مادونا عسكر/
لبنان
إذا كان لكلّ أمّة أن تفخر
بعباقرتها ومبدعيها، وتعتبرهم أعمدة حضارتها وقوام معرفتها وثقافتها، وتعتزّ
بالوطن الّذي ينتمي إليهم، فحريّ بالأمّة العربيّة ولبنان خاصّة، أن يتباهيا بمرجع
أدبيّ ومذهب إنسانيّ، أنسي الحاج.
وإذا كان لا بدّ أن نرتقي
إلى مستوى أنسي الحاج اللّغة وجب أن نلج عالماً نسجه أنسي بخبراته، وحبّه، وعذابه،
وإنسانيّته. ولوج هذا العالم أشبه بولوج "فينيقيا" المنفتحة على العالم،
المبشّرة بالحرف. فأنسي الحاج، بشعره المجبول بالثّورة على الذّات، يبشّر بالمعرفة
والحبّ والجمال، خلاص الأجيال الآتية من نير التديّن، والبغض، داعياً إلى التّوغّل
في العمق الإنساني حتّى يكتشف بذور الجمال، وقوّة الحبّ.
"أنسي هو، بيننا، الأنقى."،
هكذا يعرّف عنه أدونيس، وهكذا تنكشف لنا نقاوة أنسي الحاج الّتي ترجمتها النّصوص
والشّعر. ولئن أردنا الولوج في أنسي اللّغة، والتّفاعل معها، يلزمنا لا أن نكتب عن
أنسي الحاج، بل أن نكتب أنسي الحاج. فالكتابة عنه قد تجنح إلى التّقليل من رفعة
النّصّ الأنسي، وأمّا كتابتُه، فهي أشبه بشراكة بين العالم الأرضي حيث نحن،
والعالم السّماوي أو "العدم المحرّر" كما يسمّيه أنسي، "مكان تُسمع
فيه الرّوح أكثر"، حيث هو. إنّها الشّراكة الكتابيّة ورفقة أنسي القيمة الّتي
لا تموت، واللّغة الّتي لا تفنى، والحلم الّذي يرفرف فوق ربى لبنان، وينثر الفكر
الّذي لا تقوى عليه رياح الفناء.
"كان هذا سهواً"،
بدايات النّهاية، ولادة أنسي من رحم الرّحيل،
حيث سكب أنسي الحاج كلّ ذاته، لتخلد كلمته بسرّها، وتنتزع من العدم قدرته
على إفنائها. إنّه، كما يكتب الشّاعر والنّاقد اللّبناني عبدو وازن،"آخر
الخواتم، خواتم الخواتم الّتي لا خواتم لها على خلاف ما توحي به ظاهراً". خواتم كيانيّة، بين الميتافيزيك والدّين،
والّذات، والسّلوك، والأدب، والحبّ. وعزف فكريّ وروحيّ على أوتار غيوم تعلّم فرح
الزّوال.
---------------
ميتافيزيك
ودين (1)
لعلّ الّذي كان سهواً ليست
خواتم أنسي الحاج وما ورد في كتاب "كان هذا سهواً" من فكر وفلسفة
واختبار حياتيّ... وإنّما ما غفل عنه
البعض أو الأغلبيّة في التّعمّق في الفكر الدّيني الإلهيّ. لقد دخل أنسي الحاج
مواطن الفكر العميق وأبحر فيه انطلاقاً من الإنسان لا انطلاقاً من الله. فحاور
ذاته وحاور الله لكن بطريقة غير تلك الّتي عهدناها. عالج إشكاليّات الله/الإنسان،
الحياة/الموت، القدر/الإيمان، العدم/الوجود، بطرح تأمّلاته الشّخصيّة ولكن
المعبّرة عن الآخر في ذات الوقت. لقد وعى أنسي الحاج حاجة الإنسان لمناقشة هذه
الإشكاليّات، فلم يناقش تقليديّاً، وإنّما ناقش أسباب الفكر وترامى إلى أصل
الفكرة. عالج الأصل أكثر من النتيجة.
"قد تكون هذه ثقيلة
ولكنّها ليست "مزحة" ثقيلة!
فكرة أن يكون وراء إنكار ما
لوجود الله نيّة عميقة لتبرئته". (1)
بالذّهاب إلى أعمق مكان في
الإنسان الّذي ينكر وجود الله، استخرج أنسي الحاج النّيّة الأصيلة في نكران هذا
الوجود الإلهي. فاتّجه إلى الجذور الإنسانيّة الفكريّة، حيث نشأت الفكرة، وتراكمت
الاختبارات الإنسانيّة. لا يريد أنسي بهذا القول تأكيد إيمان الملحد أو نفيه، بل
يسعى إلى طرح الإشكاليّة وتبيان أصولها وظروفها ونتائجها. بالذّهاب إلى هذا العمق
قبض أنسي الحاج بفكره وروحه على إنسانيّة الإنسان.
بالمقابل نقرأ أنسي الحاج
في عمقه اللّاهوتيّ حينما يقول: "بعض مهمّات الله (كاختيار من يموت، متى،
كيف، من يفدي من، إلخ...) تُرينا صعوبتها أنّ الألوهة ليست امتيازاً بل عبء أُعفي
الإنسان المحبوب من حِمله" (2). بين نيّة تبرئة الله وإعفاء الإنسان من
عبء الألوهة تتجلّى الفكرة الأنسيّة في المحبّة القائمة بين الله والإنسان، وبين
الإنسان والله. ثمّة علاقة حبّ قائمة ربّما بالفطرة بين الوجود الإلهيّ والوجود
الإنسانيّ على الرّغم من كلّ الشّوائب الّتي تسود هذه العلاقة.
"كيف استطاع نوح،
بعد ما اختير وحده وعائلته للنّجاة من الطّوفان، أن لا يشعر بالذّنب؟
وتشارع الله، وفي حرصك على
الحقّ، رغم موتك، تتردّد وتحار، تقلق أن لا تظلمه.
وأنت الّذي يُصلب لا تعرف
لمَ، تخاف على شعور تاركك، تخاف عليه من حرف جارح.
ويحملك الشّعور بجميل ذاتك
على الظّن أنّك خير الكائنات، وإلّا لما كنت مؤرّقاً بهاجس الحقّ وأنت في زوبعة
الشّدّة." (3)
قد ينتاب البعض هاجس
الدّراسات، وتعتريه الانتفاضة على أنسي، ويصيبه القلق في خطورة مواجهة النّصّ
الكتابي أو مواجهة الله ذاته. إلّا أنّ أنسي يحمل الهمّ الإنساني بكلّ هواجسه
وهمومه وقلقه المعرفيّ تحديداً في ما يخصّ الله. إنّه يعرض بوضوح هذا الصّراع
الإيمانيّ الإلحاديّ في كلّ إنسان، ويبيّن النّزاع الإنسانيّ الدّاخليّ الّذي
غالباً ما يحجبه الإنسان، فإمّا يتّجه إلى الثّورة العبثيّة، وإمّا يخاف وينغلق
على نفسه، وإمّا يتحوّل إلى مهووس بالإله السّيّد يرجو طاعته وإن أهلكته هذه
السّياديّة.
كأنّي بأنسي يكتب ذاته على
ضوء ذاته، ويكتب الآخر على ضوء المراحل الإنسانيّة الاختباريّة بكلّ ما تحمل من شكوك
وإيمان، محبّة وبغض، قبول ورفض. يكتب بشريّة الإنسان ويدعونا إلى اختبار هذه
البشريّة والغوص فيها حتّى نبلغ معرفة الحقيقة الإنسانيّة الوجوديّة.
--------------------
(1) كان هذا سهواً- ميتافيزيك
ودين- أنسي الحاج- ص18
(2) كان هذا سهواً-
ميتافيزيك ودين- أنسي الحاج- ص 17
(3) كان هذا سهواً-
ميتافيزيك ودين- أنسي الحاج- ص 21
---------------
ميتافيزيك
ودين (2)
لعلّ الخطأ الكامن في بعض
ما نقرأه من لاهوت وفكر وفلسفة يندرج في إطار التّوعية والإرشاد والنّصح، بدل
الغوص في النّفس الإنسانيّة لاستفزاز مكنوناتها بغية الوصول إلى المشكلة
الأساسيّة. التّوعية الاستباقيّة جيّدة، والنّصح والإرشاد عملان يدعمان الخبرة
الإنسانيّة النّظريّة. وأمّا العمل على تفكيك الخطوات الإنسانيّة المؤديّة إلى
المشكلة فهو الأهمّ، وبالتّالي تنكشف الذّات أمام الإنسان وتتّضح الرّؤية ويسهل
العلاج. وحتّى لو لم نصل إلى نتيجة إيجابيّة حتميّة، نكون على الأقلّ قد تلمّسنا
الدّافع لفعل الشّر أو ما يسمّى بالخطيئة. والمفكّر المبدع هو ذاك الّذي ينبثق منه
الفكر كالنّور فيدخل الأعماق الإنسانيّة ليكشف خباياها، فتعلن ثورة على جانبها
المظلم لترفع من شأن إنسانيّتها العظيمة.
وإذ نحن بصدد قراءة وكتابة
أنسي الحاج، تتّضح لنا قدرته على سبر الأغوار الإنسانيّة الّتي قد نغفل عنها أو
نخشى الولوج فيها. وإذ نحاكي الفكر الأنسيّ نعيد قراءة ذواتنا، وفكرنا، وخبراتنا،
بل حتّى ماهيّة إيماننا على ضوء هذه الثّورة الفعّالة.
يقرأ أنسي الحاج الكتاب
المقدّس على ضوء إنسانيّته وخبراته ما يمنحنا آفاقاً واسعة تساعدنا على تفكيك
عناصرنا الإنسانيّة وتذهب بنا إلى أهمّيّة الحضور الإنسانيّ في الكتاب، والانطلاق
منه لفهم تعاملنا مع الله والعكس صحيح. والومضات الفلسفيّة الكائنة في النّصوص تعمل
كمحرّك للعقل والنّفس بغية إيقاظها من ثبات الفكر الموروث والتّقليدي كي تتمكّن من
الانطلاق والتّحرّر. كأن نقرأ لأنسي في كتاب "كان هذا سهواً" الفقرة
التّالية: "هنالك بعض الرّغبة الشّريرة في كلّ ارتماء وكلّ تجديد، لعلّها
تشبه ما كان يعتمل في النّفس أثناء عبور حوّاء وآدم من الباب الشّرقي في الجنّة
إلى أسفل الصّخرة، في السّهل المنخفض، حيث قادهما الملاك المرافق إلى هناك بداية
المنفى، واختفى". (1)
لقد قرأ اللّاهوتيّون في
سلوك حوّاء وآدم عدم طاعة لله سبَّب دخول الخطيئة والموت إلى الإنسانيّة. لكنّ
أنسي الحاج قرأ في سلوكهما رغبة ما في التّجديد. وهنا الحديث على المستوى
الإنسانيّ العام، لأنّ كلّ تجديد أو كسر للمألوف هو بمثابة ثورة تفترض التّحرّر من
التّقليدي، أو الموروث، أو نزعة إلى تحقيق
الذّات بالذّات بعيداً عن الله. وهنا أصل الفكرة، ومبدأ الحركة الإنسانيّة،
والرغبة في الجديد حتّى ولو كلّف الأمر الخروج من الجنّة. لعل "الجنّة"
ترمز هنا إلى حالة الرّكود، والاستسلام، والقبول اللّا إرادي، و"أسفل
الصّخرة" مبدأ التّجديد والخروج عن المألوف، و"الملاك الّذي رافق واختفى"
يرمز إلى احترام الحرّيّة الإنسانيّة الباحثة عن نفسها.
ويكمل أنسي ليتوغّل أكثر
ويثور أكثر فيقول: "لو قهر قايين قهره من تفضيل الله هديّة أخيه هابيل على
هديّته، لحوّل غيرته إلى اعتمال داخلي، ولعلّه كان شيئاً فشيئاً سيتعالى في نظر
الله، وربّما سيلجئه إلى مراجعة الذّات كما حصل مع أيّوب." (2)
تصرّف قايين بعفويّة دون أن
يخفي قهره وغيرته فأتى تصرّفه عنيفاً قاسياً. تحامل على الله وعلى أخيه. إلّا أنّه
بحسب أنسي الحاج لو أذلّ هذا القهر لتبدّل الأمر وراجع نفسه وعدل عن فعله
الشّرّير. وفي هاتين الفقرتين يركّز أنسي الحاج على السّلوك الإنساني الانفعاليّ
الّذي أدى إلى الخطيئة بحسب النّصوص الكتابيّة. ولو أنّهم أخفوا هذا الانفعال
وخرجوا عن طبيعتهم الإنسانيّة أو بمعنى أصحّ عن حرّيّة التعبير الانفعالي، بمعنى
آخر أظهروا عكس ما يضمرون لاختلف الوضع كلّه. "كان ينقص روّاد الخطيئة
والمحمّلين مسؤوليّة تأسيس موتنا (آدم وحوّاء، قايين...) مهارة في التّمثيل تلجم
عفويّتهم ولا تفضحهم أمام الخالق..." (3)
والفكرة العميقة المتجليّة في
الفكر الأنسي تكمن في الإيعاز إلى روّاد الخطيئة الحقيقيّين في العصور الحديثة،
الّذين يبرعون بالتّمثيل، ويظهرون عكس ما يضمرون، ويخفون انفعالاتهم بمكر وخداع.
ما يحيلنا إلى قراءة أخرى لسلوك آدم وحوّاء وقايين، قراءة إنسانيّة تظهر الفرق
الشّاسع بين السّلوك الانفعالي والسّلوك الماكر أمام الله. فالأوّل بحسب أنسي أخفّ
وطأة من الثّاني. السّلوك الانفعالي حالة آنية ومؤقّتة وينتج ما ينتج عنها من
سلبيّات وشرّ، لكن يليها الشّعور بالنّدم والأسف. وأمّا السّلوك الماكر الّذي يضمر
في داخله الشّرّ في حين أنّه يظهر التّقوى والورع يخطّط لموت شامل وتام على المدى
البعيد. "ما كانت الواقعة لتقع بهذه السّهولة لو تعامل الله في بدء
الخليقة مع باطنيّي العصور الحديثة". (4). وتبدو هنا ثورة أنسي الحاج
باتّجاه الله الّذي برأيه تعامل مع سلوك انفعالي، ما لا يمكن أن يحصل اليوم في ظلّ
القدرة العالية في أداء البعض، وبراعتهم في إخفاء ما في نفوسهم من حقد وضغينة.
