الجمعة، 30 أغسطس 2019

كلّنا يعرف "ميّ زيادة" لكن أين أدب ميّ؟



مادونا عسكر/ لبنان
نكاد لا نقرأ أيّ مقال عن "مي زيادة" إلّا وقد أحاطها الكاتب/ة بهالة الأدباء الّذين عاصروها. ولا تُذكرُ ميٌّ إلّا مع هؤلاء الأدباء الكبار ومع تركيز دائم على كونها معشوقة الأدباء وملهمتهم دون الانفراد بأدبها كميّ زيادة، اسم بلا ألقاب وبلا إحالة إلى أولئك الأدباء. وكأنّي بميٍّ لا تظهر إلّا من خلالهم، ولا تحمل قيمة أدبيّة بذاتها. كلّنا يعرف أوصافاً مجرّدة لميّ زيادة؛ الخطيبة والشّاعرة والنّاقدة، وكلّ من عاصرها من أدباء ومثقّفين أثنوا على عبقريّتها وذكائها وأدبها. ولكن أين تأثير ميّ في الأدب العربيّ؟ وأين ميّ من مناهجنا الدّراسيّة سواء أكان في لبنان أو فلسطين أو مصر وهي اللّبنانيّة الّتي ولدت في النّاصرة وتعلّمت في مدارسها كما تعلّمت في لبنان ثم انتقلت مع عائلتها لتعيش في القاهرة. لماذا لم يُخصّص أدب مي زيادة بدراسات متخصّصة حتّى تبرز بقوّة كما برز أصدقاؤها الأدباء وتمّ تسليط الضّوء عليهم وعلى أدبهم حتّى نُقشت أعمالهم في ذاكرة الأدب العربيّ. وما زلنا حتّى اليوم نقرأ لهم ونخصّص لأعمالهم الدّراسات ونغرف من أدبهم. وإذا كان أدباء عصرها شهدوا لها بثقافتها وبلاغتها فلماذا لم يخصّصوا هم أنفسهم دراسات عن أدب ميّ ورحلتها الأدبيّة المتميّزة في عالم الأدب النّسويّ، مع ضرورة الإشارة إلى أنّ دراسة واحدة أو اثنتين بين الحين والآخر في أروقة الجامعات للحصول على ألقاب علميّة، لا يساهم وحده في إبراز شخصيّة ميّ الأدبيّة المعروفة من خلال نصوصها هي، بعيداً عن محيطها الرّجوليّ الّذي جعل أدبها يتلاشى إلى الظّلّ في غالب الأحيان، لتبرز ميّ الصّديقة المثقّفة صاحبة صالون يوم الثّلاثاء، ولم يتمّ الاهتمام بفحواه، وما كان يدور فيه.
وإذا ذُكرت ميّ، ذكر معها هيام فلان وفلان من الأدباء بها. ونقرأ تحليلات وتحليلات عمّا إذا أحبّت أحدهم أو لم تحبّ. ومن أحبّت ميّ؟ وهل فعلاً أحبّت فلاناً أو فلاناً؟ وكأنّ شأن الأدب ورسالته البحث في علاقة الأدباء الغراميّة دون احترام لخصوصيّاتهم ودون البحث الجدّيّ والتّدقيق في ما يُكتب عنهم. لا تُذكر ميّ وحدها بأدبها وثقافتها وبلاغتها ونشاطها الأدبيّ، وكأنّي بها صورة من نسج الخيال مناسبة لصياغة القصص والحكايات وتحويلها إلى أساطير (دون فهم حقيقيّ لمعنى كلمة أسطورة)، فتحوّل ذكرى ميّ إلى مجرّد ذكر أديبة جميلة، وملهمة الأدباء، وما قالوه فيها من شعر ونثر وكلمات حبّ وغزل ورسائل وغراميّات.
وحين نلهث خلف البحث عن حقوق المرأة لا نعود إلى التّنوير الّذي أُخذت به مي ونشطت في إرسائه اجتماعيّاً وثقافيّاً خاصّة في مجتمع  يقيّد المرأة ولا يقبلها كاتبة ومثقّفة. ميّ زيادة كاتبة دافعت مبكّراً عن حقوق المرأة برصانة واتّزان مشدّدة على تعليم المرأة وتثقيفها، وعن رقيّها بين أفراد مجتمعها، واحترامها لقدراتها لا لتتنافس مع الرّجل، بل لتحقّق ذاتها وتتعامل معه كندّ دون التّخلّي عن مسؤوليّاتها. فأين نحن من هذا التّأثير اليوم، ولماذا لم يؤثّر نشاط ميّ في تكوين وعي المرأة العربيّة؟ فنحن اليوم، نكاد نشعر أنّ الزّمن قد توقّف هناك، عند مي زيادة على الرّغم من مسيرة المرأة الحافلة بالإنجازات، إلّا أنّه يُخشى أنّها ما زالت مقيّدة أو بتعبير أصح خلقت قيوداً شخصيّة لها.
من السّهل أن نتّهم المجتمع الذّكوريّ بخنق أدب ميّ زيادة ككاتبة فريدة ومتميّزة، ومن السّهل الحديث عن ظلم المجتمع والعادات والتّقاليد، لكنّه من العسير الغوص في الأسباب الحقيقيّة الّتي أراها ظلمت أدب مي زيادة وأحالت دون تأثيره في الأدب العربيّ. من السّهل أن نتطرّق إلى حياة ميّ الخاصّة وإغراق القرّاء بالحالات الغراميّة الّتي أحاطت بها، لكنّ البحث عن مي زيادة الأديبة والغوص في شخصيّتها الأدبية من خلال نصوصها وكتبها وتحليلها تحليلاً عميقاً كاشفاً، لإظهار تميّزها الأدبيّ يحتاج إلى جدّ وجدّيّة وبحث يليق باسم ميّ زيادة.
"لا تلمس الحقّ البسيط الجليّ إلّا النّفس البصيرة الرّفيعة". كذا تقول ميّ زيادة. والحقّ البسيط الجليّ هو البحث في أدب ميّ بدقّة وتأنٍّ. لقد عاشت ميّ فترة طويلة من حياتها وحيدة، وعانت وحيدة ما عانته من اتّهام بالجنون وماتت وحيدة على الرّغم من كلّ المعارف والأصدقاء. وأمّا اليوم فوجب إحياء أدب ميّ الوحيدة بمعنى التّفرّد والتّميّز والعبقريّة بأكثر من وسيلة وبطرق متعدّدة، دون حبسها في معتقل أدب عصرها. فكلّنا يعرف ميّ زيادة أديبة عصرها، وفراشة النّهضة وياسمينيّتها، ولكن لماذا يُحجب أدب ميّ زيادة بهذه الطّريقة غير المبرّرة؟

