحبّ:
إنّ مؤمناً يسخر من آخر مختلف عنه، أو يظنّ نفسه أكثر قيمة منه، أو يحسب أنّ السّماء ملكاً له وحده، هو إنسان متناقض مع نفسه وغير صادق في إيمانه. المؤمن بالله، هو شخص أحبّ الله ووثق به، واعترف بأنّ الله حبّ وكلّ ما ينبثق عنه هو خير وحبّ وجمال. كما أنّ مؤمناً يدّعي أنّه من شدّة حبّه بالله يفرض نفسه وعقيدته على الآخر، بل ويستخدم القوّة لإخضاع هذا الآخر، هو إنسان يعاني من اضطراب نفسي يقوده إلى إثبات نفسه على حساب مفهومه الإيمانيّ حتّى يشعر بقوّته وقيمته.
الله حبّ، وما لم يكن كذلك فكيف نتفاعل معه بحبّ، وكيف نحبّه ونثق به؟ افتراضية أنّ الله ليس حبّاً تنفي كلّ ثقة به ليحلّ مكانها الخوف، وتقضي على الحبّ إذ إنه لا توافق بين الحبّ والخوف، وحيث يحلّ الخوف يتلاشى الحبّ والعكس صحيح. وكلّ محاولة للتّسلّط على الآخر ولفرض عقيدة معيّنة، وكلّ اضّطهاد هنا وهناك تحت غطاء إحكام الدّولة الدّينيّة يعبّر عن سلوك مرضيّ وإجراميّ وليس عن إيمان. إن كان المؤمن يدّعي الإيمان حبّاً بالله، فكيف يمكنه أن يرذل من وما أوجده الله. من يحبّ الله حقّاً يخشى أن يجرح ورقة على غصن يابس، ويخاف أن يدوس زهرة عن غير قصد، وهمّه الأكبر أن يرعى أخاه الإنسان، لأنّه كائن من كان هو خليقة الله.
إنّ الإيمان بالله، أي حبّ الله يفرض علاقة حبّ مع الإنسان، والحبّ الممنوح للإنسان يفترض علاقة حبّ مع الله. فتستحيل العلاقة عاموديّة مع الله وأفقيّة مع الإنسان، وكلّ ما ينتج عن الإيمان غير الحبّ، ليس سوى هرطقات وادّعاءات ونفاق. الإيمان الحبّ، علاقة داخليّة صامتة مع ذاك الحبيب الأسمى الّذي يجذبنا دوماً إليه، وعلاقة خارجيّة ملؤها المحبّة غير المشروطة مع الإنسان، أساسها التّفاعل مع الآخر بهدف البنيان والانفتاح عليه واحترام حريّته وكرامته الإنسانيّة، فتتشكّل ركائز الصّلاة الأولى الّتي هي حوار مع الله ومع الإنسان. إن كنّا لا نجيد الحوار مع بعضنا البعض على أساس التّفاهم والمحبّة والحرّيّة فكيف سنتحاور مع الله؟ وإنّ كنّا نهين الكرامة الإنسانيّة فكيف نتجاسر بعد على إعلان الإيمان؟
أيّاً كانت العقائد أو الانتماءات الدّينيّة، ما لم تكن في خدمة المحبّة والكرامة الإنسانيّة، فهي باطلة وغير فاعلة في النّفس الإنسانيّة لتعدّها لعالم الله ومجده السّماويّ. ولا نبحثنّ كثيراً عمّا يثبت إيمان هذا وكفر ذاك وارتداد ذلك، فالمؤمن الحقيقيّ مستعدّ أبداً لجذب الإنسان بمحبّته وانفتاحه. وهو في نضال مستمرّ ومتواصل من أجل خدمة الإنسان، أي إنسان لأنّه أحبّ الله حتّى أنّه بات يتلمّسه في كلّ مخلوقاته.
بالمقابل يحسن أن نفهم أنّ الحبّ لا حدود له والوصول إلى مرحلة الاكتفاء منه تعني نهايته. لذا فالحبّ هو حياة متحرّكة ديناميكيّة أبداً، تحيي الإنسان وتخلقه من جديد كلّ يوم. وهو فعل إلهيّ في الإنسان حتّى يمنح حبّه للآخر بصدق وأمانة فيثبت حبّه لله. كما يحسن أن نعيَ وندركَ أن إيماننا غير مرتبط بطمع بجنّة أو بخوف من جهنّم، لأنّ الحبّ لا يخضع لشروط بل هو فعل مجّانيّ، وبالتّالي يكون الحبّ لله حبّاً من أجل الحبّ، ويكون الحبّ للإنسان حبّاً من أجل الحبّ.
ليس لأحد فضل على أحد إلّا بالمحبّة، وليس لأحد دَيْن على أحد إلّا دَيْن المحبّة، ولا يحيا الإنسان كرامته الإنسانيّة إلّا إذا حوّل طاقة الحبّ الّتي نفخها الله فيه باتّجاه الله والإنسان، ولا يكون حرّاً ما لم يرفعه الحبّ إلى السّماء وهو ما زال يسكن العالم.


أحبب وافعل ما تشاء (4)


كلّ شيء مباح ولكن ليس كلّ شيء يوافق.
مادونا عسكر/ لبنان
الحرّيّة، قيمة شغلت الفكر الإنساني وما زالت تشغله خاصّة في مجتمعاتنا الّتي تفتقد إلى الحرّيّة على الصّعيد الفكري والديّني والاجتماعي والسّياسي... ويسعى الإنسان جاهداً طيلة حياته لتحقيق هذا الهدف وبشتّى الوسائل،  وقد يضحّي بنفسه من أجل أن ينال هذا الحقّ المقدّس. ولكن، في مرحلة ما يعتقد أنّه نال حرّيّته إلّا أنّه ما يلبث أن يكتشف أنّ قيوداً كثيرة ما زالت تكبّله وتعيق بلوغه هذا الهدف.
