الجمعة، 17 يناير 2020

العلم والإيمان قوّتان لا تصارع بينهما



مادونا عسكر/ لبنان
يقول الفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل إنّ العلم لا يهدف إلى إنشاء حقائق ثابتة وعقائد أبديّة، بل يهدف إلى الاقتراب من الحقيقة بالتّقريب المتتالي دون الادّعاء أنّ الدّقة النّهائيّة والكاملة قد تحقّقت في أي مرحلة. ما يعني أنّ العلم يتّخذ مسار البحث المستمرّ عن الحقيقة ضمن ميكانيزم تفكيريّ يحدّده المنطق والاكتشاف  والتّجربة والنّتائج. ولا ريب في أنّ العلم لا يهدف إلى بناء عالم أبديّ أو توجيه الإنسان إلى العالم العلويّ. بل على العكس يروم إلى البحث في حركة التّاريخ وحركة الوجود والتّنقيب في هيكليّة الحياة الإنسانيّة على الأرض، ومعرفة مدى قيمتها من الكون بأسره، بغضّ النّظر عن تحديد ماهيّة العالم العلويّ أو العالم الإلهيّ. على عكس الإيمان الّذي يعتمد على تجذير العقيدة، وتحديد الحقائق الثّابتة الأبديّة والتشبّث بها كحقيقة لا ريب فيها.
من هنا يبدو تعارض قاسٍ بين المبدأ العلميّ والمبدأ الإيمانيّ إلّا إذا حصل فصل فكريّ متجرّد بين الاثنين، أي فصل بين لغة العلم ولغة الإيمان لتعارض جوهر المبدأين. فالمبدأ العلميّ جوهره عقليّ، وأمّا الإيمانيّ فقلبيّ. والمعرفة العلميّة تختلف عن المعرفة الإيمانيّة، فالأولى معرفة عقليّة تتحدّد بمقدّمات ونتائج، وأمّا الثّانية فمعرفة قلبيّة عميقة تتحدّد بحسب كلّ شخص وبحسب علاقته مع العلو. وبالتّالي فليس من ضرورة للحديث عن تعارض أو لا. ولا ينبغي الحديث أصلاً عن تعارض؛ لأنّ اللّغتين مختلفتين، وكلّ لغة تعبّر عن ذاتها في ما يخصّ الوجود والكون والخلق والنّهايات. ولمّا كانت اللّغتان مختلفتان وتمتلكان خصوصيّة في النّمط التّفكيريّ فلا مجال للحديث عن تعارض أو توافق. بل الأوْلى ترك كلّ لغة تتّجه في مسارها الخاصّ. وإذا تعارضت لغة العلم مع لغة الإيمان أو بمعنى أصحّ تنازعت اللّغتان وتجاذبتاـ يتعطّل مسار الإنسان التّطوّريّ والتّقدّميّ المواكب لحركة التّاريخ. فيتراجع الإنسان علميّاً وإيمانيّاً وإنسانيّاً، ويغرق في الجهل والسّخافة والتّدمير الممنهج حتّى لا يبقى من إنسانيّته إلّا غرائز تندفع فوضويّاً لتمنع العقل من الفكر الممنهج  وتعطّل الإيمان، فيتحوّل تعلّقاً بالقشور لا بالجوهر. وبقدر ما يتخطّى الإنسان دمج اللّغتين العلميّة والإيمانيّة، ويتجرّد من إسقاط الإيمان على العلم أو العكس، يحتفظ بإيمانه كأمر مشخّص ويسير قدماً في العلم كمسار لا بدّ منه للنّموّ والتّطوّر. تلك القدرة مرتبطة بالقدرة على التّحرّر الذّهنيّ والفكريّ من مبدأ امتلاك الحقيقة الإيمانيّة وربطها بالعلم لإثبات حقيقتها. وبقدر ما يدرك الإنسان أنّ لغة العلم غير لغة الإيمان يكون قد تحرّر من الصّراع القائم بين العلم والإيمان.