-------------
(1) (2) (3) (4)- كان هذا
سهواً- ميتافيزيك ودين- أنسي الحاج- ص 19
---------------
ميتافيزيك
ودين (3)
"لماذا لم تكتب في
الإسلام؟ سألني مرّة مسلم علماني، فأجبته: "حتّى لا أُمتدح فأبدو منافقاً، أو
أُنتقد فلا يبقى من انتقادي غير تهجّم طائفيّ". الكلام من خارج، يظلّ طعناً،
ولو كان محقّاً. الدّين كالذّات، لا تُحاكى من خارجها وإلّا كان الأمر عدواناً.
الإسلام يجادله المسلمون أوّلاً وثانياً وثالثاً. يجب أن يتساوى الموسمون بالأديان
في التّحرر كلّ حيال دينه أوّلاً حتّى يستحقّ كلّ منهم أن يثور على الدّين
الآخر". (1).
سؤال يُطرح على أنسي الحاج
الثّوري حتّى النّهاية والنّاقد الفذّ الّذي لم يترك شيئاً لم يقله أو يعبّر عنه
أو يفلسفه. إلّا أنّ الكاتب الصّادق والحرّ يعلم أنّ الكتابة أبعد من كلام يرضي
الآخر، وأعظم من مدح يغري الغريزة الإنسانيّة. وأنسي الحاج يقول إنّ الكاتب إذ
يكتب يقف أمام نفسه متبيّناً مقدار الصّدق والحرّيّة والأمانة الّتي ترفع من قيمة
عمله وتظهر قيمته الإنسانيّة. "نحن، نحن الكتبة، أوّل من يعرف إن كنّا
صادقين، وحكمنا على أنفسنا هو الأصحّ". (2)
بين المدح الّذي يغرق
الذّات في النّفاق، والنّقد الّذي لا يعتمد على حميميّة التّعامل مع أي نص سيّما
الدّيني، خيط رفيع يحدّد مقدار الصّدق مع الذّات والأمانة مع الآخر. (الكلام من
خارج، يظلّ طعناً، ولو كان محقّاً.). والنّقد الدّيني يعتمد أصولاً إنسانيّة
أوّلاً، واحتراماً خالصاً للآخر بغض النّظر عن أيّة أحكام سابقة. ولا يجوز ولا
يحقّ لأحد سيّما الكاتب انتقاد الدّين المخالف نصيّاً لأنّ الدّين خاصّة في
مجتمعاتنا يمثّل الكرامة. وبالتّالي فأيّ نقد غير بنّاء يشكّل انتهاكاً للكرامة
الإنسانيّة.
نشهد الكثير من هذه
الانتقادات في جميع الأديان باعتبار أنّ كلّ يعتقد أنّه يملك الحقيقة. وانتقاد نصّ
الدّين المختلف بمقاييس ذاتيّة خطأ نقديّ كبير لأنّه مزمع أن يكون تهجّماً.
فالحميميّة مع النّصّ الدّيني لا يدركها إلّا المنتمي إلى الدّين نفسه. (الإسلام
يجادله المسلمون أوّلاً وثانياً وثالثاً.). فالمسلمون هم الأعلم بمناقشة
تفاصيل ديانتهم، ومجادلة قناعاتهم، وحتّى التّمرّد على ما لا يرضيهم. كذلك
المسيحيّون واليهود والبوذيّون والهندوسيّون...
ما أراد أنسي الحاج قوله
ببساطة إنّه عليك أن تثور بعدل، بمعنى أن ترفض ما لا يرضيك في دينك قبل أن تنتقد
الآخر. أي أن تتحرّر من العنصريّة اللّا واعية المتأصّلة فيك. عندها سيكون النّقد
بنّاءً خالياً من أيّة مصلحة أو منفعة. وستظهر الحرّيّة الإنسانيّة برقيّها لأنّها
لا تحابي الوجوه. ويقول أنسي في مكان آخر: "حين تصادف يهوديّاً يهاجم
اليهوديّة بالقوّة (والصّدق) والحجّة والجّرأة الّتي يهاجم بها المسيحيّة
والإسلام، عندئذٍ تكون قد وجدت الحرّ المتجرّد لا الفريق المستتر. وطبعاً الأمر
نفسه حين تصادف مسيحيّاً كذا وكذا ومسلماً إلخ..." (3)
----------
(1) - كان هذا سهواً-
ميتافيزيك ودين- أنسي الحاج- ص 45
(2) (3)- كان هذا سهواً- ميتافيزيك
ودين- أنسي الحاج- ص 42
---------------
ميتافيزيك
ودين (4)
كان هذا هو جزء "ميتافيزيك
ودين" في كتاب "كان هذا سهواً" للشّاعر اللّبناني أنسي الحاج، وقد شكّل
قراءة نقديّة عميقة لجدليّات عدّة كالله، القدر، العدم، المرأة، الموت،... على ضوء
تجربته الشّخصيّة. ويأتي هنا النّقد بشكله الأصدق لأنّه يعبر إلى الآخر انطلاقاً من
الّذات، وبذلك يتفاعل معه تلقائيّاً من خلال تحريك الضّمير الإنساني، وهزّ وعيه، ودفعه
إلى الولوج في اللّا وعي حتّى يستخرج منه أسئلة كبتها الفكر السلطويّ.
يرشدنا المعلّم أنسي الحاج
في هذا القسم إلى أصول نقديّة ذاتيّة تتمحور حول حريّة الضّمير الإنساني الّذي
يفترض حرّيّة التّساؤل، والشّكّ، والتعبير بحرّيّة عن كلّ الهواجس حتّى وإن توجّه
النّقد إلى النّصوص الكتابيّة المقدّسة. فنتيجة هذا النّقد إيجابيّة حتماً لأنّها
تنقل الإنسان من مشروع إنسان إلى آفاق إنسانيّته الواسعة، مفترضاً حضور الإله
المحبّة المتفهّم، المتفاعل مع الفكر الإنساني المحدود، والمستعدّ للانفتاح عليه.
وإذ نقول إنّ هذا النّقد هو
الأصدق فلأنّ أنسي الحاج طبع ذاته في كلماته، وتساؤلاته، وتأمّلاته. من هنا نفهم
قدرة تأثيره في القارئ، بل نندهش أمام مرآة لغويّة صنعها أنسي الحاج بهدف أن يرى
القارئ عمقه الفكري والنّفسي من خلالها، فيرتقي ويتعلّم ويتأثّر ويسير قدماً نحو
إنسانيّته كيما يكتشفها ويفهمها ويسمو بها.
تجربة أنسي الحاج الحياتيّة
بكل ما حملت من حزن وألم، وفراق ووحدة، وفرح وجمال، دفعته إلى التّأمّل النّقديّ
وسارت به نحو خلق اللّغة الأنسيّة الخاصّة الّتي تضيف إلى القلب نبضاً إنسانيّاً، يشعل
الرّغبة في استخراج معاني الوجود.
"الحرب قد لا تُبكيني.
أغنية صغيرة قد تبكيني، أو كلمة لأنسي الحاج." (محمد الماغوط). إنّه أثر
الكلمة الفعل، البناء الجديد الّذي يتأسّس على الجمال الإنسانيّ. فكاتب أو شاعر
يسرق منك دمعة أشبه بنور يتدفّق في داخلك يكشف لك جمالك وبهاءك. فتقف وتندهش
وتبكي.
ولئن كان هذا المحور (ميتافيزيك
ودين) نقداً للوجوديّات وتأمّلاً للإطار الحياتيّ العام، كشف لنا المحور الثّاني (ذات)
عن الذّاتيّة الأنسيّة وعودتها إلى الأنا. محورها التّراكمات الاختباريّة التّأملية
وانسكاب اللّغة الحواريّة بين أنسي الحاج وأناه. فيتجلّى لنا أنسي الأبهى أبداً. وكما
كان محور (ميتافيزيك ودين) مفتاحاً على العوالم الخارجيّة، سيبحر بنا المحور الثّاني
(ذات) إلى ذروة الخبرة الأنسيّة، وسنتطلّع إلى أنسي الحاضر رغم الغياب، والفاعل رغم
الرّحيل.
---------------
ذات (1)
كي تفهم أنسي الحاج عليك أن
تصمت وتصغي. فالمتكلّم صامت ومتوغّل في ذاته إلى أبعد حدود. تحتّم جلالة الصّمت
إصغاء وفيّاً من القارئ ليتبيّن أعماق أنسي، وليظهر له نقاء أنسي الشّفيف. أنسي
الحاج يكتب من صفاء عالمه الممزوج بالألم والوحدة والهروب. فأتت افتتاحيّة القسم
الثّاني من كتاب "كان هذا سهواً" نصّاً تجريديّاً احتجبت فيه ذاتيّة
أنسي الهاربة من القدر. هكذا يصف ذاته في نصّ "مفتاح القدر"(1): "الرّجل الهارب من قدره الغائص في عذابه،
الّذي قرّر ألّا يعود".
لكنّ هذا الرّجل الهارب من
القدر والّذي "كلّما أمعن في الهرب أمعن في العودة"، ينتظر
"ابتسامة امرأة لا تعرف الهزيمة"، بل هي المفتاح الّذي سيقتحم القدر
ويغيّر حركته كيما يدخل الرّجل الممزّق إلى خدره ملتئم الجراح.
الرّجل الّذي قرّر الهرب من
قدره أغلق بابه لكنّه احتفظ بالمفتاح، ما يجعلنا نفهم إمعانه بالعودة كلّما أمعن
في الهروب، وما يدلّنا على انتظاره لتلك المرأة المنتصرة بابتسامتها. هذه المرأة
تسكن وجدان الشّاعر وليست خارجة عنه، إلّا أنّ بينه وبينها مسافة تيه وانتظار
وحبّ. "كان الباب مغلقاً، ومفتاحه في جيب الرّجل، والرّجل تائه في
الشّارع، ممزّق بسكّين الخفّة، خفّة امرأة معبودة، مكروهة، جنّيّة لا تعرف
ابتسامتها الهزيمة".
ويعود أنسي الحاج ليؤكّد
التّيه والبعد في ما يلي:
"كان الباب مغلقاً
والرّجل والمفتاح في التّيه، بعيداً.
والرّجل عازم على الانفصال.
والطّوفان غمر العالم.
وجاءت المرأة من بيتها إلى
بيته وطرقت الباب فلم يجبها الرّجل.
الرّجل الهارب من قدره
الغائص في عذابه، الّذي قرّر ألّا يعود."
لم يجب الرّجل ليس لأنّه
غير موجود بل لأنّه عازم على الهروب، هو حاضر بالجسد وأمّا الأعماق فهاربة. "وظلّت
تطرق الباب الّذي ظلّ مغلقاً، فلا أحد في الدّاخل، ولو النّور مضاء". بالمقابل
تبعث لنا هذه الجملة إصرار المرأة على انتشال الكاتب من الطّوفان، من الغرق
والامّحاء. هي القدر ومفتاحه، بابتسامتها اللّطيفة القويّة. تؤسّس لما بعد
الطّوفان، لرحلة الجمال في أرض جديدة وسماء جديدة.
"وانتظر. لن تذهب دون أن تراه." تُراها القدر الّذي قرّر الهروب منه، أم تُراها
المخلّصة؟ يندرج مفهوم الانتظار هنا ضمن انتظار الخلاص، إذا ما قارنا مبدأ
الانتظار بهروب الكاتب وقراره الصّارم بالبعد. لأنّه "كلّما أمعن في الهرب
أمعن في العودة". الهرب يتّجه نحو الخلاص، والعودة تحاكي الحرّيّة، الحالة
الخلاصيّة المنتظرة. فهو ينتظر والمرأة بدورها تنتظر، لكنّها ما لبثت أن "فجأة
سحبت من حقيبتها مفاتيحها، مع أنّ مفاتيحها هي لبيتها في بلد آخر، ولا يعقل أن
تصلح لهذا البيت."
"جرّبت المفتاح الأوّل
فلم يفتح، والثّاني فلم يفتح، وأمّا الثّالث فقد دار بصعوبة، ولكنّه فتح
الباب". الكاتب
ممعن بالهروب والمرأة عازمة على تبديل الحركة الحياتيّة. وإن رمزت المفاتيح إلى
أمر فهي ترمز إلى المحاولات المتكرّرة دون ملل، والإصرار على فتح باب الخلاص.
"ولمّا عاد الرّجل
الممزّق، وجد بابه مفتوحاً والمرأة في البيت تنتظره، جنّيّة ابتسامتها الّتي لا
تعرف الهزيمة."
----------
(1) مفتاح القدر- ذات- كان هذا سهواً- ص 57.
---------------
ذات (2)
يصحّ أن نطلق على الفصل
الثّاني من كتاب "كان هذا سهواً" لأنسي الحاج عنوان "اعترافات
أنسيّة". فالذّات الأنسيّة تواجه الذّات الإنسانيّة وتتأمّل في لحظة
انعزال عن العالم، النّور الجديد المنكشف لأنسي الحاج وهو منغمس في صمته. وإذ نتحدّث عن النّور فلئن كنّا
أمام سلطة اللّغة وقوّتها، وتماهي الذّات مع أنسي اللّغة، وانفتاح الكيان
الإنسانيّ على الحريّة. والاعترافات الأنسيّة تأخذ شكل الحوار مع الّذات بل
مناجاتها كرفيقة دائمة. وهي لا تأتي بسياق المحاسبة أو مراجعة الذّات لأنّ أنسي
منفتح دائماً على تحريك الفكر الإنساني في
سبيل تحريره من القيود.
يذكر الكاتب اللّبناني عقل
العويط في مقال له بعنوان " تحت الضوء - "كان هذا سهواً" لأنسي الحاج: قَدَري
أن أحفر الهاجس وألعب ضدّ الأقدار": "لا أحد يمكنه أن يتصوّر، أو أن يتوصّل
إلى استنتاجٍ مفاده أنّ هذه الشّذرات كُتِبت، مثلاً، في حين كان الشّاعر يعيش لحظات
الحشرجة، عارفاً أنّه يموت. لا شيء يوحي بذلك. فاللّغة في أعلى درجات تأهّبها الرّوحي
والأسلوبي. لا استرسال. لا شرح. لا "عواطف". لا انفعالات. لا ارتجاف. لا
وهن. لا تكلّف. ولا "وصايا". لكأنّ هذه الشّذرات كُتِبت قبلاً. في عزّ كبرياء
الجسد والعقل، وفي الأنفة المطلقة. لكنّها في وقائع الحقيقة الفادحة والجارحة، مكتوبة
الآن، تحت الهول. تحت يد الموت." (1)
أنسي الحاج روح اللّغة
وقوّتها، كتب خواتمه بعصب الرّوح لا بقوّة الجسد اللّحم والدّم، فتخطّى اللّغة
والحرف والأنا ورنا إلى ما هو أبعد من الخلق، إلى راحة الكيان الحرّ.
