‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقدّمات أعمال أدبيّة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقدّمات أعمال أدبيّة. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، 19 يونيو 2020

اخلع أفكارك إنّك في حضرة الشِّعر!


مادونا عسكر/ لبنان


 

أن تقدّم ديواناً للشّاعر يوسف الهمامي، فكأنّك تقرب الوحي وتلازم الأنغام العلويّة وتلامس الأسرار الأرضيّة. وفي ذلك تكمن صعوبة التّقديم لما يمتاز به الشّاعر من خصّيصة نادرة، ألا وهي التّماهي مع العالم الشّعريّ والانصهار به حدّ اعتلاء رتبة الشّاعر النّبيّ. فيخضع الشّاعر للشّعر/ الوحي ويستحيل شاعراً ولا يبقى عند حدود الصّياغة الشّعريّة.

يتجلّى الشّعر في ديوان "نشأة الظّلّ" إلهاً يوحي لشاعره الّذي اختاره من بين النّاس وانتزعه من بينهم ليكون رسول الشّعر والإنسانيّة معاً. فالقصائد في الدّيوان لم تُكتب لتعبّر عن جماليّة شعريّة معيّنة وحسب، ولم تترجم مشاعر الشّاعر وأفكاره ورؤيته وحسب. وإنّما القصائد أشبه بالسّرّ  / Mystère؛ تستدعي القارئ ليتأمّلها ويحسّها عميقاً في داخله. فيستيقظ فيه الإنسان، ذلك الكائن اللّغز. ويتحرّك في أعماقه الحسّ الّذي يقود البصيرة إلى النّموّ تدريجيّاً مع كلّ قصيدة.

"نشأة الظّلّ"، ديوان (مشفّر)، أشبه برؤية تستدعي التّفكيك لبلوغ المعنى الأصيل في قلب الشّاعر. وقد لا يبلغ القارئ هذا الحدّ، لأنّه لا يرافق الشّاعر وحسب وإنّما يرافق وحيه. وبالتّالي فهو ملزم أن يذهب إلى الينبوع الّذي منه يرتوي شاعرنا.

العنوان إنسانيّ بامتياز، ويدلّ على إنسانيّة الشّاعر المتوغّلة في عمقه والمتفجّرة من قلبه لتحمل على عاتقها الهمّ الإنسانيّ. ما يظهر تفاصيل الشّاعر النّبيّ الّذي لا يلعب دور ناقل الوحي وإصلاح البشر، وإنّما الاشتراك مع الوجع الإنسانيّ:

إلاهي إني أحبّ ..

وإني أضيء للنّاس جميعاً

ماذا لو فقد النّاس يوماً ضيائي؟؟ (ص 7)

/

أنا الكليم ..

أخبّئ في الغاب غصّة شجرتي (ص 53)

 

سيأخذ الظّل أشكالاً متعدّدة، سواقٍ تصبّ في نهر واحد هي كينونة الشّاعر. وإذ كان الحديث عن شاعر نبيّ، فذاك يعني أنّ الشّاعر يتوغّل عميقاً في الألم بفعل الاشتراك بوجع الإنسان. كما يدلّ على تعريف خاصّ للشّعر المرادف للنّبوءة؛ فالشّعر هو الّذي يتوسّط العالم العلويّ والعالم الأرضيّ. فكلّما تماهى الشّاعر مع الأرض والإنسان ارتقى إلى السّماء وأصغى أكثر إلى الوحي الّذي يقول. ألا يقول الشّاعر نفسه: "القصيدة الّتي لا تكتب شاعرها لا تستطيع الإنجاب"؟ وبالتّالي فالشّاعر يراعٌ في يد القصيدة تكتبه وتصوغه. والشّاعر قيثارة تعزف القصيدة على أوتارها الوحي/ النّور الّذي يتغلغل في نفس القارئ ليدلّه على الجمال.

الحقيقة تكمن في ما لم أقله... (ص 29)/ الحقيقة قطيع من الاحتمال (ص 33)

في قلب الشّاعر تكمن الحقيقة. وكأنّي به عاينها ويحياها، لكنّه لا يحتكرها بل ينقلها للقارئ شعراً. والقارئ الذّكيّ يستطيع سبر أغوار الكلمة ليتلمّس تلك الحقيقة. ذاك أبهى ما في الدّيوان. ما يدلّ على نقاء خاص، يلتقطه الشّاعر وينقله للقارئ تلقائيّاً. وسيتجلّى الشّعر النّبوءة في قصيدة (هوامش بوح) (ص33) لتتشكّل المقاطع ومضات نبويّة لا يبوح بها الشّاعر وإنّما ينقل ما باح به الشّعر/ الوحي.

