الجمعة، 29 مايو 2020

التّعليم بين رسوليّة المعلّم وتفكيريّة الطّالب



مادونا عسكر/ لبنان
يقول جبران خليل جبران: "من علّمني حرفاً كنت له عبداً". ولعلّ الصّحيح أن يقال: "من علّمني كيف أفكّر". فبناء الإنسان بالدّرجة الأولى يفترض تعليمه كيفيّة التّفكير المرافقة بشكل أساسيّ لتعليم الحرف. ولكي يتمكّن الإنسان من سبر أغوار الحرف فلا بدّ من أن يتعلّم كيف يفكّر. ما لا نراه غالباً في مجال التّعليم. فالمعلّم يلقّن الدّرس وحسب دون أن يعلّم الطّالب كيف يفكّر. وكأنّ الطّالب وعاء يسكب فيه المعلّم معلومات ثمّ يطلب من التّلميذ أن يحفظها ثمّ يردّدها في امتحان ما، ليبدأ التعليم وينتهي بين هذين الطّرفين، التلقين والامتحان. ما يسبّب خمولاً للعقل على مستوى إنسانيّة الطّالب، فيتدرّب على التّلقّي بمعزل عن الجدل الذّهني واستفزاز السّؤال لدى الطّالب.
إنّ عمليّة بناء الفكر أشدّ صعوبة من تعليم الحرف، ودور المعلّم بناء الفكر، ولا يقتصر عمله على التّلقين وإلّا لما قلنا إنّ التّعليم رسالة. ولكلّ إنسان فكره، ومن المهمّ الاهتمام بتعليمه كيف يفكّر، وكيف يتلقّى، وكيف يطبّق ما تلقّاه وكيف يستعيده ذهنيّاً. لذلك فأوّل خطوة في التّعليم هي بناء الفكر وتدريبه على منهجيّة التّفكير.
والخطوة الأولى في هذا البناء تبدأ في الفصول حيث ينبغي على المعلّم أن يشرح للطّالب ماهيّة المادة الّتي يتلقّاها ولماذا وجب أن يدرسها مع شرح ولو باختصار عن أهمّيّة هذه المادّة أيّاً كانت. غالباً ما يسأل الطّلاب لماذا نتعلّم هذه المادّة أو تلك؟ وما فائدتها؟ فهو يجتهد في درس هذه المواد بغض النّظر عن أهمّيّتها، ومطلوب منه أن يحصّل أعلى الدّرجات وإلّا كان فاشلاً أو كسولاً. وبالتّالي فأهمّيّة أن يعرف التّلميذ أو الطّالب أهمّيّة المواد الّتي يدرسها وسبب دراستها وهدفها منوط بالمعلّم. فلا يكفي أن ندرّس المادّة بل ينبغي أن نشرح أهمّيتها بمقدّمة بسيطة تساعد التّلميذ على محبّتها ورؤية أهمّيتها على المدى البعيد. يجب أن يعرف التّلميذ لماذا يدرس اللّغة الرّسميّة واللّغة الثّانية والحساب والتّاريخ والجغرافيا والعلوم والرّياضيّات والفلسفة والأدب... وإلّا كيف نحفّز في داخله الرّغبة في التّعلّم، وكيف نطلب منه أن يحبّ مادّة لا يعرف لماذا يدرسها؟ لا ضير في أن يشرح المعلّم للطّالب أهمّيّة التّاريخ ولماذا تجب معرفته ولا بأس بالخروج الذّكيّ عن بعض أكاذيبه ولا بأس بشيء من الخروج عن مضمون المادّة وتعليمه من خلال التّاريخ بناء المستقبل. ولا ضير في أن يعرّف المعلّم أهمّيّة الجغرافيا الّتي صارت في أغلب مناهجنا تاريخاً قديماً وتسليط الضّوء على أهمّيّتها من حيث بناء الحضارة. وبهذه العمليّة نستفزّ ملكات الطّالب من جهة ومن جهة أخرى نوجّهه نحو بناء مستقبله من خلال اختيار المادّة الّتي يريد أن يتخصّص بها.
قد يقول قائل إنّ المناهج المدرسيّة لا تسمح بذلك، والوقت المخصّص لكلّ مادّة لا يتّسع لهذا الشّرح. وأقول إنّ المعلّم الرّسول سيّد الفصل وعليه أن يكون سيّد الوقت وسيّد المنهج. وإذا كانت مناهجنا لا ترتقي إلى مستوى التّعليم المطلوب فمهمّة المعلّم الرّسول أن يجدّد المنهج بما يتاح بدل الشّكوى والخمول والانتظار. فبانتظار تغيير المناهج أو تعديلها ثمّة إنسان يُبنى وسيخرج إلى المجتمع فارغاً فلا نسألنّ بعدُ عن سبب تدهورنا وجهلنا المقيت. وقد يقول قائل إنّ هذه الأمور ترهق المعلّم، وكأنّ المطلوب ما فوق طاقته، إلّا إنّ التّعليم الرّسالة بناء ضخم أساسه معلّم مثقّف يتطلّع إلى أشخاص لا إلى آلات تجترّ الموادّ.