"الكلمات تشتاق إلى
تخطّي حدودها فتتخطّاها. كذلك التّراب والأيادي والأرواح.
ويسمّى ذلك خلقاً.
ماذا يحدث إذا تاقت
الأشياء، بالعكس، إلى النّكوص على ذاتها والتّغلغل متقهقرة إلى ضباب الأغوار؟
يحدث فرار من الوجود
الصّارخ إلى وجود لطيف، رؤوف.
ولا يسمّى خلقاً.
لكنّه أرحم من الخلق."
(2)
تحت يد الموت يكتب أنسي
بعظمة وأبّهة وثبات لأنّه يرى في ما لا يُسمّى خلقاً رحمة ووجوداً لطيفاً رؤوفاً،
وتحرّراً من تخطّي الحدود التّقليديّة.
فأنسي يرنو إلى تخطّي الذّات والتّغلغل في الأنا المتحوّلة إلى المجد.
----------
(1) صحيفة النّهار- 18 آب 2016 - السنة 84 - العدد 26053
(2) كان هذا سهواً- أنسي الحاج- ص 58.
---------------
ذات (3)
جدليّة الكينونة والعدم في
ذات أنسي الحاج.
من العدم نأتي وإليه نرتحل،
كذا تعبّر اللّغة الأنسيّة عن ذاتها، وهي تتأمّل الحياة والموت والذّات. وإذا كان
العدم يعني اصطلاحاً ما هو ضدّ الوجود، فبالنّسبة لأنسي الحاج هو "العدم المحرّر،
مكان تُسمع فيه الرّوح أكثر". ما يعني أنّه وجود من نوع آخر. ولمّا كان
عدماً محرّراً فهو ذو قيمة ومعنى عميق، بل هو المفهوم الأوسع للحرّيّة.
"انفتح الباب من
تلقائه، أطلّ ظرف الرّسالة من العدم، وانغلق الباب، بدون تدخّل أحد." (1). في هذه الجملة تتجلّى جدليّة الكينونة والعدم عند أنسي الحاج، لنفهم من
خلالها أن الكينونة قادمة لا إراديّاً من العدم محمّلة برسالة خاصّة. وتحضر هذه
الكينونة في الوجود، كأنّ بصلتها تنقطع عن العدم لتدخل في حركة وجوديّة رساليّة
دون أن يتدخّل أحد في صناعتها.
إذا كانت لفظة (انفتح
الباب) ترمز إلى الانطلاق نحو الوجود و(انغلاق الباب) يرمز إلى الانقطاع عن العدم،
ستظهر بين المرحلتين حكاية الوجود والاختبار الإنساني، ومراحل الحياة المتعدّدة
والمتنوّعة والمتأرجحة بين الفرح والحزن والقسوة والخيبة والأمل... "لممت
المغلّف وأفرغته: نزلت منه مسبحة خضراء حمراء صفراء زرقاء بيضاء كشمس الكلام،
وفرطتُ حبّاتها بلا حساب، حبّة صادحة وحبّة صارخة، حبّة للتّراب وحبّة للزّوابع،
فرط من يوهم النّفس بأنّه لن ينتهي أبداً من هذه اللّعبة". (2). المسبحة، الخرزات المنظومة في خيط والّتي يعدّ فيها
المصلّي مرّات التّسبيح، يستخدمها أنسي في الدّلالة على منظومة الحياة الّتي
تتعدّد مراحلها (مسبحة خضراء حمراء صفراء زرقاء بيضاء كشمس الكلام) ويمنحها
طابعاً قدسيّاً نسبة للفظة (مسبحة). لكنّه يثور عليها ويكسر تقليديّة المنظومة (وفرطتُ
حبّاتها بلا حساب)، ولا يحسب لها حساباً، ليس من باب الإهمال أو الاستهتار،
وإنّما من باب الثّورة والتّحرّر من التّقليديّ.
وفي ذات الوقت يحدّثنا أنسي
عن تمسّك الإنسان بالخلود؛ لأنّه يسهب بالغوص في الكينونة الإنسانيّة ولا يعد نفسه
بنهاية (فرط من يوهم النّفس بأنّه لن ينتهي أبداً من هذه اللّعبة). إلّا
أنّه بحسب أنسي خلود واهم، فلكلّ شيء نهاية. "ليس بمثل زخم البدايات غير
زخم النّهايات. في الأوّل هجوم العيون المغمضة... وفي الأخير ذهول ارتداد العيون
المنفتحة." (3)
عاند أنسي الحاج الحياة،
وقاومها، وثار عليها، وصدح قلمه في ثناياها، ودوّى صمته في كينونتها، واستمرّ بقوّة
وإن على سرير الموت. "ولم أنظر ما فرطتُ، لأنّ من يعدُّ خُطاه لا يعود
يمشي". (4)
------------
(1) (2) (4) كان هذا سهواً- أنسي الحاج- ص 63
(3) كان هذا سهواً- أنسي الحاج- ص 61.
---------------
ذات (4)
من العسير أن يقف الإنسان
أمام ذاته بصدق ليكتشف شوائبها ويقبل بها محاولاً معرفة موقع هذه الشّوائب من نفسه
ومحيطه. غالباً ما تأخذه الكبرياء وتتسلّط عليه وتعاند ضميره فيستسلم لعنفوانها وسلطتها. لكنّ المتصالح مع
ذاته هو ذاك الّذي تواضع أيّ نظر إلى ذاته على مستوى بصره وبصيرته، فعرف أنّ
الإنسان يحمل في ذاته الكثير من التّناقضات يصعب الاستدلال عليها أو فهمها، ورغم
ذلك تجرّأ على المثول أمامها بصدق وشجاعة لا ليفهم وحسب، وإنّما ليعلي شأن ضميره
الإنسانيّ وبالتّالي إنسانيّته.
إنّي صادق، فلماذا يبدو
وجهي كاذباً؟
أيّهما الزّائف، المستتر أم
الظّاهر؟
ثمّ أجد العذر بأن لعلّه
شعور الخجل بهذا الصّدق يرسل إلى المحيّا ظلال جهد التّملّص منه.
يجعل أنسي الحاج السّؤال
الأوّل ملتبس المعنى، أي أنّ السّؤال لم يكن: إنّي كاذب، فلماذا يبدو وجهي صادقاً؟.
وإن دلّ هذا الأمر على شيء فهو يدلّ على معرفة أنسي بذاته المتناقضة (إنّي صادق/
وجهي كاذباً). ونستدلّ إلى هذه المعرفة في السّطر الثّالث (لعلّه شعور الخجل بهذا
الصّدق)، ليعبّر أنسي عن إدراك للتّناقض الدّاخلي الّذي لا يظهر للعلن، واعتراف
بأنّ الصّدق غير تامٍ في النّفس، بل هو إلى حدّ ما صدق ناقص. تحيلنا هاتين
العبارتين إلى قول بولس الرّسول في رسالته إلى أهل رومة (19:7): " الخير الّذي أريده لا أعمله، والشّر الّذي لا أريده أعمله.".
هذا التّناقض العاصف الحاضر في النّفس يحتاج للكثير من التّأمّل والتّبصّر حتّى
يتمكّن الإنسان من استيعابه أوّلاً، والتّعامل معه ثانياً. ما سنقرأه في السّطور
التّالية لأنسي الحاج:
"عندما تقول طبعاً إنّ
أشدّ ما يؤلمنا هو الكذب، تقصد طبعاً كذب الآخرين. ألا نكذب نحن أيضاً؟ وهل نشمل
بمرارتنا آلام الآخرين من كذبنا؟"
يضع أنسي الحاج ذاته على
مسافة من ذاته ومن الآخرين. ويبدو لنا تمام الصّدق في اللّغة الأنسيّة. إذ إنّ
تحقيق الإنسانيّة يفرض تعاملاً مع الآخر كما مع الذّات، وبالتّالي فالألم الّذي
يصيب الإنسان من كذب الآخرين، يصيب الآخر بسبب كذبه. هذه المعادلة خطوة نحو الأمام
أكثر منها مراجعة للذّات وفحص للضّمير. فمراجعة الذّات تبقى عند حدود التّمييز بين
الصّائب والخاطئ، وأمّا تبيّن وتلمّس الألم المتساوي بين الإنسان والآخر يدفع
الإنسان إلى اكتمال إنسانيّته.
ولئن كان هذا الاكتمال خطوة
إلى الأمام استلزم من الإنسان تفهّماً لكذب الآخر مقابلة مع الذّات. والتّفهمّ هو
غير التّبرير، فالأوّل يحمل الكثير من المحبّة والاعتراف بالحدود والضّعف
الإنسانيّين، وأمّا الثّاني فهو بمثابة غضّ النّظر عن الخطأ، وليس هذا ما أراده
أنسي الحاج.
"كرهت كثيرين لا
لأنّهم كذبوا عليّ بل لأنّهم "أصابوا" منّي بكذبهم مقتلاً. وانتقمت من
بعضهم. وندمت على الكراهية وعلى الانتقام لأنّ التّأذّي بهذا المقدار من الكذب،
يضاهي الحماقة." بمعنى آخر، لا يجدر بنا أن نكره من يكذبون علينا لأنّنا
بذات القدر نكذب ونؤلم. وثمّة كثيرون يكرهون الكذب، وينتقدون الكاذبين، وآخرون
يعبّرون عن أنّ أكثر ما يرفضونه الكذب. ولكن، كلّنا نكذب، وكلّنا نؤلم ونتألّم.
"ولكن ماذا عن كذبي
أنا؟ لقد كذبت، حتّى لو لم تطاوعني كبريائي هذه اللّحظة في تحديد أكاذيبي. إنّ
قوّة عاصيّة تأبى عليّ أن أقرّ بهذا العيب، ولو تغلّبت عليها لاستطعت أن أرى
طويّتي بصفاء. لكنّي كذبت، على الأقلّ مجاملة أو خوفاً أو تحناناً، وأحياناً استرسالاً
مع نزعة إلى التّمثيل، وإيغالاً في أنانيّة لا ترحم ضحاياها ولا محبّيها وإن كانوا
أنصافاً لذاتي. وكم كذبت على نفسي لأؤجج فيها بغضاً تحت ستار الحقّ، ولم يكن وراء
السّتار غير حساسيّة مرضيّة".
في لحظة صدق راقية مع الذّات
وضعنا أنسي الحاج أمام ذواتنا وحرّك فينا روح الانقلاب على الكره والانتقام. وبيّن
لنا كذبنا الحقيقي الّذي هو ادّعاء المثاليّة والكمال. "قولنا إنّ كذب
الآخرين يؤلمنا لن يأخذ براءته إلّا حين لا يعود يعني أنّ ما يؤلمنا هو أنّ
الآخرين أيضاً يريدون الخداع".
-----
-
كان هذا سهواً- أنسي الحاج- ص 66،67
---------------
ذات
(5)
عندما نبحر في فكر الفلاسفة وولوجهم
في تعريف الحقيقة تتجلّى لنا حقائق عدّة من خلال طروحاتهم ومفاهيمهم. ولا يمكننا
الوقوف عند تعريف واحد فلكلّ منهجه الفكريّ والأيديولوجيّ، إلّا أنّ النّمط
التفكيري الفلسفي يصبّ في هدف واحد، ألا وهو البحث عن الحقيقة.
يقول أفلاطون: "يجب أن تذهب إلى
الحقيقة بكلّ روحك"، ويذكر سقراط أن لا نقترب من الحقيقة إلا بقدر ما نبتعد
عن الدنيا. وأتت الأطروحة الكانطيّة لتعتبر أنّ الحقيقة بناء عقليّاً يتمّ بتعاون
العقل والحواس. فالحواس تمدّ العقل بالمعرفة وهو بدوره يوظّف مقولاته لإعطاء
المادّة صوراً إبيستيميّة. وبالتّالي يبيّن كانط أنّ الحقيقة ليست على نحو جاهز لا
في الواقع ولا في الفكر، وإنّما الحقيقة تفاعل دياليكتيكي بين معطيات التّجربة
والمفاهيم العقليّة. أما مارتن هيدجر فقد حاول أن يتجاوز أطروحات الفلسفة
التّقليدية بأن تساءل حول الكيفيّة الّتي يمكن أن تكون بها الحقيقة استنساخاً
للواقع وترجمة أمينة له.
أسّس الفلاسفة خطابات متعدّدة حول
الحقيقة شكّلت أساساً فكريّاً ومنطلقاً أيديولوجيّاً وقاعدة تحرّك الكيان
الإنسانيّ باتّجاه البحث عن الحقيقة. وأمّا الفكر الأنسي فذهب إلى كسر القاعدة،
وحلّ مكان البحث التّساؤل عن أهميّة البحث عن الحقيقة. "البحث عن الحقيقة،
نقول. من يتحمّل الحقيقة؟ لماذا البحث عنها، لماذا الحقيقة ولا أحد- ابتداء من
الطّفل و"حقائق" الحياة، وانتهاءً بالمريض وحكم موته، مروراً بالعاشق
وحقائق محبوبه بين العيوب الجسديّة والخيانة- لا أحد، يتحمّل الحقيقة."(*)
يطرح أنسي الحاج فلسفة الحقيقة
وأهميّة البحث عنها ببساطة السّؤال، ودهشة العارف، وشقاء الباحث المتعب، وحزن
الإنسان المنهك من قسوة الحياة. ولئن طرح أنسي فلسفته من عمق خبرته الإنسانيّة،
بعيداً عن النّظريّات والأيديولوجيّات، وولج أغوار ذاته ومن خلالها أغوار الإنسان،
تجرّد من الخيال والوهم ليسقط تأمّلاته على الواقع. "إنّ الجمع الأفلاطوني
بين الحقّ والخير والجمال يجافي الخير ويكذِّب الحقّ ويهاجم الجمال. الجمال هو
المهرب من الحقّ. الخير لا ينجم إلّا عن الطّيبة- وما أدراك ما في الطّيبة من رحمة
ونقاء بعيداً عن صرامة الحقّ- لا ينجم إلّا عن الطّيبة أو عن نقاء الجهل.".