للحرّيّة مفاهيم عدّة، وكلّ يعبّر عن مفهومه بحسب إطاره التّربويّ والاجتماعيّ والمحيطيّ والسّلوكيّ، وكلّ يشرح الحرّيّة بحسب رغبته بنيلها أو بمعنى أصحّ بحسب القيود الّتي تأسره. والحرّيّة مفهوم غزير المعاني وواسع الدّلالة، ويتشعّب ليرتبط بعدّة حقوق إنسانيّة تعتبر جزءاً لا يتجزّأ من كرامة الإنسان وبالتّالي ممارسته لحرّيّته، كحرّيّة المعتقد وحرّيّة الرأي والتّعبير وحرّيّة ممارسة العمل السّياسيّ... إلّا أنّه يبقى عسيراً على الإنسان بلوغ الحرّيّة الكاملة رغم السّعي والاجتهاد، وذلك لأنّ ثمّة عوامل عدّة تعترض سبيله، وغالباً ما تكبّله الحرّيّة عينها لأنّه إمّا لم يحسن استخدامها، وإمّا لأنّه سعى إلى حرّيّة غير تلك الّتي تمنح الإنسان كمال إنسانيّته.
- المفهوم العام للحرّيّة:
الحرّيّة كما يصفها " ديكارت"، هي القدرة على فعل الشّيء أو الامتناع عن فعله، فالعامل الأساس والأوّل للحرّيّة هو الإرادة الواعية والمدركة لاتّخاذ قرار الفعل أو الامتناع عنه. ويلتقي " ديكارت" مع "روسو"، إذ إنّ الأخير يعتبر أنّ الحرّيّة لا تعتمد على أن يفعل الفرد ما يريد بإرادته الخاصّة، بقدر ما تعتمد على ألّا يخضع لإرادة شخص آخر، وهي تعتمد أكثر على عدم خضوع الآخرين لإرادتي الخاصّة. وبالتّالي فعدم الخضوع يحتاج إلى إرادة صلبة وخبرة حياتيّة أسهمت في صقل هذه الإرادة ومنحت الشّخصيّة الإنسانيّة اتّزاناً عقلياً وعاطفيّاً فتأبى الخضوع. كذلك يشير الفيلسوف البريطاني " جون لوك" إلى أنّ الحرّيّة هي قدرة المرء على فعل أو الإمساك عن فعل أي نشاط خاص"، وقد طوّر لوك مفهوم السّلوك الاجتماعي للحرّيّة جاعلاً الإنسان هو القضيّة وهو الموضوع للعلاقة الوطيدة بين فهم الإنسان لقوانين الطّبيعة ذات القواعد العامّة لتنظيم السّلوك الغريزي لذات الإنسان مؤكداً على أنّ الحريّة تعني: " وجوب أن يحترم كلّ شخص حياة وممتلكات الآخرين". ولئن شكّلت الإرادة العامل الأساس لبلوغ الحرّيّة فهذا يقتضي تدريب هذه الإرادة وترويضها على كيفيّة معرفة اتّخاذ القرار الصّائب. فالإنسان يخضع لضعفه البشريّ ولمحدوديّته  كما لرغباته، وبالتّالي فقدرته على اتّخاذ القرار الصائب تبقى مرهونة بعدّة حيثيّات، كما أنّها تبقى خاضعة للوعي  والضّمير الإنساني. كذلك الإنسان كائن محكوم بقوانين عدّة شارك في صياغتها مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، وتأتي هذه القوانين لتشكّل رادعاً يقولب حياته، فمن جهة يمتلك حرّيّة خاصّة ومن جهة أخرى  يمارس حرّيّته بدون أن يتسبب بأذيّة نفسه أو أذيّة الآخرين. إنّ القوانين الاجتماعيّة تتمركز حول ما هو مسموح وما هو ممنوع، والالتزام بها يتطلّب منهاجاً تربويّاً يدرّب النّفس الإنسانيّة على العمل بها والتّقيّد بها، وبالتّالي وجب تنشئة الإنسان منذ الصّغر على احترام القوانين والالتزام بها حتّى يحيا بأقل ضرر ممكن في مجتمع يتشارك فيه الحياة مع آخرين. والتّنشئة على القوانين والعمل بها يضبطان سلوكه ويردعان النّزعة نحو العمل السّيئ أو المخلّ بالمجتمع. القانون، القيد الإيجابيّ إن جاز التّعبير، يحمي حرّيّة الفرد وحرّيّة الجماعة. و"حرّيّة الفرد هي المنبع الوحيد لكلّ القيم"، كما يقول سارتر. فكيف للإنسان أن يتبنّى القيم ويتعايش معها ويعيش في هيكليّتها ما لم يكن حرّاً؟ وماذا تعني الحياة الإنسانيّة وما قيمتها ما لم تنعم بالحرّيّة؟
- مفهوم حرّيّة الفرد.
"كلّ إنسان حرّ في أن يفعل ما يشاء بشرط أن لا يتعدى على ما لغيره من مثل حريته"، هربيرت سبينسر. إنّه المبدأ العام للحرّيّة الفرديّة، ويبقى لكلّ إنسان القرار في اختيار ما يريد وتحقيق ما يريد والتّعبير كما يشاء شريطة ألّا يسبّب ضرراً  لغيره أو يعيق حرّيّته. ولكنّ السّؤال الأهمّ، ما مدى مفهومنا للحرّيّة الفرديّة أو الذّاتيّة بتعبير أصح، وهل الإنسان حرّ فعلاً أم أنّه في طور التّحرّر؟ وهل نسعى إلى الحرّيّة أم إلى التّحرّر؟ 
لو تأمّلنا حياتنا اليوميّة البسيطة وعلى الرّغم من أنّنا نعتقد أنّنا أحرار  ونفعل ما نشاء، إلّا أنّ الكثير من القيود تسيّر حياتنا وتحول بيننا وبين بلوغ الحرّيّة، إذا كان المبدأ المتّفق عليه هو أن نفعل ما نشاء مع احترام حرّيّة الآخر. كالالتزام بوظيفة لا تناسب طموحاتنا، أو مجاورة أناس مختلفين عنّا، أو ارتباط عائليّ غير متوافق...
