‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، 28 أغسطس 2020

كلّنا موتى في طوائفنا


مادونا عسكر/ لبنان

في لعبة الطّوائف وحده الدّمّ يتكلّم. وحده الدّم يجرف لعنة الطّائفة الّتي نتنفّسها منذ لحظة الولادة ونرضعها من أثداء أمّهاتنا حتّى تتغلغل في كلّ خليّة من خلايانا. ثمّ نمضي، على جباه كلّ منّا سمة الطّائفة، في أكذوبة العيش المشترك، وخدعة الأخوّة ولعنة المحبّة الزّائفة.

ثماني عشرة طائفة في بلادي تلعن بعضها سرّاً وأحياناً علناً. ومع كلّ لعنة تتشقّق الرّوح فتخرج حمم الخبث والمكر والغشّ وينبعث الخوف القاتل ويندفع لحماية الطّائفة. ثماني عشرة طائفة في بلادي تهرع لاحتلال المراكز والمناصب من أعلاها إلى أسفلها بحسب الكفاءة الطّائفيّة والعنصريّة المقيتة المتجذّرة في عمق الأعماق الصّامتة، المترصّدة للغرائز والنّزعات. ثماني عشرة طائفة لكلّ منها نظامها وهيكليّتها وجوهرها وتأويل نصوصها والاحتماء بها حتّى يأتي الدّم ويهدم الهيكل على الجميع.

كلّنا نطالب بإلغاء الطّائفيّة ونطالب فقط. إلّا أنّه عند لحظة الحقيقة كلّ يقف على سلاحه الفكريّ والجسديّ والمعنويّ والمادّي، وتنهار تلك الابتسامة الخبيثة والتّسامح المتعالي ويتلاشى العقل أمام فجور الغريزة ونزعة البقاء القبليّة البغيضة. إنّ المطالبة بإلغاء الطّائفيّة سياسيّة كانت أم غير سياسيّة لا تتضمّن أيّة أهمّيّة لا بل من السّخف والغباء أن نصرخ في الشّوارع ونطالب بإلغائها.

ما يجدر بنا أن نشتغل به هو دراسة أبعاد الطّائفة الأخلاقيّة ومعالجة تأثيرها على المنطق العقليّ والسّلام النّفسي والسّلوك والتّطوّر الإنسانيّ حتّى نتخلّص منها. فالتّمسّك بالطّائفة الّتي يرثها الإنسان ويتعلّم ويتدرّب على الحفاظ عليها تسهم بتراجع الأخلاق الإنسانيّة وتهدّد القيم وتحرّك معانيها وتوجّهها بحسب ما يتناسب وحماية الطّائفة. فالطّوائف المتفرّعة من الدّين الواحد المعتمدة على جوهر الدّين الواحد وغير المتنازعة على أصول الدّين الواحد إلّا أنّها تتنازع وتتصارع على تأويل النّصّ وشرحه وتطويعه بما يتناسب والمصلحة الخاصّة وبما يتوافق وحماية القبيلة. ولسنا بحاجة لاستدعاء التّاريخ البعيد والقريب لنتذكّر الجرائم والنّزاعات الدّمويّة والسّلوك الوحشيّ وحتّى النّزاع الصّامت المتخفّي. ولمّا كان النّزاع حاضراً وحتميّاً فلا ريب أنّ الطّائفيّة  ستؤثّر على الأخلاق وتزعزع القيم. فالنّزاع يترافق والحقد والبغض والكره والاستعداد الدّائم للمواجهة خوفاً من فقدان الحماية وخوفاً على المصالح الّتي لا علاقة لها قطعاً لا بتقوى ولا زهد  ولا ورع ولا مخافة الله.

 ولمّا كانت الطّائفيّة شكل من أشكال القبليّة فلا ريب أنّه يلزم الجماعة زعيماً دينيّاً أو سياسيّاً تنضوي تحت جناحيه وتعمل بآرائه وقراراته طائعة حتّى النّفس الأخير. ما يعني أنّ حرّيّة الفرد على المحكّ، حرّيّة زائفة واهمة مقيّدة بأغلال من ذهب حتّى لا يتسنّى للجماعة أن تتمرّد أو أن تعمل العقل أو تنتقد. وإذا غاب النّقد فإنّه إشارة إلى غياب العقل والمنطق ودلالة على أنّ الطّائفيّة تهيمن على العقل النّاقد والمفكّر وتؤثّر على نموّه المنطقيّ السّليم لأنّها تعزّز النّزعة الإنسانيّة إلى الجرم والحقد والكذب والسّيطرة. كما أنّها تخلق ميكانيزماً تفكيريّاً واحداً عند كلّ إنسان منغمس في طائفته ومتحمّس أبداً للدّفاع عنها. وبالتّالي فنحن أمام آلاف يتصارعون ويتقاتلون بميكانيزم تفكير واحد. منهم من يتقاتلون بالسّلاح، ومنهم من يتقاتلون في قلوبهم وصلواتهم، ومنهم من يتقاتلون ظاهريّاً لإشعال الغرائز.

كلّنا موتى في دويلات داخل الدّولة المهترئة. كلّنا موتى في طوائفنا داخل الدّين الواحد. كلّنا موتى في الطّوائف المتفرّعة من الأديان في بلاد تحوّلت إلى قبور تجري من تحتها أنهار الدّم. فالدّم وحده يتكلّم في منظومة الطّوائف، والدّم وحده يجرف الأجساد المبعثرة هنا وهناك دون أن يسألها عن طائفتها.      

الجمعة، 10 يوليو 2020

فلنصمد وحدنا لنخرج وحدنا



مادونا عسكر/ لبنان
(إلى علي الهق وسامر الحبلي وما تبقى فينا من إنسان)




كتب جبران خليل جبران قبل قرن ونيّف "مات أهلي جائعين، ومن لم يمت منهم جوعاً قضى بحدّ السيف، ماتوا وأكفّهم ممدودة نحو الشّرق والغرب وعيونهم محدّقة إلى سواد الفضاء". وها نحن بعد قرن نقبل على الموت جوعاً أو بحدّ السّيف، سيف العقول والنّوايا والنّعرات الطّائفيّة والكذب والنّهب وحكم الآلهة، آلهة الحرب. ولمن لا يعلم، فليعلم أنّ عليّاً وسامراً وسواهم ممّن يحملون لعنة العيش في ظلّ الآلهة انتحروا جوعاً وبؤساً. لم يمت علي وسامر وهما يحدّقان إلى الفضاء الأسود، فالسّواد في كلّ زاوية وكلّ نفس. ماتا بهدوء، وسترا وجههما بصمت العجز والألم، صمت لا يفهمه إلّا أولئك الّذين يغمّسون قوتهم بالدّمع والدّم.
أكتب إلى علي وسامر، لأنّه لو كتب تاريخ جديد فلن يذكرهم. ففي بلاد العرب يذكر التّاريخ غالباً السّفاحين، ويجعل منهم أبطالاً، ويدخلهم في تكوين الفكر البشريّ، فيدرّب الإنسان على المزيد من التّنكيل والإجرام؛ لأنّ مفهوم البطولة العربيّة سفّاح يدخل التّاريخ عنوةً ليتحكّم بمصير البشر. وأمّا الضّحايا فلا يذكرهم أحد! إنّهم مجرّد أعدادٍ يندرجون تحت راية الشّهادة، الخدعة الكبيرة والوهم المميت. ما هذه الأوطان الّتي لا تبنى إلّا بالموت؟ ما هذه الأوطان الّتي لا تحيا إلّا بدماء الأبرياء وجوع الأطفال؟ ما هذه الأوطان الّتي تطحن عظامنا وتسرق أنفاسنا وتنهب عقولنا وأرواحنا؟ هي أوطان من ورق، من رماد يتبعثر ويمضي في مهب الرّيح.
لم ينتحر علي وسامر بل قتلوا مع سبق الإصرار والتّرصّد، والآلهة متربّعة على عروشها. تجتمع وتتبجّح وتستنكر وتنظّر وتحلّل. لكنّ علي وسامر وسواهم ماتوا وانتهى. والقافلة تمضي مثقلة الخطى نحو المجهول وما من معين، وما من أحد يرفع عنّا لعنة سبعين عاماً من الاستقلال. وما من أحد يحاسب. ومتى سمعنا عن محاسبة الآلهة؟ الإله يُعبدُ فقط، وينبغي على العابد أن يظلّ جثّة تتنفّس  حتّى الموت، وإلّا فليمت ليحيا الإله!
خسر علي وسامر معركة العقل وانهزما بعنف. دحرهما الجوع الآتي بسواده الأعظم، وكسرهما بكاء أبناء قُدّر لهم أن يكونوا هنا، في هذا المنفى التّعيس. إنّها معركة العقل ولا بدّ من الصّمود حتّى نخرج من البئر وحدنا. فلا نريد أن نستعطف أحداً ولا نريد أن يهتمّ لأمرنا أحد. فلنصمد وحدنا ولنخرج وحدنا.
وإلى منظّري الكفر والإيمان، كفى تهريجاً وسخفاً، وكفى تنظيراً! من راح استراح.

