‏إظهار الرسائل ذات التسميات نثر. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات نثر. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، 15 مايو 2020

اللّوحة النّاطقة



مادونا عسكر/ لبنان
مضت وفي داخلها شوق لملاقاة ذاتها بعيداً عن الضّجيج المعتاد، علّها تجد مدينة أو قرية أو غابة أو حتّى كهفاً لم يطأه أحد. قيل لها إنّ في الأماكن المهجورة سكون الحكماء وصمت العارفين وحرّية الرّؤية.
لم تحمل معها سوى لوحة قديمة، كانت قد احتفظت بها رغماً عنها، تجسّد امرأة واقفة على صخرة عالية، تحمل على أكتافها ظلّها، وتنظر إلى الأزرق المشرف من علوّ على الأرض الضّائعة.
مشت ببطء شديد. اللّوحة ثقيلة والطّريق أشبه بحقل ألغام محفوف بالموت. ومن يمشي في حقول الموت لا ينظر إلّا إلى أسفل، وهي الآن غير مستعدّة للموت. ثمّة أمور معلّقة بين حكمة السّماء وجهالة الأرض. ثمّة أسئلة كثيرة تودّ أن تطرحها على ذاتها البعيدة. ثمّة أحلام عالقة في مخيّلتها، ثقيلة كتلك اللّوحة.
لاح لها من بعيد بيت صغير مسترخٍ على تلّة تعانق الشّمس وترمي بسكونها على محيط خلا إلّا من بعض العصافير التّائهة عن أعشاشها. سرّعت الخطى على قدر استطاعتها، أتعبها الطّريق وأحنت اللّوحة ظهرها وأرهقها ظلّ المرأة.
وصلت إلى تلك التّلّة مهشّمة الرّوح، مشتّتة العقل، منهكة الإحساس. لكنّ لا بدّ من معاناة أخيرة قد تبعث الأمل وتشبع جوعاً قديماً وتروي ظمأ دام زمناً طويلاً. وقفت متردّدة  أمام بيت مهجور لا باب له، تخشى أسراً مستجدّاً أو صوتاً مفاجئاً يقتحم سمعها.
دخلت لتستريح من عناء الطّريق الطّويل وثقل اللّوحة الّتي أبت إلّا أن تلتصق بكتفها. وقفت أمام ساعة حائط كبيرة، عقاربها مشلولة بحكم الزّمن. مدّت يدها وحرّكت العقارب باتّجاه معاكس لتعود بها إلى الماء القديم حيث كانت تسبح برضى أو تظنّ ذلك. أو تعود بها إلى أوّل النّهر لتحدّد مجراه وتعبر، أو أقلّه تقرّر العبور أم لا.
لا شيء، لا، ولا حركة تنقذها من أنين الوقت وهمجيّته. لا شيء ينذر بأنّ ثمّة ذاتاً تنتظر. العقارب مشلولة، والبيت بارد، واللّيل قريب. قرّرت العودة، سمعت صوت المرأة المنبعث من اللّوحة، تقول ساخرة: "لا أحد يملك القرار."

الخميس، 19 يناير 2017

الورد وعبراتك.


مادونا عسكر/ لبنان

للورود بسمات تائهة، تتأرجح على وجنات الكون الرّحيب. تتدلّل على أعمدة الهياكل صباحاً وتنتقل راضية فرحة بين أيادي العاشقين، وما إن تهمس أول نجمة بحضورها، حتّى تسبل أهدابها على ذراع الليل ثم تغفو هانئة حالمة... ما همّ إن ضحك الورد وعبراتك تمنحني الأبد.
جوري يعانق وريقاته هنا ويلهو، وياسمين هناك، على أثوابه يرقّ وينحني، وهنالك سوسن من جذور طيبه يتغذى ويكبر. بهيّة بسمات الورد تتبعثر في الأنحاء، وتهب السّحر والجمال للأنام. رقيقة ضحكاتها في عيون البشر، تبلسم حنينهم، تبدّد أحزانهم، وترفق بمشاعرهم. زاهية وهي تودّع أرضها لتجمع القلوب وتلطّف احتفالاتها.  
قد يجاهر الورد بضحكاته ويتفاخر بسحره ورقّته. قد يتظاهر بالسّعادة والأيادي تلامس أعناقه وتسلبه حياته، وقد يغترّ إن سار امرؤ أيّاماً ليصل إلى قمّة عالياً ليقطفه، لكنّه يبتسم ويضحك حتّى لحظات الذّبول الأخير. وأمّا أنت، الهانئ في هيكلي، والممسك بأنفاس نبضي، اللّطيف الرّقيق، الحليم الشّفيق، تغدق عليّ بسمات قلبك ومن شدّة الفيض تدمع عيناك فيتراقص نداها على خيوط روحي.
للورد بسمات يوزّعها على الثّغور، وقلبه حائر قلق من غموض مصيره. ولي حبيب يزرع بسماته في نفسي، يقطر العبرات، فيسقيها ويرعاها. تنمو في قلبي غماماً أقحوانيّاً، أقطف منه فرحي، وأغرف سعادتي، ولا الفرح ينتهي ولا سعادتي تذوي.
الورد يبسم للبشر ثمّ يهوي ويغيب، وحبيبي من عمق فرحه يسكب الدّمع ليحييني.
الورد يزهو ليرحل ويهلك، وحبيبي يسعد ليحيا فيّ وأحيا فيه... وأنا  ماذا يهمّني إن ضحك الورد وبكت عينا حبيبي...