مع أنسي تتبدّل المفاهيم، وتنقلب
المقاييس ليتجلّى المعنى المبين للحقيقة الأنسيّة، ألا وهو الانقلاب على المفاهيم
العظمى وجعلها ملامسة للكيان الإنساني، ومتقاربة من فهمه كي لا يضيع في المثل
العليا غير الممكن إدراكها.
(الجمال مهرب من الحقّ/ الخير بعيداً
عن صرامة الحقّ)، وهنا مواجهة بين الجمال والخير والحقّ. وكأنّ الجمال والخير
يحيان بمعزل عن الحقّ. فالجمال يهرب من الحقّ لأنّه يجد ذاته في الحرّيّة وليس في
القيود. ذاك لأنّ أنسي يرى قيداً ما في الحقّ بحسب ما عبّر عنه في الجمع
الأفلاطوني بين الخير والحقّ والجمال. الحقّ صارم ويتطلّب قواعد وأصولاً، وأمّا
الجمال فمتفلّت في الفكر الأنسي ويشكّل مهرباً من الحقّ. كذلك الخير متحرّر من
صرامة الحقّ، لأنّه ينطلق من الطّيبة التلقائية البعيدة عن الالتزامات والفروض
والواجبات. إنّها الطّيبة البسيطة غير المخطّط لها، والحاضرة في الإنسان بمعزل عن
الإملاءات والتّوجيهات. الخير هو الرّحمة النّقيّة المنبعثة من الدّاخل الطبيعي
والّتي لا تتقيّد بالخارج.
"وحتّى
لو أخذنا الحقّ بغير معنى الحقيقة فهو فظّ لا يحتمله الحيّ الّذي سيموت". بمعنى آخر كيف يمكن للمحدود المملوء
بالشّكوك والتّساؤلات والهواجس أن يحتمل الثّابت اليقينيّ. وكيف يمكن للحيّ الّذي
سيموت، أي المشرف على النّهاية أن يحتمل الحاضر أبداً. وكأنّي بأنسي يقول إنّ
الحقّ متجرّد حدّ الإحساس بالأمور، حدّ تلمّس الواقع المؤلم الّذي يجنح إلى
الانهزاميّة. "الحقيقة للشّرطة. للتّجريد المتوحّش وللشّرطة المتوحّشة.
الحقيقة عدوّة أو عاجزة. عدوّة للقلب الضّعيف وهو حتماً أجمل منها، وعاجزة عن
إغاثة المظلوم لأنّها منذ الأزل تأتي بعد فوات الأوان."
في حين أنّ الكيان الإنساني يبحث عن
الحقيقة، يُظهر أنسي الحاج عجزها أو عداوتها من حيث أنّها لم تقدّم بذاتها إجابات
على العذابات الإنسانيّة الملتبسة المعنى، وهي غالباً في موقع انتظار الباحث عنها.
ويكمن عجزها أو عداواتها في السّؤال الإنسانيّ الّذي ما برح يشكّل هاجساً قاسياً،
ألا وهو "لماذا؟". قسوة هذا السّؤال تقابله قسوة عدم الوصول إلى
إجابة واضحة جليّة. ما يسمح للظّلم أن يستفحل، وللقهر أن يتعشّش في النّفوس،
وللحقد أن يتفشّى، وللتّمرّد أن يبلغ مداه. ولعلّ أكثر ما يعذّب الإنسانيّة قدوم
الحقيقة بعد فوات الأوان، بعد أن استنفدت الإنسانيّة كلّ طاقتها في البحث.
--------
(*) كان هذا سهواً- أنسي الحاج- ص 68
---------------
ذات
(6)
"من ذا "يختار" حقّاً؟
مهما أجبتُ فسيكون الجواب شاهداً عليّ." (*)
نتخطّى مع
هذا التّأمل الذّاتيّ لأنسي الحاج مفهوم الحرّيّة والتّخيير والتّسيير لندخل رحاب
الذّات المرهقة من اختبارات عديدة تخضع لها الإنسانيّة بعيداً عن قرارها الشّخصيّ
وإرادتها الحرّة.
ما الّذي
يختاره الإنسان تحديداً؟ وما أهميّة هذه الاختيارات الخاضعة للقرار الإنسانيّ في
ظلّ الواقع المفروض بدءاً من الوجود الإنساني مروراً بالظّروف الواقعيّة الملزمة
(الألم، المرض، الحروب، الحالة الاجتماعيّة، الحبّ، الزّواج...) وصولاً إلى الموت.
وهل يختار فعلاً؟ أم إنّ الاختيار يكون مرحليّاً، أي اختيار يعقبه ندم، أو نضج
يوقظ الرّغبة في العودة إلى الوراء لتغيير القرار؟
أن نتحدّث عن
الحريّة الإنسانيّة على جميع المستويات فهذا يتطلّب الكثير من الوعي والنّضج
ليتبيّن الإنسان أنّ مساحة الحريّة ضئيلة جداً نسبة للواقع المفروض. والأفضل في
هذه الحال التّحدّث عن مراحل تحرّريّة حتّى بلوغ الحريّة التّامة. إلّا أنّنا نشهد هذا التّحرّر التّدريجيّ في
مراحل متأخّرة يكون فيها النّضج قد بلغ ذروته. فنعيد قراءة حياتنا ونعاين خضوعنا
للظّروف، والواقع، والحياة بشكل عام، ووهمنا بحريّة الاختيار والقرارات الّتي
تعبنا في اتّخاذها. هذا لا يعني ألّا نسعى إلى الحريّة، وليس أنسي بصدد الحثّ على
ذلك وهو الثّوري المتمرّد على كلّ تقليديّ وموروث. بل إنّه بصدد إعادة قراءة
للذّات على ضوء النّضج في المرحلة الأخيرة من العمر.
(من ذا "يختار" حقّاً؟)
قبل الإجابة
على السّؤال ينبغي التّدقيق في الألم المتملّك من قلب أنسي، والتمعّن في مراحل
حياته بدءاً من فقدان أمّه ثمّ زوجته، ناهيك عن كلّ الظّروف الحياتيّة الّتي
واجهها، انتهاء بوحدته ومرضه. ولم يأتِ
جواب أنسي (مهما أجبتُ فسيكون الجواب شاهداً عليّ.) إلّا نتيجة لتأمّل عميق
في مراحل الحياة، تحت وطأة الألم. أيّاً كان الجواب سيكون شاهداً على محطّات الوجع
والألم الّذي لم يخترها أنسي، ولم يقوَ على التّمرّد عليها، جلّ ما استطاعه القبول
والتّأمّل والتّألّم.
"تستطيع أن تحدّ من آلامك ولكنّك ستأخذ أقلّ. على
أنّ بيت القصيد ليس هنا. ليس في الإفراط أو الاعتدال، ولا في تجنّب الغوص. بل في
تركيبتك، حيث لا تستطيع شيئاً في قدرك، إذا شئت. ولا يغرّنّك ذاك الحديث الحماسيّ
عن الإرادة" (*)
---------------
(*) ذات- كان هذا سهواً- أنسي الحاج- ص 74
(*) ذات- كان هذا سهواً- أنسي الحاج- ص 73
مادونا
عسكر/ لبنان
أنسي
الحاج وخواتمه الكيانيّة
ذات
(7)
"أنت قصّة قد تعرفها وحدك،
وقد لا تعرفها، ولا أحد يبالي. تمنّيت الغمر، والموج الّذي سيجرفك لن يدري بك. كلّ
هذا الوقت الضّائع، ألم تعرف أنّه كان سيكون الحياة؟ هذا الوقت الضّائع الّذي كان
تحت يديك، بين شفتيك، ولم تتحرّك لأخْذه.
أيّها
الدّاخل في غير دوره، الخارج من غير بابه، النّزف بلا دمّ، أيّها الحامل أسرار
الهباء إلى ملكوت الغياب." (1).
وكأنّي بالقارئ أمام هذا النّصّ يسكن
إلى هدوء أنسي وافتقاد قلقه الوجوديّ. فأنسي يخاطبه مباشرة وينفتح على جرحه
الوجوديّ العميق، الحياة/ الوقت الضّائع. الحياة جرح إذا ما تأمّل الإنسان كلّ لحظة
فيها. إنّها جرح اللّا اختيار للحياة نفسها بواقعها، واختباراتها، ومعاناتها،
وقرار القدوم والرّحيل... إنّه الجرح المصلوب على صليب الحرّيّة الّذي يقبله
الإنسان طوعاً أو لا يقبله.
علينا أن نفهم جيّداً أنّ أنسي الحاج
يعي تماماً أنّه لا يعبّر عن استسلام للحياة بل مراد القول بعد اختبار طويل،
ومعاناة وجدانيّة قاسية، ورحلة ألم مضنٍ،
إنّ الإنسان معنيّ وحده بحياته. وإن أراد أم لم يرد وحده يخوض غمارها، ووحدها، أي
الحياة تأخذ منه أكثر ممّا تمنحه. (هذا الوقت الضّائع الّذي كان تحت يديك، بين
شفتيك، ولم تتحرّك لأخْذه.).
لعلّ الوقت الضّائع بحسب أنسي هو ذاك
الولوج في القلق المعرفيّ، في أسباب الوجود والرّحيل، في أهميّة القرار أو اللّا
قرار. وقت ضائع لأنّ الاختيارات والقرارات أقلّ بكثير من الواقع المفروض عنوةً. (أيّها
الدّاخل في غير دوره، الخارج من غير بابه، النّزف بلا دمّ، أيّها الحامل أسرار
الهباء إلى ملكوت الغياب).
الأسرار لا تنكشف للإنسان هنا،
والمراحل الأخيرة، على عتبة "العدم المحرّر" ليست سوى تلمّس لها.
فالحقيقة لا تتجلّى واضحة في عالم المادّة وإنّما هذه الأسرار الوجوديّة سترافق
الإنسان وهو يغيب مودّعاً قلق العالم وضوضائه.
الوقت الضّائع/ الحياة مرحلة الاختبار
الحارق، والألم المحيي وإن جهل الإنسان أهميّة هذا الألم. هو السّر المحتجب خلف
ستارة الحقيقة، ومهما بلغ الإنسان من معرفة، ومهما انكشف له الغيب واستنار عقله
وانفتحت بصيرته يبقى عند حدود التمتمات.
وأمّا السّكينة والاطمئنان، ففي
المكان المهيّأ للقيمة الإنسانيّة، حيث "الحياة/ الوقت الثّمين". "ستذهب
إلى مكان تُسمع فيه روحك أكثر. ينتشر غيابك في قيلولة السّكون ملغياً حسّ الحدود.
من كان يهدي قد يبطل هادياً ولكنّ من أحيا سوف يظلّ يُحيي. فتح فجوة يدخل منها
هواء عدم محرّر" (2).
----------
(1) كان هذا سهواً- أنسي الحاج- ص 79
(2) كان هذا سهواً- أنسي الحاج- ص 81
---------------
ذات
(8)
إلى
ليلى.(1)
في النّصّ
الأخير في الفصل المتعلّق بتأمّلات الذّات الأنسيّة، يحاكي أنسي الحاج
"ليلى"، الزّوجة والأمّ الثّانية والرّفيقة. ونتلمّس من اللّغة الأنسيّة
وجعاً حفر عميقاً في نفس أنسي، أعظم من مجرّد ألم عابر لفقدان زوجة.
"هناك موت يحرّر أصحابه، وما أحسبك من هؤلاء. لا
يؤوب الملاك الحارس إلّا مهموماً على رعيّته."
الملائكة لا
يحرّرها الموت وهي الموكلة بالرّعاية والاهتمام. والملاك الحارس هنا ليلى، ملاك
أرضيّ سماويّ لا يقارن بالمفهوم الملائكيّ التّقليديّ. وإنّما لعلّ في قناعة أنسي
ملائكة الأرض فاعلون أكثر من أؤلئك الّذين اعتدنا ألّا نراهم. والملائكة الأرضيّون السّماويّون يحرمهم الموت
من المضي في الرّعاية والاهتمام، وكأنّي به يقيّد قلوبهم المفعمة بالحبّ والحنان،
أم أنّه لقلّة حيلته يأتي مرغماً ليخطف أنفاساً أخيرة تعبت من الألم والمعاناة. "كأنّ
موتك بخفره يعتذر لأنّك لم تريدي، رغم الأوجاع والخوف، إزعاج أحد. وتلك كانت حياتك
بأسرها. وظللت تجسّدين التّضحية حتّى هالتني عظمتها فيك وكرهتها لفرط ما أرتني
حقارة أنانيّتي.".
لا نقرأ في
نصّ أنسي "إلى ليلى" رثاءً أو مدحاً لغائب بقدر ما نتعرّف على ليلى
واحتوائها لأنسي الإنسان، ورؤية ذاته على ضوء الحياة الّتي جمعتهما. وإذ يصف أنسي
ليلى بأمّه الثّانية، فهو يعبّر عن غرق وجدانيّ فيها، احتوى كلّ أنفاسه وهوجسه،
واعتنى بأدقّ تفاصيل حياته. "يا أمّي الثّانية، كان وجهي التّائه بين يديك
وأنت تحتضرين، لمّا وضعت أناملك بمنتهى الرّأفة على رأسي ولفظت كلمتيك الوحيدتين
بصوت من يحتضن ويؤاسي: "ليش مقهور؟"... حتّى اللّحظات الأخيرة تعبّر
ليلى عن قوّة اللّمسات الحانية وتحتوي حزن أنسي وقلقه، وتمسح عنه آلاماً تجذّرت في
عمقه، وآلاماً قد تحملها الأيّام الآتية.
"وداعاً أيّتها الرّفيقة، ليس أجمل من هذه
المناداة. رفيقة لرفيق جعلته بكرمك يحسب نفسه، بينكما، هو الأقوى، والحقيقة أنّه
الضّعيف الأضعف، ولا يكشف الحقيقة مثل انسحاب الحقّ حين يأخذ عطاءه." وكأنّ
بالرّفقة أقوى من الحبّ، فهي السّند والدّعم والأنس، تخنق الوحدة وتزهر في النّفس
بذور الاطمئنان والأمان. ليلى الرّفيقة ظلّ وجهها منطبعاً على وجه أنسي "لأنّ
النّجمة الّتي في السّماء هي النّجمة الّتي في القلب.