الجمعة، 26 يونيو 2020

جان ميلييه ينحاز إلى الإنسانيّة



مادونا عسكر/ لبنان
الإنسان عقل يفكر ويرتقي وقلب يحبّ، يدفع العقل للسّلوك بضمير حيّ وإرادة حرّة بمعزلٍ عن أيّ ضغوطات فكريّة أو عقائديّة أو أيديولوجيّة. إنّه الإنسان كما هو وكما يجب أن يكون بجوهره العاقل والمحبّ. قد نختلف على تحديد الأساليب المنطقيّة المؤدّية إلى نتائج سليمة، وقد نختلف على تعريف المحبّة وكيفيّة السّلوك فيها، وما إذا كانت مطلقة أو خاضعة إلى أصول محدّدة. إلّا أنّ الإنسان الحقّ هو الجامع في جوهره العقل والقلب اللّذين يكوّنان الضّمير. وما هو الضّمير غير عقل متّزن يتحرّك بدافع المحبة؟ وما هو الضّمير غير صوت المحبّة الموجّه للعقل؟
الأب جان ميلييه Jean Meslier، كاهن كاثوليكيّ عاش في أواخر القرن السّابع عشر وبداية القرن الثّامن عشر. إرضاء لوالديه واصل دراسته الدّينيّة على الرّغم  من عدم تحمّسه للفكرة، وما لبث أن عيّن كاهناً على رعيّة إتريبنييه Étrépigny الفرنسيّة وخدم رعيّته طيلة أربعين عاماً بهدوء ومحبّة مبتعداً عن الأضواء في عصر كانت فيه الكنيسة مسيطرة بالكامل على عقول النّاس وحياتهم ومصائرهم. ناهيك عن أنّ أي خلاف صريح لمسلّمات الكاثوليكيّة يمكن أن يجعل المخالف وقوداً لعذابات محاكم التّفتيش.
كان الأب جان ميلييه محبوباً من أبناء رعيّته خاصّة الفلّاحين والفقراء والمستضعفين. عرف بلطفه ومحبّته وأخلاقه الحميدة ولم يتوانَ عن الأخذ بأيدي أبناء رعيّته ومساعدتهم ومساندتهم. إلّا أنّ جان ميلييه صدم الجميع بما فيه السّلطة الكنسيّة بوصيّة اكتُشفت بعد مماته تبيّن أنّه احترم العقيدة والإيمان المسيحيّ ظاهريّاً، وأمّا في السّر وطيلة أربعة عقود تبيّن الوصيّة أو الرّسالة الفلسفيّة المتضمّنة ما يقارب الخمسمائة صفحة ونشرها رودولف شارل سنة 1864 تحت عنوان "Le testament Jean Meslier"، والموجّهة إلى سكان القرى والمدن والسّلطة الكنسيّة إلحاده ورفضه للأديان وآراءه السّلبيّة فيها. ما كان سببّاً لعدم دفنه في مقابر الكنيسة وعدم تسجيله في سجلّ الموتى، ولا نعرف إلى اليوم أين دفن الكاهن الكاثوليكي الملحد.
قد يتساءل البعض عن قدرة الأب ميلييه على كتمان سرّه أربعين عاماً. ويمكن الرّد على هذا التّساؤل ببساطة إذ إنّ الخوف من السّلطة الكنسيّة المسيطرة كان سببّاً منطقيّاً لعدم إعلانه عن إلحاده. فلا ريب أن ميلييه لم يرغب في المثول أمام محكمة التّفتيش أو الموت حرقاً أو ذبحاً أو  شنقاً. وقد يحتار البعض الآخر في سلوك الأب ميلييه تجاه رعيّته وأمانته وتفانيه في الخدمة. وفي هذا كلام آخر، واستشفاف للحالة الإنسانيّة الواحدة في كلّ زمان ومكان. فعلى الرّغم من الضّغط النّفسيّ الّذي عاشه ميلييه كونه غير قادر على إعلان إلحاده ومناقشة أفكاره المعتمدة على النظريّة العقليّة فقط. وعلى الرّغم من رفضه للعقيدة المسيحيّة ورفضه للأديان بشكل عام، وعلى الرّغم من الواقع المعيش المعاين لفظائع كثيرة ارتكبت بحقّ أبرياء إلّا أنّ الأب جان ميلييه تصرّف كإنسان. وأمّا أفكاره وقناعاته الإلحاديّة وآراؤه الدّاعية للاشتراكية الّتي تأثّر بها الكثير من مفكّري عصر التّنوير، فلم تقف حاجزاً أمام إنسانيّته الجامعة للعقل المفكر والقلب المحبّ.
تصرّف جان ميلييه بضمير حيّ ومحبّة حقيقيّة تجاه الفقراء والمستضعفين وذوي الاحتياج، مع أنّه كان بإمكانه أن يستفيد من كهنوته آنذاك ويسلك سلوك السّلطة الكنسيّة وينزع طبيعيّاً إلى الانتقام أو الظّلم. كما كان بإمكانه أن ينتقد السّلطة الكنسيّة ويتحدّاها وينتهي به الأمر إلى الموت. أو أن يتصرّف كملحد في زيّ كاهن أو يمارس كهنوته كوظيفة. إلّا أنّ ميلييه تصرّف إنسانيّاً وضميريّاً وبإرادة حرّة بمعزل عن أيّ منهج عقائدي أو إيمانيّ. ولا ريب أنّ الدّافع هو المحبّة. فلئن قيل إنّ الأب ميلييه كان محبوباً من رعيّته فذاك يعني أنّه تصرّف عمليّاً بما يتوافق وهذا التّفاعل المحبّ. إذ لا يمكن للإنسان أن يشعر بضعف الآخر وحاجته أيّاً كانت الحاجة، سواء أكانت ماديّة أم معنويّة، إلّا إذا حمل في عمقه المحبّة. ولا يمكن للإنسان أن يحمل رؤية للمستقبل داعياً من خلالها إلى توحيد الصّفوف وإلغاء الطّبقيّة الاجتماعيّة إلّا إذا تمتّع بعقل مثقّف ومتّزن يدفعه إلى احترام  الحرّيّة والحقوق الإنسانيّة. ولا يمنع الإنسان عن الظّلم والانتقام إلّا الضّمير الحيّ ونبذ السّلطويّة. فيسعى إلى الاهتمام بشأن الآخر ومساندته وتشجيعه إلى المضي قدماً.
القيمة الإنسانيّة واحدة، أكان الإنسان ملحداً أو مؤمناً أو علمانيّاً. وغالب الظّنّ أنّ هذه التّصنيفات تخلق حواجز بين البشر وتقيّد إنسانيّة الإنسان وتحجب عنه الرّؤية العميقة لأخيه الإنسان فيتعالى ويتكبّر وينغمس في الإعلاء الوهميّ للذّات. فإمّا يشعر أنّه ملاحق أبداً وإمّا يشعر أنّه محور الكون. قد تكون هذه التّصنيفات أسهل للعقل إلّا أنّها غير موجودة في حقيقة القيمة الإنسانيّة. فالإنسان هو الإنسان، وإذا ما تكاسل في السّعي إلى تنمية العقل وتطويره وتثقيفه، وتوانى عن اكتشاف عمق المحبّة المتأصّلة في داخله، وتراخى في تدريب ذاته على مناقشة الآخر واحترام عقله وإرادته وخبراته وتجاربه، بقي مشروع إنسان ملقىً على حافّة هذا الوجود.     