يا أيّها الوضوح غيّبني

وطأة القلب في ما اعتلى

يا أيّها الغيب أنبئني

متعة الرّوح في ما لم أرَ.. (ص 34)

بالمقابل يرتسم في القصيدة مبدأ التّكوين الإنسانيّ للشّاعر، فيعود إلى أصوله الّتي هيّأها له الخالق من قبل إنشاء العالم. ما يعزّز مبدأ إدراك الشّاعر لكينونته ودوره في الوحي الشّعريّ، ومكانته من العالم.

انا انتظرتُ قبل ميلاد التّاريخ

قبل اندلاع الحياة بقليل من الموت

قبل القَبل (ص 35)

..

لكنّ الشّاعر لا يغفل عن أنّ كينونته ترتبط بالأنثى المتماهية معه حتّى تكتمل إنسانيته. وسيأخذ الظّل هنا معنى الاكتمال ليكون الشّاعر، بل لتتحقّق كينونته فيتحقّق الشّعر.

لا بدّ لي من ظلّ كي أراني

لا بدّ لي من أنثى كي أكون (ص 35)

تكوّن هذه الأنثى مع الشّاعر الصّورة النّهائيّة له، فهي ليست خارجة عنه، ولا جزءاً منه. وإنّما الاثنان متّحدان حتّى التحام الأنا- أنت، وانصهار الكينونتين لتصيرا كينونة واحدة:

أراك مع أطفال الكلمات

تضيئين من براءة يوسفك الأولى

تجمعين طيور الكون حول مائدة قلبي

وترسمين على ريشهم بماء الوحي العظيم (ص 49)

هذا الاتّحاد الضّمنيّ لا يحرم أيّاً من الطّرفين استقلاليّتهما ودورهما، وإنّما يحافظ على إشراقة كلّ منهما. فالشّاعر حريص على إبراز المعنى الاتّحاديّ المخالف للذّوبان بالآخر.

أنا - أنت

نحن ساقيتان تلتقيان معا

بين حقول الشّمس والحلم

قبل نهاية العالم برجفة واحدة (ص 51)

 

هذه الأنثى ليست مصدر إلهام أو وحي شعريّ. وهي المتّحدة به تشكّل سنداً يؤسّسان من خلاله درباً يقود إلى الله. وهنا ينكشف التّجلّي الصّوفيّ في الدّيوان. فالشّاعر النّبيّ لا بدّ أن يكون على علاقة حبّ بالله، وقد يتلمّس القارئ أنّ الأنثى في هذا الدّيوان رفيقة درب إلى الله: أريدك أكثر كي أقترب أكثر إلى ربّي.. (59)/ أنت اتّحادي العظيم في حضرة الرّبّ (ص 68).

/

سنتراءى معاً هناك

نصلّي بروح واحدة

خفيةً عن الأجساد (ص 78)

يعرف الشّاعر من هو من العالم ومن الملكوت. كما أنّه يعي أنّه مفعول به لا فاعل. ولعلّ قدسيّة القصائد تظهر هذا الأمر وتستبين للقارئ فرادة يوسف الهمامي الشّاعر الّذي بشعره يعرّف الشّعر الّذي  من العسير تعريفه. ويكشف الدّيوان عن نقل الجمال الإلهيّ في سطور تقترب من القداسة لفظاً ومعنى. فإذا مرّ القارئ بها عليه أن يخلع أفكاره وهواجسه المضطربة لأنّه أمام نصوص نطقها الوحي فتجسدت الكلمة.


الثلاثاء، 29 أغسطس 2017

الوحدة النّصّيّة والإبداعيّة في مجموعة "بائعة الكبريت"