يقول القدّيس بولس في رسالته الأولى إلى كورنثس (8:1): " الْعِلْمُ يَنْفُخُ، وَلكِنَّ الْمَحَبَّةَ تَبْنِي"، وهنا يفصل بولس بين لغة العلم ولغة الإيمان، دون أن يستبعد العلم، لأنّه لم يقل إنّ العلم يدمّر والمحبّة تبني بل قال إنّ العلم ينفخ، أي إنّه إذا حوّل الإنسان إلى محتكر للحقيقة. لأنّه يتابع ويقول في الآية (2): " فإن كان أحد يظنّ أنّه يعرف شيئاً، فإنّه لم يعرف شيئاً بعدُ كما يجب أن يعرف". ما يعيدنا إلى قول سقراط: "كلّ ما أعرفه أنّني لا أعرف شيئاً"، وكذلك ما ذكره راسل عن أنّ العلم لا يهدف إلى إنشاء حقائق ثابتة وعقائد أبدية، بل يهدف إلى الاقتراب من الحقيقة بالتّقريب المتتالي دون الادّعاء أنّ الدّقة النّهائيّة والكاملة قد تحقّقت في أي مرحلة.
لكنّ بولس يعود ويقول إنّ المحبّة تبني، فالمحبّة لغة الإيمان تحاكي العمق الإنسانيّ وتبني فيه ما هو أبعد من الوجود الإنسانيّ الأرضيّ، وتطلق العنان لحرّيّته الدّاخليّة. وإذ يستنير بها العقل يتحرّر ويحاكي لغة العلم على اعتبارها لغة ضروريّة للتّقدّم والتطوّر. ويبقى العلم علماً والإيمان إيماناً. ولئن كان الإيمان مشخّصاً فلكلّ أن يؤمن بما يشاء ويترك العلم يمضي في مساره دون تعقيدات لا معنى لها. وقد يقود العلم إلى الإيمان بشكل أو بآخر، وقد يقود إلى الإلحاد، ومع ذلك من غير الممكن أن تتّحد اللّغتان؛ لأنّ ما للعلم هو للعلم، وما للإيمان هو للإيمان. للعلم منطقه ومقدّماته وأبحاثه ونتائجه، وللإيمان المحبّة الّتي تبني وترتقي به إلى العلوّ الإلهيّ. وأمّا العقائد والتّصوّرات الإيمانيّة والكتب المقدّسة فلا تتّخذ مساراً علميّاً إلّا في ما يخصّ العالم الإلهيّ. فالكتب المقدّسة ليست كتباً علميّة أو تاريخيّة وإنّما كتب روحيّة، تعزّز قيمة المحبّة الّتي تبني وتوطّد العلاقة بين العلوّ والعمق، بين الله والإنسان. وبقدر ما تبني المحبّة الإنسان يتقدّم نحو الإله، بغضّ النّظر عن مفهوم الإله عند كلّ شخص أو جماعة. وبقدر ما يتقدّم يزداد حبّاً وذوباناً في الذّات الإلهيّة ولا يعود يبحث عن الله في العلم أو بمعنى أصح، لا يعود ويبحث عن ماهيّة الله وعن كيف ولماذا ومتى، لأنّه بلغ الـ "هو".
ويتجلّى المعنى ذاته في سورة طه الآية 114: "فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا"، وأمّا في القول (ربّ زدني علماً) معنى أعمق للفظ (علم). إنّ هذا اللّفظ يترادف ومعنى المحبّة الّتي بها نعرف الله. فالآية تبتدئ بـ (تعالى الله الملك الحقّ)، ما يعني أنّ الاستدلال على المعنى يبدأ من علوّ أو يدور في العلم الإلهيّ، ولا ينطلق من الإنسان وإنّما من الله. وبالتّالي فكلّ المعاني المستقاة من الآية تدور في فلك العالم الإلهيّ. ثمّ يضيف (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) ليجعل من الكلمة الإلهيّة لغة المحبّة الّتي يمتلئ منها القلب ليعود ويحاكي لغة الله. لذلك يقول (ربّ زدني علماً) أي (ربّ زدني حبّاً)؛ لأنّ العلم بالله غير متاح إلّا بتمتمات إنسانيّة، وأمّا المعرفة القلبيّة المعتمدة على المحبّة الإلهيّة تتلمّس الله في الذّات الإنسانيّة. ولو كانت دلالة اللّفظ (علماً) مرتبطة بالعلم الإلهيّ فثمّة تناقض والتباس إذاً، لأنّ الإنسان لا يعلم الله فكيف يقول (زدني)؟ لكنّ المعنى العميق يكمن في الحبّ الإلهيّ الّذي يفيض في القلب فيحاكي القلب بلغة الحبّ الإلهيّة والحضور الإلهيّ، فيكون المعنى الحقيقيّ والعميق "ربّ زدنيّ حبّاً" ليستدلّ الإنسان ويتلمّس الـ"هو".