لأنّ النجمة الّتي في السّماء هي القمر الّذي في القلب."
(2).
تلك الرّفيقة
يوليها أنسي رتبة الحبّ حتّى المنتهى، فيرحل الحبيب مطمئنّاً لما أفاضه من حبّ على
أحبّائه، أو يموت حبّاً من أجلهم. "لن تغادر عينيّ صورتك لحظة الفراق: كان
وجهك مطمئنّاً كما تكون روح الخالق الّذي يموت فداءً عن خلائقه.".
يطوي فصل "ذات" آخر صفحاته مع نصّ (إلى
ليلى) الّذي أراده أنسي ذروة خواتم "الرّجل الهارب من قدره الغائص في عذابه، الّذي قرّر ألّا
يعود" (3)، والّذي
تحرّر من ذاته ليصوغ ذاته في ما يشبه الاعترافات والمحاكاة للذّات وللآخر. وبين
جدليّة الوجود والعدم، والخير والحقّ والجمال والحرّيّة، تبدّلت المفاهيم، واقترب
أنسي من القارئ أكثر فأكثر، ليمنحه فرصة الوقوف أمام ذاته بصدق، ووعي، وتمرّد إلى
أن يبلغ عدمه المحرّر.
---------------
(1) ذات- كان هذا
سهواً- أنسي الحاج- ص 82
(2) قصيدة
"لي حبيبة"- أنسي الحاج
(3) مفتاح
القدر- ذات- كان هذا سهواً- ص 57.
----------------
سلوك (1)
لا يمكن للكاتب أن يتحوّل إلى لغة ما لم يكن قد تخطّى إنسانيّته
وانتقل من مشروع إنسان إلى إنسان. ما يحتاج مسيرة طويلة من التّأمّل الصّامت،
والتّقييم الذّاتيّ الموضوعيّ، والصّدق اللّامتناهي مع النّفس، وتبصّر خباياها
وجوانبها المظلمة ونواحيها المستنيرة. لذلك لا يسعنا اعتبار كلّ من يكتب أو يبوح
أو يعبّر عن مشاعره وهواجسه كاتباً، ما لم يقبض على عمق الألم في نفوسنا، وما لم
يزلزل جذور كياننا.
يقول شوبنهاور: "إنّ الكتب لا تعمّر طويلاً. وحدها تبقى تلك
الّتي يضع فيها المؤلّف نفسه". وهذا ما ينطبق على كتب أنسي الحاج لاسيّما
كتاب "كان هذا سهواً". فمن "ميتافيزيك ودين" إلى
"ذات"، وضع أنسي ذاته في عمق أعماقنا وغاص في ثناياها، بل كان يغوص في
نفسه ويتأمّلها ويتأمّل من خلالها الإنسانيّة. وفي القسم الثّالث من هذا الكتاب
تحت عنوان "سلوك"، يكشف أنسي عن السّلوك الإنسانيّ بتركيبته الغريبة
العجيبة، ويذهب إلى أدقّ التّفاصيل المحرّكة لهذا السّلوك. فهو لا يعالج ظواهر أو
عوارض، وإنّما يسلّط الضّوء على الحركة السّلوكيّة النّابعة من السّلوك نفسه، سواء
أكان نابعاً من الخوف، أم الظّلم، أم الألم، أم التّواضع، أم التّحرّر...
يظهر لنا أنسي الحاج في "سلوك" خفايا سلوكيّات ظننّا غالباً
أنّها إيجابيّة أو سلبيّة، في حين أنّها تخفي في عمقها ما خفيَ عنّا، أو هدفاً
لاواعياً. وإذا كان اللّاوعي يستحوذ على جزء كبير من السّلوكيّات فالوعي الدّاعم
للسّلوك الإيجابي يحجب لاوعياً سلبيّاً إذا ما بحثنا فيه تطهّر سلوكنا، واستحال
أقرب إلى الكمال.
تقول الشّاعرة الأمريكيّة إيميلي دينكسون: "السّلوك هو ما يفعله
الإنسان في حياته، وليس ما يفكّر أو يشعر أو يؤمن به." لكنّنا سنرى مع أنسي
الحاج أنّ السّلوك غالباً ما يكون أبعد من فعل خالٍ من الفكر أو الإيمان. إنّه
بطريقة ما نتيجة لتأمّل خبرات الحياة، أو تراكم الأحزان والمآسي... فمن سلوك
العزلة، إلى الامتنان، والبراءة، والتّفاؤل، والشّرّ، إلى الحديث عن الأقليّات،
والإعلام، إلى ما هنالك من سلوكيّات يمكن أن ينتهجها الإنسان، كلّها تنبع من سبب
واعٍ أو لاواعٍ، ولكن المهمّ أنّها تحمل في عمقها إنسانيّة تحتاج للخلاص ممّا
تراكم في قعرها.
تعتزل لتحبّ الآخر أكثر، لتنفتح عليه بحرّيّة ونقاء، فترى أعماقه قبل
ظاهره وتتفهّمه أكثر. الرّؤية من بعيد تهمل تفاصيل الظّاهر لتعاين تفاضيل الباطن،
بمعنى أوضح لتبصر إنسانيّة الإنسان. الّذين يعتزلون لا يهربون من الحياة
الاجتماعيّة، بل يبتعدون ليقتربوا بطريقة أخرى تتسامى من خلالها إنسانيّتهم. ذاك
ما تبلّغنا إيّاه اللّغة الأنسيّة: "عزلة الغياب انفتاح صافٍ على الآخرين،
وكلّما نأيت عنهم في انخطافك ازدادت محبّتك لهم وما عاد يعلق في عينيك منهم إلّا
شيء في وجوههم يخاطب فيك التّسامح أو الحنين أو الرّغبة" (1)
ولا ريب أنّنا نعرف قدرة الإنسانيّة على إظهار الصّورة المرضية
للمجتمع غالباً، لكنّ أنسي يذهب إلى أبعد من هذه القدرة، ليجعل الآخر مرآة تعكس
تناقض العمق مع الظّاهر. فيلمع في نفوسنا ما يشبه البرق لينفض عنها غبار الكذب على
الذّات. كما يضع الذّات أمام ذاتها لتتبيّن مدى الخداع الّتي تظهره للآخر.
"يبلغ شعور الواحد بالامتنان لانخداع الآخر بمزاياه، أحياناً، حدّ
التّقوى"(2).
وإذا كانت البراءة ذاك الخلوّ من الذّنب، فلعلّ ذروتها تكمن في
الضّحيّة الّتي ينهال عليها الجاني بعنفوان وكبرياء لا مثيل لهما، ظنّاً منه أنّه
الأقوى. أو لعلّها تلك الصّفة البهيّة الّتي تتزيّا بالطّهارة المذبوحة على هيكل
الألوهيّة الصّنميّة، هنا تبدو الطريدة كما يقول أنسي: "أجمل في كلّ حين من
الصيّاد لأنّ عليها ظلال البراءة الّتي ستُغدَر، وانخطاف الوهلة الأخيرة".
(3).
ويلتفت أنسي كذلك إلى ما يحرك الإنسان في نوازعه السلوكيّة، فيرى على
سبيل المثال أن التّفاؤل رادع للخوف والتّوجّس، والدّافع المحفّز للاستمراريّة
ببصيص نور عن قناعة أنّ النّور مهما كان ضئيلاً فإن الخوف "يتسلّل هارباً في
رداء التّفاؤل"(4)
ولعلّ ما يميّز أنسي أنه لا يرى الأمور كما يراها الآخرون، فليس من
أشرار في هذا العالم، وإنّما متألّمون يلبسون الشّر للدّفاع عن ظلم تجذّر في
النّفس، أو ظلم يُظنّ أنّه مقبل. الشّر ثقل الأحزان المحتشدة في الذّات
الإنسانيّة، والّتي لم تلقَ يداً تبلسمها، فتستحيل سجناً ينطوي الإنسان فيه ويختبئ
فيه ولكن هذه المرّة ليفجّر حزنه شرّاً في العالم. "لا يعدو الشّرّ كونه عند
بعض الأشخاص حزناً متراكماً. ولا يلطّفه ضحكهم إذا ضحكوا. إنّه الضّحك رفقاً
بالذّات، وهو أشبه ما يكون بمعطفٍ ورديّ للنّحس." (5)
وبالحديث عن الأقليّات وجماعة المدافعين عن الأقليّات الدّينيّة
والمستغلّين للظّروف السّياسيّة والاجتماعيّة للوصول إلى مآربهم وتحقيق مصالحهم
الشّخصيّة، يتعاملون مع أعداد، ويهيّجون ردّات فعلها بمعزل عن عمقها الإنسانيّ
مدّعين الدّفاع عن حقوقها. وأمّا أنسي فينظر إلى كلّ فرد، إلى إنسانيّته المعذّبة
والمكبوتة والمتألّمة والمقموعة. الفرد أقليّة إذا كانت حقوقه البديهيّة منتهكة،
ومعتدى عليها. وهو الّذي لا يجد بشكل خاص من يدافع عنه حتّى ولو أوهموه بذلك،
وحتّى لو أحسّ في لحظة ما أنّ زعيماً ما، أو رجل دين، أو سياسيّا، أو قائداً،
يهمّه شخصه الإنسانيّ كفرد. إن أنسي يسائل الوعي والسلوك الفرديين قبل الجماعي،
ويدعو كل فرد أن يواجه نفسه بالحقيقة ليرى أنه يعيش منذ طفولته "حكاية كبْت
نفسيّ وجنسيّ وفكريّ وروحيّ واجتماعيّ ومعيشيّ وسياسيّ متواصل"
عندما يصل الفرد إلى هذه الحقيقة سيعلن كما أعلن أنسي ، "أنا
الأقليّات!..." (6).
وأمّا في السّلوك الإعلاميّ "فلم تعد الحقيقة ذاكرة، صارت
إعلاماً". أي أنّ الحقيقة أصبحت ضلالاً ولم تعد تلك القيمة الواجب البحث
عنها. الحقيقة الوحيدة هي الكذبة الإعلاميّة الّتي جعلت من الحقيقة أكذوبة كبيرة
باسم الكذبة الأكبر "الرأي العام". فاستغلّ الإعلام سلطته والتّقدّم
التّكنولوجي في سبيل إظهار الحقيقة الّتي يريد. "حروب فلسطين ولبنان والعراق
وإيران والسّودان والجزائر واليمن وأفريقيا وآسيا وأميركا اللّاتينيّة وأوروبا
الشّرقيّة لم تنتج آثاراً أدبيّة مهمّة، لا لأنّ شعوبها ومؤلّفيها فقدوا ذاكرتهم
بل لأنّهم لا يمتلكون إعلاماً عالميّاً. إعلامهم لحدودهم ولغاتهم. مساجين في
أقفاصهم داخل صحراء، يتبادلون الشّتائم وعدم الإصغاء." (7)
--------------------
(1) سلوك- كان هذا سهواً- أنسي الحاج- ص 86
(2) سلوك- كان هذا سهواً- أنسي الحاج- ص 87
(3) سلوك- كان هذا سهواً- أنسي الحاج- ص 88
(4) سلوك- كان هذا سهواً- أنسي الحاج- ص 89
(5) سلوك- كان هذا سهواً- أنسي الحاج- ص 90
(6) سلوك- كان هذا سهواً- أنسي الحاج- ص 93
(7) سلوك- كان هذا سهواً- أنسي الحاج- ص 95
---------------
سلوك
(2)
هل جرّب كثيرون من العرب، مثلاً، أن يكونوا أحراراً
موحّدي الوجدان واللّسان؟ هل جرّب أحد؟" (1)
تجربة الحرّيّة جزء لا يتجزّأ
منها، ولعلّ المجتمع العربي لم يسعَ حتّى إلى
التّجربة. وكأنّي بالخوف معشش في عمق كيانه، وكأنّه مجبول بالخوف والرّعب من الانعتاق.
وعلى الرّغم من التّمرّد الظّاهر والجموح والاندفاع غير المنضبط، وعلى الرّغم من بذور
ثورات أنبتت فوضى من العسير استيعابها، إلّا أنّ هذا المجتمع ما برح متخبّطاً بعبوديّته،
منغمساً فيها حدّ الظّنّ أنّه بلغ الحريّة.
ولكي نحدّد مفهوم الحرّيّة الوارد في اللّغة الأنسيّة، ينبغي أن ننطلق من الدّاخل الإنسانيّ،
أي المراحل التّحرّريّة الواجب تخطّيها قبل الوصول إلى الحرّيّة أو حتّى قبل الحلم
بها. الحرّيّة الدّاخليّة أعظم وأجلّ من حرّيّة مبهمة يحياها الإنسان خلف قضبان الوهم.
"يخشى المنتقد الكلام على الصّحافة لأنّها تنتقم منه
بمئة طريقة بينها التّعتيم. ويخشى الكلام على القضاء لأنّه ينتقم منه بسجنه أو تغريمه.
ويخشى الأجهزة العسكريّة لأنّها ترهبه أو لأنّ القوانين تحميها. ويخشى الدّيانات للأسباب
المعروفة. ويخشى اليهوديّة لأنّها تعزله. والمسيحيّة بسبب أهله قبل كنيسته. والإسلام
حتّى لا يُهدر دمه. ويخشى الإعراب عن حقيقة مشاعره وأفكاره حتّى لا يرجمه أهل الحيّ."
إنّه مجتمع يحيا في هيكليّة العبوديّة والفساد، ويرزح
تحت نير الخوف والتوجّس والضّعف والارتياب من كسر العادة والتّقليد بحثاً عن الكرامة
الإنسانيّة. بُنيت هذه الهيكليّة على أربع
سلطات تشكّل مع بعضها البعض سلطة واحدة. (الصّحافة، القضاء، الأجهزة العسكريّة، الدّين)،
أربع سلطات تتمدّد في المجتمع العربيّ لتحول بينه وبين الحرّيّة، وتقمع إرادته، وتلجم
طموحاته، وتُخرس مجرّد التّفكير بالكلمة الحقّ.
تخاف فلا تفكّر بالانتقاد، وإن
فكّرت تُقمع بالقانون المكلَّف بحمايتك. تخشى الشّكّ والسّؤال والتّعبير عن رأيك كي
لا يُرهبك إيمان ظاهريّ يفرض عليك حقيقة مضلّلة. تستسلم للوطن فتخذلك أجهزته.