السبت، 4 يناير 2020

الطّائفيّة وارتداداتها في العقلية والسّلوك اليوميّ



مادونا عسكر/ لبنان
من الإشارات الّتي تؤكّد أنّنا ما زلنا دون مستوى التقدّم العلميّ والإنسانيّ بشكل عامّ، حديث غالبيّتنا عن الطّوائف والمذاهب. فهذا الفكر المنغمس في القوقعة والعبوديّة لشعارات سخيفة تبرهن على ثقافة المجتمع الّتي يمكن أن نسمّيها ثقافة التّفاهة. فالّذين ما زالوا ينتفضون ويتجمهرون كلّما أحسّوا بخطر اهتزاز عرش الطّائفة يعبّرون عن جهل مقيت حتّى وإن كانوا يعتدّون بعلمهم وثقافتهم. فالمسألة سطحيّة وتعبّر عن عقل فارغ إلّا من الاستعداد لفعل أيّ شيء من أجل المحافظة على الطّائفة والعقيدة. ولئن غرق العقل في مستنقع التّعصّب الطّائفيّ والمذهبيّ تعذّر عليه تبيّن عناصر التّقدّم الفكريّ؛ لأنّه منشغل دائماً في البحث عن دفاع واهم عمّا يمكن تسميته بالحصن الطّائفيّ. وفي كلّ مرّة يعبّر الإنسان عن دفاعه عن طائفته، فذاك يعني أنّ طائفته ملجأه الوحيد، وأنّه لا يملك قراراً ذاتيّاً ومنطقاً سليماً يمكّنه من اتّخاذ قرارته الشّخصيّة بمعزل عن سجن الطّائفة. ولا ريب في أنّ مبدأ التّعصّب يترادف والجهل. فالمتعصّب شخص جاهل لعمق المفاهيم ومتعلّق بالقشور. يتصرّف بردّات فعل غرائزيّة دعمها الجهل واستدعى قعر الدّائرة الإنسانيّة، فيستخدم أبشع الوسائل لما يعتقده دفاع عن الطّائفة.
لو بحثنا في تاريخ نشوء الطّوائف لوجدنا أنّها نتجت عن خلافات ونزاعات ونتج عنها أحقاد تأصّلت في النّفس، وقتال بغيض تربّى من خلاله الإنسان على العنف أدّى إلى إراقة الدّماء من أجل اللاشيء. ولا نجد في الانشقاقات الطّائفيّة إلّا استئثاراً بالعقل الإنسانيّ وتحكّماً بقدراته الفكريّة وإغراقه بالمزيد من الجهل. هذا الاختراع الإنسانيّ الفاشل الّذي هو الطّائفة يعيق التّقدّم الإنسانيّ فيتعثّر في مساره الطّبيعيّ في النّموّ والتّطوّر ويجعله أسير المتمسّكين بهذا الاختراع، ليستحكموا ويتحكّموا ويغذّوا الفكر الإنسانيّ بمبدأ العداء للآخر فيعزّزوا الصّراعات والخلافات المؤدّية إلى مزيد من الانشقاقات. فالإنسان المتعصّب طائفيّاً عدائيّ في عمقه وفي أسلوب تفكيره وفي سلوكه تجاه الآخر المختلف عنه حتّى وإن تحدّث ونادى بشعارات التّخلّي عن الطّائفة. كما أنّه يُعلي الطّائفة على الانتماء الدّينيّ، لأنّه يجهل المعنى العميق للرّسالة الدّينيّة. فهو ضمناً يدافع عن جماعة يعتقد أنّها تؤمّن له الأمان؛ لأنّه غير قادر على الاندماج في مفهوم المجتمع الّذي ينطلق من مساهمة الفرد في تقدّمه وتطوّره. وهو غير فاعل في هذا المجتمع، لأنّه يسعى عبر طائفته للانخراط فيه، ما يؤدّي إلى خلل يضرّ بالمصلحة العامّة. فالطّائفة أو المجموعة الطّائفيّة تسعى للمصلحة الخاصّة وللحماية الخاصّة. وفي خضمّ الأزمات تتقوقع على ذاتها أكثر فأكثر وتخلق حصوناً إضافيّة فيتباعد أفراد المجتمع حدّ اغتراب الواحد عن الآخر. فتعيش مجموعات مختلفة ضمن المجتمع الواحد. وكلّ حديث عن تخلٍّ عن الطّائفة غير مرتبط بالوعي الثّقافيّ والفكريّ شعارات ما تلبث أن تذوي مع أوّل خلاف.
يفترض التّخلّي عن الطّائفة وعياً بالمفهوم الإنسانيّ والمفهوم الإيمانيّ على حدّ سواء. في ما يخصّ المفهوم الإنسانيّ وجب تعزيز الوعي وإرسائه على جميع المستويات، وإعادة بناء مفهوم الانتماء، والتّحرّر من الخوف المتجذّر في الفكر والنّفس من الآخر، وإعادة بناء الوعي الإنسانيّ المعتمد على المنطق والفهم والقدرة على إبداء الرأي بشكل شخصيّ وبمعزل عن الزّعيم الإله. ما يقودنا إلى إعادة بناء مفهوم الإيمان. فالزّعيم الطّائفيّ إله الشّخص الطّائفيّ؛ كلامه منزل وشخصه منزّه وقراراته لا جدال فيها، ما يعني أنّ الشّخص الطّائفيّ غارق في عبوديّة الجهل الإيمانيّ حتّى وإن ادّعى التّديّن والالتزام الدّينيّ.  كما أنّه منغمس في ازدواجيّة مخيفة. يعبد إلهاً من منطلق دينيّ ويعبد إلهاً آخر من منطلق طائفيّ، ويكون الولاء للإله الثّاني أقوى وأشرس. وتكون العبادة لإله الطّائفة عبادة مطلقة، وكأنْ لا مثله شيء، وكأنّ خلاصه لا يأتي إلّا منه.
بالمقابل  يعزّز الفكر الطّائفي فكرة الإعلاء الوهميّ للذّات، فيتهيّأ للشّخص الطّائفي أنّه دائماً على حقّ، وأنّه معرّض دائماً للاضّطهاد. وكلّ فكرة أو حديث يهدّد طائفته حرب معلنة عليه، فيتشدّد ويستعد دوماً للدفاع عن نفسه انطلاقاً من الدّفاع عن الطّائفة. وأمّا إله الطّائفة فجالس على عرشه، لا تهمّه طائفة ولا يبالي لمفهوم إنسانيّ أو إيمانيّ. كلّ ما يكترث له المزيد من تأجيج الصّراعات والنّزاعات ليضمن بقاءه وربّما خلوده.
"ويل لأمّة تكثر فيها المذاهب والطّوائف وتخلو من الدّين" (جبران خليل جبران)، فهذه الأمّة المتخمة بالطّوائف، المترعة بالأفكار المتشدّدة والمتعصّبة، أشبه بمعتقل للإنسانيّة، لأنّها تسهم في قمع الفكر والتّقدّم وتعزّز الصّراعات وإهدار الدّماء واستدعاء الموت من أجل "لا شيء". والتّاريخ الطّائفيّ حافل بالمجازر والعنف المدمّر والحقد الأعمى.
من المؤسف،  بل من المعيب أنّنا ما زلنا نتحدّث عن النّزاعات والصّراعات الطّائفيّة في حين أنّ العالم يتقدّم علميّاً وفكريّاً وثقافيّاً. يبدو أنّنا ما زلنا في القعر، ولا نملك إلّا أن نسلّط الضّوء بكثافة على هذا المرض المزمن، لعلّنا نعالجه بإعمال المنطق والعقل، وتهذيب الفكر والنّفس، والتّثقيف العام.