مادونا عسكر/ لبنان

في عمل مشترك بين الكاتبين العراقيّين علي غازي وإبراهيم عدنان، تتشكّل المجموعة القصصيّة "بائعة الكبريت"، في انسكاب روحيّ واحدٍ حتّى يكاد القارئ لا يميّز وهو يتنقّل بين القصص، مَن صاغ هذه القصّة أو تلك إلّا بالعودة إلى اسم القاصّ. ذاك لا يعني أنّ الكاتبين ذاب بعضهما في بعض، وتاهت ملامح أحدهما في الآخر. لكنّ العمل يشبه لوحة فسيفسائيّة أضاف كلّ منهما لمسته حتّى اكتملت اللّوحة وظهرت واحدة.
تتضمّن المجموعة ستّة فصول، تنقل الواقع العراقيّ بدقّة محاكية تفاصيل المجتمع الّذي شرذمته الحرب والإرهاب فكريّاً ونفسيّاً وروحيّاً. ولا ينقل الكاتبان الواقع وحسب، وإنّما يتغلغلان في خلاياه ويعالجان سلوكيّات المجتمع الّتي أنتجتها الحرب والتّشرذمات العلائقيّة، والحالات الاجتماعيّة الّتي تراوحت بين الوحدة، والخيبة، والظّلم، والفقد، واليأس، والحلم... لكنّ روحاً حيّاً يعمل في النّصوص، فلا يجعل منها حائطاً مسدوداً لا يمكن اختراقه نتيجة غموض أو حزن.
يصوغ الكاتبان قصصهما من وجع، ولكن بروح حيّ يلمس القارئ، يعرض مشكلته، يدلّه على وجعه، ويعالج فكره من خلال  تفاصيل الحياة اليوميّة في دوائر الفرد والعائلة والمجتمع. ولئن كان عنوان المجموعة القصصيّة "بائعة الكبريت" فلا بدّ من الإشارة إلى تناصّ بين قصّة "بائعة الكبريت" للشّاعر والأديب الدّنماركي هانس كريستيان أندرسن الّتي تروي معاناة فتاة فقيرة تجوب الشّوارع ليلة رأس السّنة لتبيع أعواد الثّقاب. كانت تعاني من البرد والجوع، وماتت وهي غارقة في هذيانها. وفي القصّة الّتي أوردها إبراهيم عدنان مشهد مماثل، لا يختلف كثيراً عن قصّة أندرسن، إلّا في النّهاية. فالقاصّ إبراهيم عدنان بدّل حركة الفتاة ليجعلها مفتوحة على حرمان أكبر:
"حافية تجوب شوارع يزفّتها الجليد، بثوب ممزّق ترقعه سترة تغطّي سنتها الخامسة؛ أنفها الورديّ، مجرى ينحدر ماؤه فوق شفتين ناشفتين؛ ضفائرها تبعثرها الرّياح، حلمها الكبير نار مدفأة لا يطفئها المطر. تنفخ بقايا حرارة قلبها في أنامل مصلوبة بسياط الشتاء.
اليوم رأيتها عارية، علبها متفحمة وسترتها مكوّرة فوق شيء ما، تحاول جاهدة إشعال النّار لدميتها أخبرتني: أنّها آخر من تبقى لها.." (بائعة الكبريت/ إبراهيم عدنان).
في قصّة أندرسن تشعل الفتاة أعواد الثّقاب لتشعر بالدّفء، وما تلبث أن  تموت وهي تحلم بالمدفأة، بالطّعام، بجدّتها، ما يعني أنّ الموت غلبها، ولا يشهد القارئ حركة انفعاليّة حقيقيّة للفتاة. وأمّا في قصّة إبراهيم عدنان فالفتاة مصدر قوّة بشكل أو بآخر على الرّغم من عوزها. (اليوم رأيتها عارية، علبها متفحمة وسترتها مكوّرة فوق شيء ما، تحاول جاهدة إشعال النّار لدميتها أخبرتني: أنّها آخر من تبقى لها..). الفتاة المعوزة الفقيرة تشعل أعواد الثّقاب لا لتستدفئ وإنّما لتُدفأ دميتها الّتي يشير إليها إبراهيم عدنان بـ (من) بدل (ما)، فيحرّر الدّمية من جمادها، ويمنحها الحياة. ويمكن اعتبار هذه القصّة القصيرة جدّاً مركزيّة تمتدّ لتحتوي كلّ النّصوص، أو لتتوغّل فيها كلّ المعاني الّتي أرادها الكاتبان. الفقر والعوز حاضران في جميع النّفوس إن على المستوى المادّيّ أو المعنويّ. لكنّ الحلم قلق وملتبس في المجموعة القصصيّة على عكس اتّساعه في قصّة أندرسن:
"في الحلم رأيتهم يشيرون نحوي
- هذا الّذي قال أنّه ملك بني إسرائيل
صلبوني ثالث ثلاثة... نظرت عن يساري وجدت أبي، يلعق دمه ويصرخ في وجهي