وكأنّي بأنسي الحاج يتساءل هل
فكّر ثوّار المجتمع العربي يوماً أن يتمرّدوا على أنفسهم كيما يعاينوا سلطة ينساقون إليها مسلوبي الإرادة؟ ألا يعون بعد
أنّهم معتقلون في جبّ الفساد حتّى باتوا جزءاً لا يتجزّأ منه؟
"إذا كان بيت الشّرّ في سلطة الظّلم والبشاعة، فإنّه
لم تقوَ سلطة كهذه بفعل القدر بل لأنّ عيوننا لا تريد أن تراها وألسنتنا لا تجرؤ على
فضحها وقلوبنا أضعف من المبادرة إلى غير المألوف."
فهل فكّر كثيرون من العرب أن يعيدوا
النّظر في انتمائهم الإنسانيّ وكرامتهم الإنسانيّة ويكونوا قلباً واحداً منسجماً بالمحبّة،
ولساناً واحداً ناطقاً بالإنسانيّة؟
--------------------
(1) سلوك-
كان هذا سهواً- أنسي الحاج- ص 96
مادونا عسكر/ لبنان
أنسي
الحاج وخواتمه الكيانيّة
سلوك
(3)
هل ستعرف الشّعوب العربيّة يوماً معنى الحرّيّة،
أو تدرك مفهومها قبلاً كي تتمكّن من التّحرّر من ذاتها وبالتّالي زعمائها
وقادتها، وتسير قدماً نحو التّطوّر
الفكريّ الّذي يؤهّلها للارتقاء إلى مستوى الإنسانيّة؟ هل ستتمرّد بعيداً عن ردّات
الفعل والتّأثّر والعاطفة المنقادة إلى حاكم أو زعيم، أو شعارات فارغة ما تلبث أن
تخمد قوّتها ويتلاشى بأسها مع أوّل خطوة نحو تحالف جديد أو تسوية جديدة؟
ما نراه في المجتمعات العربيّة من ثورات
وانتفاضات بحسب أنسي الحاج لا يترادف والتّمرّد حتّى وإن التبس معنى الثّورة
والتّمرّد عند كثيرين. "التّمرّد صفة الوديع إذ يضيق صدره بالظّلم. ليس
التّمرّد غضب الأحمق ولا بغضاء المبغض ولا غيرة الحسود ولا انتقام العاجز. كثيرون
يخلطون بينه وبين الثّورة. الثّورة حركة جماعيّة للاستيلاء على السّلطة. المتمرّد
يثور على السّلطة لرفضها من أجل الحرّيّة أو من أجل لا شيء، لا للاستيلاء على
الحكم." (*)
المتمرّد هو ذاك الّذي يبصر الواقع بدقّة ووعي. ويقوده
هذا الوعي إلى رفض ما يدور من حوله دون أن ينساق للغضب الّذي قد يعمي بصيرته ويسيطر على عقله، فلا يعود
قادراً على ضبط نفسه فيلجأ إلى السّلوك بردّات فعل عشوائيّة عنيفة، ما يسمّيه
كثيرون "ثورة". بيد أنّ هذه الثّورة ليست سوى تفجير لكبتٍ مزمن، وانفلات
السّلوك من انتظامه الأخلاقيّ. يكون
التّمرّد على مستوى الفرد ليتحرّر من ذاته باستمرار وينتفض من داخله حتّى يتمكّن
من المعارضة والسّلوك عكس التّيّار
باتّجاه الوعي والإدراك، فلا تجرفه الانتهازيّة
فيغرق بمزيد من العبوديّة/ عبوديّة نفسه. ولا يبارح مكانه ولا يبلغ
الحرّيّة حتّى وإن حلّ مكان نظام ثار عليه. "ولأنّ الثّورات تنطوي هي
أيضاً على قدر من الانتهازيّة والإجرام لا يقلّ عن مساوئ النّظام القائم وقد
يبزّها، فإنّ التّمرّد يثور كذلك على الثّورات."
بين الثّورة والتّمرّد فرق
شاسع في الفكر الأنسي، فالأولى صراخ وصخب وضجيج، وأمّا التّمرّد فهدوء واتّزان
وأناة واستقرار. التّمرّد رؤية الواقع بذهن صافٍ ومتّزن، مدرك للتّفاصيل الّتي
ينبغي تغييرها في سبيل بلوغ الحرّيّة. ولعلّ المفاهيم اختلطت وبات لكلّ عصيان جماعيّ
لقب "ثورة"، ولكلّ حركة اجتماعيّة اعتراضيّة تسمية "ثورة". "الثّورة
مجتمع كما هي السّلطة القائمة مجتمع. التّمرّد عزلة. الثّورة صراخ
والتّمرّد هدوء. وإن كانت الثّورات تدّعي أنّها حقّقت تقدّم البشريّة سياسيّاً واجتماعيّاً
واقتصاديّاً فإنّها تَنسب إلى الدّمّ الّذي سفكته أو المؤامرات الّتي حاكتها ما
كان سيحصل بدونها وبحكم الزّمن. وربّما أفضل ممّا حصل بمشاركتها. ويبقى فكر متمرّد
واحد في التّاريخ، من الأنبياء والشّعراء والعلماء إلى المفكّرين والفناّنين
والبسطاء، أكثر إلهاماً وصداقة من خدمات الثّورات كلّها." المبشّرون
بالجمال والحبّ والحرّيّة، هم المتمرّدون
والثّائرون الحقيقيّون لأنّهم يزلزلون الكيان الإنسانيّ ويحفرون عميقاً في
دواخله، ويعلّمون الإنسان بسلوكهم كيف يصنع نفسه، ولا يصنعون بطولاتهم على حسابه.
------------------
(*) سلوك- كان هذا سهواً- أنسي الحاج- ص 100
---------------
سلوك
(4)
"إذا
كانت شراهة الأكل في الرّشد تعويضاً عن حرمان في الطّفولة، فالحرمان في الطّفولة
هو عقاب على ماذا!؟" (*).
الاختبار
الأقسى والأشدّ ظلماً في حياة الإنسان هو ذاك الّذي يتمثّل في الحرمان في مرحلة
الطّفولة. الحرمان من الحبّ، من العاطفة، من الأم، من الحرّيّة، من الوطن، من
الطّفولة.
يفتح
تساؤل أنسي الحاج جرحاً بليغاً في أغوار راشدين كثيرين محطّمي الأعماق حتّى وإن بدا
عليهم ظاهريّاً التّماسك والاتّزان والاستمتاع بالحياة. أؤلئك المناضلون في العلن
مهشّمون في السّرّ، يترجّون من ذاكرة بائسة لحظات فرح طفوليّة تنعش رصانة تتلاشى في مخدع الذّات أمام صور مهشّمة وملامح متعبة.
الطّفولة
هي الحياة، وإن اتّسمت بالحرمان، وافتقدت لمقوّمات المرح، والبراءة، والتّلقائيّة،
اتشّحت الحياة بالخوف، والوحدة، والألم. إنّها مرحلة استدعاء الكمال الإنسانيّ،
إلّا أنّ الحرمان يعزّز النّقص فيها ويلقي على كتف الإنسان أثقال مستقبل نفسيّ
مضطرب. وكأنّي بالطّفولة الممزّقة حالة استباقيّة لرحلة وعرة في عالم أقلّ ما يقال
فيه أنّه مرعب. فإذا كانت الطّفولة سلسلة محطّات مرعبة ومتعبة، فكيف ستنمو المراحل
اللّاحقة؟ وكيف يفهم الإنسان سبب الظّلم ويتفادى ممارسته؟
"كلّ
منّا يريد أن يحافظ في ذاته على ولد كأنّه ولا يزال يرعاه. وأحياناً يَدفع ويُدفع
في المقابل ثمناً لا يستحقّه ذلك الولد." كلّ منّا يتمسّك
بالطّفل السّاكن فيه لأنّه مدرك أنّه الحياة. إلّا أنّه غالباً ما يتوه عنه، أو
يُفقده إيّاه ثمن أهداف لم يسعَ لها، أو واقع لم يختره. قد لا يغيب هذا الطّفل من
داخل الإنسان لكنّه ينعزل، ويفتقر للنّشاط والدّيناميكيّة. لذا نرى عالم اليوم في خلل عظيم، ذلك لأنّه باع
طفولته في سوق الرّشد الخبيث، بل قتلها ليحيا الظّلم والقهر والعنف.
الطّفولة
الحيّة تفهم لغة الله تلك الّتي يجهلها الرّاشدون، وتجتهد عقولهم لفهمها ولا تبلغ إلّا اليسير. ألا يقول السّيّد المسيح:
"إن لم تعودوا كالأطفال لن تدخلوا ملكوت السّماوات"؟ (متى 3:18).
الطّفولة تعلم السّبيل إلى الله، وتعاين قلبه وتسكنه. والمحرومون من الطّفولة
يظلّون في حالة بحث عنها وإن دون وعي وإدراك منهم. يقسون على أنفسهم، ويفتقدون
لدفء ذلك الكائن الّذي لا يعلم سبب عقابه على حرمانه من الطّفولة.
--------------------
(*) سلوك- كان هذا سهواً- أنسي الحاج- ص 104
---------------
سلوك
(5)
الحلم
المحرّك
إنسان
بلا حلم روح ضعيفة غير قادرة على اختراق اللّاحدود. والحلم في الفكر الأنسي ثبات
نفسيّ وروحيّ يدفع الإنسان إلى الحركة الدّاخليّة القادرة على استيعاب حجم الأهداف
وتحقيقها.
بين
الحلم وتحقيقه مسافة كبيرة يحتاج فيها الإنسان إلى حركة ذهنيّة ونفسيّة تمكّنه من
المضي في التّأثير على المحيط. ما نفهمه من مقارنة أنسي الحاج الحلم بالإيمان.
فكما أنّ الإيمان لا يؤثّر في صاحبه وحسب وإنّما في سواه، كذلك الحلم الجامد في
الظّاهر، المتحرّك في الباطن، يفعل المعجزات لسواه. ففي جموده حركة باطنيّة تحفّز
الحالم على الاستمرار والتّفاؤل ما ينعكس على الآخر. وتجدر الإشارة أن ثمّة فرقاً
بين الحلم والخيال المفرط الّذي قد يتحوّل إلى مرضيٍّ. الحلم حاجة إنسانيّة ووعي إنسانيّ لتخطّي
الواقع لا للهروب منه. وبهذا التّخطّي ارتفاع عن الواقع ورؤية للتّفاصيل وسعيٌ
للأفضل والأكمل.
في
سكون الحلم كلّ الحركة حتّى وإن لم يحرّك الحالم ساكناً ليخطوَ نحو الفعل. فالحركة
لا تعني الضّجيج والجلبة بقدر ما تعني التّركيز على الوعي الإنسانيّ غير المتفلّت
من الحركة الكونيّة. وأمّا الحركة المجتهدة الفارغة من التّركيز النفسيّ فتجنح إلى
الفراغ إذا ما اصطدمت بالزّمن، أي إنّها حركة ينقصها الحلم.
الحلم
في المفهوم الأنسيّ يظلّ يحرّك، وليس يخيب وإن اصطدم الإنسان بحقائق الحياة. الحركة
الكامنة في جمود الحلم رجاء مفتوح على رؤية البشر. وكأنّي بالحالم يزرع ويحصد مع
الآخر ما لا تقوى على فعله الحركة الاجتهاديّة الجسديّة.
الحلم
حقيقة الرّغبة المرجوّة، يقين يسعى إليه الإنسان بكلّ قوّته، إيمان بأنّ ما له
سيكون، وما هو من حقّه سيحلّ يقينيّاً. "الحلم هو للحالم بقدر ما هو لغير
الحالم. ثماره عامّة. كالإيمان. الإيمان لا يفعل المعجزات لصاحبه وحده بل غالباً
لسواه. الحلم إيمان النّائم، ولو كان صاحياً". (*)
---------------
(*)
سلوك- كان هذا سهواً- ص 109
---------------
سلوك (6)
دخل أنسي الحاج في الظّلّ أو بمعنى أوضح في الصّمت كردّة فعل على عالم
انحدر إلى أقصى درجات الانحطاط على جميع المستويات، الإعلامي منها والسّياسي،
والاجتماعي، والإنساني... هذا السّلوك الّذي تجنح إليه النّخبة المتوازنة الّتي
تأبى الانغماس في عالم مختلّ التّوازن، يعبّر عن احترام للذّات والكينونة
الإنسانيّة. كما يعبّر عن ألم تجاه واقع يفتقد إلى النّقد والتّأمّل والجدّيّة...
يتّضح للقارئ من خلال الولوج في الفكر الأنسي المفصِّل للسّلوك
الإنسانيّ من ناحية السّلوك الضّمني المحتجب في الأعماق، أنّ الإنسان يتعامل مع
واقعه وعلاقاته الإنسانيّة بشكل غير دقيق أو يظنّ أنّ سلوكه حسن في حين أنّه
يتعاطى مع الموضوع السّلوكيّ الأخلاقيّ إمّا من ناحية الظّاهر وإمّا من ناحية
متباينة والعمق الحقيقي للسّلوك.
فعندما تحدّث أنسي عن الوفاء قال: "ما أشقى مَن لم يعرف من أصحاب
الوفاء إلّا وفاؤهم سداد دين للتّخلّص من قيده، أو عرفان جميل مَن لا يزال يحتاج
إليك." (1). هذه النظرة العميقة في
النظر إلى السلوك تكشف حقيقة ذلك السلوك الّذي يُظنّ أنّه أخلاقيّ كالكرم مثلاً:
"أجمل ما في الكرم ليس العطاء، بل كونه أخبث المفسدات" (2)، إلى ما
هنالك من سلوكيّات تحتويها النّفس الإنسانيّة سواء أكانت إيجابيّة أم سلبيّة
كالطّموح، والزّهد، وخطأ الإنسان في اعتقاده أنّه أفضل ما في الكون. إلّا ما هو
مهمّ خلفيّة السّلوك أو الدّافع الحقيقيّ له. وكأنّي بفكر أنسي الحاج مرآة النّفس
الإنسانيّة المتوارية عن الإنسان نفسه. وكأنّه أدرك الجوانب المظلمة الخفيّة الّتي
تظهر للعلن مستنيرة.