الجمعة، 29 نوفمبر 2019

في الفرق الدّقيق بين الشّهيد والضّحيّة



مادونا عسكر/ لبنان
كلّ زمن عبر ويعبر وسيأتي، يحمل في طيّاته آلاماً جمّة وجروحاً تحفر في النّفوس. وقد يتناسى الإنسان جروحه، إلّا أنّها تبقى في عمق العمق أثراً بالغاً يستيقظ كلّما تداعت الظّروف وتحرّكت السّياسات واندلعت الحروب وحلّ الموت وحصد آلاف الأرواح. قد يموت النّاس  دفاعاً عن الوطن، أو عن قضيّة سياسيّة أو حزبيّة أو دينيّة. وفي شتّى الأحوال ثمّة التباس حول اعتبار هؤلاء الأشخاص شهداء أم ضحايا. ولعلّنا نخلط بين مفهوم الضّحيّة ومفهوم الشّهيد. والفرق بينهما شاسع ودقيق، ولا يجوز استغلال مبدأ الشّهادة كلّما توفّي شخص في حالة حرب أو اشتباك أو تصفية حسابات سياسيّة أو حزبيّة أو فرديّة. كما لا يجوز استغلال مبدأ الشّهادة إعلاميّاً لخلق جوّ من التّشنّج وتعزيز التّحريض لإثارة للغرائز.
الشّهيد هو من اختار طوعاً أن يحيا مسيرة حياة توصله إلى الشّهادة. لذلك لا نستطيع أن نطلق على كلّ الّذين يموتون في أوطاننا لقب "شهداء". وبعد الخيار، يأتي القرار الّذي يجعل من مسيرة حياتهم، مسيرة خاصّة جدّاً تتأقلم مع الواقع الّذي آمنوا به، واعتبروه حقيقة مطلقة، وبالتّالي يتناسب القرار مع الخيار الّذي عاشوه. ومن هذا المنطلق، تبدأ مسيرتهم كشهداء، وتطال حياتهم وهم أحياء. هي مسيرة نضال، وسلوك طريق واضح وانطباع خاصّ لما آمنوا به، إلى أن يصلوا لعيش شهادة الدّم. هدف الشّهيد واضح، وهو يعي أنّ الخطّ الّذي اتّبعه يؤدّي به إلى شهادة الدّم، وهو مستعدّ دائماً إلى أن يضحّي حتّى النّهاية، ولو بسفك الدّماء. ويُطلق لقب "شهيد" على من اختار طوعاً ودون أيّ ضغط اجتماعيّ أو دينيّ أو عائليّ، بل بملء إرادته الحرّة أسلوب  حياته. كما يدفع الشّهيد ثمناً باهظاً للوصول إلى هدفه، والثّمن يخصّه وحده، ولا يمكن أن يحمّله لشخص آخر، ممّن يعرفونه أو حتّى يحبّونه من أهله أو أصدقائه أو معارفه .
إذاً، فالشّهيد، يختار مسيرة حياة، ويناضل في سبيل هدف، ويدفع ثمنه بإرادته الحرّة والطّوعيّة. وهذا الثمن بالنّسبة لمن اختار أن يكون في مصاف الشّهداء، يبلغ أقصاه في شهادة الدّم.
إلّا أن ما نراه فعليّاً هو إمّا التباس حول مفهوم الشّهادة، وإمّا استغلال له بهدف التّخدير أو امتصاص النّقمة أو إنعاش الغرائز في سبيل الفتك والانتهاك أو تحويل مسار الأمور. ولو دققنا في الأحداث التّاريخيّة والأحداث الحاليّة وجدنا أنّ قلّة من الضّحايا الّتي هلكت في الحروب والنّزاعات والصّراعات، شهداء. وأمّا الأغلبيّة فضحايا استُغلّوا وماتوا دون أن يكون هدفهم الموت.
فالضّحايا هم الّذين يدفعون ثمن أهداف غيرهم، ويموتون دون أن يختاروا ذلك، وهم أبعد ما يكون عن هذه الأهداف. فهؤلاء الّذين يلقون مصرعهم في انفجار أو في حادث إرهابيّ، هم ضحايا، لأنّهم لم يختاروا طوعاً أن يموتوا. لذا فالإنسان الضّحيّة يعيش الظّلم والقهر، وبالتّالي يدفع ثمن ما لم يختره وما لم يقرّره، وذنبه الوحيد أنّه أُقحم في لعبة الموت. هناك آخر قام عنه بخيار معيّن وقرّر، وبالتّالي يُسفك دمه دون هدف.
والضّحيّة شخص مجرّد من كلّ قرار، ويوظّف طاقته وقوّته كي يستمرّ بالرّغم من كلّ القرارات الّتي أُخذت عنه في سبيل أن تجعل منه ضحيّة. كما أنّه مجرّد من كلّ هدف إلّا هدف البقاء. فالضّحيّة تصارع البقاء وتناضل من أجل البقاء حيّة راجيةً تحقيق أهدافها على شتّى أنواعها. وهي لا تسعى وإن في ظلّ الصّراعات والنّزاعات إلى الموت.
الموت هو الموت، لا يفرّق بين إنسان وآخر. والأهم من الطّريقة الّتي يموت فيها الإنسان هو أسلوب الحياة الّتي يحياها. ولا بدّ من القول إنّ الموت في سبيل قضيّة ساميّة أسمى ما في الوجود، لكنّ الأهم هو السّلوك الحياتيّ لتحقيق هذه القضيّة. فالّذين يرحلون يتركون آثارهم مضاءة في الذّاكرة، وقد تتلاشى الذّاكرة مع الضغوطات الحياتيّة والانهماكات اليوميّة. وقد تنتعش ليخرج الفاشيّ من جسد الضّحيّة، كما يقول محمود درويش. إنّها الدّائرة المقفلة، دائرة العالم الغارق في الأنانيّة والاستغلال والصّراعات.
الّذين يرحلون، شهداء كانوا أم ضحايا يمضون إلى عالم أفضل من عالمنا التّعيس. والإنسان كائن مقدّس، وإن اختار الشّهادة فطوبى له، فما من حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل أحبّائه. وإن لم يختر وسقط وروت دماؤه الأرض، فدماؤه مقدّسة لأنّها دماء أريقت بفعل سطوة القهر والظّلم والانتهاك.

الجمعة، 1 نوفمبر 2019

الثّورة لا تصنعها العواطف الجيّاشة والحماس العنيد



مادونا عسكر/ لبنان
كلّنا فاسدون ونستحقّ المحاسبة والمحاكمة من قمّة الهرم إلى أسفله، من الطّفل الّذي لم يولد بعد، لكنّه يحمل جينات الفساد، إلى الشّاب المفعم بالحياة المنطلق نحو الحرّيّة دون وعي، إلى الشّيخ المضمّخ بذاكرة الحروب  والانقسامات وتخلّف عن غرز الوعي والاختبار، إلى رجل الدّين السّاكت عن الحقيقة الّذي يجنّد النّاس لتحقيق مآربه وتنفيث حقده، إلى المعلّم الّذي لا يؤدّي واجبه كمعلّم ومربٍّ ويستهتر بجيل كامل ثمّ يطالب بحقوقه، إلى الموظّف الإداري الّذي يقبل الرّشوة ويحتقر المواطن وينتهك كرامته من أجل عمليّة إداريّة بسيطة، إلى العامل البسيط والآخر المتخصّص، إلى الشّرطيّ المرتشي، إلى الّذين يدّعون الثّقافة وينشرون الغباء والتّفاهة والسّطحيّة، إلى الإعلام مقتنص الفرص الّذي يصحو فجأة على حرّيّة التّعبير بقدر ما يناسبه الواقع، إلى النّاخب المرتشي بحجة الجوع والفقر، إلى النّاخب الطّامح بالحصول على جنسيّة، إلى عبّاد الزّعماء المنجرّين كالغنم في قضيّة واهمة، إلى مدّعي كسر الحواجز الطّائفيّة المتربّصة بدمهم، إلى الغارقين حدّ الموت بالجهل والجلوس في المقاهي ينظّرون ويتبجّحون كلّما التقطوا جملة من هنا وهناك، إلى مدّعي الإيمان الّذين يكذبون على أنفسهم، إلى المتملّقين الّذين يحدّثوننا عن حرّيّة الرّأي والتّعبير، إلى المتحايلين على القانون وهم ذاتهم يطالبون بالقوانين، إلى المسؤولين المسعورين الّذين لم يهبطوا من الفضاء، بل أولئك الخارجون من النّاس إلى النّاس، إلى شعب صحا فجأة على المطالبة بالحقّ والحرّيّة والتّغيير وأرادها في الشّارع.
الشّارع وسيلة، وعندما يصبح غاية حوّل المجتمع بأكمله إلى فوضى مدمّرة يستفيد منها كلّ فاسد. الشّارع العنيد الّذي بنفسه أوقد المهرجانات الانتخابيّة وناضل من أجل أن يبقي زعيمه لأنّه يحقّق له مصالحه. الشّارع الّذي هو حقّ للجميع بحكم "حرّيّة التّعبير"، ويسمح لأيّ كان أن يستغل الظّروف ويحقّق شرّه، ويستعيد أمجاد الحربّ ويقف عند تقاطع الطّرقات ليمارس بشاعة قديمة دفينة في نفسه. الشّارع وسيلة لا أكثر، وعندما يصبح مترعاً بالنّاس بحجّة استرداد الوطن يمسي مغارة يأوي إليها اللّصوص. وغالب الظّنّ أنّ اللّصوص بيننا في ساحات الفوضى.
ثمّة خيط رفيع بين المطالبة بالحقّ ومصادرة حقّ الآخر، وخيط رفيع بين المطالبة بالحقّ والاتّجاه نحو الفوضى، بين أن تتظاهر وتحتجّ وتصادر الرّأي الآخر وتنتهك كرامته، بين الصّراخ والتّعبير عن الذّات. لا يمكن لشعب غارق في الجهل السّياسي أن يستفيق فجأة على الوعي به.  ولا تستفيق الحكمة في مدّة زمنيّة قصيرة. فالحكمة مسيرة وعي طويلة يبنيها كلّ أفراد المجتمع.  
الحقيقة في التّفاصيل الّتي لا نراها أو لا نريد أن نراها، في الطّيش المستشري وعدم الدّقة وملاحظة ما يتسرّب خلسةً. الصّورة جميلة ومبهرة  لكنّها لا تدلّ على التّحضّر؛ لأنّ التّحضّر يكمن  في الوعي والشّعوب لا ترتقي إلّا بالوعي وبمقوّمات الجمال. والوعي هو غير النّهوض من النّوم؛ إنّه البناء المتمدّد بأساساته الصّلبة في عمق الأرض والمرتفع المحلّق بقوّة العقل وضبط النّفس. التّسامح المفرط جميل، لكنّه تسامح يترادف ومبدأ غضّ النّظر إلى حين.
 أن تكون مثقّفاً لا يعني أنّك تختزن المعلومات وتعيد إنتاجها وتعبّر عنها في الإعلام. أن تكون مثقّفاً يعني أن تعي ما تقول أوّلاً، وتحدّد مقدّمات لنتائج وتسعى لتحقيق الأهداف بالفعل لا بالقول والصّراخ في الشّوارع. أن تخطّط بصمت، وتركّز على ما يدور حولك وتتعمّق في التّحليل لا أن تجترّ ما يقوله فلان وعلّان.  
أن تكون مواطناً حقيقيّاً يعني ألّا تدوس على أخيك المواطن وتنتهك كرامته لأنّك "ثائر". أن تدرك أنّ الوطن ليس مجموعة شعارات وهتافات، وإنّما عمل دؤوب وجدّ واجتهاد وبناء للفكر، لتحارب بالفكر لا بالغريزة. أن تفهم أنّ الوطن ليس مقهىً تثرثر فيه تحت غطاء النّدوات والاجتماعات المعزّزة للوعي. لماذا لم تُقَم هذه النّدوات في الجامعات والمدارس لدرء خطر الجهل والنّفاق والظّلاميّة؟ لماذا لم يُبنَ الوعي لعقود طويلة لبناء مجتمع أفضل لا يوصل أشباه مسؤولين؟ أين كان الواعون المثقّفون الوطنيّون؟ ونتساءل: ما الّذي أيقظ هذا الشّارع؟ ومن يحقّ له أن يتظاهر ويحتجّ ويعترض؟ وما هي نسبة المطالبين الصّادقين؟
كلّنا فاسدون؛ أمام الضّمير الحيّ الّذي يتهجّى الوضوح والحقيقة. أمام العقل المدمّر الّتي تظهره الحقيقة الكامنة في التّفاصيل. أمام الكبت المتفجّر والتّخوين الّذي يهدّد العقلاء. أمام الوقت الضّائع هباءً الّذي سينتج جيلاً عقيماً، لأنّ الثّورة أوّلاً وأخيراً ثورة العقل والفكر، والتّغيير تقوم به النّخبة لا العوام. وعلى مرّ التّاريخ نشهد للتّغيير على أيدي الأفراد العاقلة النّقيّة الّتي حدّدت أهدافها وحقّقتها بجهد وجدّ.
كلّنا فاسدون ونستحقّ المحاكمة؛ فمن يجرؤ على محاسبة نفسه والوقوف أمام ضميره وأمام نفسه ويتبيّن أنّ الوضع الرّاهن يحتاج للعقل، وللعقل فقط، لا للعواطف الجيّاشة والحماس العنيد والصّراخ الّذي يصمّ الآذان ولا يسمح للعقل أن يتصرّف؟
من أراد التّغيير فليبدأ بنفسه أوّلاً.