- اللّعنة عليك وعلى دينك الجديد.
عن يميني... نزعت أمّي يدها من المسمار ورفعت عن رأسي أكليل الشّوك، فيما هتفت عجوز بين الجموع الغفيرة
" إنّه الـنـّبـيّ الـمـنـتـظـر " (كابوس- علي غازي)
الحلم/ الكابوس، الّذي يرنو إليه الكاتب مشيراً إلى النّبوّة كعنصر خلاص وتحرّر من الألم، والظّلم، والقهر. وهو كابوس لاستحالة تحقيق الحلم، ولفداحة الألم الّذي بلغ منتهاه. (صلبوني ثالث ثلاثة... نظرت عن يساري وجدت أبي، يلعق دمه ويصرخ في وجهي).
تناصّ آخر مع مشهد الصّلب في الإنجيل المقدّس، مع مفارقة أحدثها الكاتب تجري فيها الأحداث على حساب أحداث أخرى هي المقصودة والرّئيسيّة. فحدث الصّلب الّذي يعبّر عن العقوبة نتيجة فعل خارج عن القانون أو الشّريعة، يسيطر عليه حدث النّبوّة وذاك ما يقصده الكاتب. الكابوس الحقيقيّ هو الوعي الّذي دلّت عليها النّبوّة، وعوقبت من أجلها الشّخصيّة الحالمة.
سيجد القارئ تناصاً آخراً مع المزمور 22 في الكتاب المقدس:
"إلهي، إلهي، لماذا تركتني، بعيداً عن خلاصي، عن كلام زفيري؟
ثقبوا يديّ ورجليّ.
أحصي كلّ عظامي، وهم ينظرون ويتفرسون في.
يقسمون ثيابي بينهم، وعلى لباسي يقترعون." (مزمور 22 الآية 1،16،17،18)
"سملوا عيني، وسمّروني على الصّليب ثاني اثنين. لا شيء يتحدّث عنّي غير أصابعي الخمسة، كلّها تشير إلى مدن تصرخ بوحشيّة.
إيلي لمّا شبّقتني. (مصير/ علي غازي)
(إيلي لَمَّا شبقتني) لفظ مركّب من العبرية والآراميّة يعني (إلهي إلهي لماذا تركتني). وفي هذا اللّفظ منتهى السّلبيّة، أو ما يرادفه في اللّاهوت معنى الإلحاد السّلبيّ. أي أنّ الإنسان يشعر أنّ الله تخلّى عنه. فالشّخصيّة الّتي تدور حولها القصّة الّتي يمكن أن تكون الوطن، أو الإنسان تُظهر عنف الواقع إلى حدّ اندثار الإيمان، أو اعتباره غضباً أعظم.
في الفصل الثّالث "أمّنا الحرب"، يشير العنوان إلى تأصّل الحرب في النّفوس وكيفيّة استحواذها على العقول حتّى نكاد نتبيّن ثقافة الحرب. وفي هذا الفصل يعالج الكاتبان واقعيّة الحرب الّتي ما برحت مرتبطة بالإنسان كأنّه لا يمكنه الاستغناء عنها. فلظ (الأمّ) يدلّ على رباط وثيق وحميم، بل لعلّ الكاتبين أرادا أن يبيّنا مدى تورّط الشّعوب بالحروب من ناحية استمراريّتها وتنفيذ مآربها.
"عبّأ بندقيته بتفانٍ، صوّب تجاه خطوط النّار ثم بدأ بإطلاق الرّصاص. وأخذ يصرخ مع كلّ إطلاقة:
... حمقى... يا أبناء الزّواحف...
لم يكن يرغب في التّوقّف أبداً لولا أنّ أحدهم ربّت على كتفه قائلاً:
 العدوّ من الاتّجاه الآخر ياسيّد! (بوصلة/ علي غازي).
أضاع الإنسان بوصلته، وتاه عن الاتّجاه الصّحيح، ولم يعد يفرّق بين أخ وعدوّ. وذاك يعود إلى تشتّت العقل، وانغلاق الروح على ذاتها. فاجتاحها الخوف والرّعب والاستسلام. بل إنّ الحرب جعلت الإخوة أعداء، يقاتلون من أجل قضيّة مبهمة:
"1- قابيل ----
استلّ خنجره العتيق، غرزه في ظهره، ثمّ حمل الجثّة وألقاها في البئر المهجور. وكلّما طلب الماء، اهتزّ عرق في داخله ...وتذكّر قابيل.
2- قابيل آخر ----
أترقّب بطن أمّي، وأنتظر قدومه لأغرز في قلبه هذا الدّبوس. وبدل أن يدخل أخي غرفته الجديدة، سكن المقبرة في جوف أمّه. وبقيت أنا، وحدي، أحتفل كلّ عام، بذكرى ذلك الانتصار  لعشرين مرّة متتالية.
3- قابيلان ----
يتقاسمان نفس الشّارع، كلّ على رصيف، في النّهار يقرءان ذات الجريدة وفي اللّيل، يفترشانها. رغم الظّلام، والمخاوف، فإنّ قلبيهما يتحدّثان بلغة و احدة :