بالمقابل إنّ مفهوم الحرّيّة الفرديّة أو الذّاتيّة يبقى ناقصاً ما لم ندرك معنى أعمق للحرّيّة ألا وهو الحرّيّة الدّاخليّة الذاتيّة أي تلك الّتي تنبع من داخل الإنسان وليست تلك الّتي يبحث عنها خارجاً عنه. الحرّيّة الّتي تجعل النّفس عظيمة والعقل متحرّراً منطلقاً، والّتي تخلص إلى تحقيق الإنسانيّة الكاملة. بمعنى آخر، تحرير الذّات من تناقضاتها ونزعتها لفعل الشّرّ وصراعها بين متناقضاتها، وتحريرها من شوائب عدّة تحدّ من انطلاقها في الحياة وانفتاحها على الآخر.  إنّ القوانين الاجتماعيّة وحتّى الدّينيّة والعائليّة لا تنفذ إلى عمقنا الإنسانيّ بل هي رادع ومؤدّب خارجيّ لنا، وبالتّالي ينبغي أن نتخطّى هذا الرّادع ونعبر نحو السّلوك السّليم الحرّ وذلك من خلال تخطّي منهج التّرهيب والتّرغيب وإتقان العمل الإنساني بقرار واعٍ حرّ بدون خوف من عقاب ولا طمعاً بثواب؛ بل إن ما ينفذ إلى أعماقنا بل ويحرّرها هو كيفيّة اتّخاذ القرار ثمّ التّنفيذ، فإن كنّا نقيم فروض الصّلاة طمعاً بالسّماء أو خوفاً من النّار، فليست صلاتنا سوى ثرثرات تريح ضمائرنا. وإن كان التزامنا الدّينيّ خوفاً من أن نلقى مصيراً بائساً فالتزامنا غير قائم على حرّيّة الممارسة لأنّنا ضمنيّاً لا نريده ونتظاهر بذلك.  كذلك في ما يخصّ القوانين الاجتماعيّة، بحيث أنّنا إن طبّقنا قانون السّير على سبيل المثال خوفاً من القانون فنحن نخضع للخوف وليس لاحترام سلامتنا وسلامة الآخر. كما أنّ هذا الرّوادع القانونيّة والاجتماعيّة قابلة للتّغيير والتّبديل وقد تصلح في مجتمع ولا تتناسب مع آخر، وقد تكون رادعاً هنا ومتاحة هناك.
إنّ بلوغ الحرّيّة يتطلّب مسيرة متواصلة من التّحرّر الدّاخليّ أوّلاً، حتّى نرتقي إلى الحرّيّة الحقيقيّة. والتّحرّر الدّاخلي يبدأ لحظة يقرّر الإنسان أن يقف بشجاعة أمام ذاته ويبحث عن تناقضاتها وجوانبها المظلمة. ويحتاج هذا التّحرّر إلى محبّة الذّات والتّواضع، محبّة الذّات كقيمة إنسانيّة استثنائيّة تستحق الحرّيّة كي تبدع وتتحقّق جمالاً في هذا العالم، والتواضع بغية الاقتراب من ذواتنا أكثر واكتشاف جوانبنا المظلمة الّتي تأسرنا وتعيق تحررّنا من ذواتنا فننطلق. هي الوقوف أمام الضّمير والاعتراف بأنّ ذواتنا مرتبطة بعبوديّات كثيرة قد لا نكون مدركين لها.

- بلوغ الحرّيّة الذّاتيّة:
إنّ المطالبة بالحرّيّة حقّ مقدّس بقدر ما الحرّيّة هي حقّ مقدّس، وحتّى لو ولدنا في مجتمعات تقدّس الحرّيات وتحترم الحرّيّة الشّخصيّة إلّا أنّ الحّريّة تبقى في الأساس واقعاً إنسانيّاً داخليّاً مرتبطاً بالعقل والعمق الإنساني قبل أن تكون واقعاً معيشاً اجتماعيّاً. فحتّى لو كنّا أحراراً إجتماعيّاً إلّا أنّه ما لم نتحرّر من دواخلنا فنحن ما زلنا عبيداً لأنفسنا. لا ريب أنّ الحرّيّة الاجتماعيّة أمر لا بدّ من المطالبة به والنّضال من أجله، ولكن الخطوة الأولى للحرّيّة تبدأ انطلاقاً من الذّات. وللولوج في معاني هذه الحرّيّة يلزمنا أن نكتشف قيود الدّاخل الإنساني حتّى نتمكّن من التّحرّر منها فنبلغ حريّتنا المنشودة. ولكلّ منّا قيوده وتتباين من فرد إلى آخر، ولكنّنا نشترك بقيود عدّة تتمكّن منّا وتأسرنا وتمنع عنّا الانطلاق للبحث عن الحرّيّة الخارجيّة.
- القيود الدّاخليّة:
الإنسان تركيبة غريبة عجيبة، تحمل الكثير من التناقضات، والرّغبات، وجوانب مظلمة قد يمضي الواحد منّا عمراً كاملاً ولا يعرفها. تلك الجوانب هي الّتي تحرّك الإنسان أحياناً وتدفعه لفعل ما لا يريد فعله، وبما أنّه يجهلها سيجهل بالتّالي أسباباً كثيرة لأفعال كثيرة يمارسها. كما أنّ التّركيبة الإنسانيّة تحمل في ذاتها الرّغبات والشّهوات والميول الّتي يكتشفها الإنسان وهي الّتي تتحكّم فيه إن لم يتمكّن من لجمها أو تطويعها أو السّيطرة عليها. ومهما تحرّر الإنسان اجتماعيّاً وحياتيّاً، لا يكون حرّاً ما لم يمتلك القدرة على السّيطرة على رغباته وشهواته والتّحكّم بها.