الجمعة، 22 مايو 2020

أثر شخصيّة المعلّم في طلّاب اليوم



مادونا عسكر/ لبنان
مؤلم أن نرى طلّابنا في لبنان فرحون للغاية باقتراح وزير التّربية والتّعليم العالي بإنهاء العام الدّراسي وترفيع الطّلّاب إلى صفوف جديدة. ولا بدّ من أن نتساءل عن سبب أو أسباب سعادة أبنائنا بعدم العودة إلى المدرسة. ولا بدّ من أن نقف قليلاً عند رأيهم في مفهوم التّعليم، هذا إذا كانوا بأغلبهم يدركون هذا المفهوم. لن ألوم الطّلّاب ولعلّهم ليسوا مطالبين بتفسير هذا الرّفض للمدرسة والتّعليم، بل وهذه المنظومة الشّاملة للتّربية والتّعليم. ماذا لو سألنا الطّلاب في لبنان أو في العالم العربي ككلّ عن السّبب الّذي يدفع الإنسان للتّعلّم، وعن مفهومهم للعلم، وعن هدف التّعلّم  ومعايير النّجاح في القطاع التّعليميّ؟ لا أظنّ أنّ الإجابات على هذه الأسئلة المهمّة ستكون مقنعة. فطالما أنّ الطّالب ليس شغوفاً بالعلم ولا يعتبره حاجة ملحّة للنّموّ كما الطّعام والشّراب والهواء، فذاك يعني أنّه إمّا يعتبره من الكماليّات، وإمّا عقاباً عليه أن ينفّذه مع أنّه لم يفعل ما يستوجب هذا العقاب.
لعلّ العلم في مجتمعاتنا مرتبط بالعلامة والعلامة مرتبطة بالشّخصيّة. فنجاح التّلميذ متوقّف على رقم، إمّا يرفعه وإما يحوّله إلى شخص فاشل. كما أنّه مرتبط بمبدأ الامتحان ومفهومه. فغالباً ما يكون مبدأ الامتحان تحدٍّ للطّالب بدل أن يكون اختباراً لمعلوماته. بيد أنّ معايير النّجاح لا تقاس بالأرقام ولا بالامتحان التّحدّي، بل إنّ الرّقم ما هو إلّا نتيجة لاختبار المعلومات ونتيجة للفهم ومنهج التّفكير وطريقة التّلقي. ويسهل الحصول على الرّقم بشكل أو بآخر وإنّما بلوغ الفهم ومنهج التّفكير، فذاك يتطلّب تحويل التّعليم بمنظومته الكاملة إلى حالة فرح يعيشها الطّالب. ما يعزّز لديه الرّغبة في التّعلّم واكتساب المعرفة كما ينمّي في داخله مفهوم التّعليم من حيث هو بناء الإنسان بدل تنمية مبدأ الغشّ ليحصل على الرّقم المرتبط بشخصه أو مبدأ الحفظ الببغائيّ دون أن يترسّخ في داخله ما تعلّمه. فيتخلّى عن أفكار متجذّرة في ذهنه عن التّعليم بهدف المظهر الاجتماعيّ، أو تحقيق رغبة الأهل أو حلمهم، أو أنّ التّعليم يؤمّن له منصباً مهمّاً أو ما شابه. إنّ مجتمعاتنا تزدحم بطلّاب حاصلين على شهادات عليا، ومصنّفين أوائل ومتفوّقين. ونتساءل  عن سبب تراجع مجتمعاتنا  وتدهورها ثقافيّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً وأخلاقيّاً وغرقها في الجهل والاستهتار.
تقع المسؤوليّة في الدّرجة الأولى على المعلّم ثمّ على الأهل. وربّما علينا إعادة النّظر في مفهوم التّعليم عند المعلّمين. فهل تحوّل إلى مجرّد وظيفة أم إنّه رسالة من خلالها نبني الإنسان، فنسهم في تقدّم مجتمعاتنا وتطوّرها ونموّها. هل ما زال المعلّم يعطي من ذاته للطّالب؟ هل ما زال يزرع ذاته في كلّ طالب؟ وهل طالب اليوم هو امتداد لمعلّمه؟ أظنّ أنّ لغة التّعليم اختلفت، وتحوّلت إلى لغة جافّة لا تروي بما يكفي عقل الطّالب ونفسه. المعلّم الّذي كاد يكون رسولاً غاب إلى حدّ ما، لذلك لم يعد الطّالب يقوم للمعلّم ويبجّله. كما أنّه فقد الرّغبة في التّعليم، فأفقد الطّالب الرّغبة الفطريّة بالتّعلّم. ولا أظلم المعلّم حين أتحدّث عن غيابه ولن أدخل في تفاصيل توحي للقارئ أنّني أتحدّث عن معلّم في عالم المثل. لكنّ التّعليم أساس تقدّم الشّعوب والمعلّم مربٍّ يعمل على بناء الإنسان وتكوينه الفكريّ. فإذا غاب المعلّم من يبني الفكر الإنساني ويعزّز قدراته؟