ليس من فصل بين العلم والإيمان، كما أنّه ليس من توافق، ولعلّ البحث في إثبات العلم إيمانيّاُ وإثبات الإيمان علميّاً مضيعة للوقت واعتراض لمسيرة التّقدّم الإنسانيّ. فليتّخذ كلّ مساره حتّى تلقى الإنسانيّة إنسانيّتها وتتحقّق بقدر ما يتيح لها العلم وبقدر ما يحلّق بها الإيمان كعلاقة حبّ بين الله والإنسان. والبحث عن إنسانيّة الإنسان وتحقيقها يحتاج إلى العلم والمحبّة، فالعلم من دون محبّة يحوّل الإنسان إلى وحش، وإذا استبعدت المحبّة العلم وحاربته لا تكون محبّة، وإنّما خداع وخبث ومراءاة.
قوّة العلم لا حدود لها، لأنّ العقل البشري قوة من قوى النّفس لا يستهان بها، كما يقول ابن سينا. والإيمان قوّة لا حدود لها، لأنّها قوّة الحبّ الّتي منها تُستمدّ كلّ قوّة تسعى وتخدم إنسانيّة الإنسان.

الجمعة، 10 يناير 2020

الذات الإلهيّة بين العلم والعبادة



مادونا عسكر/ لبنان
تكمن هوّة عظيمة بين العلم والعبادة كتلك الموجودة بين الكمال والنّقص. وملايين السّنين الّتي مضت والأخرى الآتية تسهم في اتّساع هذه الهوّة ما لم يتيقّن الإنسان أنّ الوجود الإلهيّ الخارج عن الزّمان والمكان، مغاير تماماً للوجود الإنسانيّ. وكلّ فكر يؤكّد علمه بهذا الوجود الإلهي أو يحتكر الحقيقة لشخصه أو جماعته يعيق التّأمّل وتطوّر الفكر ونموّه بحكم السّيطرة على العقول وإشغالها بصراعات تافهة مع أنّها تبدو مصيريّة. وهي تافهة وسطحيّة قياساً على الرّؤية التّأمّلية بهذا الوجود، والأكوان المحيطة بنا، وحضور الإنسان الهزيل في هذه الأكوان، وعدم قدرته على استيعابها، ورؤيته الملتبسة لها. ولئن كان الاستيعاب العقليّ والفكريّ للوجود المادّيّ ضعيف فلا ريب أنّ القدرة على استيعاب الوجود الإلهيّ أضعف، بل معدوم إلّا من خلال التّصوّرات العقائديّة الّتي بالكاد تقدّم تمتمات عن الحضور الإلهيّ. وبقدر ما يعي العقل أنّه عاجز عن إدراك هذا الحضور بتمامه، وبقدر ما يقتنع بأنّ الدّخول إلى عالم الوجود الإلهيّ اختبار شخصيّ وعلاقة عميقة لا يمكن تفسيرها أو تأكيدها بالأدلّة القاطعة، لأنّ الدّليل مشخّص ومرتبط بين الإنسان والله، تتهاوى الصّراعات والنّزاعات الّتي يقودها الإنسان بشكل عام باسم الله.