بالمقابل، غالباً ما تهاجم عقولنا أفكار رديئة لا إراديّاً، ناتجة عن ذكريات معيّنة أو ظروف نمرّ بها أو مررنا بها، كأفكار الانتقام من الآخر أو أذيّته أو انتقاده سلبيّاً أو إيذاء أنفسنا، وكلّ هذا في إطار التّفكير وليس بالضّرورة أن يتحوّل إلى فعل. تلك أنواع من القيود الّتي تؤرق العقل الإنساني والنّفس الإنسانيّة، وتحرّر الإنسان منها يتحدّد بقدر تمكّنه من لجم هذا الأفكار والسّيطرة عليها وعدم تحويلها إلى فعل. ولا ننسى الخوف العامل الطّبيعي الحاضر في الكيان الإنساني، ويتحوّل قيداً إذا ما استُغلّ في سبيل السّيطرة على الآخر والاستحكام به. وهذا الخوف السّلبيّ حاضر فينا وهو المعيق الأوّل لتحرّرنا من ذواتنا. الخوف من رأي الآخر فينا، الخوف من انتقاد الآخر لمظهرنا أو فكرنا أو سلوكنا، الخوف من الموت... بين حرّيّة الذات والعبوديّة لها يقع عامل الإرادة الّذي يجعلنا مسيطرين على ذواتنا وليس العكس. فالحرّيّة ليست أن نفعل ما نشاء بقدر ما هي ألّا نسمح لأمر أو شخص أن يسيطر علينا.
يقول الفيلسوف " Talleyrand ": " الموت هو فعل حرّيّة بامتياز"، لأنّ بالموت يتحرّر الإنسان من كلّ قيد جسدي وفكري وروحي... وعندها فقط يبلغ الحرّيّة الكاملة والمطلقة. أمّا طالما أنّه يحيا في هذا العالم فهو ملتزم بقيود كثيرة وعديدة ويتحرّر منها تدريجياً وإن وصل إلى التّحرّر من سيطرة الرغبات والشّهوات والخوف، وارتقى بنفسه عالياً حتّى يبلغ رتبة الأصفياء والقدّيسين، يبقى خاضعاً لعالم المادّة وبالتالي تبقى حرّيّته ناقصة.
أولى خطوات الإنسان نحو التّحرّر هي تلك الّتي تبدأ من داخله وليس العكس، فيسهل بحثه عن الحرّيّة ويستقيم سلوكه الفكري والعاطفي والرّوحيّ. وليثبت في هذا البحث ويبلغ هدفه يحتاج الإنسان بشكل أساسيّ إلى عاملين أساسيّين اللّذين يقوداننا إلى تعريف  الحرّيّة الشّخصيّة الذّاتيّة ألا وهو أن يكون الإنسان حرّاً أمام نفسه.
- العامل الأوّل: المحبّة
المحبّة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالحرّيّة الشّخصيّة والعامة في الوقت عينه. وأن نفعل ما نشاء دون السّماح لأمر أو فكر أو شخص أن يسيطر علينا، متّصل بمحبتنا لذواتنا أوّلاً ومحبّة الآخر حبّنا لذواتنا ثانية. وأيّ أمر داخليّ نفسيّ يحرّكنا ويدفعنا لفعل ما يتحكّم بنا، يقودنا إلى العبوديّة وليس إلى الحرّيّة. إنّ حبنا لذواتنا كقيمة إنسانيّة تستحق الاحترام والحرّيّة يمنع عنّا أي فعل يهين كرامتنا الإنسانيّة وبالتّالي كرامة الآخر. فالفعل الإنسانيّ النّاتج عن فكر أو رأي أو تعبير، ما لم يأخذ بعين الاعتبار الكرامة الإنسانيّة يبقى فعلاً دنيئاً يمارس تحت غطاء الحرّيّة ليصل إلى مأرب معيّن؛ كمن يقتل الآخر بحجّة الكفر، أو بحجّة الانتقام، فهذا الفعل ينضوي على استعباد الآخر وإهانة كرامته الإنسانيّة واعتبار أنّ الحقّ يفترض التّخلّص منه حتّى تحيا الإنسانيّة حرّيّتها. أو كإهانة الآخر تحت ما يسمّى حرّيّة الرأي والتّعبير فتكون النّتيجة انتهاكاً لكرامته الإنسانيّة. والعكس صحيح، التّعبير عن الرّأي بمراوغة تحت شعار الدّيبلوماسيّة في إبداء الآراء تكون نتيجته فعلاً منافقاً وكاذباً.
المحبّة هي المعيار الثّابت والأكيد لتخطّي كلّ أنانيّة ونفاق واستحواذ على الذّات وعلى الآخر، وبالتّالي من يحبّ يأخذ بعين الاعتبار الذّات الإنسانيّة بما تحمله من كرامة وقيمة.
- العامل الثّاني: الضّمير
الحرّ هو من وقف أمام نفسه وتصرّف بصدق ودون مواربة، حتّى وإن لم يكن بإمكانه ممارسة حرّيّته الاجتماعيّة. ومتى وقف الإنسان أمام ضميره وأصغى له وجد أنّ كلّ سلوك أو فعل أو تفكير مباح له وإنّما ليس كلّ شيء يوافق كرامته الإنسانيّة. والحرّ هو من لا يسمح لخوف أو فكر أو سلوك أو اختبار أو جماعة أو أيديولوجيا أن تسيطر عليه، عندها فقط يمكن للإنسان القول أنّه تحرّر.