   

الشاعر القصيدة


مادونا عسكر/ لبنان
جلس شاعر ألف عام على شاطئ البحر، يرقب ساعة انبعاث قصيدته من أعماقه الهادئة الرّصينة. تارة يلتفت إلى الزبد يعانق حبيبات الرّمل المتلاحمة، وطوراً يتأمّل الجبال الشّمّ البعيدة، على قممها تزهو العصافير نهاراً وترقد في لبّها ليلاً. يعيا اللّيل من حوله وينام ثملاً من التّعب، ويبقى الشّاعر في العراء يسامر النّجوم حتّى تختفي آخر نجمة مع إشراقة الشّعاع الأوّل. كان يردّد في نفسه طوال الوقت:  "متى أعانق قصيدتي العذبة وألثم حروفها النّورانيّة، وأفنى فيها وتفنى فيّ وأصير أنا القصيدة والشّاعر؟".
كلّ القصائد الّتي توالت وتردّدت إليه مع مرور الأعوام، لم تكن لتبعث فيه ألم الحقيقة، وتدخله سرّها فيفتتن بها ويختلسه سحرها ويرحل به إلى أقاصي الأيّام اللامحدودة، لأنّها كانت تتمايل مع الأمواج وما تلبث أن تذوب عند رسوها على الشّاطئ. أمّا قصيدته، فكان يتشوّق لقيامتها من أعماق البحر، حيث الأسرار الخفيّة تكشف مكنونات المجد والرّفعة. كم يرغب أن يأوي إلى مخدعها معانقاً قصيدته إلى الأبد.
مرّ به طائر يوماً، انحدر إليه من أعالي السّماء وسكب في قلبه أريجاً صاغه من طيب النّرجس وأوصاه أن يحفظه في قلبه، ومتى فاض طيب النّرجس وعبق المكان عرف الشّاعر أنْ حانت ساعة اللّقاء. لم يسأل الطّائر عن أوان السّاعة ولا عن حلولها، فالشّاعر أعلم بأنّ الحروف الموحى بها تولد من رحم العلا، لا تعرف مواقيت الولادة ولا مواعيد الحلول. هو لا يحسب الانتظار وقتاً يمرّ، وإنّما الانتظار عنده إكليل من الشّوق يجمع براعمه برعماً برعماً، حتّى إذا اكتمل الإكليل، وتفتّحت بكائره أهداه لقصيدته هياماً سرمديّاً.
مرت الأعوام والشّاعر شاخص بأعين دامعة إلى ملامح قصيدته. وفي اليوم ما قبل الألف، أسدل أهدابه وغرق في سبات عميق، وما لبث أن سمع صوتاً يقول له:  "قم واحمل قصيدتك وجل بها في الأرض كلّها. لا تنظر خلفك، ولا تبحث بعدُ عن قصائد، فالوحي يولد مرّة واحدة، والكلمة سرّ يتدفّق من نبع الحياة مرّة واحدة. سِرْ بها ومعها وفيها في النّور، وضمّها إلى قلبك أيقونة كتبها لك الإله بحروف مشتعلة، وادخل عالماً زهريّاً، تأنس به معها إلى أن تهلّ ساعة المجد فتدخل الأزل وأنت تنشدها."
أفاق الشّاعر من رقاده وعطر النّرجس يفوح من اليوم الألف، وبقربه قصيدته الحبيبة.  فهتف برعدة قائلاً: "إنّها مثلي!  دمع من دمعي، وروح من روحي وكيان من كياني. إنّها أنا!".
عانق قصيدته بذراعيه النّاصعة، ألبسها إكليل الهيام وطار بها إلى جبل عال. ولمّا وصل دخل معبد إله الحبّ ورفع يديه متضرّعاً: "أطلق شاعرك يا سيّد لأنّه عاين سرّ الامتلاء".