‏إظهار الرسائل ذات التسميات التّصوّف. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات التّصوّف. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، 24 يوليو 2020

الحبّ رؤية واكتمال



مادونا عسكر/ لبنان
من أقوال الحلّاج الدّالة على عمق رؤاه القلبيّة قوله: "ما رأيت شيئًا إلَّا ورأيت الله فيه". وما هذه الرّؤية إلّا بلوغ الحلّاج  ذروة اللّقاء بالمحبوب الإلهيّ، بل ذروة الامتزاج بالكائن الخارج عن الزّمن والمتجذّر في عمق أعماق الحلاج في آن معاً. وبعيداً عن نظريّة الحلول والاتّحاد، يحملنا الفعل (رأيتُ) إلى المعنى الإنسانيّ المرتبط بالحبّ الأسمى. فعندما يقول الحلّاج "ما رأيت شيئاً إلّا ورأيت الله فيه" فهو يمزج المعنى الحسّي للفعل (رأى) بالمعنى القلبيّ. ويأتي المزج نتيجة لفعل الحبّ المتفجّر من داخل الحلّاج إلى الخارج.
الحبّ في أصله لا أصل له، فهو أشبه بمسّ يأتينا من خارج الكون، وللمحبّين المتفاعلين مع هذا الحبّ إشراقاتهم الخاصّة وتجربتهم الخاصّة. ولا يمكن قياس حبّهم على العاطفة الّتي يشعر بها كلّ إنسان. فالعاطفة شعور متناقض وقد يضعف ويقوى وقد يشتعل ويخمد. إنّه ما يُظنّ أنّه الحبّ. والعاطفة انجذاب محدود بالزّمان والمكان والأشخاص، وأمّا الحبّ فهو انجذاب كونيّ يتخطّى الزّمان والمكان والحدود فيلغي المسافة والوقت. وإذا ما انجذب المحبّ رمى بنفسه كما ترمي الفراشة بنفسها في نور المصباح حتّى تحترق.  وما حال رؤية الحلّاج لله في كلّ شيء إلّا  ارتمائه في هذا الحبّ حدّ الاحتراق بنوره فما عاد يرى في ما يرى إلّا هذا النّور. وتبدو لنا هذه الرّؤية جليّة في قصيدة الحلّاج "والله ما طلعت شمس ولا غربت"، إذ يعاين الحلّاج هذا الحبّ في حركة الكون بشكل عام:
والله ما طلعت شمس ولا غربت
إلا وحبّك مقرون بأنفاسي
يحيا المحبّ في حركة الكون الدّائريّة من طلوع الشّمس إلى غروبها بهذا الحبّ المقرون بأنفاسه. فإذا انقطع انقطعت الحياة. وهنا تأخذ الحياة بعدها الآخر والأعمق من حركة التّنفّس، إنّها حياة المحبّ الممتزجة بالحبّ الأصل. فلا تعود هذه الحياة تعني له شيئاً بحكم الانجذاب العشقيّ، ولا يرى منها حركتها إلّا ضمن هذا الانجذاب. فمن وجهة نظر المحبّ ليس من حياة وليس من عالم وليس من حركة، كلّ ما يراه ويعاينه هو الحبّ. وكلّ ما يقوله ويفعله ويسعى إليه هو الحبّ. وإذ يقول:
ولا جلست إلى قوم أحدّثهم
إلّا وأنت حديثي بين جلّاسي
فلا يريد بقوله فعل التّبشير وإنّما هي اللّغة الّتي تتحوّل من لغة باهتة إلى لغة تقاوم عجزها في التّعبير عن احتراق العاشق. لذلك يستحيل الحديث تلقائيّاً وبديهيّاً عن المحبوب كفعل حبّ يفوق قدرة إنسانيّة المحبّ على تحمّل هذا الاحتراق العشقيّ. فثمّة من اشتعلت النّار في كيانه فرمته أرضاً.
إنّ المحبّ يتحرّك باتّجاه المحبوب الجاذب بقوّة، والمضيّ إليه صعب، ومعرفة السّبيل أشدّ صعوبة، ويمسي الهدف الوحيد الإتيان إليه بأيّة وسيلة ممكنة.
ولو قدرت على الإتيان جئتكم
سعياً على الوجه أو مشياً على الراسِ
ويخرج المحبّ عن السّياق العام، والسّلوك العام سواء أكان سلوكاً اجتماعيّاً أم دينيّاً، ويتفلّت من الأطر المقيّدة لهذا الحبّ فيتخطّى ذاته والمجتمع والدّين والكون بأسره ليتحرّر وينصهر بالحبّ. فالنّظام الدّينيّ تحديداً لا يُرضي طموح المحبّ ولا يشفي غليله ولا يخمد ناره. بمعنى آخر، لا يكون الحبّ حبّاً إلّا إذا انطلق حرّاً ومتحرّراً من أيّ تفصيل وأي نظام. فليس من نظام خاصّ يعتمده المحبّ وإلّا لأحبّ جميع النّاس بذات الطّريقة. الدّين بشكله الظّاهريّ مرحلة يمرّ بها الإنسان حتّى يبلغ مقام المحبّ؛ لذلك يقول الحلّاج نفسه:  "كفرت بدين الله والكفر واجب عليّ وعند المسلمين قبيح"، وكأنّي بالحلّاج يفصل بينه وبين المسلمين، بين ما هو واجبه وما هو واجبهم. والمعنى في هذه الجملة دقيق جدّاً ولا بدّ من تبيّنه بما يتناسب ورؤية الحلّاج. فلقد جاءت الأحكام الشّرعيّة بالتّحذير من التّسرّع في إطلاق الكفر على المسلم. ولقد جاء عن الرّسول محمّد (ومن رمى مسلماً بكفر فهو كقتله) وفي الآية الكريمة: "يا أيّها الّذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا" (النساء:94) دعوة إلى عدم التّسرّع في إطلاق الكفر. ومن أسباب الكفر الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله، ما لم نقرأه أبداً عند الحلّاج. بل إنّ الحلّاج منجذب بقوّة إلى الله وهو المتحدّث عن الحقيقة المحمّديّة، وبالتّالي فالمعنى الّذي أراده الحلّاج بقوله (كفرت بدين الله) لا يتناسب ومعنى الكفر. كما أنّه لم يقل إنّ الكفر واجب على المسلمين، بل واجب عليه وهذا لشأن خاصّ به، نتج عن الانجذاب العشقيّ الخارج عن إرادة الحلّاج. إلّا أنّ هذا الكفر بدين الله ليس واجباً على المسلمين، فالحلّاج لا يسعى إلى محاربة الدّين، كما أنّه ليس موضوعه. وإنّما أتى معنى الكفر الواجب على الحلّاج في سياق الغوص عميقاً في العشق الإلهيّ. من هنا لا أهمّيّة لما يحكم به النّاس فدين الحلّاج هو الحبّ ودين النّاس للنّاس.
ما لي وللنّاس كم يلحونني سفهاً
ديني لنفسي ودين النّاس للنّاسِ
ولعلّ هذا البيت يتقابل  مع بيت محيي الدّين بن عربي:
أدين بدين الحبّ أنّى توجّهت
ركائبه فالحبّ ديني وإيماني
دين الشّيخ الأكبر هو الحبّ  ودين الحلّاج هو الحبّ، فالمحبّون الظّامئون إذا ما جذبهم الحبّ الأسمى حلّقوا في سماوات أخرى غير تلك الّتي يتمسّك بها العاطفيّون.