الجمعة، 25 أكتوبر 2019

سبعة عناصر في تأمّل الحالة الرّاهنة



مادونا عسكر/ لبنان
"الثّورة ككلّ جرأة: في وقتها ومكانها عبقريّة وانتصار وفي غير ذلك حماقة واندحار". (ميّ زيادة)
لتكون الثّورة في وقتها ومكانها عبقريّة، ينبغي أن تستند إلى الوعي. ولا بدّ من الانتباه إلى دلالة كلمة "الثّورة" حتّى لا يلتبس المعنى على النّاس فينطلق بحماسة المندفع بردّات فعل تفجّر الكبت المتأثّر بتراكم المشاكل الّتي يرزح تحتها الإنسان.
الثّورة تعني اصطلاحاً التّغيير الأساسيّ في الأوضاع السّياسيّة والاجتماعيّة يقوم به الشّعب في دولةٍ ما. ما يعني أنّ الثّورة بمعناها الاصطلاحيّ تختلف عن الاحتجاج بمعنى الاعتراض على أوضاع سياسيّة واجتماعيّة. ولئن كانت الثّورة  تعني التّغيير الجذريّ في الأوضاع السّياسيّة والاجتماعيّة، تطلّب هذا التّغيير وعياً خاصّاً نما بنموّ الإنسان الثّقافيّ والمعرفيّ والحضاريّ فيستحيل عبقريّة وانتصاراً. وأمّا إذا خلا من الوعي فما هو إلّا حماقة تؤدّي إلى الفوضى المدمّرة والهلاك الحتميّ. والحماقة عكس الحكمة، تعبّر عن فوضى العقل وانعدام القدرات المنطقيّة الموجّهة لأي احتجاج أو معارضة أو استنكار لوضع ما. ولئن كانت الثّورة تغييراً أساسيّاً يقوم به الشّعب فلا بدّ لهذا الشّعب أن يكون واعياً بما يكفي ليحدّد أهدافه المتلازمة وأهداف ثورته وإلّا أتى فعله مجرّد تعبير عن غضب عارم، متى زال زال معه كلّ مطلب.
وحتى لا يكون الكلام وعظاً وإرشاداً وتنظيراً وإنّما تسليط للضّوء على التّفاصيل الّتي تكمن فيها الحقائق المؤدّية إلى تحقيق الأهداف، لا بدّ من تحديد عناصر الوعي الّذي قد يتمّ قمعه بأساليب عدّة:
- العنصر الأول: الوعي بتاريخ الشّعب وتبيّن تفاصيله والتّعلّم منه. فالشّعب الّذي تحتفظ ذاكرته بأهوال تاريخه ومصائبه الّتي أنهكت الوعي والعقل الجمعي فتفرّد كلّ فرد أو كلّ مجموعة في آراء خاصّة أو انتماءات خاصّة نتج عنها انغلاق خوفاً من الآخر المنفرد بآرائه وانتماءاته. الوعي بالتّاريخ يعني الابتعاد عن التّفاخر السّاذج والتّمجيد السّخيف للتّناحر والقتل وتبرير سفك الدّماء والمثابرة على تجميل الصّورة وخدعة طيّ صفحة الماضي دون البحث الجدّي في تصفية القلوب وتنقية الأذهان والسّعي إلى حاضر أفضل من خلال منهجيّة سلوك أفضل.
- العنصر الثّاني: الوعي بالمسؤوليّة وتحمّلها  بجدّيّة، واعتبار الشّعب مشاركاً بما وصل إليه الواقع من سوء. فغير صحيح أنّ الشّعب لا يتحمّل المسؤوليّة في الأحوال الرّديئة الّتي تصل إليها الشّعوب. ومن غير الصّحيح أنّ الحكومات وحدها هي من تتحمّل المسؤوليّة. فالشّعوب تنال الحكومات الّتي تستحقّها، وهذه الحكومات لم تأتِ من كواكب أخرى وإنّما هي من صلب المجتمع. وما أتت إلّا بمؤازرة من الشّعب. لا ريب أنّ المسؤوليّة تتفاوت بين الدّولة الّتي تدير البلاد والشّعب إلّا أنّ هذا التّفاوت لا يلغي مسؤوليّة أيّ فرد.
- العنصر الثّالث: الوعي بأنّ الحماس هو غير السّعي إلى تحقيق الأهداف. وبالتّالي لا بدّ من وضع أهداف محدّدة ليتمّ التّغيير الجذري. وذلك يتطلّب عملاً دؤوباً واجتهاداً وتعباً حتّى يتمّ التّغيير. وأمّا الشّعارات فهي ابنة اللّحظة وتتضخّم بقدر ما يتفلّت الوعي ويثمل الإنسان بالحماس والفرح الّذي ينتج عن إفراغ الغضب ونشوة الحرّيّة المؤقّتة في التّعبير عن الوجع والألم. الحماس وليد اللّحظة وأمّا السّعي إلى تحقيق الأهداف فمسيرة نحو التّطوّر والتّقدّم.
- العنصر الرّابع: الوعي بأنّ تطوّر الشّعوب يقوم على نظريّة بسيطة وهي أن يؤدّي كلّ فرد عمله على أكمل وجه، مهما كان بسيطاً. ففي كلّ مرّة يحصل فيها تقصير أو استهتار تتأثّر مسيرة التّقدّم والنّموّ الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسّياسيّ.
- العنصر الخامس: الوعي بحضور الآخر المختلف، أيّاً كان اختلافه واحترام حضوره بل والدّفاع عنه إذا لزم الأمر، بمعزل عن الأحكام المسبقة والشّتائم الّتي تعكس ذهنيّات مريضة غير مؤهّلة للمطالبة بالحقّ. وكلّ حقّ يقابله واجب، وكلّ واجب يقابله معرفة بهذا الواجب وكلّ معرفة يقابلها إعادة بناء للمفاهيم والتّصوّرات لبلوغ المعرفة بالمُطالَب به. فمن يطالب بإسقاط النّظام لا يعي جيّداً أنّه يتّجه نحو الفوضى الّتي ستتجلّى لاحقاً بالخروج عن النّظام والتّصرّف بهمجيّة. ومن يطالب بتشريع القوانين المواكبة للحداثة عليه أن يتعهّد بتطبيقها.
- العنصر السّادس: الوعي بأنّ مقولة أنّ الشّعب مصدر السّلطات خدعة كبيرة في بلدان ترزح شعوبها تحت وطأة السّعي وراء لقمة العيش فقط وتحت وطأة البطالة وتراجع العلم. يكون الشّعب مصدر السّلطات حينما يعي قيمته كشعب يحاسب دون ريبة وخوف من هم موظّفون في خدمته. وبقدر ما تتضخّم هذه المقولة في الأذهان بعيداً عن الوعي ينتج عنها تمرّد أعمى وحماس مفرط يُدخل الإنسان في فوضى مدمّرة.
- العنصر السّابع: الوعي بقيمة المحبّة الحقيقيّة بين الأفراد بغض النّظر عن الدّين والانتماء، والتّعاون من أجل تحقيق هذه المحبّة على ألّا تبقى ورقة اختياريّة يوم يكون الحماس سيّد الموقف. فالمحبّة هي الأساس وعليها تُبنى الأوطان وبها تتقدّم الشّعوب وتنمو وتتطوّر وتفهم أنّ الغلبة دائماً للمحبّين الّذين يبذلون أنفسهم ويقدّمون من ذواتهم ليكبر الوطن. المحبّة تبني والحقد يدمّر. المحبّة تنظّم الفكر والشّعور، وأمّا الحقد فجهل وعقم فكريّ وشعوريّ. المحبّة اتّجاه نحو إنسانيّة الإنسان وأمّا الحقد فعودة إلى حالة الهمجيّة الأولى وتعزيز للنزعة الفتك والتّخريب والانحلال.
تأتي ساعة تُحدَّد فيها مصائر الشّعوب وهي ساعة العقل والعقل فقط، بعيداً عن المشاعر المفرطة، والحماس المندفع، والشّعارات الفضفاضة، ونشوة الانتصار الخادع.  