الجمعة، 15 مايو 2020

اللّوحة النّاطقة



مادونا عسكر/ لبنان
مضت وفي داخلها شوق لملاقاة ذاتها بعيداً عن الضّجيج المعتاد، علّها تجد مدينة أو قرية أو غابة أو حتّى كهفاً لم يطأه أحد. قيل لها إنّ في الأماكن المهجورة سكون الحكماء وصمت العارفين وحرّية الرّؤية.
لم تحمل معها سوى لوحة قديمة، كانت قد احتفظت بها رغماً عنها، تجسّد امرأة واقفة على صخرة عالية، تحمل على أكتافها ظلّها، وتنظر إلى الأزرق المشرف من علوّ على الأرض الضّائعة.
مشت ببطء شديد. اللّوحة ثقيلة والطّريق أشبه بحقل ألغام محفوف بالموت. ومن يمشي في حقول الموت لا ينظر إلّا إلى أسفل، وهي الآن غير مستعدّة للموت. ثمّة أمور معلّقة بين حكمة السّماء وجهالة الأرض. ثمّة أسئلة كثيرة تودّ أن تطرحها على ذاتها البعيدة. ثمّة أحلام عالقة في مخيّلتها، ثقيلة كتلك اللّوحة.
لاح لها من بعيد بيت صغير مسترخٍ على تلّة تعانق الشّمس وترمي بسكونها على محيط خلا إلّا من بعض العصافير التّائهة عن أعشاشها. سرّعت الخطى على قدر استطاعتها، أتعبها الطّريق وأحنت اللّوحة ظهرها وأرهقها ظلّ المرأة.
وصلت إلى تلك التّلّة مهشّمة الرّوح، مشتّتة العقل، منهكة الإحساس. لكنّ لا بدّ من معاناة أخيرة قد تبعث الأمل وتشبع جوعاً قديماً وتروي ظمأ دام زمناً طويلاً. وقفت متردّدة  أمام بيت مهجور لا باب له، تخشى أسراً مستجدّاً أو صوتاً مفاجئاً يقتحم سمعها.
دخلت لتستريح من عناء الطّريق الطّويل وثقل اللّوحة الّتي أبت إلّا أن تلتصق بكتفها. وقفت أمام ساعة حائط كبيرة، عقاربها مشلولة بحكم الزّمن. مدّت يدها وحرّكت العقارب باتّجاه معاكس لتعود بها إلى الماء القديم حيث كانت تسبح برضى أو تظنّ ذلك. أو تعود بها إلى أوّل النّهر لتحدّد مجراه وتعبر، أو أقلّه تقرّر العبور أم لا.
لا شيء، لا، ولا حركة تنقذها من أنين الوقت وهمجيّته. لا شيء ينذر بأنّ ثمّة ذاتاً تنتظر. العقارب مشلولة، والبيت بارد، واللّيل قريب. قرّرت العودة، سمعت صوت المرأة المنبعث من اللّوحة، تقول ساخرة: "لا أحد يملك القرار."