لعلّ انكباب العقل على محاولة إدراك الجوهر الإلهيّ وإصراره على معرفته اليقينيّة يضلّ عن الطّريق الصّحيح الّذي يقود إليه. ولعلّه ليس مطلوباً من الإنسان أن يعرف جوهر الله أو الاجتهاد في فهم هذا الحضور الإلهيّ فهماً عقليّاً. وإنّما المطلوب محاكاته في العمق بلغة أخرى غير تلك الّتي يتوجّه بها الإنسان إلى الله وكأنّه يعرفه تماماً. يقول القدّيس يوحنّا فم الذّهب: "ليست طبيعة الله غير مدركة وحسب، بل عنايته بنا وتدابيره فوق إدراكنا". الإنسان أمام محيط واسع جدّاً وعميق جدّاً، وما هو إلّا نقطة لا تقوى على استيعاب المحيط بأكمله. فالنّقطة تعي ذاتها بقدر ضئيل، لأنّها تدرك كينونتها الظّاهرة. وأمّا إدراكها الكامل والعميق لذاتها غير ممكن لأنّها مرتبطة بالمحيط. وبقدر ما تتوغّل في عمقه تستشفّ بعضاً من كينونتها. ما يذكّر بنصّ لمحيي الدّين بن عربي في الفتوحات المكّيّة:
لو علمته لم يكن هو،
ولو جهلك لم تكن أنت:
فبعلمه أوجدك،
وبعجزك عبدته!
فهو هو لِهُوَ: لا لَكَ
وأنت أنت: لأنَت ولَهُ!
فأنت مرتبطٌ به،
ما هو مرتبطٌ بك.
الدّائرة مطلقةً
مرتبطةٌ بالنّقطة
النّقطة مطلقةً
ليست مرتبطة بالدّائرة
نقطةُ الدّائرة مرتبطةٌ بالدّائرة.
الـ "هو" الّذي لا يحدّه اسم أو حضور أو زمان أو مكان، الخارج عن محدوديّة الفكر الإنسانيّ يتعارض وأيّة صورة أو تصوّر يمكن تكوينه عنه. إنّه الـ "هو" الّذي ليس مثله شيء. وإذا كان هو الّذي هو لا يشبه أيّ شيء يمكن من خلاله الاستدلال عليه فالتّصوّر عنه يبقى ملتبساً أو ناقصاً. فالعلم به ليس علماً به بل بتصوّر شخصيّ عنه. والتّأكيد على اليقين المعرفيّ عنه يتنافى وقدرة الإنسان الفكريّة على تحديد جوهره أو طبيعته، لأنّ النّاقص لا يحدّد الكامل. وبحكم أنْ ليس مثله شيء تنبغي محاكاته بتجرّد فكريّ وقلبيّ. ويعتمد هذا التّجرّد على البحث التّأمّلي في الكائن الّذي ليس مثله شيء بعيداً عن كلّ شيء ندركه بالحواس أو بالعقل بحكم المحدوديّة والنّقص. هذا الوجود المتفلّت من كلّ شيء والحاضر والحاضن لكلّ شيء يفترض محاكاة متفلّتة من كلّ شيء. ولعلّ الأنا الإنسانيّة العميقة لا الظّاهرة قادرة على هذا التّأمّل، لأنّ في هذه الأنا ما هو أبعد من كينونتها الظّاهريّة، وفي عمقها وجود يخترق الحدود، وهو الوجود العالم بها. ولو كان غير عالم بها لما وجدت.
لو علمته لم يكن هو،
ولو جهلك لم تكن أنت:
فبعلمه أوجدك،
وبعجزك عبدته!
عبد الإنسان الله انطلاقاً من ضعفه وعجزه ما لا يقوده إلى العلم به. وأمّا الّذي اختبره في أعماقه، في الأنا المتفلّتة من الحدود سلك سبيل الذّوبان فيه. فعرفه بقدر ما عرفت الأنا حضوره في عمقها. وأمّا "هو" فبعلمه أوجد الإنسان، وعلمه عشق بذاته يفوق الإدراك. لذلك فالإنسان مرتبط به بحكم العلم الإلهيّ الّذي أوجده. لكنّ الله ليس مرتبط بالإنسان لأنّ الله هو العشق/ المحيط الحاضن لذرّة عشق، الإنسان. 