الأربعاء، 24 يوليو 2019

الإبداع وعزلة الحرّيّة


مادونا عسكر/ لبنان



إذا كانت الكتابة تعبيراً عن الذّات فيحتاج هذا التّعبير إصغاء للصّوت الدّاخليّ الّذي يودّ التّحرّر من ضجيج الدّاخل، حتّى يؤثّر في القارئ ويعبّر عنه. وبقدر ما يصغي الكاتب إلى هذا الصّوت ينطلق في رحاب الإبداع، وتتفجّر كنوزه الكامنة في الأعماق، تلك الّتي تؤسّس لتاريخه الإبداعيّ ولشخصه كمرجع أدبيّ.
لا يمكن لإنسان متخبّط في ضجيج العالم وضجيج نفسه أن يصبح كاتباً ويبدع. ذاك ما يتلمّسه القارئ اليوم في أغلب الكتابات الّتي يقرأها الّتي تشبه عصرنا. فنلاحظ أنّ بعض الأعمال المسّماة أدبيّة ليست سوى خربشات فوضويّة تتمركز حول البوح عن المشاعر السّطحيّة، أو حول ما يتمّ نقله عن الواقع بسخافة مفرطة، أم إنّ الكاتب يكتب من فراغ فيأتي العمل فارغاً هشّاً. والكتابة من فراغ دليل انغماس في ضوضاء العالم من جهة. ومن جهة أخرى، سطوة الأنا على الكاتب تعيق مسيرته نحو العمق، فيكون هو المحور لا الفكرة المراد التّعبير عنها وتفكيكها لتتجسّد جمالاً.
ليس الكاتب لنفسه، بل للإبداع المعطى له بنعمة خاصّة، وبالتّالي فهو خادم هذا الإبداع. لا يحتكره لإبراز أناه، وإنّما للارتقاء بها. ولا يحوّلها إلى أداة تترجم انفعالات تؤثّر في القارئ آنياً، تدغدغ مشاعره إلى حين ثمّ تندثر باندثار الوقت. إن وُجد الإبداع فليخلق تاريخاً جديداً، يتجدّد بحضور الكاتب. وإن كانت الكتابة لا تحفر عميقاً في النّفوس فلأنّها تخرج من فراغ، لا من صمت عظيم وسلام حقيقيّ يمتلك كيان الكاتب.
الصّمت والسّلام سمتان يصير إليهما الكاتب بفعل الانعزال عن العالم. وقد لا يكون هذا الانعزال ظاهريّاً بقدر ما يكون داخليّاً. بمعنى آخر، الانسلاخ الضّمني عن الضّجيج المحيط بالكاتب، والابتعاد قدر الإمكان عن الظّاهر يسمح له بالتّوغّل في نور الحقيقية الّذي سيكشف له ما يودّ معرفته في ذاته أوّلاً ثمّ في الآخر ثمّ في الوجود ككلّ. ما يعوزه إلى الصّمت ليتمكّن من مراقبة أدقّ الأمور وتبيّن حقيقتها، ولا يأتي الصّمت والسّلام من فراغ، بل بفعل مجهود خاصّ واجتهاد في نبذ كلّ أمر لا يخدم إبداعه ويخلّد له.
العزلة قرار داخليّ من شأنه استثمار الإبداع بكلّيّته، ولن يكون الأمر سهلاً إذا ما تمحور الكاتب حول أناه ليجذب القارئ إلى شخصه. ولن يقوى على التأثير به دوماً إذا ما تمسّك بأناه وقدّمها على النّصّ. ذاك لا يعني أن يتخلّى الكاتب عن أناه، لأنّه بها يجسّد الجمال ومنها يستقي بهاء إبداعه، لكنّه بانعزاله عن السّطحيّات يتّحد بالنّصّ، وينصهر بالكلمة والمعنى حتّى يستحيل لغة يتحدّث بها القارئ.
لا بدّ للكاتب أن ينعزل كي يقوى على الإصغاء إلى صوته الدّاخلي ويتحرّر من أصوات كثيرة تصمّ أذنيه وتعطّل بصيرته. فيتعرّف على ذاته ويكتشف إبداعه بشكل مستمرّ. كلّ القوّة تكمن في تلك العزلة الدّاخليّة الّتي تفصله عن العالم وهو فيه؛ فينحصر عقله بالتّأمّل، بالدّاخل أوّلاً، ثمّ الخارج، ولا يتأثّر بالمجاملات والإطراءات؛ لأنّ هدفه البحث عن اليقين وملامسة الرّؤى.
ينعزل الكاتب فيرى بوضوح ما هو أبعد من الواقع، ويعاين ما هو فوق الوعي ليبلغ تفاصيل تائهة عن القارئ، فيشعل قلبه ويغرقه في كون من الجمال والمعرفة، وكلّما تفجّر الإبداع ازداد الخوف الإيجابيّ الّذي يشكّل رادعاً للغرور والتّباهي. كاتب لا يخاف من الجمال يتلاشى أمام حكمة القارئ ونقده، فالخوف خطوة تأنٍّ نحو المزيد من العزلة بهدف حرّيّة الإبداع وانطلاقه نحو مزيد من الجمال والدّهشة. بالخوف يصوغ الكاتب نصوصه ويثبت أمام رهبة القلم وقوّة اللّغة وعجزها في آن، وكأنّي به مع كلّ نصّ جديد يكتب المرّة الأولى والنّصّ الأوّل، حتّى يستحيل النّصّ الأخير مفتوحاً على المطلق.