 ما أفظع أن نكون من نفس  الأمّ." (أبناء آدم/ علي غازي)
تناصّ آخر مع قصّة قايين وهابيل، وإن تكرّر هذا الأسلوب فليعبّر الكاتبان عن أنّه لا جديد تحت الشّمس، ولم يتغيّر الكثير من بدء التّكوين إلى يومنا. حقيقة الحرب خدعة، الحقد بين أخوين، وتستمرّ مع كلّ ولادة لم تتثقّف على الحبّ.
"عاد أطفال الحي ببنادق بلاستيكية يتقاسمون أزقته؛ تحت مسميات قبلية وطائفية يجمعهم
هتاف واحد (نغزوهم ولا يغزوننا).." (عيد جديد/ إبراهيم عدنان)
وهنا أيضا تتناصّ القصّة مع ذلك القول المأثور للنّبيّ محمّد عقب غزوة الخندق، فبعد هزيمة الأحزاب، قال هذه الجملة "اليوم نغزوهم ولا يغزوننا"، وتبرز المفارقة في هذا التّوظيف، لاختلاف الواقعين، فالأطفال الهاتفين بهذه الجملة ضمن سياق الصّراع الطّائفيّ في العراق، هو بلا شكّ مختلف عن السّياق الأول لهذه العبارة، مع ملاحظة السّخرية في قصّة إبراهيم عدنان وذلك عندما استخدم لفظي الأطفال والبنادق البلاستيكيّة، سخرية مرّة فيها ظلال من العبث الّذي لا جدوى منه.
استخدم الكاتبان في هذه المجموعة نمط اللّوحة الشّعريّة، ولعلّ هذا النّمط مغامرة ما لم يتحلَّ الكاتب بإحساس عالٍ ودقيق، يرتقي بروح القارئ دون أن يبعده عن مضمون القصّة، أو يؤثّر في فعاليّتها في ما تريد إيصاله.
"تبدّد اللّيل فوق جسديهما..
تغفو الأرض على حرارة أنفاسهم
حروف متقطّعة:
- أنا أحبّك
- لم تبلغ معشار حبّي.
- تبالغين حبيبتي بعدّ النّجوم..
- لا شك أما ترى كيف أحتضنهم في عتمتك!
- قد أكون آخر من يصله الضّوء..
- كيف ذلك وأنت بين ذراعيّ..
- لم أكن مولدك الأوّل.! أليس كذلك..
- أنت توأم حياتي..
أغلق الهاتف
وعيناه تحتضن سقف الغرفة
محدّثاً نفسه:
هل توأمي يستمتع بهذا الحديث.. (مصارحة/ إبراهيم عدنان)
أنموذج يتكوّن في لغة عاطفيّة بسيطة، تحمل واقعيّة الكلمة وتتحلّى بالرّومانسيّة. إلّا أنّ هذه اللّغة لم تقضِ على القصّة. فسؤال النّهاية المفتوح على مضمون الحديث وتأثيره يبلّغ تأثير القصّة وفعاليّتها. 
بالمقابل في الفصل السّادس، ينفرد علي غازي في "عشق ودموع" ليخلق من كونشرتو "الفصول الأربعة" لفيفالدي محاكاة لفصول الحياة. قام فيفالدي في هذا العمل الموسيقيّ بمحاكاة عوامل الطّبيعة المختلفة مثل نسمات الهواء والرّياح الشّديدة والعواصف. وأمّا علي غازي، فحاكى فيفالدي والقارئ معاً بنفسٍ شعريّ امتزج باللّغة السّرديّة، ليخرج العمل لوحة حياتيّة تترجم فصول الحياة من خلال فصول السّنة.
"كونتشيرتو فصل الرّبيع
الحركة الثّانية / Largo
 حتّى الحجر....
تفجرّت دموعه
وتفتّت بين يديه ألما،
عندما رماني القدر.
 في مقبرة الأطفال، يتراكم حزنه ويسرق ما تبقى له من ثبات. مئة قبر تحتضنهم تربتها الجرداء، كلّهم من أمّ واحدة. ذلك الّذي يتوسّط اثنان من إخوته، والآخر في الطّرف الأيمن، والأبعد... كلّهم ينتمون إلى ليلى ما غيرها.
 لذلك نحيبه لا يتوقّف، والشّموع، ستبقى بين يديه قائمة في صلواتها، لا يطفئها غير العاصفة والمطر." (فصول فيفالدي الأربعة/ علي غازي)
امتزجت في هذه القصّة اللّغة الشّعريّة بالسّرد فأظهرت للقارئ عمق الإنسان الملتهب بالعاطفة، والألم، والحزن. حملت اللّغة القصصيّة/ الشّعريّة رؤية الإحباط الّتي يواجهها الإنسان في عالم اليوم، الّذي تواجهه فيه أخطار عديدة ومؤلمة.
وأخيراً، وليس آخراً،