الجمعة، 8 مايو 2020

عوائق القارئ المسجون في الشّرح اللّاهوتيّ



مادونا عسكر/ لبنان
حيث يكون عقلك يكون كنزكَ. وبقدر ما يرتقي العقل ويتثقّف يتنقّى من شوائب مرض الجهل ويستقبل الصّور والأفكار بمنطق يعلو فوق الغرائز وفوق (ميكانيزمات) التّفكير المحدود فيكون الكنز المعرفة والغنى الفكريّ.  لا ريب أنّ تثقيف العقل يحتاج إلى تدريب طويل وإرادة حقيقيّة عازمة على درء الجهل، وإلّا فكيف ترتقي الشّعوب وكيف ينتقل الشّخص من مشروع إنسان إلى إنسان؟
استكمالاً لمبدأ كيفيّة تلقّي القارئ للنّصوص الأدبيّة وخاصّة الشّعريّة منها،  لا بدّ من رصد حالة القارئ في تلقي روح النّصّ الدّينيّ في النّصوص الشّعريّة. فقصائد كثيرة خلقت جدلّيات واسعة في ما يخصّ استخدام النّصّ الدّيني في القصيدة أو استدعاء "الله" في النّصّ الشّعريّ. قد ينفر بعض القرّاء من هذا النّصّ أو ذاك بحجّة التّعدّي على النّصّ الدّينيّ أو تحويل المعنى المقدّس لاستهلاكه في نصّ شعريّ. وقد يكفّر الشّاعر ويتّهمه بالإلحاد، معتبراً إيّاه عدوّاً للإيمان القويم، بل عدوّاً لله. ولمعالجة هذا النّوع من التّلقّي لا بدّ من أن يُفهم هذا النّوع من القرّاء لتمييز طريقة تفكيرهم ليكون بالإمكان الارتقاء بهم، فهدف الأدب الأساسيّ المرتبط به هو الارتقاء بالشّعوب وتحضّرها الفكريّ واستعدادها النّفسيّ لقبول الأفكار ومناقشتها واحترامها.
لا بدّ للقارئ من أن يعلم أوّلاً أنّ النّصّ الدّينيّ شيء والنّصّ الشّعريّ شيء آخر. ما يدعو إلى الفصل بين اللّاهوتيّ والشّعريّ، وبين دور النّصّ الدّينيّ ودور النّصّ الشّعريّ. إلّا أنّه لِفهم القارئ الممتعض من هذه النّصوص يلزم شرح (ميكانيزم) التّفكير المتديّن الواحد عند كلّ المتديّنين المتزمّتين. وهنا عليّ أنّ أفرّق بين المتديّن والمؤمن. فقد لا يكون المتديّن مؤمناً من ناحية الارتباط بالله، وإنّما قد يكون مرتبطاً بمنظومة الدّين الخائفة دائماً على العقيدة، وكأنّ العقيدة هشّة لدرجة أنّه يمكن لأيّ شيء أن يزعزعها. لذلك فهو يترصّد أيّ خلل يمكن أن يطرأ على المعنى النّصّيّ ظنّاً منه أنّه بتبدّل الحرف أو بإخراجه من الحرفيّة النّصّيّة تتبدّد العقيدة. كما يعتبر أنّ النّصّ الدّينيّ المقدّس لا ينبغي أن يخرج من الإطار الدّينيّ حتّى لا يتداخل مع أفكار أخرى تنزع عنه قدسيّته. يعتبر المتديّن المتزمّت أنّه يخدم النّصّ والحرف وليس العكس. إلّا أنّ النّصّ الدّينيّ حاضرلخدمة إنسانيّة الإنسان وليس سلاحاً في يد المتديّن يحارب به العقل والشّعور.
تختلف تقنيّات النّصّ الشّعريّ قطعاً عن تقنيّات الشّروحات الدّينيّة، والشّاعر حين يكتب قصيدة يستدعي روح المعنى المقدّس لأهمّيّته ولحضوره ولجلاله وقيمته الإنسانيّة أوّلاً نازعاً عنه قداسة الحرف، لأنّ قداسة المعنى أقوى. والشّاعر الحقيقيّ هو من تكتبه القصيدة، القصيدة الخارجة من اللّاوعي تتحكّم بالشّاعر وتفرض نفسها بقوّة. والقصيدة حالة شعوريّة قاسية لحظة انبعاثها، بل هي لحظة وحيٍ أو ما يشبه الوحي فيتمسّك بها الشّاعر لأنّها تعبّر عن أعماق أعماقه.