الحرّيّة بدون محبّة فوضى قاتلة وعبثيّة، وبدون وقفة أمام الضّمير انتحار غير مباشر للذّات وجريمة بحقّ الإنسانيّة. فاحبب وافعل ما تشاء، واعتبر أنّ كلّ شيء مباح لك ولكن ليس كلّ شيء يوافق كرامتك الإنسانيّة وشخصك الّذي يحمل في ذاته قيمة ثمينة لا يحق لأحد ولا حتّى لذاتك أن يزدري بها.


أحبب وافعل ما تشاء (3)

 سلطة بلا محبّة تسلّط

مادونا عسكر/ لبنان
قام عالم النفس الأمريكي الكبير "فيليب زيمباردو" سنة 1971 بتجربة سمّيت بسجن جامعة ستانفورد، أجريت بهدف دراسة نفسية عنيت بالاستجابات الإنسانية للأَسْر، واهتمّت بالظروف الحقيقيّة لحياة السّجن. اختار "زيمباردو" أربعاً وعشرين شخصاً، كانوا الأكثر ملاءمة من حيث الاستقرار النّفسي والصّحة البدنيّة. غالبيتهم كانوا من البيض، والذكور، ومن الطّبقة الوسطى، وهم جميعاً طلّاب في المرحلة الجامعية. قام الباحث بتقسيم مجموعة من الطّلبة لمجموعتين، مجموعة لعبت دور مساجين والأخرى سجانين، في قسم من جامعة ستانفورد، تحت الأرض والذي تمّ تقسيمه ليبدو كسجن. والقاعدة الوحيدة الّتي اعتُمدت في اللّعبة هي: "لا قواعد". وعلى السّجانين اتّخاذ كلّ التّدابير اللّازمة كما يحلو لهم، دون أي مساءلة من أي نوع. وكانت النتيجة كارثية، إذ إنّ الطّلاب الّذين عرفوا بهدوئهم واتّزانهم وتفوّقهم، تحوّلوا بشكل مرعب لدرجة أنّهم تمادوا بتعذيب زملائهم بخشونة وقسوة باعتبار أنّهم يملكون السّلطة المطلقة في التصرّف، ولن يخضعوا للتّساؤل. أوقف "زيمباردو" التّجرية فوراً، إذ سرعان ما خرجت التّجربة عن السّيطرة.  فالسّجناء عانوا من ممارسات ساديّة ومهينة وبدت على عدد منهم اضّطرابات عاطفيّة. وعلى الرّغم من أنّ هذا الاختبار تعرّض لنقد واسع النّطاق باعتباره مناف للأخلاق وغير علمي، وعلى الرّغم من أنّه لا يمكننا تعميم نتائج هذا الاختبار كما ذكر النّاقد وعالم النّفس "إيريك فروم"، إلّا أنّ هذا الاختبار بما أدّى من نتائج، يستحقّ منّا وقفة ذاتيّة نتأمّل من خلالها بعض من جوانبنا المظلمة.
هل فكّرنا يوماً بكيفيّة تصرّفنا إذا ما كنّا في موقع سلطة مطلقة؟ وهل سنبقى مسيطرين على ضمائرنا ومسؤوليتنا الإنسانيّة إذا عُفينا من المساءلة؟ أم أنّ السّلطة المطلقة تُخرج أسوأ ما في الإنسان؟ وما هو الرّادع الأساسيّ والثّابت الّذي يمنع الإنسان من الانحدار بإنسانيّته عدا موضوع القوانين؟ فالقوانين لا تردع الجميع وخاصّة أغلب من هم في السّلطة، إذ إنّهم غالباً ما يعتبرون أنفسهم فوق القانون، أو يبحثون عن ثغرات تمكّنهم من الهروب من المحاسبة، أو يتلاعبون وهم ينفّذون القانون.
إنّ الحروب وخاصّة الحروب الأهليّة، تشهد لممارسات فظيعة وقاسية، مورست من خلالها أشدّ أنواع العنف حتّى أنّه وصل الأمر بالإخوة ضمن البيت الواحد إلى الاقتتال وهدر الدّماء في سبيل قضايا واهمة وبدماء باردة. وهذا الأمر يستدعي الدّهشة والتّعجّب، كما يجعلنا نتساءل بشكل شخصيّ: هل يمكن أن أقتل أخي شقيقي، إذا ما سلّمت إليّ سلطة مطلقة؟ الجواب التّلقائي يكون لا، ولكن كيف نفسّر الاقتتال الأهليّ، وكيف نشرح تسليم الإخوة بعضهم لبعض إبّان الحروب الأهليّة؟ وكيف نفهم مدى الوحشيّة في القتل لمجرّد تنفيذ أوامر عسكريّة أو حزبيّة؟ وهل في لحظة الحصول على السّلطة المطلقة تموت الإنسانيّة في الإنسان؟
 إلى جانب هذه الفكرة، قد ينبغي أن نُدخل عامل الخوف المرافق للسّلطة المطلقة، والحديث هنا ليس عن سلطة حكوميّة أو قانونيّة، ففي هذه المسألة حدّث ولا حرج، وإنّما الحديث عن أشخاص تعرّضوا لتجربة مشابهة لاختبار "زيمباردو"، وهم أشخاص لا يعانون من حاجة ماديّة أو اضّطرابات سلوكيّة ولعلّهم يعتبرون أنفسهم يحترمون القيمة الإنسانيّة.  إن الخوف من فقدان السّلطة هو العامل الأساسيّ الّذي يخرج من الإنسان أسوأ ما فيه، إذا كانت السّلطة مطلقة وبدون أي ضوابط أو محاسبة، وبالتّالي تصبح  السّلطة، القدرة على التّحكم بالآخر واستعباده وإهانته ومعاملته بمنتهى القسوة.