السبت، 24 أغسطس 2019

خلخلة المفاهيم طريقة مثلى لمساءلة الوعي / قراءة في نصّ للشّاعرة المصريّة أمينة عبد الله



مادونا عسكر/ لبنان
- النّصّ:
أكره الجنّة
الّتي يقف على بابها الحجّاج بن يوسف الثّقفي
معلّقاً في مشكاتها عبد الله بن الزّبير
أكره الجنّة
ففيها احتقار لقيمة العمل
أناس كسالى متواكلون على ملائكة مظلومون يكرهون البطالة
أكره الجنّة
الّتي لا عمل لأسماء بنت أبي بكر إلّا رتق النّطاقين وانتظار رجال القبيلة
أعشق النّار كخليّة نحل تشقي بكلّ المغرّدين خارج السرب
الجنّة ليس بها علماء يستفيدون من النّار في تحويل الطّاقة والاختراعات
الجنّة ليس بها شعراء يؤرّخون للمرحلة
أحبّ جهنّم الّتي يستفيد فيها كفّار الجنّة من العلماء والرّاقصات وصانعي الأفلام
أعشق النّار الّتي تصنع البهجة بلا حوريّات عين
- القراءة:
الكتابة الحقيقيّة، لا محالة جارحة. ويتطاير من بين حروفها الشّرر. (د. يوسف زيدان)
في حنايا نصّ الشّاعرة أمينة عبد الله كتابة حقيقيّة تعبّر من خلالها عن وعيٍ متقدّم لمفهوم الجنّة والنّار، غير ذلك المفهوم السّائد أو الملتبس عند البعض أو الأغلبيّة. كما أنّها تعطي تصوّراً خاصّاً عن الجنّة والنّار يكسر الموروث ويتخطّى الفكر الدّينيّ النّمطيّ. ينبع هذا التّصوّر من تأمّل عميق  موغل في التّاريخ والسّلوك الدّينيّ المرتبط بالقتل لتعزيز أركان الدّولة، أو المرتبط بالكسل الذّهنيّ والفكريّ والعمليّ، والمستند إلى أصول فكريّة لا علاقة لها بالمفهوم الإلهيّ.  ويتطاير من هذه الكتابة شرر يجنح إلى قلب المفاهيم أو إصلاح ما أُفسد منها. وبذلك تتجلّى أهمّيّة الكتابة وعمق معانيها ويتحقّق هدفها المفترض أن يكون زلزلة المتلقّي وخلق التّساؤل في داخله واستفزاز البحث والتّأمّل.
(أكره/ أعشق) فعلان جسّدا بقوّة الهوّة العظيمة بين الجنّة والنّار بمعناهما المتعارف عليه. إلّا أنّهما جسّدا بقوّة الهوّة العظيمة بين مفهوم الشّاعرة للجنّة والنّار والمفهوم الملتبس عند الآخرين. فخرجت عن نطاق المفهوم الرتيب والمقيت للجنّة والنّار؛ لتدخلنا في تصوّرها الشّخصيّ الّذي محوره العمل بشكل أساسيّ. ومبدأ العمل يشمل الفكر، والبحث، والنّشاط الجسديّ والرّوحيّ الدّؤوب لتحقيق الصّورة الإنسانيّة الكاملة. لا تلك الصّورة الخاملة المنتظرة تعويضاً أو خائفة من عقاب.
أكره الجنّة/ تعبير صادم يحطّم الصّورة المألوفة، ولعلّ الشّاعرة عبّرت بصدق شديد عن كفرها بالحالات التّاريخيّة القديمة والمعاصرة الّتي  تنزع إلى السّلطويّة والإجرام والانتهاك بغية بلوغ الجنّة أو تحت غطاء هذا المسمّى (الجنّة). الجنّة الّتي اخترعها السّفاحون ليرعبوا الإنسان فيستحكموا ويتحكّموا أكثر.
أكره الجنّة
الّتي يقف على بابها الحجّاج بن يوسف الثّقفي
معلّقاً في مشكاتها عبد الله بن الزّبير
بدت الجنّة المكروهة من الشّاعرة حالة خاملة، راكدة أشبه بالموت، لا عمل فيها. كأنّ الإنسان إذا ما بلغها فقد الحالة الحركيّة. أو كأنّه قد صوّر إليه أنّ النّعيم الآتي لا حياة  ولا حركة فيه. بيد أنّ الآية في سورة النّساء تبلّغ المؤمن أنّ النّعيم الآتي حياة. "سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ" ﴿٥٧ النساء﴾، واستناداً إلى عبارة (خالدين أبداً) يظهر معنى الحياة الأبديّة ومفهوم الخلود. وإذا حضر معنى الحياة حضر مبدأ الحركة.