"إِلَهِي.. إِلَهِي، لِمَاذَا تَخَلَّيْتَ عَنِّي؟ لِمَاذَا تَزَوَّجْتَ مَرْيَمْ؟
لِمَاذَا وَعَدْتَ الجُنُودَ بِكَرْمِي الوَحِيدِ.. لِمَاذَا؟ أَنَا الأَرْمَلَهْ." (محمود درويش)
هل كان يسعى درويش إلى شرح المزمور الثّاني والعشرين من مزامير داوود، أم أنّه كان يستدعي الحالة الشّعوريّة المرتبطة برمزيّة هذا المزمور؟  في أعماق الشّاعر كما في عقله أسئلة وجوديّة تحتّم استخدام الرّمز لترتقي القصيدة إلى مقام الشّعر. فالشّعر أبعد من حالة تعبير عن الذّات والأفكار. الشّعر لحطة تزاوج الفكر بالمعنى، لحظة البحث غير الواعي. وهنا يحاكي لاوعي الشّاعر لاوعي القارئ فيستفزّ فيه المقصود بالمعنى، إلّا أنّ القارئ الضّيّق الأفق يعتبره تهجّماً على الدّين أو على الآية المقدّسة. وأعود لأقول إنّ الشّاعر مسّ أعمق نقطة في القارئ لذلك استنفر وجيّش ردّات فعله العشوائيّة وإلّا لعبر عن النّصّ دون أن يعتبر.
لو يعلم القارئ  المتزّمّت مدى قسوة الحالة الّتي كان عليها أمل دنقل وهو يقول: "خصومة قلبي مع الله، ليس سواه!" ما اتّهمه بالإلحاد. فالقارئ المسكين تعامل مع هذا القول وكأنّه في يوم الحساب إذ نعت دنقل بالملحد. ولم يدرك حالة الأسى المضني والشّاق الّتي جعلت أعماقه مضطربة. (خصومة قلبي مع الله) حالة من الارتباك الشّعوريّ، من الصّدمة بين ما يُرى على أرض الواقع والفهم العام لله. إنّها خصومة القلب المتعب والمتألّم بل هي حالة أشدّ قسوة على الشّاعر ممّا يظنّ القارئ. لحظة خيبة استدعت الحزن والألم. من المهمّ أن يتنبّه القارئ إلى أنّ أمل دنقل قال خصومة قلبي ولم يقل خصومة عقلي، ما يجعله يستدلّ على قسوة الشّعور واضطراب القلب والنّفس.
إنّ القارئ المتزمّت المسكين المندفع للدّفاع عن النّصّ الدّيني في نصّ شعريّ يشعر في عمقه بتفلّت من نظام القطيع. كأنّه يخشى على نفسه من فقدان الحماية. هو يحتمي بفكر الجماعة ويعتبر أنّ أيّ مسّ لهذا الفكر تهديد لوجوده.
الشّاعر شاعر، واللّاهوتيّ وشارح النّصّ الدّينيّ يتّخذان سياقاً آخر لا دخل له في الشّعر ولا بالحالة الشّعوريّة. الشّاعر تكتبه القصيدة وهو أسيرها حتّى تكتبه قصيدة أخرى. وأمّا شارح النّصّ الدّينيّ فهو يعي ما يشرح مستدعياً مخزونه المعرفيّ الدّينيّ أيّاً كان منبعه. والشّاعر ليس معنيّاً بالشّرح العقائدي، كما أنّ القارئ ليس معنيّاً بتتبّع كفر الشّاعر من إيمانه. ما يعني القارئ المعنى الكامن في قلب الشّاعر إذا استطاع إليه سبيلاً. وإن لم يستطع فلا يصدرنّ الأحكام والإدانة وكأنّه موكّل من الله لمحاسبة النّاس. الشّاعر عقل حرّ يودّ التّفاعل مع عقل حرّ مثله حتّى تبلغ القصيدة كلّ المعنى. فإن كان عقل القارئ أسير الأفق الضّيّقة كان كنزه الجهل، وإذا كان عقله حرّاً كان كنزه المعرفة.