إن اختبار "زيمباردو" لم يتمّ إجراؤه في حالة حرب، أو في حالة مشابهة وإنّما الجدير بالذّكر أنّ بعض الطّلّاب الّذين لعبوا دور السّجّانين تطوّعوا لإكمال هذا الاختبار حتّى النّهاية. ممّا يعني أنّه قد تكمن  في نفوسنا رغبة قويّة في التّسلّط على الآخر واستعباده. لن نعمّم نتائج الاختبار، ولن نعتبر أنّه رأي علميّ ثابت، ولكن حريّ بنا أن نلج في عمق ذواتنا قدر المستطاع حتّى ننفذ إلى تلك الجوانب المظلمة الّتي لا نعرفها تماماً حتّى نعالجها ونرتقي بإنسانيّتنا.   
لو راقبنا تصرّفات الأشخاص الّذين يتمتّعون ببعض السّلطة، كالأهل تجاه أبنائهم، سوف نرى أنّهم يعتبرون أنّه من حقّهم أن يقرّروا عنهم أو أن يتحكّموا بمستقبلهم وحياتهم. وليس هذا عن سوء نيّة بالتّأكيد وإنّما بدافع محبّة. من ناحية أخرى ما زال أغلب الرّجال في شرقنا المسكين، يعتبرون أنّ من حقّهم أن يتسّلطوا على زوجاتهم ويتحكّمون بهنّ، هم من يمتّعون بالسّلطة الماليّة. كذلك بعض المعلّمين والمعلّمات في المدارس، يمارسون أقسى أنواع العنف الجسدي والمعنوي لأنّهم يعتبرون أنّ لهم سلطة على الطّلّاب. كذلك أرباب العمل الّذين يتعاملون مع موظّفيهم وكأنّهم عبيد عندهم. والأخطر من ذلك، الدّور الّذي يلعبه بعض رجال الدّين في التّحكّم بمجموعة من النّاس تحت غطاء دينيّ وإيمانيّ، فيرسمون لهم طريقاً يتوافق وأهدافهم ومصالحهم الشّخصيّة ويستعبدونهم ويحوّلونهم إلى آلات مبرمجة تدمّر كلّ ما حولها.
ينبغي أن نعترف أنّ في داخل كلّ منّا ميل إلى ممارسة السّلطة والتّلذّذ بها، وتتفاوت درجات هذا الميل باختلاف الأشخاص من حيث الوضع التّربويّ أو الاجتماعي أو السّياسيّ، أو النّفسي أو من حيث اعتبار ممارسة السّلطة نوع من الحرّيّة. وبالتّالي وجب البحث عن رادع  بل عن مبيد لهذا الميل إن جاز التّعبير، كي لا نتحوّل في لحظة ما إلى وحوش يقتلون إنسانيّتهم وإنسانيّة الآخر.
إنّ مفهوم السّلطة مرتبط بالخدمة، ومفهوم الخدمة يرتبط بالعظمة لأنّ صاحب السّلطة هو خادم لمن هم تحت سلطته وليس دكتاتوراً عليهم. فالسّلطة تتطلّب الكثير من الحكمة حتّى لا تتحوّل إلى تسلّط واستعباد واعتبار الآخر من ضمن الممتلكات الشّخصيّة نتحكّم به وبحياته كما نريد. " قبل أن نصل إلى السّلطة، علينا أن نصل إلى الحكمة كي نستخدم السّلطة بشكل جيد." كما يقول "رالف إيميرسون". والحكمة بنت المحبّة، إذ إنّ الوصول إلى تنقية العقل وتصويب مساره والتّحرّر من كلّ ما يمكن أن يسيّره أو يسيطر عليه، يتطلّب بداية تنقية القلب والرّوح حتّما يستقرّ سلوك الإنسان ويحيا خبرته الحياتيّة باتّزان ورفعة. "من أراد أن يكون فيكم عظيماً فليكن لكم خادماً" (السّيّد المسيح).
المحبّة رادع داخليّ في الإنسان، بل هي جوهر الإنسان. وإذا أردنا تبسيط الموضوع، يمكننا أن نرى كيف أنّ الإنسان عندما يحبّ آخرَ لا يؤذيه، حتّى ولو تعرّض للضّغوط. بالمقابل، كما تكون سلوكيّات الإنسان بأغلبيّتها نتيجة لتربية معيّنة، كذلك إن تربّى الإنسان بشكل أساسيّ على المحبّة الواعيّة والأصيلة، فسينتج عن هذه التّربية سلوكاً إنسانيّاً، مشبعاً بالقيم والمبادئ الّتي تنير له عقله وقلبه فيدرك ضعفاته ويحاول أن يقتل فيه كلّ رغبة في عمل الشّرّ. ولسنا نتحدّث عن محبّة مستهترة ومرائية وضعيفة، بل عن أساس جوهريّ في حياة الإنسان يمكّنه من الارتقاء بإنسانيّته نابذاً كلّ عنف وكلّ تسلّط وانتهاك للكرامة الإنسانيّة.
سلطة بلا محبّة، تسلّط وظلم وهيمنة، واحتكار للذّات الإنسانيّة، فالمحبّة هي الرّادع الوحيد الّذي ينطلق من جانب الإنسان المستنير حتّى يمنع على نفسه أيّ سلوك في الظّلمة. إنّ أزمة واقعنا المرير هي أزمة سلطة، وما نحياه اليوم من عنف وترهيب وهمجيّة يندرج في خطّ مَنْ يسيطر على مَنْ، ومن يستولي على من. وما نعيشه من حروب أهليّة تحت غطاء طائفيّ ومذهبيّ ليس إرضاء لله وإثباتاً للحقّ وإنّما لبسط السّلطة بل التّسلّط والسيطرة على الآخر. من أراد أن يرضي الله فليخدم أخاه، وبصدق ومحبّة مجانيّة، متنازلاً عن كبريائه وعن تنصيب نفسه إلهاً على الآخرين. وكلّما تفوّه أحدهم بأنّه يقتل في سبيل الله فهو يناطح الله ويتطاول عليه. فما هو عليه ليس إلّا التلذّذ بالتّسلّط لا أكثر ولا أقل، والشّعور بسعادة مزيّفة بأنّه الأقوى.