أكره الجنّة
ففيها احتقار لقيمة العمل
أناس كسالى متواكلون على ملائكة مظلومون يكرهون البطالة
أكره الجنّة
الّتي لا عمل لأسماء بنت أبي بكر إلّا رتق النّطاقين وانتظار رجال القبيلة
إلّا أنّه ينبغي أن نقف أمام إقحام عمل أسماء بنت أبي بكر في النّصّ الّتي تبدو في حالة انتظار لا هدف له أو لا قيمة له. فلفعل أسماء الّتي سُمّيت بذات النّطاقين الّتي شقّت نطاقها لتربط سُفرة النّبيّ وأبي بكر حين خرجا مهاجرين إلى يثرب، قيمة إيمانيّة دلّت على إيمان أسماء وعلى قيمة عملها الإيمانيّ. لكنّ الشّاعرة تبدو كأنّها تتهكّم على أنّ ما قسمته أسماء بنت أبي بكر  في هذه الحياة ستعيد رتقه في الجنّة. وهنا يبدو قصور ما في المزج بين قيمة العمل الإيمانيّ وما سبق وأوردته الشّاعرة  في بداية النّصّ. مع العلم أنّ الإيمان هو الجنّة الّتي تبلّغ جنّة الآخرة بحسب قول ابن تيمية: "إنّ في الدّنيا جنّة من لم يدخلها لم يدخل جنّة الآخرة، قالوا: وما هي؟ قال: إنّها جنّة الإيمان". والإيمان من دون أعمال لا قيمة له بل ينتفي معناه.
هل أرادت الشّاعرة  التّفريق بين لفظ (النّار) ولفظ (جهنّم) في القسم الثّاني من النّصّ؟ خاصّة أنّها أشارت إلى النّار كعنصر يستفزّ القدرات الإنسانيّة ويوقد فكرها وينزع عنها النّمطيّة والرّتابة الفكريّة وأحاديّة الفكر، ويؤسّس لبناء حضارة (أعشق النّار كخليّة نحل تشقي بكلّ المغرّدين خارج السرب). أم إنّ النّار وجهنّم مترادفان لديها؟ أم إنّها تتمرّد على التّطرّف الدّينيّ المناهض للحضارة والمدمّر إيّاها؟
الجنّة ليس بها علماء يستفيدون من النّار في تحويل الطّاقة والاختراعات
الجنّة ليس بها شعراء يؤرّخون للمرحلة
أحبّ جهنّم الّتي يستفيد فيها كفّار الجنّة من العلماء والرّاقصات وصانعي الأفلام
أعشق النّار الّتي تصنع البهجة بلا حوريّات عين
لا بدّ من أنّ في هذه السّطور إشارة إلى أولئك الّذين يعتقدون أنّ الجنّة ملاذ غرائزيّ وحسب، وإلى أولئك النّاقصين فكراً وديناً، استناداً إلى استخدامها لفظ كفّار الجنّة (العلماء والرّاقصات وصانعي الأفلام) المعدّين كفّاراً بنظر التّطرّف الدّينيّ. ولا بدّ من أنّها تحيل مفهوم البهجة إلى الإشباع الذّهنيّ والفكريّ والحضاريّ لا الغرائزيّ. (أعشق النّار الّتي تصنع البهجة بلا حوريّات عين)
قد لا يكون النّصّ مبهراً فنّيّاً، ولعلّ الشّاعرة اشتغلت على تحقيق الصّدمة لدى القارئ بهدف تبديل المفاهيم المتطرّفة السّائدة والتّمرّد عليها، فخلا النّصّ من عنصر الدّهشة. وقد لا يخلو النّصّ من خطاب مباشر وربّما مستفزّ إلى مجموعات تحتكر مفهوم الجنّة والنّار وتفرضه عمداً، إلّا أنّ النصّ عميق المعاني ويعبّر عن مفهوم متقدّم للدّين عند الشّاعرة ينازل التّطرّف الفكريّ والدّينيّ مقتحماً ركود العقول ليحرّك ماءها فتستفيق من الخوف والجهل.