الدّائرة مطلقةً
مرتبطةٌ بالنّقطة
النّقطة مطلقةً
ليست مرتبطة بالدّائرة
الذّات الإنسانيّة مرتبطة بالذّات الإلهيّة من حيث حرّيّة العشق، فالعشق غير مشروط وغير مقيّد وغير خاضع لظروف ولا يتضاءل، بل إنّه يمضي ويستعر حتّى تضيق الذّات بذاتها. فالعشق الإلهيّ فيض في العمق الإنسانيّ يعمل في أغوار النّفس ويجذبها إليه. فدائرة العشق مطلقة مرتبطة بذرّة العشق/ الإنسان. وعمق الإنسان ذي النّفحة الإلهيّة مطلق مرتبط بالمعشوق الإلهيّ. (نقطةُ الدّائرة مرتبطةٌ بالدّائرة).

السبت، 4 يناير 2020

الطّائفيّة وارتداداتها في العقلية والسّلوك اليوميّ



مادونا عسكر/ لبنان
من الإشارات الّتي تؤكّد أنّنا ما زلنا دون مستوى التقدّم العلميّ والإنسانيّ بشكل عامّ، حديث غالبيّتنا عن الطّوائف والمذاهب. فهذا الفكر المنغمس في القوقعة والعبوديّة لشعارات سخيفة تبرهن على ثقافة المجتمع الّتي يمكن أن نسمّيها ثقافة التّفاهة. فالّذين ما زالوا ينتفضون ويتجمهرون كلّما أحسّوا بخطر اهتزاز عرش الطّائفة يعبّرون عن جهل مقيت حتّى وإن كانوا يعتدّون بعلمهم وثقافتهم. فالمسألة سطحيّة وتعبّر عن عقل فارغ إلّا من الاستعداد لفعل أيّ شيء من أجل المحافظة على الطّائفة والعقيدة. ولئن غرق العقل في مستنقع التّعصّب الطّائفيّ والمذهبيّ تعذّر عليه تبيّن عناصر التّقدّم الفكريّ؛ لأنّه منشغل دائماً في البحث عن دفاع واهم عمّا يمكن تسميته بالحصن الطّائفيّ. وفي كلّ مرّة يعبّر الإنسان عن دفاعه عن طائفته، فذاك يعني أنّ طائفته ملجأه الوحيد، وأنّه لا يملك قراراً ذاتيّاً ومنطقاً سليماً يمكّنه من اتّخاذ قرارته الشّخصيّة بمعزل عن سجن الطّائفة. ولا ريب في أنّ مبدأ التّعصّب يترادف والجهل. فالمتعصّب شخص جاهل لعمق المفاهيم ومتعلّق بالقشور. يتصرّف بردّات فعل غرائزيّة دعمها الجهل واستدعى قعر الدّائرة الإنسانيّة، فيستخدم أبشع الوسائل لما يعتقده دفاع عن الطّائفة.
لو بحثنا في تاريخ نشوء الطّوائف لوجدنا أنّها نتجت عن خلافات ونزاعات ونتج عنها أحقاد تأصّلت في النّفس، وقتال بغيض تربّى من خلاله الإنسان على العنف أدّى إلى إراقة الدّماء من أجل اللاشيء. ولا نجد في الانشقاقات الطّائفيّة إلّا استئثاراً بالعقل الإنسانيّ وتحكّماً بقدراته الفكريّة وإغراقه بالمزيد من الجهل. هذا الاختراع الإنسانيّ الفاشل الّذي هو الطّائفة يعيق التّقدّم الإنسانيّ فيتعثّر في مساره الطّبيعيّ في النّموّ والتّطوّر ويجعله أسير المتمسّكين بهذا الاختراع، ليستحكموا ويتحكّموا ويغذّوا الفكر الإنسانيّ بمبدأ العداء للآخر فيعزّزوا الصّراعات والخلافات المؤدّية إلى مزيد من الانشقاقات. فالإنسان المتعصّب طائفيّاً عدائيّ في عمقه وفي أسلوب تفكيره وفي سلوكه تجاه الآخر المختلف عنه حتّى وإن تحدّث ونادى بشعارات التّخلّي عن الطّائفة. كما أنّه يُعلي الطّائفة على الانتماء الدّينيّ، لأنّه يجهل المعنى العميق للرّسالة الدّينيّة. فهو ضمناً يدافع عن جماعة يعتقد أنّها تؤمّن له الأمان؛ لأنّه غير قادر على الاندماج في مفهوم المجتمع الّذي ينطلق من مساهمة الفرد في تقدّمه وتطوّره. وهو غير فاعل في هذا المجتمع، لأنّه يسعى عبر طائفته للانخراط فيه، ما يؤدّي إلى خلل يضرّ بالمصلحة العامّة. فالطّائفة أو المجموعة الطّائفيّة تسعى للمصلحة الخاصّة وللحماية الخاصّة. وفي خضمّ الأزمات تتقوقع على ذاتها أكثر فأكثر وتخلق حصوناً إضافيّة فيتباعد أفراد المجتمع حدّ اغتراب الواحد عن الآخر. فتعيش مجموعات مختلفة ضمن المجتمع الواحد. وكلّ حديث عن تخلٍّ عن الطّائفة غير مرتبط بالوعي الثّقافيّ والفكريّ شعارات ما تلبث أن تذوي مع أوّل خلاف.