فإنّ كتابة عمل أدبيّ مشترك بهذا التّناغم، وبهذه الإحالات النّصّيّة الّتي تربط النّصوص بنصوص أخرى ومن حقول متعدّدة دينيّة وأدبيّة وموسيقيّة، يجعل من هذه المجموعة عملاً أدبيّاً مكتنزاً مفتوحاً على شهيّة التّأويل، ويكرّس فنّاً إبداعيّاً، مستفيداً من كلّ تلك التّقنيات السّرديّة الّتي تحفل بها منظومة السّرد العربيّ المعاصر.

الأربعاء، 8 فبراير 2017

مقدّمة ( رسائل الى شهرزاد)


يرحل الزّمان بشخصيّات لاذ لنا ترقّب سرد حكاياتها ثمّ يعود ويبعثها في أسطر تكاد تكون أشبه بلوحات رُسمت بألوان البوح ورُصّعت بلآلئ المناجاة.
هي سطور ترسم شهرزاد وشهرياد بلون أدبيّ مختلف، بل ابتكر الكاتب من خلالهما نوعاً أدبيّاً جديداً، ولعلّنا يمكن تحديده بأدب المناجاة. والجدير بالذّكر أنّه حينما سنطّلع على هذه النّصوص سوف نشهد شهرزاداً جديدة وشهرياراً متجدّداً.
ولمّا كان النّوع الأدبيّ مختلفاً وجديداً، وجب قراءة هاتين الشّخصيّتين بذهنيّة مختلفة عن تلك الّتي عهدناها في حكايات ألف ليلة وليلة، عن شهريار الملك  الذي تعوّد أن يتزوج عذراء كلّ ليلة ثم يقتلها لمعاقبة بنات حواء جزاء خيانة زوجته الّتي أحبّها. كذلك عن شهرزاد الجارية الّتي كانت تروي لشهريار الملك حكايات مسلسلة حتّى ينتهي اللّيل ولا ترويها إلا على أجزاء حتّى تضمن عدم قتلها.
لعلّ الكاتب فراس الحج محمد ابتكر هذا النّوع الأدبي الجديد ليرفع شهريار وشهرزاد من مستوى الإنسانيّة المستعبدة بالغرائز والشّهوات إلى مستوى الإنسانيّة الحرّة المرتقية والمترفّعة عن الأنانيّة. فرفع شهرزاده إلى مستوى المرأة كما سما بشهريار إلى مستوى الرّجل وأبعد عنه ذكوريّته. وبدّل الأدوار بينهما إذ أصبح شهريار هو المتحدّث وشهرزاد الرّوح المصغية لبوحه.