الأحد، 18 أغسطس 2019

بواكير النور والفرح


مادونا عسكر/ لبنان

-1-
هو،
جرفٌ عليمٌ عطشان إلى كأس سقيم
غمرٌ عاشقٌ ظامئ إلى كنف ظلّ عليل
تباشير الخلق
عاشق ومعشوق
نهر عظيم النّور
يهدي ويهتدي إلى خزف الماء
أنتَ،
إناء الخزّاف
أرجوحة النّور والنّار
تهتدي إليه
عند بزوع أولى البواكير
-2-
عينان على الأزرق المتدلّي
تجادلان حرفاً
مشرّعاً
على البدء المبتدأ به
عينان معناهما
الأكوان تشهدُ جريان الزّمنِ
الخارج عن الزّمنِ
لا دهشة إن
جمّت البئرُ
واستفاق النّبيّ على مآسي النّبوّة
وغالب الموتَ بحروف الملح
المتشبّثِ
بكنف الماء
عصف شديدٌ
وينتهي إلى لجّة الوصلِ
ويغدو الكون حلماً
قديماً
أو شكّاً
محتملاً
أو لحظة عابرة
في فقه الحياة
-3-
إذا تجلّى النّور ذات وحيٍ
هوى الدّجى
خاضعاً ذليلاً
فكيف رأى السّانح
بركات الغضب
في هيئة تقديسٍ
ومثال تنزيهٍ
كيف طوّع الظّلّ
قبل انبلاج الشّمس
وجعل سراجاً ضريراً
دليلاً
وسبيلاً
لمنسحقي القلوب
إذا تراءى الضّياء برهةً
هام القلب في الغربة الخاشعة
فكيف ارتضى المبارك
فناء التّراب
في جريمة النّار المتّقدة
إذا أشرق النّور
أمعن في الإشراق
ذرّ سناه
حتّى لا يُسمع أنين
البعيدين
ولا يفتخر القريبين