يفترض التّخلّي عن الطّائفة وعياً بالمفهوم الإنسانيّ والمفهوم الإيمانيّ على حدّ سواء. في ما يخصّ المفهوم الإنسانيّ وجب تعزيز الوعي وإرسائه على جميع المستويات، وإعادة بناء مفهوم الانتماء، والتّحرّر من الخوف المتجذّر في الفكر والنّفس من الآخر، وإعادة بناء الوعي الإنسانيّ المعتمد على المنطق والفهم والقدرة على إبداء الرأي بشكل شخصيّ وبمعزل عن الزّعيم الإله. ما يقودنا إلى إعادة بناء مفهوم الإيمان. فالزّعيم الطّائفيّ إله الشّخص الطّائفيّ؛ كلامه منزل وشخصه منزّه وقراراته لا جدال فيها، ما يعني أنّ الشّخص الطّائفيّ غارق في عبوديّة الجهل الإيمانيّ حتّى وإن ادّعى التّديّن والالتزام الدّينيّ.  كما أنّه منغمس في ازدواجيّة مخيفة. يعبد إلهاً من منطلق دينيّ ويعبد إلهاً آخر من منطلق طائفيّ، ويكون الولاء للإله الثّاني أقوى وأشرس. وتكون العبادة لإله الطّائفة عبادة مطلقة، وكأنْ لا مثله شيء، وكأنّ خلاصه لا يأتي إلّا منه.
بالمقابل  يعزّز الفكر الطّائفي فكرة الإعلاء الوهميّ للذّات، فيتهيّأ للشّخص الطّائفي أنّه دائماً على حقّ، وأنّه معرّض دائماً للاضّطهاد. وكلّ فكرة أو حديث يهدّد طائفته حرب معلنة عليه، فيتشدّد ويستعد دوماً للدفاع عن نفسه انطلاقاً من الدّفاع عن الطّائفة. وأمّا إله الطّائفة فجالس على عرشه، لا تهمّه طائفة ولا يبالي لمفهوم إنسانيّ أو إيمانيّ. كلّ ما يكترث له المزيد من تأجيج الصّراعات والنّزاعات ليضمن بقاءه وربّما خلوده.
"ويل لأمّة تكثر فيها المذاهب والطّوائف وتخلو من الدّين" (جبران خليل جبران)، فهذه الأمّة المتخمة بالطّوائف، المترعة بالأفكار المتشدّدة والمتعصّبة، أشبه بمعتقل للإنسانيّة، لأنّها تسهم في قمع الفكر والتّقدّم وتعزّز الصّراعات وإهدار الدّماء واستدعاء الموت من أجل "لا شيء". والتّاريخ الطّائفيّ حافل بالمجازر والعنف المدمّر والحقد الأعمى.
من المؤسف،  بل من المعيب أنّنا ما زلنا نتحدّث عن النّزاعات والصّراعات الطّائفيّة في حين أنّ العالم يتقدّم علميّاً وفكريّاً وثقافيّاً. يبدو أنّنا ما زلنا في القعر، ولا نملك إلّا أن نسلّط الضّوء بكثافة على هذا المرض المزمن، لعلّنا نعالجه بإعمال المنطق والعقل، وتهذيب الفكر والنّفس، والتّثقيف العام.