   
 

الجمعة، 1 مايو 2020

النّصّ ومشكلة القارئ المسكين



مادونا عسكر/ لبنان
إذا تحرّر العقل استقام الإنسان. فالعقلُ المحرَّر يحدّد مقياس الفهم والقدرة على استيعاب الأمور ونقدها بدقّة المتأمّل. وأعني بالعقل المتحرّر، العقل القادر على قبول كلّ صورة أو فكرة أو نظريّة  دون أن تستأثر به ردّات فعل عشوائيّة أو أحكام مسبقة فتمنعه من تبيّن المعنى. والقبول لا يعني الاقتناع، وإنّما القبول يسمح للعقل أن ينقد الفكرة أو يطوّرها أو يرفضها ضمن أصول معيّنة. ولعلّ هذا الأمر يحتاج إلى تدريبٍ وتثقيف وتحرير داخليّ من شوائب الموروث العقليّ والنّفسيّ، ومن منطق "العيب" بدل منطق الجدل أي الحركة الذّهنيّة والنّشاط الذّهني الّذي يخرج الإنسان من دائرة الجهل إلى دائرة الفهم، من دائرة الحماقة إلى دائرة الاتّزان العقليّ. إنّ الرّصانة العقليّة تحصر الصّورة أو الفكرة في العقل ليشتغل المخزون المعرفيّ والثّقافيّ على فهمها وإدراك معناها. كما أنّ الرّصانة العقليّة تشكّل رادعاً لردّات الفعل والأسلوب غير اللّائق، فيتلقّى العقل الصّورة أو الفكرة ببساطة بمعزل عن الضّغط الثّقافيّ الموروث المرادف للتّحريم والتّحليل، ويجادلها بأصول الفهم وآداب التّعبير عن الرّأي.
ولعلّ  أكثر من يواجهون مشكلة  في التّعامل مع العقول هم الكتّاب والشّعراء والمثقّفون بشكل عام. فالكتابة تفترض بالدّرجة الأولى عقلاً أفرغ ذاته من شوائب كثيرة ثم ملأها مخزوناً ثقافيّاً ثمّ كوّن رأياً خاصّاً انطلاقاً من الخبرة الحياتيّة والمعرفيّة ثم نقل هذا الرّأي وعبّر عنه في نصّ أدبيّ. والكاتب الحقيقيّ هو الّذي لا يملي عليه أحد ما يكتب وما لا يكتب، وهو الّذي يعبّر عن ذاته بصدق وشفافيّة، ويراقب ويلتقط الأفكار والسّلوكيّات ودقائق الأمور ليعبّر عن الآخر بذات الصّدق والشّفافيّة. قد لا يحلو للبعض ما يكتب هذا الكاتب أو ذاك أو هذه الكاتبة أو تلك، وقد يتعرّضون لشخصه أو شخصها بما لا يليق، وهذا يعود إلى مشكلة القارئ مع نفسه، لأنّه غير قادر على التّعامل فكريّاً مع نصّ أدبيّ. فإمّا يرفعه إلى مستوى القداسة إذا ما أعجبه النّصّ، وإمّا ينحدر به إلى مستوى الدّنس إذا ما كان غير راضٍ عنه. فيكون الحكم على الشّكل النّصّي بمفهومه الضّيّق، ولا يكون الحكم انطلاقاً من مبدأ الفهم. لأنّ الفهم يقود إلى نقد المعنى لا إلى نقد الشّخص (شخص الكاتب/ة)، وأمّا الحكم على المعنى الشّكليّ فما هو إلّا دلالة على عدم الفهم.