الأحد، 22 مارس 2020

الكينونة البشريّة إناء الفيضِ الإلهيّ



مادونا عسكر/ لبنان
الإيمان هو ذاك الاشتعال القلبيّ الّذي لا يُستدلّ عليه بالمنطق العقليّ أو البرهان المنطقيّ والحسّيّ. إنّه السّرّ بين الإنسان والحبّ الأعلى. ولئن كان الإيمان سرّاً / Mystère لزم التّأمّل بإشراق الله في القلب والتّصادق معه حتّى النّهاية في علاقة خاصّة، تتفاوت حميميتها من شخص إلى آخر. إلّا أنّ الإيمان مبادرة من الله أوّلاً، فهو المبادر بفيض النّور في القلب، وكلّ إنسان مدعوّ إلى التّفاعل مع هذا النّور، كلّ بحسب استطاعته. ولا يخلو الوجود من إنسان غير قادر على الانفتاح على النّور الإلهيّ "لأنّه يشرق شمسه على الصّالحين والأشرار، ويمطر على الأبرار والظّالمين". (متى 45:5) وعبارة الشّمس الواردة في الآية تعود إلى الله، فالشّمس هنا هي الشّمس الإلهيّة. وهي أبعد من المعنى المحصور في ضيق العبارة وعجزها عن شرح الإشراق الإلهيّ. إنّها، أي الشّمس، النّور الأعلى والأسمى الّذي لا يدركه عقل إلّا إذا استنار به.
يتجلّى الإشراق الإلهيّ أوّلاً ويمنح ذاته للكلّ دون محاباة أو تمييز. وهو متجلٍّ منذ الأزل كحقيقة تؤجّج القلب ليعشق فيتحرّك العقل ليبحث بالاستنارة الممنوحة له من القلب وليس العكس. إنّ حقائق الوجود تتّخذ مساراً معاكساً لتنطلق من العقل الباحث والمختبر حتّى يبلغ أهدافه من خلال التّجريب. لكنّ حقيقة النّور وإشراقه فيض يأسر القلب قبل العقل. فهذا الفيض غير معنيّ بالمعادلات المنطقيّة، بل هو لحظة خارجة عن الزّمان والمكان، متغلغلة في الوجود. فيض متجدّد مستمرّ، أقوى من الاستيعاب الإنسانيّ، وأعظم من المنطق البشريّ وأجلّ من العقل المشكّك والمتمرّد. ويظلّ هذا الفيض في مبادرة لا تنتهي متسرّباً إلى عمق الأعماق الإنسانيّة ليوقظ الأغوار السّاكنة حيث لا حسّ ولا سمع ولا بصر، حيث الصّمت المنتظر ثورة الحبّ ليرتبط بالله الحبّ. ولمّا كان الإنسان مخلوقاً على صورة الله ومثاله، ولمّا كان قد نفخ فيه نسمة حياة، فلا ريب أنّه قادر على استقبال هذا الفيض حتّى وإن كان يحيا في الظّلمة القاتمة، "لأنّ الله يشرق شمسه على الصّالحين والأشرار، ويمطر على الأبرار والظّالمين". 
ليس من أحد صالح بالكامل، وليس من أحد شرّير بطبيعته. الإنسان كيان يختبر ذاته ومحيطه ووجوده، وينتقل من مرحلة إلى أخرى. تارة يهوي وطوراً يرتفع، وتارة ينحدر إلى أسفل ترابيّته، وطوراً يرتقي إلى النّفحة الإلهيّة الكامنة فيه، حتّى إذا ما لسعه الفيض النّورانيّ وأضرم فيه نار الحبّ تلاشت قواه التّرابيّة وأشرقت مواهب النّور المنعَمِ عليه بها من النّور الّذي لا بدء له ولا نهاية. لا أحد يعلم متى تأتي السّاعة الّتي يحتدم فيها الشّوق الإلهيّ للإنسان، فينجذب إلى الحبّ وتزهر إنسانيّته. ولا أحد يقوى على الهروب من هذا الفيض النّورانيّ العشقيّ حتّى وإن كان غارقاً في بحر الموت، يتخبّط بأمواج الحقد والكره والضّغينة والسّخط والعداوة، "لأنّ الله يشرق شمسه على الصّالحين والأشرار، ويمطر على الأبرار والظّالمين".  
كلّما شرب الصّالح من النّور الإلهيّ ظمأ أكثر، وكلّما احترق به صمت وجاع  إلى المزيد من الاحتراق السّعيد. وأمّا السّالك في الظّلمة فلا بدّ من أنّه في لحظات قد تكون عابرة يتراءى له النّور، بغضّ النّظر عن قبوله أو رفضه. فالصّورة الإلهيّة المنطبعة فيه لا تبرح تقرع باب قلبه وتقلق منامه وتحرّك الضّمير.
نحن ننظر إلى الإنسان من خارج ونحكم على السّلوك دون العودة إلى الأحكام الظّرفيّة والتّربويّة ودون الأخذ بعين الإعتبار قسوة الاختبارات وبطش الأسى. فإذا نظرنا إلى الأعماق الإنسانيّة وجدنا التّعاسة الّتي يحياها ذلك الإنسان، وأشفقنا على شقائه وبؤسه. لكنّ الله الحبّ ينظر إلى تلك الأعماق ويلامسها بنوره. والإرادة الألهيّة أكبر من التّعاسة الإنسانيّة وبؤس العبوديّة الّتي يرزح تحتها وأعظم من العقل الضّعيف والمستكبر.
الكلّ مؤمن من جهة الله، والكلّ إناء للفيض الإلهيّ، والكلّ قلب عطش إلى تجرّع الحبّ الإلهيّ "لأنّ الله يشرق شمسه على الصّالحين والأشرار، ويمطر على الأبرار والظّالمين".