لم يستشفَّ أنسي من كلّ سلوك إنسانيّ الدّافع النّفسيّ وإنّما الصّورة
المستترة خلف الفعل أو السّلوك، ليظهر للإنسان تفاصيل سلوكه بدقة لامتناهية تدفع
القارئ لإعادة النّظر بسلوكيّاته كيما يرتقي بإنسانيّته. فيخدم الإنسان بدافع
المحبّة لا بهدف الظّهور، أو أن يلاحظ أنّ ما يواجهه من ظلم يمارسه بدوره على آخر.
أو أن تقيّده آلام الآخرين، فيشعر بها ويتعاطف معها، والسّلوك الأفضل من ذلك هو
الّذي يجعله يئنّ تحت وطأة كرامة آلامه.
يحتاج السّلوك الإنسانيّ إلى ثورة تحرّره من الخبث المستتر خلف الفعل
الجيّد والألم المحتجب في الفعل السّيّئ. عندها يمكن للإنسان أن يخطو بثقة أكبر
نحو حرّيّته لأنّه يسعى إلى تنقية داخله. ولعلّ البكاء هو السّلوك الوحيد الّذي
يطهّر النّفس ويطمئنها، فتصفو وتستكين وتتقوّى. "كلّ ما في الطّبيعة أقوى
ممّا يفعله الإنسان، إلّا الدّموع. حمم البركان تحرق الأبرياء، السّيول تغرقهم،
الزّوابع تشرّدهم. الدّموع تعيد لهم الأمان.(3).
من السّلوك إلى عالم الأدب والشّعر والكتابة، يرافقنا أنسي الحاج في
سبل أدبيّة لم نعهدها ونقد متميّز يسهم في التّنقيب عن سحر الأدب الّذي ينبغي أن
يتحول إلى خلاص.
---------------
(1) سلوك- كان هذا سهواً- ص 121
(2) سلوك- كان هذا سهواً- ص 114
(3) سلوك- كان هذا سهواً- ص 135
---------------
أدب
لا بدّ من التّخرّج من
مدرسة أنسي الحاج الأدبيّة؛ كيما يتمكّن أيّ كاتب أو شاعر أو ناقد من تقييم نتاجه
الأدبيّ وإدراك صوابيّة توجّهه في عالم الأدب. فأنسي لا يضع أسساً للعمل الأدبيّ
التّقليديّ، وإنّما يتوغّل في سيكولوجيّة الأديب ويعرّج على سلوكه، ليشرح بدقّة
ماهيّة الكتابة والكاتب.
يتجلّى في هذا الفصل
(أدب) من كتاب "كان هذا سهواً" الفكر الأنسي النّقدي المتوغّل في ذات
الأديب والشّاعر، والنّاقد. فمنها تنطلق الكتابة الفاعلة ليصبح "الأدب
سحراً، خلاصاً"(ص 197) بعيداً عن التّيئيس والتّبئيس، فيفتح باب الانعتاق
للقارئ ويحرّره فكريّاً ونفسيّاً وروحيّاً. فالكتابة أبعد من نصوص تُصاغ بهدف
التّعبير عن الذّات أو البوح بمشاعر معيّنة. كما أنّها أرقى من هدف يُسعى إليه
بهدف الوجاهة والشّرفيّة والشّهرة. إنّها، أي الكتابة، فعل الكلمة في نفس القارئ
المحرّر الفكريّ والنّفسيّ والرّوحيّ. وبحسب أنسي الحاج يُسأل عن ذلك الشّعر،
المقال، القصّة... "كم تُحرّر قراءة الأدباء العرب؟ هذا السّؤال. الجواب:
كتاباتهم لا تتداول القضايا الأساسيّة للإنسان والمجتمع ولا حتّى نصف الأساسيّة،
وإنّما تكتفي بالعموميّات أو بالتّصدّي (؟!) لمشكلات بديهيّة واتّخاذ مواقف
تقليديّة (المحبّة ضد البغضاء، التّسامح ضدّ التّعصّب، الخير ضدّ الشّرّ، الولاء
للأرض والوطن، مناهضة العادات البالية (؟!)،... تعود من مطالعة أدبائك ومفكّريك
العرب وأنت أكثر حاجة إلى الانعتاق (ص 156).
قد يبدو النّقد قاسياً
إلّا أنّه واقعيّ ودقيق في ظلّ ما يشهده الأدب المعاصر من تراخٍ وميوعة وجنوح نحو
السّطحيّة والتّهافت على صياغة النّصوص البالية الشّبيهة بعصرنا (ما عدا بعض
الانحرافيّين وهم قلّة محدودة الوصول) (157). وقد يذهب هذا النّقد إلى زلزلة
غالبيّة الكتّاب ليعيدوا النّظر في ولوجهم في هذا العالم السّامي والمترفّع عن
المظاهر والأضواء والانغماس في متاهات تزيد من انحطاط الأدب ولا ترفع من شأنه.
- في الكتابة:
الكاتب جزء لا يتجزّأ من
الإنسان، ولا ريب أنّه يختبر إنسانيّته وتتشكّل شخصيّته ونفسيّته على هذا الأساس.
إلّا أنّ عليه أن يدرك مدى تأثيره في النّفس الإنسانيّة، إن من ناحية استفزاز
إحساسها الجماليّ، وإن من ناحية التّعبير عن وجعها بل ملامسته بل بلسمته. الكاتب الحقيقيّ
هو ذاك الّذي يكتب بألمه إلّا أنّه يمزج الألم بالجمال، فيستنطق حسّ القارئ ويرتقي
بفكره وروحه. "الجرح العميق لا يبرّر أشدّ الكتابات جنوحاً، فحسب، بل
يبارك قارئها." (151).
ولعلّ معظم كتّاب اليوم
يكتبون البوح بدل الألم، فتأتي الكتابة هشّة، تأثيرها آنيّ سريع لا يخلد في نفس
القارئ. ناهيك عن افتقادهم للمعرفة؛ فتقتصر الكتابة على الوصف، ولا تقبض على
الرّوح الإنسانيّة؛ لتنتزع منها الجهل وتستبدل به الحكمة والاتّزان. ما سيحول
بينهم وبين استحالتهم إلى لغة يفهمها القارئ ويتفاعل معها ما إن تومئ إليه بحرفها.
- في الشّعر:
"لا أعرف إذا كنت
شاعراً. أحياناً أشكّ وأنفي عن نفسي الصّفة. (ص199)
إذا كان أنسي الحاج
المعلّم "الشّاعر"، لا يعرف إذا ما كان شاعراً أم لا، فكيف نحن الّذين
ما زلنا نحبو في عالم الكتابة والشّعر نفرض على القارئ الشّعر بلقب يسبق أسماءنا؟
وكيف لنا أن نسمّي ما نكتبه شعراً إذا اقتصرت سطورنا على البوح والحزن المبتذل
والرّداءة اللّغويّة...، بعيداً عن الفكر والفلسفة، والعلم. فالشّاعر الّذي يحتاج للتّعريف عن نفسه بلقبه لا
يعي ضمناً أنّ شعره غير مؤثّر، فيحتاج لفرض التّأثير باللّقب. "الشّاعر
علّامة. ما يقوله عن النّفس، عن الجنس، عن الألم، عن الخلاص، عن الجمال، عن الله،
عن الموت، ما يقوله عن تفاصيل الكائنات ما يشدّها وما يهدّها، يسبق إليه الجميع هو
والأطفال" (8). فالشّاعر والطّفل يتساويان عند أنسي، لأنّ النّقاء
يمتلكهما. ونقاء الشّاعر لا يعني بالضّرورة الكمال الرّوحيّ، وإنّما يعني المسافة
بين الجانب المظلم في الإنسان والجانب المستنير، واستخدام الثّاني في سبيل بلوغ
المقام الشّعريّ. "الشّرّ هو أكثر ما يتأثّر فينا بالجمال. الجانب الخير
يمرّ عليه ماء الجمال كما ينسكب الجمال على ذاته." (ص146)
- في النّقد:
إذا كان النّقد مرآة
الكتابة الّتي تكشف ملامح الكاتب الإبداعيّة كما مواطن الضّعف، بهدف الارتقاء
بالعمل الإبداعيّ. وإذا كان النّقد يهتمّ بالنّصّ الأدبي كعمليّة يتمّ فيها
التّمييز بين جيّد الأدب ورديئه، فأي معنى للنّقد المتعلّق بشخص الكاتب، إن من
ناحية مدحه أو ذمّه؟ وأيّ مكانة للنّقد إذا اقتصر على تمجيد الكاتب أو تسفيهه؟ "وفي
أدبنا الحديث، لا يزال معظم النّقاد يصرف أكثر جهده في الكلام على حواشي الأثر
ومقدّماته وظروف صاحبه أكثر ممّا يدخلون في الموضوع. قرأت عن آداب الحفاوة بأحمد
فارس الشّدياق وأمين الرّيحاني وجبران وميّ وأحمد شوقي وأمين نخلة وشفيق معلوف
وسواهم أكثر ممّا قرأت نقداً لأدبهم..." (ص148).
يندرج النّقد كفعل خاصّ
وضروريّ في إطار الأخلاقيّات الأدبيّة. فللنّاقد حضور مهمّ يرافق الكاتب ليستخرج
الجمال من عمق الحرف ويسلّط الضّوء على مواطن الضّعف، ويرسّخ العمل الأدبيّ في ذهن
ونفس القارئ. وبالتّالي فأخلاقيّات النّاقد تحتّم تحرّره من استرضاء الكاتب أو
كسبه عاطفيّاً، لأنّ النّقد تنتفي أهمّيّته وتتراجع فعاليّته في ظلّ غضّ النّظر عن
الثّوابت القيمية والفكريّة. "لا تزال أخلاقيّات الأدب العربي بل الآداب
العربيّة عند فضائلها مذ كانت ولم يتغيّر فيها حرف رغم ما يقال خلاف ذلك. ما عدا
حفنة من "الانحرافيّين". ولا أحد فهم ما قالوا. وإن فهموا جرى التّصرّف
وكأنّهم لم يفهموا" (157)
أنسي "الشّاعر"
كتب من نقاء وليس من كمال، فأسعد وأبكى في لحظة خاطفة. أنسي ومضة الشّعر والنّقد
والكتابة في عصر أدبيّ يبدو وكأنّه يتراخى وينحدر.
---------------
فنّ
من العسير أن تمرّ بأنسي
الحاج دون أن تقف عند باب ذاتك، وتندهش من قدرته على الغوص فيها ببراعة المفكّر
المتغلغل في أعماق الإنسانيّة. أنسي الحاج
رفيق القارئ، يفكّر معه بصوت عالٍ. يدهشه، يعلّمه، يدلّه على خيوط لم تكن لتتراءى
له إلّا بوخزة كلمة من كاتب، أقلّ ما يُقال فيه إنّه عرف سرّ الإنسان، وكشف عن أعماقه
الدّفينة.
لا يختلف الجزء المتعلّق
بالفنّ، في كتاب "كان هذا سهواً"، عن باقي الأجزاء من ناحية اللّغة
الأنسيّة المرتبطة بتأمّل وتحليل سيكولوجيّة الإنسان، لاسيّما الفنان. إلّا أنّ
الفكر الأنسيّ غير معنيّ بالنّظريّات السّيكولوجيّة المتعارف عليها، بل هو معنيّ
بالكشف عن السّلوك الّذي يصعب تغييره؛ لأنّه متجذّر في التّركيبة الإنسانيّة. كما
أنّه لا يهدف إلى طرح حلول أو إيجاد مخرج لهذا السّلوك، وإنّما تسليط الضّوء على
خلفيّة العمق الإنسانيّ من جهة، وعلى السّر الكامن في هذه التّركيبة دونما تفكيكه،
وعلى تفسير هذه الخلفيّة بعيداً عن إصلاحها.
"سرّ لاجوكوند
بسيط. ليس أنّ في ابتسامتها لغزاً، بل أنّ هذا الصّنم يبتسم" (ص 205). اختلف النّقاد والمحلّلون في تفسير أسرار تلك الابتسامة
في رائعة ليوناردو دافنتشي، إلّا أنّ أنسي ضخّ الحياة في هذا السّرّ، وفتح للقارئ
والمشاهد نافذة على يقين لا يختلف عليه أحد: "هذا الصّنم يبتسم". فلا
لغز في ابتسامة الموناليزا، وإنّما السّرّ في كون دافنتشي رسم صنماً يضجّ بالحياة.
وهنا يبرز الوعي الجماليّ
عند أنسي الحاج الّذي يقرأ اللّوحة، بل يقرأ الرّسّام الّذي عاش مع هذه اللّوحة
سبع سنوات. فيمنحك مفاتيح السّرّ، ولك أن تعيد قراءة اللّوحة واستخدام المفاتيح
لتستمتع بما تعاين. الوعي الجماليّ لا يقتصر على تأمّل جمال معيّن، بل إنّه ينفتح
على الجمال الأعلى. أنّى شاء، يخطف أنسي الجمال من الجمال ويبثّه في النّفس، لأنّه
يمتلك فنّ الرّؤية ما يتيح له معاينة أسرار الجمال.
"تحافظ الموسيقى
على صمت سرّها رغم ضجيج الآلات. ويحافظ الصّوت السّاحر على صمت سرّه مهما حُمّل من
ألفاظ. هنالك أسرار لا يستطيع حتّى أصحابها أن يفضحوها إذا رغبوا. إنّها هنا حدود
طاقتنا على الهدم." (ص 211).
بين سرّ الموسيقى
النّابع من الضّجيج، وسرّ الصّوت السّاحر المسكوت عنه، ينبت عشب الجمال في روح
المستمع حتّى يكاد لا يعاين إلّاه. وتكفيه سعادة أن يقرأ الجمال المُسكر، ويتنعّم
بسرّه بدل البحث في تفاصيل تهشّم صورته وتعزل ضياءه. ذاك ما لا نفهمه في صوت
فيروز، ولا ينبغي أن نفهم. فأنسي الّذي هام بسرّ فيروز لا يجد مبرّراً لاقتحام سرّ
هذه الأيقونة، بل الأجدر التّأمّل به حتّى الثّمالة واكتشافه كنوراً تنبعث في
الدّواخل الإنسانيّة. سرّ هذا الجمال يكمن في التّضاد بين شخصيّة الفنّان وفنّه. "فصوت
فيروز الآسر لا يشبه شخصيّتها الكاسرة (ص 212). كما التّباين بين شخصيّات الموسيقيّين
والمؤلّفين وموسيقاهم، فلعلّ عدم اتّحاد فنّهم بشخصيّاتهم هو من يفجّر الإبداع
الجماليّ.