نشر الأديب الفلسطينيّ فراس حج محمّد في ديوانه الأخير "ما يشبه الرّثاء" قصيدة بعنوان "صفّ من النّسوان" الّتي أثارت حفيظة بعض القرّاء وعبّروا عن عدم رضى على النّصّ بحكم أنّه نصّ لا أخلاقيّ ومفسد للقارئ. ما دفعني إلى التّأمّل بكيفيّة تلقّي القارئ الذّهنيّة للنّصوص وتبيّن أسس اعتماده على رفض هذا النّصّ أو ذاك. فالهجوم على شخص الأديب بحجّة كتابة نصّ لا أخلاقيّ يدلّ بالدّرجة الأولى على مستوى عقليّ فاضح عند بعض الّذين يدّعون الثّقافة. لأنّه عندما نقرأ نصّاً أدبيّاً وخاصّة نصّاً شعريّاً علينا كقرّاء أن نتبيّن المعنى المستتر لا المعنى الشّكليّ وحسب.
القارئ هو النّاقد الأوّل لأيّ نصّ، وهو مالك النّصّ حينما يتمّ نشره، وهو العنصر الّذي يبحث عنه الكاتب أو الشّاعر. فالكتابة مرتبطة أوّلاً وآخراً بالقارئ، وبالتّالي فللقارئ أهمّيّة كبرى في عينيّ الكاتب لذلك عندما يقدم على كتابة نصّ يفترض أنّ قرّاءه أذكياء. وأظنّ أنّ ما يكسر الكاتب قارئ جاهل يدّعي الفهم. وكثيرة هي النّصوص الّتي يعترض عليها بعض القرّاء انطلاقاً من مبدأ المحرّمات، المبدأ الّذي أصبح مملّاً ما يدعو إلى عدم الخوض فيه.
إلّا أنّه من الممكن تبيّن أنواع القرّاء ومستوياتهم الفكريّة وربّما النّفسيّة، انطلاقاً من هذه النّوعيّة من النّصوص الّتي تُصنّف ضمن خانة المحرّمات. ويبدو لي أنّ القرّاء مستويان:
الأوّل، القارئ الحرّ: وهو الّذي يقرأ بعقله الحرّ أيّ نصّ ويسبر أغواره ليتبيّن المعنى أو ليقترب منه. فإمّا يشعر بأنّ هذا النّصّ أو ذاك يعبّر عنه فيعيد قراءته ويحتفظ به في قلبه ويخزّنه في عقله، وإمّا يعرض رأياً مخالفاً، أو لا يقتنع بالنّصّ وهذا حقّ. ثمّة قرّاء لا يدركون المعنى الّذي في قلب الشّاعر عقليّاً لكنهم يحسّون به في قلوبهم وهذا منتهى الفهم، لأنّ القارئ هنا يتعامل مع روح النّصّ.