الجمعة، 17 يناير 2020

العلم والإيمان قوّتان لا تصارع بينهما



مادونا عسكر/ لبنان
يقول الفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل إنّ العلم لا يهدف إلى إنشاء حقائق ثابتة وعقائد أبديّة، بل يهدف إلى الاقتراب من الحقيقة بالتّقريب المتتالي دون الادّعاء أنّ الدّقة النّهائيّة والكاملة قد تحقّقت في أي مرحلة. ما يعني أنّ العلم يتّخذ مسار البحث المستمرّ عن الحقيقة ضمن ميكانيزم تفكيريّ يحدّده المنطق والاكتشاف  والتّجربة والنّتائج. ولا ريب في أنّ العلم لا يهدف إلى بناء عالم أبديّ أو توجيه الإنسان إلى العالم العلويّ. بل على العكس يروم إلى البحث في حركة التّاريخ وحركة الوجود والتّنقيب في هيكليّة الحياة الإنسانيّة على الأرض، ومعرفة مدى قيمتها من الكون بأسره، بغضّ النّظر عن تحديد ماهيّة العالم العلويّ أو العالم الإلهيّ. على عكس الإيمان الّذي يعتمد على تجذير العقيدة، وتحديد الحقائق الثّابتة الأبديّة والتشبّث بها كحقيقة لا ريب فيها.
من هنا يبدو تعارض قاسٍ بين المبدأ العلميّ والمبدأ الإيمانيّ إلّا إذا حصل فصل فكريّ متجرّد بين الاثنين، أي فصل بين لغة العلم ولغة الإيمان لتعارض جوهر المبدأين. فالمبدأ العلميّ جوهره عقليّ، وأمّا الإيمانيّ فقلبيّ. والمعرفة العلميّة تختلف عن المعرفة الإيمانيّة، فالأولى معرفة عقليّة تتحدّد بمقدّمات ونتائج، وأمّا الثّانية فمعرفة قلبيّة عميقة تتحدّد بحسب كلّ شخص وبحسب علاقته مع العلو. وبالتّالي فليس من ضرورة للحديث عن تعارض أو لا. ولا ينبغي الحديث أصلاً عن تعارض؛ لأنّ اللّغتين مختلفتين، وكلّ لغة تعبّر عن ذاتها في ما يخصّ الوجود والكون والخلق والنّهايات. ولمّا كانت اللّغتان مختلفتان وتمتلكان خصوصيّة في النّمط التّفكيريّ فلا مجال للحديث عن تعارض أو توافق. بل الأوْلى ترك كلّ لغة تتّجه في مسارها الخاصّ. وإذا تعارضت لغة العلم مع لغة الإيمان أو بمعنى أصحّ تنازعت اللّغتان وتجاذبتاـ يتعطّل مسار الإنسان التّطوّريّ والتّقدّميّ المواكب لحركة التّاريخ. فيتراجع الإنسان علميّاً وإيمانيّاً وإنسانيّاً، ويغرق في الجهل والسّخافة والتّدمير الممنهج حتّى لا يبقى من إنسانيّته إلّا غرائز تندفع فوضويّاً لتمنع العقل من الفكر الممنهج  وتعطّل الإيمان، فيتحوّل تعلّقاً بالقشور لا بالجوهر. وبقدر ما يتخطّى الإنسان دمج اللّغتين العلميّة والإيمانيّة، ويتجرّد من إسقاط الإيمان على العلم أو العكس، يحتفظ بإيمانه كأمر مشخّص ويسير قدماً في العلم كمسار لا بدّ منه للنّموّ والتّطوّر. تلك القدرة مرتبطة بالقدرة على التّحرّر الذّهنيّ والفكريّ من مبدأ امتلاك الحقيقة الإيمانيّة وربطها بالعلم لإثبات حقيقتها. وبقدر ما يدرك الإنسان أنّ لغة العلم غير لغة الإيمان يكون قد تحرّر من الصّراع القائم بين العلم والإيمان.
يقول القدّيس بولس في رسالته الأولى إلى كورنثس (8:1): " الْعِلْمُ يَنْفُخُ، وَلكِنَّ الْمَحَبَّةَ تَبْنِي"، وهنا يفصل بولس بين لغة العلم ولغة الإيمان، دون أن يستبعد العلم، لأنّه لم يقل إنّ العلم يدمّر والمحبّة تبني بل قال إنّ العلم ينفخ، أي إنّه إذا حوّل الإنسان إلى محتكر للحقيقة. لأنّه يتابع ويقول في الآية (2): " فإن كان أحد يظنّ أنّه يعرف شيئاً، فإنّه لم يعرف شيئاً بعدُ كما يجب أن يعرف". ما يعيدنا إلى قول سقراط: "كلّ ما أعرفه أنّني لا أعرف شيئاً"، وكذلك ما ذكره راسل عن أنّ العلم لا يهدف إلى إنشاء حقائق ثابتة وعقائد أبدية، بل يهدف إلى الاقتراب من الحقيقة بالتّقريب المتتالي دون الادّعاء أنّ الدّقة النّهائيّة والكاملة قد تحقّقت في أي مرحلة.
لكنّ بولس يعود ويقول إنّ المحبّة تبني، فالمحبّة لغة الإيمان تحاكي العمق الإنسانيّ وتبني فيه ما هو أبعد من الوجود الإنسانيّ الأرضيّ، وتطلق العنان لحرّيّته الدّاخليّة. وإذ يستنير بها العقل يتحرّر ويحاكي لغة العلم على اعتبارها لغة ضروريّة للتّقدّم والتطوّر. ويبقى العلم علماً والإيمان إيماناً. ولئن كان الإيمان مشخّصاً فلكلّ أن يؤمن بما يشاء ويترك العلم يمضي في مساره دون تعقيدات لا معنى لها. وقد يقود العلم إلى الإيمان بشكل أو بآخر، وقد يقود إلى الإلحاد، ومع ذلك من غير الممكن أن تتّحد اللّغتان؛ لأنّ ما للعلم هو للعلم، وما للإيمان هو للإيمان. للعلم منطقه ومقدّماته وأبحاثه ونتائجه، وللإيمان المحبّة الّتي تبني وترتقي به إلى العلوّ الإلهيّ. وأمّا العقائد والتّصوّرات الإيمانيّة والكتب المقدّسة فلا تتّخذ مساراً علميّاً إلّا في ما يخصّ العالم الإلهيّ. فالكتب المقدّسة ليست كتباً علميّة أو تاريخيّة وإنّما كتب روحيّة، تعزّز قيمة المحبّة الّتي تبني وتوطّد العلاقة بين العلوّ والعمق، بين الله والإنسان. وبقدر ما تبني المحبّة الإنسان يتقدّم نحو الإله، بغضّ النّظر عن مفهوم الإله عند كلّ شخص أو جماعة. وبقدر ما يتقدّم يزداد حبّاً وذوباناً في الذّات الإلهيّة ولا يعود يبحث عن الله في العلم أو بمعنى أصح، لا يعود ويبحث عن ماهيّة الله وعن كيف ولماذا ومتى، لأنّه بلغ الـ "هو".
ويتجلّى المعنى ذاته في سورة طه الآية 114: "فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا"، وأمّا في القول (ربّ زدني علماً) معنى أعمق للفظ (علم). إنّ هذا اللّفظ يترادف ومعنى المحبّة الّتي بها نعرف الله. فالآية تبتدئ بـ (تعالى الله الملك الحقّ)، ما يعني أنّ الاستدلال على المعنى يبدأ من علوّ أو يدور في العلم الإلهيّ، ولا ينطلق من الإنسان وإنّما من الله. وبالتّالي فكلّ المعاني المستقاة من الآية تدور في فلك العالم الإلهيّ. ثمّ يضيف (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) ليجعل من الكلمة الإلهيّة لغة المحبّة الّتي يمتلئ منها القلب ليعود ويحاكي لغة الله. لذلك يقول (ربّ زدني علماً) أي (ربّ زدني حبّاً)؛ لأنّ العلم بالله غير متاح إلّا بتمتمات إنسانيّة، وأمّا المعرفة القلبيّة المعتمدة على المحبّة الإلهيّة تتلمّس الله في الذّات الإنسانيّة. ولو كانت دلالة اللّفظ (علماً) مرتبطة بالعلم الإلهيّ فثمّة تناقض والتباس إذاً، لأنّ الإنسان لا يعلم الله فكيف يقول (زدني)؟ لكنّ المعنى العميق يكمن في الحبّ الإلهيّ الّذي يفيض في القلب فيحاكي القلب بلغة الحبّ الإلهيّة والحضور الإلهيّ، فيكون المعنى الحقيقيّ والعميق "ربّ زدنيّ حبّاً" ليستدلّ الإنسان ويتلمّس الـ"هو".
ليس من فصل بين العلم والإيمان، كما أنّه ليس من توافق، ولعلّ البحث في إثبات العلم إيمانيّاُ وإثبات الإيمان علميّاً مضيعة للوقت واعتراض لمسيرة التّقدّم الإنسانيّ. فليتّخذ كلّ مساره حتّى تلقى الإنسانيّة إنسانيّتها وتتحقّق بقدر ما يتيح لها العلم وبقدر ما يحلّق بها الإيمان كعلاقة حبّ بين الله والإنسان. والبحث عن إنسانيّة الإنسان وتحقيقها يحتاج إلى العلم والمحبّة، فالعلم من دون محبّة يحوّل الإنسان إلى وحش، وإذا استبعدت المحبّة العلم وحاربته لا تكون محبّة، وإنّما خداع وخبث ومراءاة.
قوّة العلم لا حدود لها، لأنّ العقل البشري قوة من قوى النّفس لا يستهان بها، كما يقول ابن سينا. والإيمان قوّة لا حدود لها، لأنّها قوّة الحبّ الّتي منها تُستمدّ كلّ قوّة تسعى وتخدم إنسانيّة الإنسان.