إنّ السّلطة المدعّمة بالمحبّة، لا تخلو من العزم والحزم والمحاسبة وإنّما هي حضور مهيب وقويّ يفرض احترامه وهيبته بمحبّة بدون أن يرعب الآخر ويخيفه ويهدّده، ويستغلّ ضعفه أو عوزه ليتحكّم به. إنّ المحبّة ترأف وترحم، وبالتّالي فالرّأفة والرّحمة تمنعان الإنسان من تشويه الصّورة الإنسانيّة لدى الآخر، وسلطة بدون رحمة جحيم مفتوح على مصراعيه يبتلع ما شاء من عقول ونفوس. إنّ المحبّة تفترض وعياً وصبراً وتأنٍّ فتبسط سلطتها مع الأخذ بعين الاعتبار كرامة الإنسان،  ولم يفت الأوان بعد لنربّي أولادنا وطلّابنا ومجتمعنا ككلّ على المحبّة الحقيقيّة، وتدريبهم على مفهوم السّلطة الّتي هي خدمة الآخر بحكمة. ولنزرع في نفوسهم وبقوّة قاعدتين لا سواهما: "عامل الآخر كما تريد أن تُعامل، وأحبب الآخر حبّك لنفسك"، لعلّنا نبني معاً مستقبلاً شريعته المحبّة والسّلام.  

أحبب وافعل ما تشاء (2)


المحبّة أساس العدل
مادونا عسكر/ لبنان
شغل مفهوم العدالة أذهان الفلاسفة على مرّ التّاريخ، إلّا أنّه يبقى مفهوماً غامضاً، خاصّة أنّه على أرض الواقع، لا نبالغ إن قلنا إنّ العدالة مغيّبة، أو لنقل إنّ العدالة تطبّق إمّا بشكل جزئيّ، وإمّا بحسب مفهوم كلّ إنسان للعدالة. والمفهوم يختلف بين إنسان وآخر، وبين بيئة وأخرى، وبين طبقة وأخرى. فالعدالة يمكن أن تحمل في معناها المساواة بين الجميع بالحقوق والواجبات، وأن يخضع الكلّ بشكل متساوٍ لقوانين وضعيّة؛ كأن نقول مثلاً إنّه على المواطن أن يدفع الضّرائب المتوجّبة عليه، ولكن بالمقابل أين العدالة في تطبيق هذا القانون في حين أنّ مستوى الدّخل يتفاوت بين مواطن وآخر؟ أو كأن نقول إنّه من حقّ كلّ مواطن أن يحيا بكرامة فيؤمَّن له السّكن والتّعليم والمأكل... ولكن أين العدالة إذا ما كان المسكن المؤمَّن دون الشّروط المطلوبة أو إذا ما كان المنهج التّعليميّ دون المستوى الفكري المطلوب؟ إلى ما هنالك من تساؤلات وتباينات.
لعلّ الطّغاة على مرّ التّاريخ كانوا على قناعة أنّهم يطبّقون العدالة فيما يخصّ الإبادات الجماعيّة، أو لعلّ الجماعات الدّينيّة المتطرّفة تؤمن أنّها تطبّق العدالة فيما يخصّ إقصاء المخالف لهم دينيّاً وإعدامه، أو أنّ فرداً ينتقم من آخر بالتّعنيف أو القتل على اعتبار أنّه يحقّق عدالته الشّخصيّة. بالنّسبة لونستون تشيرشيل، إمّا أن تكون عادلاً وإمّا أن تكون قويّاً، وذلك في قوله: "أجمع تاريخ البشرية على حقيقة أنّ الأمم لا تكون عادلة دائماً عندما تكون قوية. وعندما تتمنّى تلك الأمم العدل، فهذا يعني أنّها لم تعد قوية".  
بالمقابل، قد يكون أقرب مفهوم للعدالة، أو المعنى الأصح لسلامة تطبيقها هو أن تفعل لغيرك ما تبتغيه لنفسك. فيقول جمال الدّين الأفغاني: "أقرب موارد العدل القياس على النفس"، وتقول إليونور روزفلت: "ليس من العدل أن تطلب من الآخرين ما لست أنت مستعداً لفعله"، وبالتّالي المقياس الممكن اعتماده لتحقيق العدالة هو الذّات الشّخصيّة للإنسان. ولكن هذا المقياس يبقى ناقصاً وغير فعّال ما لم يرتبط بالمحبّة. فما تبتغيه لنفسك هو الأفضل والأكمل، إلّا أنّك إذا حصرته في نفسك وقعت في فخّ الأنانيّة، وبالتّالي ستكتفي بنفسك دون الانفتاح على الآخر.
أن تحبّ نفسك هو أن تحترمها كقيمة معتبراً أنّ كلّ نفس أخرى هي قيمة بحدّ ذاتها وتستحقّ المحبّة. من هذا المنطلق ستمنح الآخر ما تريد أن تمنحه لنفسك على أكمل وجه. كما يمكن لهذا المنطق أن يتّسع ليشمل الجماعة كلّها وحتّى المسؤولين عنها، فالحاكم أو المسؤول أو القاضي، أو أيّ شخص موكل إليه تطبيق العدالة ينبغي أن يمتلئ من المحبّة كيما يتمكّن من إبقاء إنسانيّته متيقّظة في تطبيق العدالة. ويجب أن نوضح أنّ حضور المحبّة في تطبيق العدالة لا ينفي الحزم والصّرامة والوضوح، إنّما يمنع المساومات والرّشاوي والتّحايل على القوانين، مانحاً الكرامة الإنسانيّة الأهمّيّة الأولى والأخيرة.