يتوجّه الكاتب إلى شهرزاده بسلسلة رسائل يبوح فيها بما يخالج روحه وقلبه وكأنّ به يلعب دور شهريار الملك، إذ تحضر روح الكاتب بقوّة في الرّسائل.  ويستخدم البوح المباشر بصيغة المخاطب ما عدا رسالة واحدة يستعمل فيها صيغة الغائب. وهنا شهريار يبوح ولا يروي، إذ ليس ما نقرأه في هذه السّطور الإبداعيّة تأليفاً، وإنّما انسياب للغة خاصّة لا تفهمها إلّا الرّوح المصغية. وإن توجّه شهريار إلى شهرزاد بصيغة المخاطب فلأنّه يدرك تماماً أنّها تصغي له وينتظر منها الرّدّ المباشر.
يتدرّج الكاتب في رسائله، فينطلق البوح من بحث عن الذّات في روح شهرزاد إلى اكتشاف أصول الحبّ المترفّع والمتسامي من خلال مسيرة شخصيّة يتأمّل فيها هذا الحبّ، ليصل إلى الذّروة في الرّسالة ما قبل الأخيرة حيث تتجلّى شهرزاد كوناً بكامله، يرى من خلالها كلّ بلاد الله. 
ترافق شهرزاد شهريار كظلّه، في رحلة اكتشافه وفي مسيرة حبّه، ونلاحظ هذا في سرد الكاتب لمشاعر تلقائيّة، وفي تعبيراته عن فرحه وحزنه، عن قلقه واطمئنانه، وكأنّ شهريار يمسك بيد شهرزاد ويجول بها في عالم الإنسانيّة ويشكو لها همومه، ويطرح تساؤلاته، ويعبّر عن هواجسه.


ولم يتردّد الكاتب في الرّسالة الأخيرة بالتّعبير عن ألمه باللّهجة العامّيّة، فيبوح لشهرزاده بلهجته الخاصّة دون اصطناع أو تكلّف وكأنّي به يتّحد بصمتها المتكلّم، فيفيض القلم بألم يأمل بأن تزهر براعم رحلته أثمار حبّ نديّة تشبع شوق شهريار وتروي ظمأ نفسه.

جماليّات الشّعر والولادة المتجدّدة

مادونا عسكر/ لبنان

تطالعك جدوى عبود بديوان "ظلال أنثى" فارضة نفسها كشاعرة أوّلاً ثمّ كأنثى عارفة بقيمة الأنثى الرّفيعة، أي القيمة الإنسانيّة الأصيلة العارفة لقدرات الأنثى ومنزلتها. الشّعر عالم منكشف مستتر، قوامه المعرفة والعمق الفكري والرّوحي. ودخول هذا العالم أشبه بولادة تتجدّد كلّ لحظة ليمسيَ الشّاعر وليد اللّحظة الحاملة بريق الحبّ والحرّيّة والجمال.
في كلّ قصيدة من الدّيوان تتجدّد لغة جدوى عبّود الشّعريّة  من  جهة الغنى اللّغويّ المعجميّ، ومن جهة الفيض الشّعريّ المنسكب في الأبيات، والمنساب كالماء العذب. لغة شفيفة أنيقة تأسر القارئ ولا تربكه بمصطلحات غامضة مبهمة، بل ترتقي به بتعابير فخمة ولطيفة في آن، حتّى يستحيل الشّعر جمالاً مستساغاً جاذباً للعقل فيغنيه ويثقّفه، ومتعة للرّوح فيطيب لها أن تنهل من هذه القصائد الّتي تحجب في حناياها شاعرة تدرك أنّ الشّعر لغة تكتب نفسها ولا تٌنظم أو تُؤلّف.
تنثر الشّاعرة في قلب القارئ نبضات الوجدان والرّوح والذّاكرة، وتعبّر عن حزن نبيل يتمدّد في الدّيوان ليدغدغ قلبه ويحثّه على التّأمّل ما يرفع من شأن الشّعر ويرشد القارئ إلى إنسانيّته انطلاقاً من تجربة الشّاعرة. تحجب الشّاعرة نفسها في القصائد تارة وتظهرها طوراً. تفرض نفسها كأنثى متفرّدة ذات قيمة وقدرة على القرار حيناً، وتنسكب عذبة شفّافة أحياناً. ما يشكّل لوحة إنسانيّة تجتمع فيها مشاعر جدوى عبود وتطلّعاتها.
انتهجت الشّاعرة ترتيباً مميّزاً في "ظلال أنثى" يكشف للقارئ تدرّج المشاعر المرتبطة بالذّاكرة والحنين والشّوق ومفهوم الانتظار المفتوح على البدايات. كما استعانت بعناصر الطّبيعة لتلوذ في الحبّ والسلام والطمأنينة. وابتعدت قد الإمكان عن البوح الواضح ليحلّ مكانه الانفتاح على النّور الشّعري فتتشكّل معالم الكون الشّاعريّ الخاص بالشّاعرة متجليّاً بتعابير خاصّة تتحكّم بالشّكل والأسلوب والمضمون.