الجمعة، 10 يناير 2020

الذات الإلهيّة بين العلم والعبادة



مادونا عسكر/ لبنان
تكمن هوّة عظيمة بين العلم والعبادة كتلك الموجودة بين الكمال والنّقص. وملايين السّنين الّتي مضت والأخرى الآتية تسهم في اتّساع هذه الهوّة ما لم يتيقّن الإنسان أنّ الوجود الإلهيّ الخارج عن الزّمان والمكان، مغاير تماماً للوجود الإنسانيّ. وكلّ فكر يؤكّد علمه بهذا الوجود الإلهي أو يحتكر الحقيقة لشخصه أو جماعته يعيق التّأمّل وتطوّر الفكر ونموّه بحكم السّيطرة على العقول وإشغالها بصراعات تافهة مع أنّها تبدو مصيريّة. وهي تافهة وسطحيّة قياساً على الرّؤية التّأمّلية بهذا الوجود، والأكوان المحيطة بنا، وحضور الإنسان الهزيل في هذه الأكوان، وعدم قدرته على استيعابها، ورؤيته الملتبسة لها. ولئن كان الاستيعاب العقليّ والفكريّ للوجود المادّيّ ضعيف فلا ريب أنّ القدرة على استيعاب الوجود الإلهيّ أضعف، بل معدوم إلّا من خلال التّصوّرات العقائديّة الّتي بالكاد تقدّم تمتمات عن الحضور الإلهيّ. وبقدر ما يعي العقل أنّه عاجز عن إدراك هذا الحضور بتمامه، وبقدر ما يقتنع بأنّ الدّخول إلى عالم الوجود الإلهيّ اختبار شخصيّ وعلاقة عميقة لا يمكن تفسيرها أو تأكيدها بالأدلّة القاطعة، لأنّ الدّليل مشخّص ومرتبط بين الإنسان والله، تتهاوى الصّراعات والنّزاعات الّتي يقودها الإنسان بشكل عام باسم الله.
لعلّ انكباب العقل على محاولة إدراك الجوهر الإلهيّ وإصراره على معرفته اليقينيّة يضلّ عن الطّريق الصّحيح الّذي يقود إليه. ولعلّه ليس مطلوباً من الإنسان أن يعرف جوهر الله أو الاجتهاد في فهم هذا الحضور الإلهيّ فهماً عقليّاً. وإنّما المطلوب محاكاته في العمق بلغة أخرى غير تلك الّتي يتوجّه بها الإنسان إلى الله وكأنّه يعرفه تماماً. يقول القدّيس يوحنّا فم الذّهب: "ليست طبيعة الله غير مدركة وحسب، بل عنايته بنا وتدابيره فوق إدراكنا". الإنسان أمام محيط واسع جدّاً وعميق جدّاً، وما هو إلّا نقطة لا تقوى على استيعاب المحيط بأكمله. فالنّقطة تعي ذاتها بقدر ضئيل، لأنّها تدرك كينونتها الظّاهرة. وأمّا إدراكها الكامل والعميق لذاتها غير ممكن لأنّها مرتبطة بالمحيط. وبقدر ما تتوغّل في عمقه تستشفّ بعضاً من كينونتها. ما يذكّر بنصّ لمحيي الدّين بن عربي في الفتوحات المكّيّة:
لو علمته لم يكن هو،
ولو جهلك لم تكن أنت:
فبعلمه أوجدك،
وبعجزك عبدته!
فهو هو لِهُوَ: لا لَكَ
وأنت أنت: لأنَت ولَهُ!
فأنت مرتبطٌ به،
ما هو مرتبطٌ بك.
الدّائرة مطلقةً
مرتبطةٌ بالنّقطة
النّقطة مطلقةً
ليست مرتبطة بالدّائرة
نقطةُ الدّائرة مرتبطةٌ بالدّائرة.
الـ "هو" الّذي لا يحدّه اسم أو حضور أو زمان أو مكان، الخارج عن محدوديّة الفكر الإنسانيّ يتعارض وأيّة صورة أو تصوّر يمكن تكوينه عنه. إنّه الـ "هو" الّذي ليس مثله شيء. وإذا كان هو الّذي هو لا يشبه أيّ شيء يمكن من خلاله الاستدلال عليه فالتّصوّر عنه يبقى ملتبساً أو ناقصاً. فالعلم به ليس علماً به بل بتصوّر شخصيّ عنه. والتّأكيد على اليقين المعرفيّ عنه يتنافى وقدرة الإنسان الفكريّة على تحديد جوهره أو طبيعته، لأنّ النّاقص لا يحدّد الكامل. وبحكم أنْ ليس مثله شيء تنبغي محاكاته بتجرّد فكريّ وقلبيّ. ويعتمد هذا التّجرّد على البحث التّأمّلي في الكائن الّذي ليس مثله شيء بعيداً عن كلّ شيء ندركه بالحواس أو بالعقل بحكم المحدوديّة والنّقص. هذا الوجود المتفلّت من كلّ شيء والحاضر والحاضن لكلّ شيء يفترض محاكاة متفلّتة من كلّ شيء. ولعلّ الأنا الإنسانيّة العميقة لا الظّاهرة قادرة على هذا التّأمّل، لأنّ في هذه الأنا ما هو أبعد من كينونتها الظّاهريّة، وفي عمقها وجود يخترق الحدود، وهو الوجود العالم بها. ولو كان غير عالم بها لما وجدت.
لو علمته لم يكن هو،
ولو جهلك لم تكن أنت:
فبعلمه أوجدك،
وبعجزك عبدته!
عبد الإنسان الله انطلاقاً من ضعفه وعجزه ما لا يقوده إلى العلم به. وأمّا الّذي اختبره في أعماقه، في الأنا المتفلّتة من الحدود سلك سبيل الذّوبان فيه. فعرفه بقدر ما عرفت الأنا حضوره في عمقها. وأمّا "هو" فبعلمه أوجد الإنسان، وعلمه عشق بذاته يفوق الإدراك. لذلك فالإنسان مرتبط به بحكم العلم الإلهيّ الّذي أوجده. لكنّ الله ليس مرتبط بالإنسان لأنّ الله هو العشق/ المحيط الحاضن لذرّة عشق، الإنسان. 
الدّائرة مطلقةً
مرتبطةٌ بالنّقطة
النّقطة مطلقةً
ليست مرتبطة بالدّائرة
الذّات الإنسانيّة مرتبطة بالذّات الإلهيّة من حيث حرّيّة العشق، فالعشق غير مشروط وغير مقيّد وغير خاضع لظروف ولا يتضاءل، بل إنّه يمضي ويستعر حتّى تضيق الذّات بذاتها. فالعشق الإلهيّ فيض في العمق الإنسانيّ يعمل في أغوار النّفس ويجذبها إليه. فدائرة العشق مطلقة مرتبطة بذرّة العشق/ الإنسان. وعمق الإنسان ذي النّفحة الإلهيّة مطلق مرتبط بالمعشوق الإلهيّ. (نقطةُ الدّائرة مرتبطةٌ بالدّائرة).