"في يوم من عام
2000 قالت فيروز لمحدّثها: "أمس كنت أسمع أغنيات لي عن فلسطين. كُتب مرّة عن
التّحريض في صوتي: سأقول لك ما اكتشفته أمس: تحريض حنون. كيف تفسّر لي هذا
التّناقض؟ تحريض وحنون؟!" (ص212).
في المقابل يبيّن الفكر
الأنسي أسباب انتفاء الجمال، فيبرز للقارئ تفاصيلَ قد تاه عنها، أو استحوذ عليه
جمال آنيّ. يكره أنسي مسرح الأقنعة، لأنّه يخفي الوجه، أي تفاصيل الجمال. في الوجه
سمات الإنسان، نقرأ فيه رغبته، وغضبه، وحبّه واشتهاءه... "عندما نخفيه
نلغي القناة العظمى لإيصال كهرباء الممثّل، وهي العينان والهالة منهما
وحولهما" (ص 204). والأسوء من
إخفاء الوجه، هو ذاك "التّصنّع "الحركات" عند ممثّلي السّينما
الّتي يقلّدها الملايين، هي أوضح ما يؤكّد الببّغاويّة البشريّة. وإذا أعدنا
مشاهدة شريط سينمائيّ أكثر من مرّة نُصدم بالتّكلّف عند الممثّلين (وهو أشدّ فظاظة
وانتشاراً ممّا نلاحظه عند الممثّلات). ونستاء من كوننا قد أعجبنا بهؤلاء في فترة
ما ونحسّ بخديعة." (ص207) . وهنا لا يتعلّق الأمر بالتّناقض بين شخصيّة
الفنّان وفنّه، بقدر ما يتعلّق بالتّمثيل خارج إطار التّمثيل. فالتّكلّف هو فرض
شخصيّة أخرى غير تلك الّتي يمتلكها الفنّان. قد يعود السّبب لإظهار الذّات بصورة
معيّنة، أو الاعتداد بالنّفس أكثر من اللّزوم، أو بالنّرجسيّة.
إذا كان لا بدّ للأدباء
أن يمرّوا بمدرسة أنسي ليقيّموا حسن توجّههم، فلا بدّ للفنانين أن يتوغّلوا في
الفكر الأنسي؛ ليعاينوا ما غاب عنهم من جمال أنفسهم. خاصّة أنّ الفنّ اليوم يجنح
إلى السّخافة والانحطاط، وأنّ فنّاني اليوم يسمّون سخافاتهم فنّاً فيحاربون الجمال
ويخفونه عن عيون المستمع والمشاهد والقارئ.
---------------
حبّ
عنونت الشّاعرة اللّبنانيّة ندى الحاج مقدّمة كتاب "كان هذا
سهواً" بكتاب من ذهب وهي محقّة. إلّا أنّ أنسي الحاج، هو الكتاب الذّهب. كلّ
خاطرة مرّت بذهن أنسي، وكلّ رجفة قلب أيقظت حبر القلم لينثر لنا عمق الفكر الأنسيّ
شرارات ذهبيّة انسكبت في كياننا. حطّمت الأقنعة لتكشف عن الإنسان فينا بكلّ ما
يحمل من تناقضات بشريّة، وحاجات يقمعها لأسباب عدّة.
أنسي الحاج مدرسة حبّ تنثر في كلّ قلب زهرة حتّى يعاين الإنسان إنسانه
ويكتشفه فيعرفه.
قد يمكن الغوص في خواتم
أنسي الحاج وتلمّس بعضاً من رؤيته والقبض على مقاصد عمقه الإنسانيّ. وقد يتسنّى
التهام معان احتجبت في عمق نهاه، إلّا أنّ استنباط فحوى الحبّ الّذي اختبره أنسي فلا يمكن إلّا
لعاشق حقيقيّ أن يفهمه ويدرك وجعه. الحديث عن الحبّ لا بدّ أن ينقله اختبار حقيقيّ
واقعيّ، ولا يقدر الخيال أن يمنح وفرة المعنى، ولا يقوى الوهم على تثبيت ذبذبات
الحبّ في قلب القارئ.
"كلّ قصيدة بداية
الشّعر/ كلّ حبّ بداية السّماء" يقول أنسي الحاج. إنّه الاختبار العشقيّ بكلّ
مكنوناته وبساطته وتعقيداته، مروراً بالبشريّة وصولاً إلى الارتقاء العشقيّ كقيمة
مقدّسة. قيمة العشق المتمدّد في الكيان كلّه، والمشكّل قوّة خالقة، تُلبس الإنسان
رداء جديداً، تبدّل نظرته، تجذبه إلى الدّاخل ليعاين أدقّ تفاصيله الممزوجة بالرّغبة
والحرمان والشّوق والكره. فالشّوق إذا بلغ أوجه وقابله الحرمان استحال أقصى الحبّ
إلى أقصى الكره. دقيق جدّاً هذا المعنى العميق للحبّ الحقيقيّ الّذي أراد أنسي من
خلاله أن يشرح المكابدة في الحبّ بين الظّفر بالمحبوبة والحرمان منها.
أقصى الحبّ أقصى الكره.
بين الرّغبة في الاتّحاد الكلّيّ جسداً وروحاً بالمحبوبة، والحرمان منها ينبت
الكره برداء الحبّ. بمعنى آخر يوهم العاشق نفسه إذا ما استحال الظّفر بالمحبوبة أن
ذاك هو الحبّ الحقيقيّ. فيساوي بين الحرمان
والحبّ. ما هو غير حقيقيّ بحسب أنسي، لأنّه في هذه الدّوّامة القاسية يتولّد شعور
الكراهية برداء الحبّ. هذه الحالة اللّحظيّة تربك الرّوح، تشرذمها، تولّد فيها
الحزن المرافق للحبّ. وكأنّي بالعاشق يتآكل من داخله، ويلامس نار الحبّ الأبديّة.
لسنا بصدد الحديث عن
الحزن كنقيض للفرح، أو كخللٍ مرحليّ ظرفيّ نتيجة
صعوبة معيّنة. وإنّما الحديث هنا عن حزن ملازم للحالة العشقيّة، رفيق درب،
ينتج عن حالة الحبّ ذاتها المركّبة من الحزن والفرح في آن. الفرح بالمحبوب والحزن
من عدم الظفر به ونشوء حالة الكره برداء الحبّ. لأنه ستتنازعه شهوته لمن يحب
ولن يستطيع، فالرّاحة ألا يحبّ إذن.
" يا لكذب القلب!
تأتيك غادة فتذوب لها، ولكنّك تظلّ تحفر عميقاً
حتّى تُشقِّق الحلم، بخلفيّة غيرتك السّحيقة من جمالها، بكرهك أن تكون هناك تحفة
وتسلّمك ذاتها، فيما كنت تؤثر أن تظلّ تشتكي من الحرمان لتريح نفسك من جميل أن
تحَب، لئلا تحِب...
وهذا الكره كلّه في رداء الحبّ.
يا لكذب القلب!..." (ص 233)
تقرأ أنسي فيكثر الجمال.
" الحرب قد لا تبكيني. أغنية صغيرة قد تبكيني،
أو كلمة لأنسي الحاج" (محمد الماغوط).
لا يبكيكَ إلّا مَن قويَ
على إخرج إنسانك منك وتجسيده أمامك. تعاينه بكلّ تناقضاته وتفاصيل تعقيداته،
وتتنبّه لأمور كنت تعرفها عنك، لكنّك لم تجرؤ يوماً على استخراجها من ذاتك. بين أن
تكتبَ عن الإنسان وأن تكتب منه فرق شاسع. فالكاتب عن الإنسان ينظر إليه من خارج،
ويحكم على خبراته المرحليّة والظّرفيّة. وأمّا الّذي يكتب من الإنسان، فهو ذاك
الّذي يغرف من ذرّات كيانه كلّ نَفَس لا ليمتّع
فكره وحسب، وإنّما ليعالج ما زرعه الوجود فيه.
أنسي الحاج العازف
المنفرد، اخترق قارئه وقبض على أعماقه حتّى استحال طبيباً يمنحه جرعات يقظة، وخزات
وعيٍ تنبّهه إلى عمقه المتناقض، وحالاته الإنسانيّة المتعدّدة. تفسّر له نرجسيّته
وتواضعه، قلقه وطمأنينته، حبّه وحقده، وعيه وجهله، رغبته وزهده... انطلق أنسي من
ذاته ليدرك إنسانيّة الآخر بشتّى حالاتها، فأتت كتاباته فلسفة خاصّة لا تشبه أيّة
كتابات أخرى، بعيدة عن التّنظير والوعظ والكلام الّذي لا يجدي نفعاً. وكأنّ أنسي
تماهى مع الإنسان ككلّ ليخرج منه ما لا يقوى هو ذاته على إخراجه أو البوح به.
"أشعر أحياناً أنّي أكتب من وراء الكتابة كصوت مَن
ينطق من وراء الموت"، يقول أنسي. هو الصّوت ذاته الّذي سيسمعه
القارئ كلّما قرأ أنسي الحاج. الصّوت الآتي من وراء الموت، الّذي لا تتغيّر
ذبذباته، ولا تنكفئ تأثيراته في النّفس. صوت ينعش الذّاكرة، يضمّخ الحاضر وبتمرّد
خاطف يحوّل مسار العقل، ويصوّب وجهة وعيه. ما نفهمه من كلام الشّاعر الأردني إسلام
سمحان، بعد لقاء له مع أنسي الحاج في بيروت: "بدأت أفكر وأؤمن في آن واحد،
بأنّ الكتابة ليست مجرّد دفقات شاعريّة، انّما هي موقف ودفاع عن الأحلام والحبّ
والحياة بطريقة أو بأخرى."(1). وكأنّ أنسي نهض بالشّعر والكتابة، وأجلسهما في
مكانهما الحقيقيّ المعدّ لهما. لقد جعل من الشّعر أيقونة للتأمّل، لا كلمات
استعراضيّة، أو بوح ساذج يعطّل حرّيّة الكيان الإنسانيّ. وجعل من الكتابة منهجاً
علائقيّاً بينه وبين القارئ، فيمسي أنسي صديقك الّذي لم تقابله ولم تعرفه. إنّه
الصّديق بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى، لأنّه لو استطاع أحدهم أن يقول كلامك ويحمل
عنك ثقله، أو ينتقدك ويعرّفك الخلل المتشبّث بك لينقلك من العبوديّة إلى الحريّة،
عندها يستحقّ رتبة الصّديق.
"ثمّة
شعر عظيم كثير في العالم، شعر لا ينفد. بل قل ثمّة شعرُ شاعرٍ واحدٍ لا ينفد. شعر
أنسي الحاج، هو شعر لا تستنفده القراءة، بل كأنّها تُكثّره. ولكن، أيضاً، رغم كلّ
ما في العالم من شعر عظيم، ما زال يخرج فينا شاعر منّا، يأتي، وإن كان الأخير
زمانه، بما لم يستطعه الأوائل، على حد فخر المعرّي أيّام كان يفخر قبل أن يعتزل
الفخر والعالم. أنسي الحاج من الشّعراء الّذين لم يمنعهم كلّ شعر العالم العظيم
المتراكم على كتفيّ الوجود من الإتيان بجديد."(
الشّاعر السّوري حسام حنّوف).(2).
شعر
لا ينفد، خلق متجدّد يتمرّس في وجدان القارئ حياة متحرّكة متجدّدة، تنفذ إلى مطاوي
نفسه، تجمع شتاته وتدعوه لممارسة بشريّته بعيداً عن المثاليّات الزّائفة
المقيِّدة. شعر، كلّما قرأته غرفت منه، كالبحر الّذي كلّما لامست عمقه أيقنت سرّ
الجمال. تقرأ أنسي فيكثر فيك الجمال، تلامس ظلمتك بقدر ما تلامس نورك، فتقف بينهما
وتتأمّل وتتمرّد، ثم تنهض لوعيكَ بحرّيّة غير تلك الّتي تسعى إليها عن غير وعي.
ذاك هو الشّعر الّذي لا ينفد، ألا وهو كلمة من أنسي الحاج. كلمة واحدة تفتح مسامات
روحك، وتهزّ كيانك حتّى يتعمّد بماء الكلمة وتسقط عنه سخافة الجهل البشريّ في
الحبّ والجنس والفن والسّياسة والمرأة ...
" ما هو الشعر،
أنسي الحاج؟
لم نعد نقرأ الشّعر منذ غيابك، آهٍ، لو تعلم؟
ولكن، ما هو الشّعر، يا ترى؟
الشّعر هو الزّمن الّذي لو سمح وتسامح، لحبس أنفاس الموت
وجمَّده، مرّة أخرى وكنتَ بقيتَ لنا وبقيتَ معنا. قلْ لي فقط: كيف نعثر عليكَ؟
ونحن، بالكاد نتحرّك ... أنتَ الذي أصبح في الأعالي ونحن ما زلنا في الأسفل، في
البرد ننتظر حلول الفصول الأربعة ونهاية الحرب والسّلام الأبدي. (جوزيه حلو- شاعرة
لبنانيّة)
ولكن...
من هو أنسي الحاج؟ هل يمكن اختراق أنسي اللّغة، وتبيّن
أسرارها، والإمساك ببهائها وعمقها؟ أم أنّها أيقونة للتّأمّل والإصغاء، حتّى يرتدّ
الصوت في داخلنا فيفجّر الحبّ والجمال.
أجمل ما قيل في أنسي
الحاج ما كتبه شكري جرجس في مجلّة (أخبار الأدب المصريّة) "أقرأ شعر أنسي
الحاج في صمت، ولا أناقش الآخرين في شأنهِ، لا أتحدّث مع أحد عن شعره، وكأنّه طقس
سرّي مُمتع، أتأمّله، أفكّر في هذه السطور، وأهمس لنفسي بكلام أنساه بعد لحظات،
وأقول: لا تكتب عن أنسي، ولا تتحدّث عنه، احفظهُ كمحبّة لا تسقط أبداً" (3)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- صحيفة النّهار-
لبنان- 7 كانون الأول 2016 - السنة 84 - العدد 26143
(2)- صحيفة الأخبار –
لبنان- العدد ٢٥٢١ الاربعاء ١٨ شباط
٢٠١٥
(3)- صحيفة الجمهوريّة-
لبنان- (أنسي الحاج... لا يُناقش)- طوني نجم- 19 شباط 2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق