‏إظهار الرسائل ذات التسميات لمحات نقدية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات لمحات نقدية. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 19 يناير 2017

لمحة نقديّة في شذرة للشّاعر التّونسي يوسف الهمامي.


"أنا لم أنته بعد...
مازلت في انتظار القصيدة الأم التي ستَلِدني دفعة واحدة." (يوسف الهمامي)

- القصيدة الأم/ باكورة القصائدة ... البدء والمبدأ. 
منذ البدء كانت القصيدة. ذاك أوّل ما نقرأه بل نعاينه في هذه الشّذرة السّرّ الّذي يدعونا إلى التّأمّل بمبدأ كونيّة الشّاعر. والمبدأ في هذه الشّذرة يترادف والبدء من ناحية حضور القصيدة الأزليّة الكائنة. القصيدة أمّ الشّاعر وحاضنة كيانه الشّعريّ. ولدته من فيض كينونتها، وبه ولدت القصائد.  فأمسى الشّاعر جزءاً لا يتجزّأ منها. ولمّا كان الشّاعر مولوداً من القصيدة الأم/ المبدأ، حيا في كنفها وتشكّل كونه الشّعري في ظلّها وقاده وحيَها إليها.  وارتباط الشّاعر الحميم بالقصيدة الأمّ يمنحه القدرة على الإصغاء لصوتها وتلمّس حقيقة حضورها الّذي يخلق الشّاعر كلّ لحظة بشكل مستمرّ، يخرج عن نطاق الزّمنيّة والمكانيّة. (أنا لم أنتهِ بعد...). نستشف من عبارة (لم أنتهِ) بدءاً سابقاً منحته القصيدة الأمّ امتداداً وأبداً  شعريين لا يزولان. بمعنى آخر ولد الشّاعر من القصيدة ويخلص إليها ويكتمل بها. تؤكّد المعنى كلمة (بعد) إذ إنّها لا تحدّد نهاية ما، بل تشير إلى امتداد من نوع آخر، أو بداية النّهايات. كما أنّها توحي بحالة انتظاريّة للمبدأ الأصل، للحالة الأولى ما قبل ولادة الشّاعر. هذه الحالة الانتظاريّة حياة قائمة ترنو إلى الولادة الكاملة، إلى اكتمال كيان الشّاعر الّذي بلغ ذروة الالتحام بالوحي الشّعريّ حتّى بات ينتظر ما بعد الوحي. (ستلدني دفعة واحدة). الشّاعر المنغمس في الوحي الشّعري، المنقاد به وإليه، الملتحم به حدّ التّماهي، ينتظر انبعاث كيانه الشّعريّ من رحم القصيدة الأمّ الأزليّة، أي أنّه ينتظر أن يتحوّل إلى لغة.
وكأنّي بالشّاعر مشرف على النّهايات أو يتلمّسها فينتظر. يحاكي الولادة الجديدة الّتي توقظ رعشة الخوف في قلب الشّاعر. خوف أشبه بخوف الطّفل المستعدّ للخروج إلى العالم، وأشبه بخوف رجل يواجه نهاية العالم.


"الشّاعر حامل لنبوءة السّماء"


لمحة نقديّة في شذرة للشّاعر التّونسي يوسف الهمامي.

لأنّك منّي
سأخبر السّماء
كي تدبّر أمراً:
خياماً للوحي
هوامش للعراء...
آفاقاً أرحب لعناق مختلف
.....
الشّعر عالم يتوسّط السّماء والأرض. كلّما لامس الشّاعر إنسانيّته واقترب من كمالها امتدّ كيانه ليلج قلب السّماء. فإذا بالشّعر يستحيل تجليّات نبوءة تمنح الشّاعر رتبة "النّبيّ"، أي حامل كلمة الحبّ الإلهيّ.  نبوءة الشّعر واحدة، تخترق كيان الشّاعر فيحدّث السّماء من جهة، ويخاطب الإنسان من جهة أخرى. ما نعاينه جليّاً في إشراقات يوسف الهمامي.  وهي إشراقات لأنّها تنسحب إلى عمق النّفس، تقبض على أعماقها، تُسكرها، ترفعها ثمّ تتيح للعقل أن يتلمّس بعضاً من الحقيقة الكامنة في قلبه.
تشبه بنية السّطور الأولى مثلّثاً متساوي الأضلاع يعكس مبدأ ثالوث اتّحاديّ يفقد قيمته بفقدان إحدى أضلاعه. اتّصال أفقي عموديّ بين السّماء والأرض، يوحي بصلة الشّاعر الوثيقة والحميمة مع السّماء (سأخبر السّماء). والصّلة العميقة بالشّخص المخاطَب الّتي تصدّرت النّصّ (لأنّك منّي). ومعرفة الشّاعر لذاته النّبويّة وقيمتها في عينيّ السّماء، وقدرته على محاورتها (كي تدبّر أمراً). استخدم الشّاعر لفظ (أخبر) بدل من (أطلب)، ما يعزّز معنى التّجذّر في ما بعد هذا العالم.
الثّالوث الاتّحاديّ (لأنّك/ منّي/ السّماء) يعرّف عن تماهٍ خالص بين المحبوبة والشّاعر والسّماء. فنشهد ترتيباً شعريّاً واعياً يجعل المحبوبة في المرتبة الأولى، ثمّ الشّاعر، ثمّ السّماء. بيد أنّ هذا التّرتيب غير معنيٍّ بالمنطق العقلانيّ وإنّما الشّعريّ السّماويّ. ففي المنطق البشريّ، السّماء أهمّ من الشّاعر ومحبوبته، ولعلّ هذا المنطق يفرض حضور السّماء أوّلاً في النّصّ. إلّا أنّ الشّاعر رسم درباً واضحاً يبدأ مع المحبوبة الّتي منه، ويخلص إلى السّماء. وفي ذات الوقت، لا يمكن الاتّصال بالسّماء إلّا من خلال هذا الاتّحاد بين المحبوبة والشّاعر. (أنا- أنت- السّماء).
يفترض هذا الاتّحاد العشقيّ السّماويّ خروجاً عن المألوف البشريّ، أو تبايناً بين منطق العشق البشريّ ومنطق العشق المتفلّت من القيود الزّمانيّة والمكانيّة. يعبّر لفظ (خيام) عن حالة يلجها الشّاعر ومحبوبته أشبه بغيمة تظلّل الوحي المنسكب فيهما معاً. هي حالة حرّة بالمطلق يطالب بها الشّاعر كنتيجة حتميّة لانتمائه السّماويّ. (هوامش للعراء) تمنح الشّاعر آفاقاً حرّة ليتنعّم بعشقه، ويتفرّد بحالته النّبويّة العشقيّة، باحثاً عمّا يليق به والمحبوبة والسّماء. (آفاقاً أرحب لعناق مختلف).
ما هو من فوق، ينبغي أن يمتثل للحالة العشقيّة المتفرّدة والمغايرة لمنطق العالم. والشّاعر الشّاعر يهتمّ بما فوق ويتّسم بالفكر الأسمى، ويصطبغ بالجمال الأعلى. يرنو إلى أفق ملتصقة برحاب السّماء، ويرتشف الشّعر سرّ الكلمة الوحي.

  



حقيقة الحب شعاع ينفي الارتباك


مادونا عسكر/ لبنان


لمحة نقديّة في نص للشّاعر التّونسي  رضا  السّبوعي
- النّصّ:
ولمّا خلعت 
رداء الشّغف 
وتجاهلت قلبي 
حين بك تشبّث وإليك انعطف 
ولما انتزعت أساور عشقي ..
وركنت قلبي برفّ التّسالي 
وصرت في الهجر متكلّفا ينكر حينا 
وحينا يغالي ..
وجدت وسط الخواء في داخلي 
أمواجا من الذّكرى تمرّغ ساحلي 
فتكتب لك مجلّدات كتماني ..
تشي إليك زيف ادّعائي 
تعبئ بالصّوت صمت ندائي 
وتطلين باللّون آه تسلّلت 
خلسة من جوف صدري 
فتفضح أمري 
بأنّي ما بارحت سعير احتراقي 
وما رممت ثقوب اختراقي ..
وما كنت يوما أظنّ أن .. 
استعبادي في العشق ..
ارحم من هول انعتاقي !!(رضا السّبوعي)