السبت، 19 يناير 2019

السّعادة البشريّة وتجليّاتها الإلهيّة



مادونا عسكر/ لبنان
إنّ سرّ فرح الإنسان هو لقاؤه بالله. ولا يدرك هذا الفرح إلّا الّذين اختبروا عميقاً حضور الله السّعيد في أعماق نفوسهم. الله السّعيد أو الله السّعادة، ذلك هو فرح الإنسان الحقيقيّ والباقي تفاصيل تمهّد لهذا اللّقاء الّذي يستلزم نقاء القلب المحبّ. "طوبى للأنقياء لأنّهم يعاينون الله" (متّى 8:5).
لم يجد الإنسان تعريفاً حقيقيّاً للسّعادة؛ لأنّها غير مدرَكة في هذا العالم. ولعلّ مفهومها هشّ وسطحيّ عند الّذين يربطون السّعادة بالمادّة أو العاطفة أو النّجاح. إنّ هذه السّعادة ليست سوى حالة سرور مؤقّت ما تلبث أن تخمد في انتظار حالة جديدة. وأمّا اللّقاء بالله فهو حالة السّعادة الحقيقيّة الّتي لا تنتهي؛ لأنّ هذا اللّقاء يأسر الإنسان ويخرجه من ذاته ليغرق في القلب الإلهيّ. ومن يلج هذا القلب لا يمكنه العودة. فإذا كان الإنسان يدخل السّعادة في لحظة لقاء المحبوب الإلهي فكيف يمكن وصف السّعادة الإلهيّة؟ الإنسان ينتقل من حالة البؤس إلى حالة السّعادة عند اللقاء بالله، كما هو الحال في لحظة الخلق. بمعنى آخر، كان الإنسان حاضراً في الفكر الإلهيّ ثمّ خلقه الله على صورته كمثاله. وكما أنّه خُلق من صلب المحبّة الإلهيّة كذلك يُخلق من جديد من صلب السّعادة الإلهيّة. حين تلد الأمّ ابنها تشعر بسعادة لا يعرفها إلّا هي، ولا يدرك مكنونها إلّا الأمّ كمانحة للحياة. وترافقها هذه السّعادة كلّما التفتت إلى ثمرة أحشائها، وكلّما أعطت من ذاتها ليحيا ولدها وتظلّ تتنعّم بها إلى أن تلفظ أنفاسها الأخيرة. هذا الشّعور غير الموصوف الّتي تعجز اللّغة عن وصفه ويعجز العقل عن شرحه يمكن أن يجعلنا نتلمّس السّعادة الإلهيّة لحظة الخلق.
لقد خلق الله كلّ شيء بسعادة؛ لأنّه يرى أنّه حسن، أي أنّ فيه جمالاً خاصّاً. لكنّه لمّا أراد أن يخلق الإنسان قال: "لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا" (تكوين 26:1). والقول مرتبط بالصّنع، فدلالة القول تشير إلى أنّ الإنسان كان حاضراً في الفكر الإلهيّ والصّنع دلالة على ارتباط الفكر بالحبّ الإلهيّ، لأنّ الله صنع الإنسان على صورته، بعد أن خلق كلّ شيء بفعل "كن". (ليكن نور...) لكنّه لم يقل ليكن الإنسان، ما يدلّ على ارتباط مباشر وخاص بالصّورة الإلهيّة. وبعد خلق الإنسان نظر الله ورأى أنّ ما صنعه حسن جدّاً. تؤكّد عبارة (حسن جدّاً) سعادة اللّحظة، لحظة الخلق، اللّحظة الّتي خرج فيها الإنسان إلى نور الأرض. إنّها سعادة الله بالحضور الإنسانيّ، ولحظة انفجار الحبّ الإلهيّ الّذي أوجد الإنسان الّذي على صورة الله.

إذا كان في الأبناء شيء من صورة والديهم، فلا بدّ من أنّ في الإنسان صورة خالقه. ولا نقف عند الصّورة الماديّة، بل ندخل إلى عمق الصّورة وتفاصيلها. ففي الإنسان ما هو إلهيّ، وهنا ينبغي التّوقّف عند مفهومنا لله حتّى نتلمّس بعضاً من السّعادة الّتي ملأت الكون لحظة خلق الإنسان. كما يلزمنا أن نبتعد وننسى كلّ ما صُدّر إلينا عن الله  من إسقاط الفكر الإنسانيّ على الفكر الإلهيّ. ويعوزنا أن نرتقي ونرتفع إلى مستوى الكلمة الإلهيّة لندرك معنى السّعادة الإلهيّة.
الله ينظر إلى الإنسان بدهشة (ورأى أنّ ما صنعه حسن جدّاً). إنّها دهشة الحبّ الّتي تنعكس على الإنسان المتعطّش إلى جماله الأوّل (على صورته كمثاله). فيمسي في ذات الدّهشة عندما يلتقي بالنّور الإلهيّ. لذلك نرى كلّ العاشقين لله في حالة صمت وفرح واحتمال؛ وذلك لأنّهم يعاينون الصّورة الأصل والجمال الّذي خُلقوا على صورته. إنّها الدّهشة السّعادة الّتي تنمّي الحسّ الإنسانيّ الحقيقيّ. وإلّا فكيف نفهم سعادة الحلّاج المصلوب الّذي تفنّن في قتله مُعادو الجمال والحبّ؟ وكيف نتبيّن سعادة القدّيس أغناطيوس الأنطاكي وهو يخطو نحو الوحوش كما يطأ الملكوت؟ وكثيرون ممّن غمرتهم السّعادة الإلهيّة وأخرجتهم فعليّاً من العالم فتمازجت أرواحهم بالله، أدركوا السّعادة الّتي يبحث عنها كلّ إنسان. لكنّ الإنسان غالباً لا يعرف كيفيّة البحث، أم إنّه ينجذب إلى سعادة وهميّة فيبني حاجزاً بينه وبين السّعادة الإلهيّة.
الله السّعادة حقيقة يكتمل بها الإنسان وسيظلّ يتخبّط في قلقه وخوفه وفوضويّته ما لم يدرك هذه الحقيقة الّتي تعرّفه على سبب وجوده في العالم، ألا وهو اللّقاء بالسّعادة الإلهيّة.

الأحد، 6 يناير 2019

السّبيل إلى الكمال الإنسانيّ



نظرة في "درجات الكمال التّسع" للقدّيس يوحنا الذّهبيّ الفم
مادونا عسكر/ لبنان
كثيرون يبحثون عن الكمال وذاك مطلب إنسانيّ فطريّ يسعى إليه الإنسان. لكنّ هذا البحث عن الكمال غالباً ما يرتبط بالظّاهر الإنسانيّ فيتوه الإنسان عن الطّريق الحقيقيّ الّذي يبلّغه الكمال، خاصّة إذا كان غير مدركٍ لدلالة الكمال. أو يرتبط بالكمال الإلهيّ، وذاك غير ممكن دون المرور أوّلاً بالكمال الإنسانيّ. ما يسلّط الضّوء عليه القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم في "درجات الكمال التّسع"، مظهراً السّبيل إلى الكمال الإنسانيّ بهدف بلوغ الكمال الإلهيّ. وحين نتحدّث عن كمال إلهيّ لا نريد به المساواة مع الله. وإنّما الكمال الإلهيّ أو الاكتمال بالله هو اتّحاد عشقيّ يفوق التّصوّر كما يفوق قدرة الإنسان نفسه على العشق. فإذا بلغ الإنسان هذا الاتّحاد بلغ الكمال الحقيقيّ الّذي يخرجه من العالم ليحيا مع الله وبالله وهو في قلب العالم.
دخل القدّيس يوحنّا فم الذّهب في عمق التّركيبة الإنسانيّة المعقّدة، ولم يقف عند حدود الوعظ. فمعلّم المسكونة  يسهم في بناء الإنسان الكامل الّذي على صورة الله ومثاله.
 - الدّرجة الأولى: ألّا يبدأ الإنسان بظلم أخيه:
تتعدّد أوجه الظّلم ودرجاته. من الظّلم بالفكر، إلى القول، إلى الفعل. ولعلّ القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم أراد بالدّرجة الأولى معنى الظّلم الّذي ينطلق من الفكر الّذي لا يقلّ أهمّيّة عن الظّلم بالفعل. فالفعل نتيجة وبالتّالي فلا بدّ من استئصال الظّلم من الفكر أوّلاً حتّى لا يبلغ الظّلم الفعليّ. تلك هي الدّرجة الأولى الّتي تبدأ بتنقية الفكر أوّلاً فلا يبدأ الإنسان بظلم أخيه الإنسان. وعبارة (ألّا يبدأ) تضع الإنسان أمام حالته الأولى أو صورته الأولى الّتي على صورة الرّبّ، وتبقيه في حالة النّقاء حيث أنّه لا يقدم على ظلم أخيه ولا يكون المبتدئ بالظّلم. ما يعني أنّ المبتدئ بالظّلم لا يسعه ارتقاء أولى درجات الكمال؛ لأنّ في الظّلم تعدّياً على الآخر، وبالتّالي انفصال عن الله أي عن المحبّة. فكيف يمكن للإنسان عندها أن يخطو نحو الكمال؟
-  الدّرجة الثّانية: إذا أصيب الإنسان بظلم فلا يثأر لنفسه بظلم أشدّ، وإنّما يكتفي بمقابلة العين بالعين والسّنّ بالسّنّ (المستوى الناموسي القديم):
ينتقل القدّيس يوحنا الذّهبيّ الفم من الظّلم بالفكر ليعالج التّركيبة الإنسانيّة في ردود أفعالها. وهو الّذي يعي أنّه من غير الممكن أن يبلغ الإنسان الكمال دون الانتقال من مشروع إنسان إلى إنسان. كما أنّه من غير الممكن أن يتخلّى عن ردود أفعاله دون التّدرّب على ضبط النّفس ضمن إطار المحبّة وليس ضمن إطار القمع. (إذا أصيب الإنسان بظلم فلا يثأر لنفسه بظلم أشدّ)، وما عبارة (بظلم أشدّ) إلّا تدريب على ضبط النّفس فيكتفي الإنسان بردّة فعل طبيعيّة تجاه الظّلم الّذي أصابه. ويعامِل بحسب ما عومل وبحسب الطّبيعة الإنسانيّة الّتي ما زالت عند حدود الإنسان القديم الّذي لم يولد بعد من جديد بالمسيح. فالمولود من جديد مولود بحسب الرّوح فيصبح ابناً لله. وبحسب هذه البنوّة يتصرّف. ما يقودنا إلى الدّرجة الثّالثة.