الثلاثاء، 12 يونيو 2018

الشّعر ومأزق الورقة البيضاء



مادونا عسكر/ لبنان
"أعتقد أنّ صمت الشّعر والعجز عن كتابته ومأزق الورقة البيضاء هي جميعها جزء من الشّعر نفسه. إنّها النّاحية الخفيّة من الكتابة الشّعريّة. إنّها ما يمكن تسميته ما وراء الشّعر أو ذاكرته الغائبة". (عبده وازن)
صمت الشّاعر الفرنسيّ بول فاليري قرابة الخمسة عشر عاماً قبل أن يكتب قصيدته الطّويلة الرّائعة "بارك الشّابة". ولعلّه صمت قسريّ يخشاه جميع الشّعراء ويشكّل هاجساً حقيقيّاً في حياتهم. ولعلّه شبح العجز الّذي يتراءى لهم كلّما تأكّد أنّ الشّاعر لا يكتب متى يشاء بل ينتظر لحظة وحيٍ تزلزل كيانه وتضرم فيه نار الشّعر فيكتب. قد تكون الفترة الزّمنيّة بين نصّ شعريّ وآخر سنوات، أو أيّاماً أو حتّى ساعات، فهل هو الوحي الّذي يصمت، أم إنّه الشّاعر الّذي ما عاد ينفتح على هذا النّور الموحى به؟ فمن العسير القول إنّ الوحي ينقطع، وذلك لأنّه خيوط نور تتجدّد كالخلق فيكون الإبداع. ومن العسير استحضار النّور عنوةً بهدف كتابة الشّعر. والشّاعر الّذي يصارع ورقته البيضاء لينتصر عليها أتى بنصّ فارغ هشّ فاقد للحياة.
قد يكون مأزق الورقة البيضاء كما يسمّيها الشّاعر الفرنسي مالارميه، هاجس جميع الشّعراء، لكنّه في الحقيقة ليس مأزقاً بقدر ما هو لحظة اتّحاد الوحي بالشّاعر ليكون الاثنان واحداً. فيستحيل الشّاعر هو القصيدة. ولئن كان الشّاعر يتعامل مع هذا الصّمت الشّعريّ كمأزق يضطرب ويخاف من فقدان القدرة على الكتابة الشّعريّة في حين أنّ الشّعر هو الّذي يكتبه وليس العكس. لا بدّ من صمت يفرض نفسه، إنْ على مستوى الوحي أو على مستوى الشّاعر ليتاح للّغة الجديدة أن تولد وتتفجّر من أعماق الشّاعر. فيكون صمت الوحي المتّحد بصمت الشّاعر ذروة الولوج في الشّعر لا أحد يتكلّم ولا أحد يسمع. لحظة تأمّل وارتقاء خالصين إمّا يدخلان الشّاعر في الصّمت النّهائي، وإمّا تولد قصيدة تُنسي ما قبلها ليتجلّى الإبداع خلقاً متجدّداً.
الشّاعر الحقيقيّ لا يكتب ذاته الّتي لا يعرفها يقينيّاً بل ينتفتح على نور الوحي يقطف ومضاته ليكتشف قدراته ويصغي إلى صوته الدّاخليّ، ويتعرّف على ذاته من خلال هذا الوحي. وكلّما تقدّم بالمعرفة ازداد التّأمّل والإصغاء وقد يبلغ هذا الصّمت الكبير الّذي يعتبره مأزقاً في حين أنّه القصيدة الأمّ، القصيدة الحقيقة الّتي هي الشّعر عينه. ومتى استحال الشّاعر لغةً بلغ منتهى العالم الشّعريّ وما عاد بحاجة إلى ورقة بيضاء يسكب فيها ذاته بل احتاج إلى كون أرحب يجسّد فيه هذه اللّغة/ القصيدة.

الثلاثاء، 2 يناير 2018

للإبداع حكمته الجماليّة

مادونا عسكر/ لبنان



"حينما تصبح مبدعاً، لن ترى بعدها الأمور في العالم كما يراها الأشخاص العاديّون". (الرّوائي بريان مور)


يتضّح لنا من حكمة الرّوائي الإيرلندي براين مور أنّ الإنسان يصير إلى الإبداع، أو لعلّه بمعنى أصحّ ينتقل من مرحلة الإبداع بالقوّة إلى الإبداع بالفعل. فلا شكّ في أنّ بذور الإبداع حاضرة في كلّ شخص. ومرحلة الطّفولة تبرهن عن مشروع إبداع لدى الطّفل من جهة اكتشاف الأشياء، وابتكار بعضها، والتّمرّد على التّقليد وانتهاج طرق مختلفة. لكنّ الإبداع لينتقل من مرحلة القوّة إلى الفعل يحتاج تدريباً وتنمية وتربية واحتراماً للقدرات ليبرز الإبداع كجوهر إنسانيّ. وإذا ما أُهمل الإبداع الإنسانيّ بقي الإنسان عاديّاً، يسلك في هذه الحياة دون أيّ إدراك لقوّة الخلق الكامنة فيه. فالإبداع أشبه بالخلق. قدرة على الإبهار والإدهاش وقدرة على القبض على العقل والرّوح بهدف معاينة الجمال.
الإبداع نعمة خاصّة للإنسان لكن لا بدّ من التّمييز بين الإبداع المؤقّت أو المرحليّ وبين الإبداع الحقيقيّ أي الإبداع الخالد. ذاك الّذي يتخطّى الزّمان والمكان، ويبقى أوّلاً. إنّ الإبداع المرحليّ ومضة آنيّة، تبهر لفترة وجيزة أو طويلة، لكنّه لا يخلد بمجرّد أن يظهر إبداع آخر. وأمّا الإبداع الحقيقيّ، فهو ذاك الّذي وسط إبداعات كثيرة يحافظ على مكانته، بل وكأنّي به يصبح شخصاً، يحلّ أينما كان. لم يترك سقراط كتابات، وجلّ ما نعرفه عنه استقيناه من روايات تلامذته، لكنّه حاضر وبقوّة بفكره وفلسفته منذ قرون. حمل كتاب النّبيّ لجبران خليل جبران سمة الإبداع الخالد. هذا الكتاب الّذي ظهر سنة 1923 نقرأه اليوم وكأنّه معاصر لنا. وكتب فيكتور هوغو رواية البؤساء ليقرأها آخر إنسان في التّاريخ. ورسم ليوناردو دافينتشي الموناليزا لعصور لن يمرّ بها. ونحت مايكل أنجلو تمثال موسى وبثّ فيه الحياة وكأنّي به يحيي النّبي موسى من جديد وإلى الأبد. وإبداعات لا تعدّ ولا تحصى لا يمكن التّطرّق إليها في هذا المقال تفرض ذاتها للأبد دون أن تزاحمها إبداعات أخرى. من هنا يمكن الاستدلال على الإبداع، بحيث أنّه قائم بذاته، يبدأ من حيث تولد الفكرة في المبدع وينتهي باستحالته إلى لغة يتحدّث بها كثيرون.
لا يقتصر الإبداع على إظهار أعمال خارقة، وإنّما يكمن في إظهار الجمال البسيط بمحبّة خارقة. ولا ينحصر بأشخاص محدّدين دون سواهم، بل هو جزء لا يتجزّأ من كلّ إنسان تمكّنه بصيرته من استنطاق الجمال وتجسيده ليحاكي الكون بأسره. فالأمّ التّي تربّي أولاداً من مختلف الأعمار وتنتقل بين المراحل العمريّة تبرهن عن إبداع خاصّ يبقى متجذّراً في قلب الإنسان. أو عامل يبتكر طريقة خاصّة لإتمام عمله يتحوّل إلى خبرة تُمنح لآخرين. الإبداع حالة الذّروة الإنسانيّة في لحظاتها الهائمة بالجمال والغائبة عن الزّمن عن وعيٍ حتّى تتمكّن من تخطّيه.
يقول مكسيم غوركي:"يكمن في كلّ إنسان قوّة الباني الحكيمة ولا بد من إفساح التّطوّر والازدهار لها لكي تثري الأرض بعجائب ومعجزات جديدة." إذاً، فتغيير العالم ممكن إذا ما استحوذ عليه الجمال. وتبديل سلوكيّات الإنسان ممكنة إذا ما تربّى على الجماليّات الإبداعيّة. واستئصال الشّرّ من العالم ممكن إذا ما جرح الجمال الإنسان وزلزل كيانه ليفيض منه الخير، جوهره الحقيقيّ.