هكذا قدّمت الشّاعرة جدوى عبود ديوانها كعنصر جماليّ يتفاعل مع القارئ بفيض أحاسيسه ومشاعره. وللقارئ الكريم أن يسبر أغوار الشّاعرة حتّى يلقى ذاته بين طيّات الحروف، فيرى الشّاعرة المحتجبة في القصيد.  

قلق السؤال يجتاح عوالم الأنثى الخفية


مقدّمة لرواية ( إنّ وأخواتها وحروف النّصب) للكاتبة اللبنانية " صونيا عامر"
مادونا عسكر/ لبنان
بتلقائيّتها المعهودة  والمحبّبة، وأسلوبها اللّطيف وسردها البسيط، تغوص الكاتبة اللّبنانيّة "صونيا عامر" في حنايا الذّات لتستخرج مكنوناتها وتضعها بين يديّ القارئ. يتأمّلها، ثمّ يتأمّل ذاته فيلقى ما يعبّر عنه ويسلّط الضّوء على خفايا نفسه.
إلّا أنّ رحلتها في هذه الرّواية لها نكهة خاصة ومتميّزة حيث أنّها تسبر أغوار الذّات الأنثوية وتطرح مشاكلها اليوميّة والتّقليديّة كما تنفذ إلى أعماقها لتبيّن قلقها الدّاخليّ والنّفسيّ الّذي قد يكون مخفيّاً ولا يظهر للعلن.
فكلّ شخصيّة أنثويّة من الرّواية، تعبّر عن حالة معيّنة إذ تجتمع في تلك الشّخصيّات كلّ الهواجس الّتي تشغل المرأة وتؤرقها، كما يظهر لنا وجعها النّاتج عن إخضاعها لعادات وتقاليد ما برحت تنهكها حتّى إذا ضاقت ذرعاً ثارت عليها وانتفضت، من جهة، ومن جهة أخرى نتلمّس مشاعرها التّائقة أبداً إلى الحبّ الّذي ترجو أن يفيض عليها أبداً سكينة ونعيماً وسعادة.
تنتقل الكاتبة من شخصيّة إلى أخرى كالنّحلة من زهرة لأخرى، وتحاكي في كلّ جزء من الرّواية شخصيّة أنثويّة معيّنة تلامس بها حالة كلّ امرأة بشكل شخصيّ أو عام. وقد تتراءى للقارئ وللقارئة تحديداً، عوالم خفيّة تسكن أعماقها، تستخرجها "صونيا عامر"، وتطلق العنان لمشاكل وهواجس عدّة بين دينيّة وحياتيّة واجتماعيّة، وتطرح عدّة تساؤلات وجوديّة فلسفيّة. كما تترك للقارئ مساحة من التّأمّل بل فسحة للبحث عن حلول. بالمقابل وهي تعبّر عن المرأة، تشجّعها تارة بشكل مباشر وطوراً بالتّلميح إلى الثّورة على مجتمعها الّذي لا يرى منها غالباً إلّا أنثى ويتناسى إنسانيّتها الّتي تجعل منها امرأة.
لا تظهر المرأة في هذه الرّواية ضعيفة أو مستسلمة وإن كانت غارقة في متاهات عدّة وصعوبات جمّة، وإنّما تناضل وتثابر وتجتهد كي ترتقي سلّم النّجاح، ثمّ ما تلبث أن تعانق ألمها من الحبّ والفراق والرّحيل، إلّا أنّها تحافظ على وجودها وكيانها كامرأة دونما الرّضوخ لألم أو الخداع أو حتّى لمفاجآت القدر.

لـ "صونيا عامر" فكر خاص وأسلوب متفرّد في تجسيد المعاناة الإنسانيّة والأنثويّة حصراً، وبسردها البسيط، وأسلوبها السّهل الممتنع، لك أيّها القارئ، بل لكِ أيّتها القارئة، أن تسافري معها على أجنحة صفحات مترعة بالجمال والأناقة والتّلقائيّة،  حتّى إذا ما أردت الوقوف لحظة أمام ماضٍ مرير أو حاضرٍ كئيب، برز لك من عمق الأوراق عبير حبر يعبّر عمّا يخالج نفسكِ من مشاعر وهموم وأفراح وأتراح، وينسّم لك لفحات أمل لمستقبل زاهر تحصدين فيه ثمار الجهاد والمثابرة والتّعب.