 -
الدّرجة الثّالثة: ألّا يقابل الإنسان من يسيء إليه بشرّ يماثله، إنّما يقابله بروح هادئ:
إنّ ضبط النّفس هو ضبط فكريّ ونفسيّ في آن. فالإنسان إذا ما بلغ الدّرجة الثّالثة انشغل عن العالم مهتمّاً بما فوق. فيمتلئ هدوءاً وسكينة  تسمحان له بمقابلة فعل الشّرّ بصمت الحكمة والتّفهّم والمحبّة. وإلّا فكيف يقابل الإنسان الشّرّ بروح هادئ ما لم يكن ممتلئاً بالحبّ الإلهيّ؟ هذا الاستيعاب الفكريّ والنّفسيّ والرّوحيّ دليل تمرّس بالمحبّة الإلهيّة لأنّ الطّبيعة الإنسانيّة تميل إلى مقابلة الشّرّ بالشّر، إمّا انطلاقاً من الحقوق والواجبات، وإمّا انطلاقاً من ردّة الفعل التّلقائيّة دفاعاً عن النّفس. ومقابلة الشّرّ بروح هادئ لا تلغي الدّفاع عن النّفس كما يظنّ البعض، بل إنّ الرّوح الإنسانيّة الهائمة في المحبّة الإلهيّة تدرك عمق الآخر فتقابل بهدوء  لتُعمل الحكمة أي العقل المستنير في كيفيّة التّعامل مع هذا الفعل.  
 - الدّرجة الرّابعة: يتخلّى الإنسان عن ذاته، فيكون مستعدّاً لاحتمال الألم الّذي أصابه ظلمًا وعدوانًا :
يتّسم قول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم بالدّقّة: (يتخلّى الإنسان عن ذاته) فهو إن تمسّك بها أي إن تمسّك بإنسانيّته الخارجة عن المحبّة الإلهيّة فلن يكون مستعدّاً لتحمّل أي شيء. والتّحمّل قدرة تلقائيّة نتيجة الدّرجات الثّلاث الأولى. وهو يتطلّب وعياً شديداً ومحبّة كبيرة حتّى لا يستحيل إلى خضوع واستسلام. فالفرق شاسع بين الاستسلام والتّحمّل. الاستسلام خضوع لفعل الشّر وضعف وخوف. وأمّا التّحمّل فهو بهدف الارتقاء والتّرفّع عن فعل الشّر الّذي يهين المحبّة الإلهيّة ويجرح الله في صلب محبّته. فيكون تحمّل الظّلم إدراكاً لأسباب الفعل بقوّة وحكمة المحبّة.
 - الدّرجة الخامسة: في هذه المرحلة لا يحتمل الألم وحسب، وإنّما يكون مستعدًا في الدّاخل أن يقبل الآلام. أكثر مما يودّ الظّالم أن يفعل به، فإن اغتصب ثوبه يترك له الرّداء، وإن سخّره ميلًاً يسير معه ميلين:
قبول الآلام جزء لا يتجزّأ من المحبّة. وعلى عكس ما يظنّ البعض أنّ احتمال الألم نوع من تخدير للطّاقة الإنسانيّة. الاحتمال يحتاج إلى قوّة محبّة هائلة لا يقوى عليها إلّا من امتلأ حبّاً. "المحبّة تحتمل كلّ شيء، وتصدّق كلّ شيء، وترجو كلّ شيء، وتصبر على كلّ شيء." (1كورنثس 7:13). المحبّة تحتمل وتصدّق وتصبر، لأنّها قوّة بمنطق الله لا بمنطق العالم. ومن يتدرّج سلّم الكمال لا بدّ من أنّه تمنطق بالمحبّة الإلهيّة ووعى أنّها فعل إلهيّ لا إنسانيّ.
في الدّرجة الخامسة، بعد أن تخلّى الإنسان عن ذاته، أي أفرغها من التّشوّهات وامتلأ من الله يكون مستعدّاً ليحتمل الألم النّاتج عن غربته في العالم. لذلك يستغني عن كلّ شيء ويمسي كلّ مقتنىً غير مهمّ ولا قيمة له، لأنّ المحبّ خرج من منطق العالم وبات مأخوذاً بالنّور الإلهيّ. فأيّ قيمة لمقتنىً أو ملك أمام عظمة الله. "بل إنّي أحسب كلّ شيء أيضاً خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربّي، الّذي من أجله خسرت كلّ الأشياء، وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح" (فيليبي 8:3). وليس الحديث هنا عن آلام جسديّة؛ لأنّها أمر طبيعيّ، وإنّما الحديث عن ألم المحبّة.
 - الدّرجة السّادسة: أنّه يحتمل الظّلم الأكثر ممّا يودّه الظّالم دون أن يحمل في داخله كراهيّة نحو العالم:
يفقد السّالك درب الكمال كلّ قدرة على الكراهية؛ لأنّه ممتلئ بالمحبّة ومستنير بها. والامتلاء بالمحبّة يتحدّد بالقدرة العقليّة على الاستنارة والتّفكير بالمنطق الإلهيّ. كما يتبيّن من خلال السّلوك الّذي ينطلق من الحبّ الإلهي لا من الحبّ الإنسانيّ. يلغي هذا الامتلاء كلّ قدرة على الكراهية أو الحقد أو النّقمة فيصبح الإنسان حاملاً الطّبع الإلهيّ إن جاز التّعبير، غير مدرك لمعنى الكراهية أو الحقد.
-  الدّرجة السّابعة: لا يقف الأمر عند عدم الكراهيّة وإنّما يمتدّ إلى الحبّ... "أحبّوا أعداءكم":
لا يكفي ألّا نكره فالفاقد للإحساس لا يكره ولا يحبّ. وقد يمرّ أي إنسان في هذه الحياديّة إذا ما بلغ حدّة ما في مشاعره أو تعرّض إلى أذى شديد. إلّا أنّ الكمال لا يعرف هذه الحالة، لأنّ الإنسان السّاعي إلى الكمال مغمور بالمحبّة كفضيلة إلهيّة لا كشعور عاطفيّ تجاه أشخاص محدّدين. ولقد استند القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم على قول السّيّد المسيح "أحبّوا أعداءكم" ولعلّ الكلمة الأصحّ الّتي تضبط المعنى أكثر هي (معاديكم). فيصبح القول "أحبّوا معاديكم". لأنّ المحبّ العاشق لله لا أعداء له؛ لأنه لا يعتبر أحداً عدوّه.  لكنّه يواجه معادين للمحبّة. واللّافت في هذه العبارة (أحبّوا أعداءكم) أنّ الفعل (أحبّوا) في صيغة الأمر. ما يعني أنّ الحبّ الإلهيّ قرار وفعل إراديّ. الكمال هو أن تقرّر أن تحبّ. ما يصعب على الذّات الإنسانيّة المنفصلة عن المحبّة الإلهيّ، غير الممتلئة بها. لذلك نرى الإنسان يتخبّط بين مشاعر الحبّ والكره، وذلك لأنّ الحبّ الإنسانيّ عاطفة هشّة.
 - الدّرجة الثّامنة: يتحوّل الحبّ للأعداء إلى عمل، وذلك بصنع الخير "أحسنوا إلى مبغضيكم"، فنقابل الشرّ بعمل خير:
يدخلنا القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم في دائرة العمل الإلهيّ، عمل الحبّ. تقرّر أن تحبّ فتفعل وتعمل من أجل أن يمتلئ الكون كلّه حبّاً حتّى يتلاشى الشّرّ ويندثر. في الدّرجة الثّامنة، تبرز قيمة الخير كقوّة محوّلة لفعل الشّرّ. فمقابلة الشّرّ بالخير حكمة لا يفهمها إلّا من تمنطقوا بالمحبّة الإلهيّة. "أيّها الحبيب، لا تتمثّل بالشّرّ بل بالخير، لأنّ من يصنع الخير هو من الله، ومن يصنع الشّرّ، فلم يبصر الله." (3 يوحنّا 11:1) الممتلؤون من الله، من الحبّ يترفّعون حكماً عن كلّ ردّة فعل منافية للمحبّة، لأنّه إذا أبصرت الحبّ ومازجت روحك روحه فكيف لك ألّا تقابل كلّ أمر بالحبّ؟
 - الدّرجة التّاسعة والأخيرة: يصلّي المؤمن من أجل المسيئين إليه:
ذروة الكمال الدّخول في سرّ الحبّ، الصّلاة، الصلة بالله الحبّ. فالصّلاة ليست ترداداً لآيات وعبارات، وإنّما هي صلة عميقة بالله. صلاة في داخل الدّاخل من أجل أن يغزو الحبّ العالم حتّى يخلص من شقائه. وبذلك وإذا ما بلغ الإنسان رتبة الكمال امتزج بالله وبالإنسان. فالحبّ يسير باتّجاه عموديّ نجو الله وآخر أفقيّ نحو الإنسان وإلّا فكيف يمكن أن تحبّ الله الّذي لا تراه ولا تحبّ أخاك الّذي تراه؟ (1يوحنّا 20:4).