حيث تكثر المحبّة تحلّ العدالة، فالمحبّة هي الدّافع الأوّل والأقوى لرفع القيمة الإنسانيّة وانتشالها من بؤسها على جميع المستويات. فأن تحسن إلى فقير على سبيل المثال ليس عدلاً، وإنّما هو إشفاق على حالته أو مساعدة له، وفي بعض الأحيان  وللبعض،  استثمار للسمعة إعلاميّاً وفي أحيان أخرى إرضاء لله للبعض الآخر. وأمّا العدل الحقّ فهو أن تعيش مع الفقير وتشاركه فقره  فتنقذه منه وترفع كرامته الإنسانيّة. وكي لا نُفهَم خطأ، من الجيّد أن نرضي الله في الإحسان للفقراء ولكن من الإنسانيّة أن نخدم الله في الفقراء والمظلومين والمغبونين. ففي الإحسان أنت تعطي ممّا عندك، وأمّا في المشاركة فأنت تعطي ذاتك، وتلك قمّة العدل وذروة المحبّة.  كما أن العدل يقضي بمحاسبة مجرم أو سارق أو متمرّد على القانون، وهذا حقّ،  وأمّا ارتباط العدل بالمحبّة فهو المحافظة على الكرامة الإنسانيّة رغم كل ما يصدر عنها من أخطاء.
المحبّة أساس العدل، فعدل بلا محبّة قد يجنح إلى الظّلم، كما قد يتحوّل إلى قوّة مسيطرة تستغلّ مبدأ العدل في سبيل احتقار الكرامة الإنسانيّة. ومحبّة بلا عدل، استهتار ولامبالاة وغضّ النّظر عن الخطأ وعدم السّعي إلى تصويبه.




أحبب وافعل ما تشاء (1)


في المحبّة تسكن كلّ القيم.
مادونا عسكر/ لبنان
القيم هي المبادئ العليا  الّتي توجّه سلوك الجماعة وتساعدها عل التّمييز بين الصّواب والخطأ كالتّسامح، والحقّ والقوّة والعدالة والإرادة...، ومن خلال اكتساب القيم والسّعي للحفاظ عليها يرتقي الإنسان بإنسانيّته حتّى يبلغ كمالها.
كلّ إنسان يحمل في داخله القيم، لأنّه هو بذاته قيمة، ولكنّ الفرق بين إنسان وآخر هو السّعي لتعزيز هذه القيم والسّلوك بها رغم كلّ العوائق. كذلك كلّ إنسان يحمل في ذاته جوانب مظلمة تحول بين إرادته في سلوك هذه القيم وبين عدم سلوكها. بمعنى آخر، غالباً ما يكون الإنسان في صراع بين إرادة الخير الّتي فيه وإرادة الشّرّ. فكم من مرّة قمنا بعمل لا يتوافق وإنسانيّتنا ثمّ تساءلنا عن سبب الفعل؟ وكم من مرّة أردنا أن نسلك بإنسانيّة وتراجعنا؟ وهل نسلك في القيم الّتي نحملها ونكتسبها، بإرادة حقيقيّة أم أنّنا أحياناً نتغنّى بها وحين يتطلّب منّا موقف ما السّلوك بإنسانيّة نتراجع؟
إنّ الإنسان تركيبة غريبة، وتحتاج إنسانيّته للبنيان. هو في هذه الحياة مشروع إنسان إلى أن يحقّق في ذاته إنسانيّته فيصير إنساناً. من الصّعب على الإنسان أن يظهر صورته الحقيقيّة الكاملة وذلك لأنّه لا يعلم حقيقته بشكل كامل. كلّ ما يعرفه يبقى يسيراً أمام المعرفة الحقيقيّة وبالتّالي ما لم يبحث عن ذاته في ذاته، يبقى عابراً في هذا العالم، عاش على هامش الحياة  ومرّ فيها دون أن يحقّق ذاته وكيانه الإنسانيّ.   الإنسان بناء خارجيّ وداخليّ، ويُبني الخارج بالعناصر الطّبيعيّة كالهواء والحرارة والطّعام والشّراب...، ويُبنى الدّاخل بالقيم الّتي بدورها تنعكس على الظّاهر وعلى فعله الإنسانيّ.
هذه القيم، لا بدّ أنّها تحتاج إلى مقياس، أو إلى نبع تستقي منه كلّ قيمة، كيما تكون موجّهة بشكل إراديّ، نابع من قلب الإنسان، دون مصلحة أو شرط. فإن اختار الإنسان أن يسلك في القيم لسبب ظاهريّ فكأنّه لم يسلك، وبالتّالي ستكون إرادة الخير للبنيان هشّة، وتسقط مع أوّل مواجهة لصعوبة أو ضيق.
القيمة العليا أو النّبع لكلّ القيم هي المحبّة. والحديث هنا عن انفتاح عقليّ وقلبيّ على الحياة وعلى الإنسان، وليس عن محبّة عرضيّة لأفراد معيّنين يحملون خصائص تجمع النّاس ببعضها. المحبّة القيمة، هي الانفتاح على الجميع بالعقل والقلب، دونما الذّوبان في بعضنا البعض، وإنّما كي نساهم معاً في بناء بعضنا البعض.
أحبب وافعل ما تشاء. حين تنفتح على الآخر وتحبّه لن تتمكّن من إيذائه أو الانتقاص من كرامته الإنسانيّة، وبالتّالي بالمحبّة يتحقّق الاستقرار في الجماعة وتتحقّق القيم المرجوّ الوصول إليها حتّما نرتقي معاً إلى الإنسان الحقيقيّ فنبلغ إنسانيّتنا.