- لعلّ الشّاعر رضا السّبوعي وهو مقدم على خلع رداء الشّغف ما كان يحسب أنّه يلبس ثوب الحبّ كتحوّل من أقصى التّخلّي كفعل حرّيّة إلى أقصى الاستعباد كفعل حبّ. وتظهر السّطور الأولى ارتباكاً في الصّورة الشّعريّة لتنقل لنا حالة الشّاعر النّفسيّة المتردّدة أو المتوغّلة في الذّات للّقاء معها بهدف الحدّ من الحيرة والتباس المعنى بين الانعتاق من الحبّ والتّجذّر به.
(ولمّا خلعت 
رداء الشّغف 
وتجاهلت قلبي 
حين بك تشبّث وإليك انعطف )
تسيطر في هذه السّطور الحالة الممتدّة من زمن معيّن، فالشّاعر يقرّر بعد تفكير وتأمّل. إلّا أنّ القرار أتى مرتبكاً، لأنّه لم يرد هذا الانعتاق إلّا ظاهرّيّاً، كنوع من اختبار للحرّيّة بعيداً عن الطّرف الآخر. أو كنوع من هروب من الذّات المرتبكة من حضور الشّخصّ (وصرت في الهجر متكلّفا ينكر حينا / وحينا يغالي).   هذا الصّراع الدّاخلي يتجلّى في السّطور اللّاحقة (وجدت وسط الخواء في داخلي / أمواجا من الذّكرى تمرّغ ساحلي / فتكتب لك مجلّدات كتماني ..). وكأنّي بالصّراع آنيّ يمزج بين التّخلّي والتّقارب، وتوهّم الشّاعر حرّيّته بل خاف منها. فما الخواء الدّاخليّ سوى غربة عن الذّات وبفعلها تنتفي الحرّيّة، ويتلاشى التّصالح مع الذّات. وأمواج الذّكرى لحظة الحضور الّذي لا ينقطع ولا يغادر ذهن الشّاعر. فالذّكرى هنا أقوى من استحضار لحادث ما. إنّها الحضور الدّائم غير المفارق لحضور الشّاعر. وما الكتابة إلّا فعل محاكاة عشقيّة بين المحبوب والحبيب (تشي إليك زيف ادّعائي / تعبئ بالصّوت صمت ندائي).
في الجزء الثّاني من النّصّ ينكشف لنا استقرار الشّاعر إذ تشبه سطوره زهرة تتفتّح في مطلع الرّبيع بعد زمن من الانطواء. وفي ذات الوقت تبيّن لنا عمق الشّاعر المسكون بالحبيبة. (وتطلين باللّون آه تسلّلت / خلسة من جوف صدري). وبالتّالي فالانعتاق غير ممكن، وهل من ينفصل عن ذاته؟
إطلالة الحبيبة شعاع ينبعث من داخل الشّاعر كحقيقة تضعه أمام كيانه لتحقّق له السّكينة والاطمئنان. (فتفضح أمري / بأنّي ما بارحت سعير احتراقي / وما رممت ثقوب اختراقي ..). وإذ تنكشف الحقيقة، وينجلي الصّراع الدّاخلي، يعترف الشّاعر بحرّيّة العشق المغايرة للمفهوم التّقليدي للحرّيّة. "أحبّ إذن أنا حرّ" (وما كنت يوما أظنّ أن .. / استعبادي في العشق ../ارحم من هول انعتاقي !!). فالاستعباد يأتي في سياق ملاقاة الذّات والتّصالح معها ومعرفتها انطلاقاً من المحبوب.