الجمعة، 10 نوفمبر 2017

الإنسانيّة ومرحلة العبوديّة الخاضعة


مادونا عسكر/ لبنان

تأصّلت العبوديّة في الشّعوب القديمة وامتُلك الإنسان من قبل الإنسان، وسُخّر لأجل غايات عديدة كالأشغال الشّاقة، والحروب، والزّراعة وسواها. والعبد مسلوب الحرّيّة شكّل ملكيّة خاصّة لسيّده ضمن ممتلكات عديدة. ولا ريب في أنّ السّعي للقضاء على الرّقّ مرّ بمراحل عديدة حتّى وصلت الإنسانيّة إلى مرحلة التّخلص من هذه الخطيئة الشّنيعة ضدّ الإنسانيّة، أي العبوديّة، الّتي تجرّد الإنسان من إنسانيّته ومن قيمته المقدّسة الّتي منحه إيّاها الله. إلّا أنّ العصر الحديث يشهد عبوديّة من نوع آخر، اتّخذت شكلاً مغايراً لمفهوم العبوديّة كما عرفته الشّعوب.
في بحثه عن الحرّيّة، لم يتنبّه الإنسان بشكل عامّ إلى شكل الحرّيّة الّتي يسعى إليها. فالتمس حرّيّة مرادفة للفعل الإراديّ الحرّ، الّذي قد يكون غالباً مقيّداً بالظّروف الاجتماعيّة، والسّياسيّة. وبالتّالي فهو فعل حرّ ظاهريّاً، إلّا أنّه في العمق يخضع لظروف عدّة تؤسّس لخبرات عديدة تؤكّد للإنسان لاحقاً أنّ هذا الفعل الإراديّ خلا من التّجربة. فالثّورات الّتي اندلعت على مرّ التّاريخ حتّى يومنا هذا لم تحقّق الحرّيّة للإنسان كما يُظنّ. ولم تؤدِّ إلى نتائج يستطيع من خلالها الإنسان الاعتراف بأنّه حصل على حرّيّته وتخلّص من العبوديّة. لقد انتقلت العبوديّة من مرحلة إلى مرحلة وتطوّرت إن جاز التّعبير. فمن عبوديّة الإنسان للإنسان، وشراء حرّيّته بالمال، إلى عبوديّة أشدّ فتكاً في الإنسانيّة، وأخطر من تلك الّتي يذكرها التّاريخ على أنّها منتهى الانحطاط الإنسانيّ.
في زمن الحرّيّات المختلفة الأشكال، كحرّيّة الفكر والتعبير، والحرّيّة الشّخصيّة وما إلى ذلك، يخضع الإنسان إراديّاً إلى عبوديّة مرَضيّة. وبقدر ما يسعى  إلى حرّيّته المزيّفة يتوغّل في العبوديّة.
إنّه زمن العبوديّة بامتياز.
لقد اختار الإنسان عن وعي أو غير وعي أن يقيّد ذاته بسلاسل من ذهب ظنّاً منه أنّه تحرّر من قيود عدّة. في حين أنّه سجن نفسه بنفسه وكبّل شخصه في ثلاثة عناصر أساسيّة: الأنا، والوقت والآلة.
- عبوديّة الأنا:
من المهمّ أن نفهم أنّ الإنسان كائن يولد حرّاً بمعنى أنّه يولد متفلّتاً من مجتمعه وتأثيراته، وتقاليده ومميّزاته الخاصّة. لكنّه ما يلبث أن يلبسها وتلبسه ويتأثّر بها، وإمّا ينغمس فيها أو يسعى إلى التّحرّر منها. ومع الاختبارات الشّخصيّة تتكوّن أناه منطبعة بالمحيط والاكتساب المعرفيّ والتّجربة الشّخصيّة. بيد أنّ إنسان اليوم مسجون بأناه حدّ الانعزال الضّمنيّ عن العالم حتّى وإن بدا لنا اجتماعيّاً. فالتّمحور حول الذّات والولع بها يسهم في بناء سجن عميق شئنا أم أبينا يدخله الإنسان إراديّاً حتّى يموت فيه.
تسيطر الأنا اليوم على الشّخص بما يفوق قدرته على تبيّن الصّواب من الخطأ. فيركّز على شكله الخارجيّ، وتحقيق رغباته بغضّ النّظر عمّا إذا ما كانت تساهم في بناء إنسانيّته أم لا. فينحصر تركيزه على تحسين شكله الخارجيّ مستعيناً بكلّ ما أمكن للظّهور بصورة أفضل. في حين أنّ الدّاخل يهترئ ويتلاشى. وتحت شعار الحرّيّة الشّخصيّة الملتبس، ينتهك قيمة إنسانيّته ليكون حرّاً. تحتاج ممارسة الحرّيّة الشّخصيّة إلى عقل اختزن ما يكفي من المعرفة حتّى يتبيّن الصّواب من الخطأ، كما يعوزها روح حرّة تفلّتت من الأغلال الدّنيويّة بمعنى أنّها تأخذ منها كفايتها دون أن تتحوّل الحاجة إلى سيّد مستبدّ. والرّوح الحرّة تميّز بين الرّغبة والانحلال، وبين الحاجة والفوضى الغرائزيّة. وتتبيّن أنّ الحرّيّة الشّخصيّة تمتاز أوّلاً وآخراً باحترام الأنا كقيمة مقدّسة غاية وجودها البحث عن الجمال واكتشافه.
يمارس إنسان اليوم حرّيّته الشّخصيّة بجهل مقيت. وكلّما أراد أحدهم أن يظهر ذاته حرّاً يجنح إلى تبرير السّلوكيّات الإنسانيّة الّذاتيّة على أنّها حرّيّة شخصيّة. فيدافع عن الإجهاض والمثليّة الجنسيّة ومحاربة الآخر وغيرها من السّلوكيّات الّتي لا تمتّ إلى الحرّيّة بأيّ صلة. فتبقى حرّيّته الفكريّة مجرّد نظريّة يتباهى بها أمام المجتمع العارف بواقعه التّعيس. ومن ناحية أخرى، تشكّل هذه الأنا عبئاً على الإنسان لأنّ متطلّباتها الظّاهريّة إلى ازدياد، كعمليّات التّجميل ومتابعة الموضة بشغف وامتلاك ما يمتلك الآخر، إلى ما هنالك من منافسات على المستوى الظّاهريّ تبني الأنا الخارجيّة بمعزل عن العمق الشّخصيّ. لقد ضيّع الإنسان بوصلته وغرق في مستنقع الأنا الجائعة إلى الظّاهر فاهترأ العمق كي لا نقول مات.
- عبوديّة الوقت:
لا ريب في أنّ الوقت عنصر مهمّ في التّنظيم الحياتيّ، ولكنّه قاتل لا محالة؛ لأنّه مهدور في الأمور التّافهة والسّطحيّة . يهدر إنسان اليوم الكثير من الوقت في متباعة الوسائل الإعلاميّة الممنهجة في تعزيز الجهل من جهة، وفي الانغلاق على الأنا من جهة أخرى. ولو تأمّلنا بدقّة وعلى مدى أربع وعشرين ساعة من البث المتواصل وقيّمنا ما يعرض علينا من هذه الوسائل، لاحظنا مدى عبوديّتنا للوقت المهدور وتلمّسنا فراغنا المعرفيّ والثّقافيّ.
بالمقابل، تحوّل الوقت إلى عدوّ شرس، يسجننا في دقائق نجري خلفها لتحصيل الأموال من أجل إشباع رغباتنا الّتي لا تنتهي. يقال إنّ متطلّبات الحياة زادت وكثرت، ولا شكّ في ذلك. لكنّ مقياس الحرّيّة يكمن في كيفيّة فرز المهمّ من الحاجات والسّعي لتلبيتها وإقصاء الذّات عمّا لا تحتاج إليه. وإلّا فنحن عبيد للوقت الّذي يجرّنا من أعناقنا إلى موتنا الرّوحيّ.
- عبوديّة الآلة:
تحوّلت الآلة الّتي اخترعها الإنسان إلى نقمة سلبته حرّيّته لأنّه ما عاد بإمكانه العيش دونها. هذه الآلة الجماد تستغلّ الإنسان في كلّ لحظة حتّى بات مماثلاً لها أي ما يشبه الجماد. وقد أخذ الإنسان على تطوير الآلة الّتي كانت هي كذلك تعيد تشكيله ليصبح عبداً لما خلقه بيديه، ففقد قدرته على تلمّس الجمال، وضلّ طريقه نحو الخلق والإبداع. كما فقد إرادته على  وضع أهداف وتحقيقها. لقد سرقت الآلة من الإنسان الحلم، والخيال، والرّغبة في الإنتاج الشّخصيّ. وإذا اندثر الحلم والخيال، فكيف يمكن للإنسان بعدُ أن يتحدّث عن الحريّة وهو مستعبد للجماد؟
لعلّ الإنسان يعيش كذبته الكبرى ومعبودته الوثنيّة العليا تلك المسمّاة "الحرّيّة"، فكيف يكون حرّاً وهو رازح تحت أغلال صنعها بحكمته الضّالّة، وأجاد تسويقها على نفسه ليكون عبداً؟ إنّه يمارس عبوديّته، وهو يغنّي ولكنّه في الحقيقة يندب روحه برثاء لا ينتهي.