الألم الواعي في مواجهة الزّيف



مادونا عسكر/ لبنان
المرحلة الأخطر الّتي يمكن أن يبلغها الإنسان في مراحل حياته هي تلك الّتي يُشعره فيها العالم أنّه على خطأ إذا ما حافظ على مبادئه وقناعاته. فينهكه الصّراع الدّاخليّ بين الصّواب والخطأ، وقد يهزمه ويحوّله إمّا إلى الانعزال، وإمّا إلى الانجرار إلى تفاهات هذا العالم، وذلك بحكم عدم القدرة على المقاومة.
يجب أن نعترف أنّ هذا العالم الفاني لا يحمل الكثير من الفرح والاكتفاء للإنسان، وذلك بغضّ النّظر عن قناعاتنا الدّينيّة والفكريّة، وبغضّ النّظر عمّا سيؤول إليه هذا العالم. العالم، كمرحلة مؤقّتة، قصيرة كانت أم طويلة، هي مرحلة مربكة للتّفكير، كما أنّها تفترض تساؤلات عديدة في مواجهة إجابات شحيحة. والّذين يعيشون على هامش الحياة لا يلتفتون إلى أهمّية التّعمّق في جوهر العالم وقيمته وسببه وغايته. فهم يحاولون الاستفادة قدر الإمكان من ماديّة العالم ظنّاً منهم أنّ الحياة تكمن في تلك القيود الذّهبيّة. ومن قيد إلى قيد، يغرقون في دوّامة المادّة حتّى تشكّل عبئاً من العسير التّفلّت منه. ترادف دلالة المادّة كلّ ما هو فانٍ، وما هو الباقي في هذه الحياة؟
 يؤدّي هذا التّعلّق بالمادّة الفانية إلى ما نراه من حولنا من فساد وإهمال واستهتار وتفاهات لا تُعد ولا تحصى دون الأخذ بعين الاعتبار "الأنا" الّتي ينبغي البحث عنها. فيقتصر الموضوع على الاهتمام بالأنا الخارجيّة. وكلّما تمسّك الإنسان بأناه الظّاهريّة ابتعد عن أناه الحقيقية وعن الآخر أو اقترب منه بقدر ما تسمح المصلحة. فتمسي العلاقات مرتبطة بالمصلحة إيجابيّاً أو سلبيّاً وغير مرتبطة بالشّخص كشخص. المادّة نقطة التقاء زائفة تجعل من الحياة الظّاهريّة وهماً، لكنّها في العمق تخفي حقيقة تحتاج للبحث والتّأمّل. تلك الحقيقة لامسها أفراد قليلون فانعزلوا ليتعاملوا معها كحياة حقيقيّة. وما انعزالهم إلّا تفرّد في اتّخاذ قرار مقاومة العالم. فينفصلون عن العالم ولا يتعلّقون بشيء فيتحرّرون من كلّ شيء. يقاومون بعنف هادئ، بألم يرتقي بهم إلى مستوى الحقيقة، بحبّ لا يعرفه العالم. ولو عرفه لأدرك الموت الّذي يحياه. هؤلاء المنعزلون يعانون ما يعانون لا من العزلة بل من مستوى الإدراك الّذي بلغوه، وهو الحقيقة الزّائفة الّتي يحياها العالم، ويستمتع بها. الألم الحقيقي يكمن في قوّة الوعي، وبلوغ النّضج الّذي يسلّط الضّوء على عتمة الجهل الكامن في النّفس الإنسانيّة، فيهجرون أنفسهم ليلقوها في دائرة الحقيقة، دائرة العشق. وهم في هذه الدّائرة يواجهون العالم بصمت وحكمة ولكن بألم، ألم الواعين الّذين ما برحوا في العالم وهم منفصلون عنه. هم لا يقاومون أشخاصاً وإنّما منهج العالم الّذي لا يمثّلهم ولا ينتمون إليه.
من هذه المقاومة يتفجّر الفكر والجمال والحكمة، لأنّها على اتّصال بالحبّ، ولأنّها مقاومة داخليّة غير ظاهرة للعلن تسهم في التّوازن الإنساني والتّوق إلى ما بعد هذا العالم، حيث الحرّيّة والاكتمال. فيؤثّرون في بعض النّفوس، وينتشلونها من بؤسها الإنسانيّ، ويربكون أخرى مستعبدة.
هذا العالم بكلّ ما فيه بقعة ضوء باهتة يتصارع فيها الإنسان معها ومع ذاته دون أن يفهم سبب هذا الصّراع. يهدر الكثير من الوقت في بناء حقيقته الهشّة غير متنبّه إلى حقيقة أسمى ولد من أجلها ويخلص إليها. ولا يبلغ سلام القلب إلّا بقدر ما يستغني عن العالم غير متعلّق به، حاسباً إيّاه لحظة عابرة في أبديّة قائمة. 

الله بين تصوّر العلم والاختبار والحبّ



مادونا عسكر/ لبنان
الّذين يكرهون الله لا يعلمون أنّهم يحبّونه بشكل أو بآخر. فالمسألة غير متعلّقة بإرادتهم في الحبّ الموجّه إليه، بل هي متعلّقة بنوره المشرق على الأبرار والأشرار. في المنطق الإلهيّ، ليس من أشخاص أشرار، وإنّما أفعال شرّيرة تخاف النّور فتبني جداراً يعزلها عنه. وأمّا هو فحاضر أبداً.
الّذين يكرهون الله ويتّهمونه ويعيدون إليه أسباب مآسيهم ومعاناتهم، هم أولئك الّذين تربّوا على أنّ الله، إمّا حاكم متفرّغ لقهر الإنسان، وإمّا شخص مكرّس لتلبية طلباتهم. فيبقون عند مرحلة الطّفولة في ما يخصّ العلاقة معه. أطفال، إذا ما رُفضت طلباتهم، ثاروا وتحوّلوا إلى مُعادين. لكنّ هذا العداء يخفي حبّاً يتلازم والطّبيعة الإنسانيّة الّتي ما زالت في أسفل الدّائرة تحاكي رغباتها السّطحيّة والفانية. فالتّعلّق بأسفل الدّائرة الوجوديّة يحجب نظر الإنسان ويعيق التطلّع إلى فوق. ما يمنع بناء علاقة مع الله، لأنّ الحبّ البشريّ لا يستطيع أن يتسلّق مدارج النّور. ولئن كان الحبّ البشريّ مجموعة مشاعر قابعة في مستنقع الضّعف البشريّ، والتّناقض العاطفيّ، ارتبط بتصوّرات خاصّة عن الله غير معنيّة باختبار قلبيّ عميق، على ضوئه يلتقي بالله الشّخص، الله النّور، الله الحبّ. ما يحول بين الإنسان وهذا الاختبار هو إسقاط الأفكار الشّخصيّة على الفكر الإلهيّ بدل الانقياد إلى هذا الحبّ. أي أنّ الإنسان يريد إلهاً على قياس بشريّته الفانية. وفي ذات الوقت يريد إلهاً حاضراً له بشكل خاص، خاضعاً لرغباته، مذعناً لتساؤلات أشبه بتحقيق وعلى الله أن يجيب عليها وإلّا تمّت معاداته. ليست المشكلة في التّساؤلات، بل هي مشروعة ومطلوبة حتّى تتشكّل علاقة واعية بين الإنسان والله. لكنّ المشكلة في عدم احترام الإنسان لاختلاف الله عنه. وهذا يعود إلى التّربية القمعيّة الّتي تستبعد احترام الاختلاف. ما يؤدّي إلى تشكّل مشاعر الكره والعداء والرّفض وربّما المحاربة.
من أصعب المراحل الّتي تمرّ فيها النّفس الإنسانيّة هي تلك الّتي تحيا قلق محاربة الله. وهي لا تعي أنّها تحارب عبثاً، لأنّ الطّرف الآخر، أي الله، لا ينحدر إلى مستوى ردود الأفعال الإنسانيّة، وإلّا لانقرض الجنس البشري منذ البدء. فالله لا يحمل في ذاته أفعالاً وردّات أفعال، ولا يفعل أو لا يفعل. إنّه الفعل. النّور المتسرّب بصمت منتظراً تفاعلاً من الإنسان. الّذي يحارب الله يحارب ذاته ويتخبّط في مفاهيم وحقائق يلتقطها من هنا وهناك ويستند إليها وكأنّها حقائق مطلقة. فيقلق ويتساءل ويمعن في التّساؤل الّذي لا ينتظر جواباً، لأنّه يريد إدانة الله لا الحوار معه.
إنّ الّذين يطّلعون على حقائق ودراسات عن الكون والوجود ونقطة البداية والنّهاية، والدّراسات التّاريخيّة، يظنّون أنّهم كشفوا حقيقة الله المزيّف. بيد أنّ كلّ هذه الدّراسات والحقائق تبقى ضمن إطار التّجربة الإنسانيّة. وبناء عليه وجب الفصل بين الاقتناع بها والعلاقة مع الله. أن يبدأ الكون بشكل ما أو ينتهي بشكل آخر، فذاك لا يلغي الوجود الإلهيّ. فموضوع هذه الدّراسات ليست الذّات الإلهيّة، وإنّما هي بحث عقلانيّ عن حقيقة الوجود ولا ريب في ذلك. والبحث في التّاريخ الإنسانيّ وتبيّن أحداث معيّنة قد تتناقض والموروث الدّينيّ والإيماني لا تمس الحضور الإلهيّ، وإنّما تعبّر عن مسيرة الإنسان واختباراته التّاريخيّة الإنسانيّة. ولا يستطيع الإنسان أن يخضع الحضور الإلهيّ لفلسفته ومنطقه العقلانيّ؛ لأنّه ليس أمام معادلة حسابيّة أو فكرة. لذلك فالّذين بعد قراءات ودراسات علميّة وفلسفيّة وتاريخيّة واختبارات شخصيّة يكرهون الله أو يستبعدونه أو يرفضون مبدأ حضوره، هم عمليّاً لم يبلغوا شيئاً من المعرفة عن الله. فمعرفة الله مقتصرة على المعرفة القلبيّة أوّلاً، ثمّ العقليّة. ولا بدّ من فصل بين معرفة الله ومعرفة الحقائق الّتي يختبرها الإنسان عن الله. والفرق شاسع، فالأولى تعتمد على الحبّ الإلهيّ الّذي يجذب قلب الإنسان ويستحوذ عليه، وعلى التّفاعل الإنسانيّ القلبيّ. وأمّا الثّانية فتعتمد على مختلف الاختبارات الإنسانيّة الفكريّة والوجوديّة.
لم نسمع أو نقرأ عن متصوّف قال إنّه عرف الله، لأنّه يعي في عمق ذاته ومعرفته أنّه لم يعرف إلّا بعضاً من نوره وبلغ بعضاً من حبّه. وذاك يعود إلى إدراك العاشق الإلهيّ أنّه أمام حضور الحبّ الّذي يفوق كلّ تصوّر وكلّ منطق. ولأنّه تلمّس اللّغة الإلهيّة وانغمس فيها فاستنار وولج النّور وبات يرى الأمور من منطلق إلهيّ، ويفهم انطلاقاً من الفكر الإلهيّ ويحبّ الله بقلب الله لا بتفاعلاته البشريّة.
إنّ البشر على اختلاف أفكارهم وانتماءاتهم ومعارفهم ودرجات فهمهم ومستوياتهم العقليّة المتفاوتة، يتصوّرون الله بشتّى الطّرق. وأمّا العاشقون لله ورغم التّباعد الزّمني بينهم، أو اختلافاتهم الفكريّة والعقائديّة والمعرفيّة، إلّا أنّهم على فكر واحد، فكر المحبّة. يقودهم النّور إلى النّور فينسلخون عن مشاعرهم وعواطفهم ويمتلئون حبّاً وعشقاً، ويلجون العمق الإلهيّ بصمت وتواضع فيغتنون ويغنون.