الثّاني، القارئ المسكين: وقد يكون هذا النّوع من المثقّفين أو الّذين يدّعون الثّقافة. هذا المستوى من القرّاء هو الّذي يقرأ نصّاً انطلاقاً من مفهومه الضّيّق للحياة، وانطلاقاً من محرّمات دينيّة وثقافيّة، فينصّب نفسه وصيّاً على الكاتب فينعته بأقبح النّعوت، ويهين كرامته. وإذا ما توجّه القارئ في اتّهاماته نحو الكاتب فاعلم أنّه مسكين، لأنّه لا يستطيع أن يتبيّن أنّ عليه التّعامل مع النّص وليس مع الكاتب، واعلم أنّه لم يُجِد قراءة النّصّ. فلا يوجد كاتب فاسق وكاتب محترم، أو كاتبة فاسقة وأخرى محترمة. الكتابة هي الكتابة، وكلّ فكرة فيها مباحة شرط أن تقدّم فكراً للقارئ، والكاتب/ة  حرّ في ما يكتب شاء من شاء وأبى من أبى. وحرّيّة الكاتب غير الابتذال والانحطاط الثّقافيّ والمعرفيّ. إنّها حرّيته الفكريّة والنّفسيّة الّتي تسمح له أن يبلور أفكاره ويضعها بين يدي القارئ.
لعلّ قصيدة الأستاذ فراس حج محمد أثارت مسكنة هذا النّوع من القرّاء وخاصّة النّساء منهم. لعلهنّ اعتبرن أنّه يهين المرأة أو يحطّ من قدرها، فعبّرن عن رأيهنّ بشكل غير لائق ليظهرن عن ضيق أفقهنّ وعدم قدرتهنّ على ولوج معنى النّصّ الّذي يمكن تبيّنه من العنوان أوّلاً "صفّ من النّسوان". استخدم الشّاعر تعابير شعبيّة تدلّ القارئ على المعنى الّذي يتضمّنه النّص أو القصيدة. فالشّاعر ضيّق دائرة المعنى وحدّدها بتعبير (النّسوان) ولم يستخدم تعبير (النّساء). كما أنّه استخدم دلالات لفظيّة مرتبطة بهذا الصّنف من النّسوان تحديداً، لكنّه يصف مشهداً يعبّر من خلاله عن منتهى القبح الّذي جعله أمامه كمناقض للجمال. وفي النّصّ ذاته يشير إلى النّاظر إليهنّ قائلاً: "يضحك إذ يشير بكلتا يديه كأنّه متقلّب ذات اليمين وذات الشمال بكهف القرَدةْ"، أي إلى الآخر/ الرّجل الّذي يصفه بذات القبح.
- شَبِقٌ أنا لو أنّهنّ معي في ليلة أخرى لينزعن عن جسدي بقايا اللّيل والنّومة المستعمرةْ
- لكنّهنَ كما ترى، من عهد الأحافير المهشّم كلّها تنعى ارتداد الحظوة في ثيابِ السَّحَرَةْ
- لا بأس. ننعمُ ليلة أخرى بجنب المدفأة.
يضحك إذ يشير بكلتا يديه كأنّه متقلّب ذات اليمين وذات الشمال بكهف القرَدةْ.

وإذا أثارت هذه القصيدة أو أيّ نصّ آخر للأستاذ فراس حج محمد أو سواه حفيظة بعض القرّاء والقارئات ونعتوه بنعوت لا أخلاقيّة فذلك لسبب مهمّ في هذه النّوعية من القرّاء الّتي أطلقت عليهم وعليهن صفة المساكين. عندما يقرأ هذا النّوع نصاً ويمسّ أعمق نقطة في نفسه ينتفض ويعتبر أنّه أمر متعلّق بشخصه. ولئن كان عقله غير متحرّر يجيّش كلّ ردّات فعله أو فعلها ليحطّم الكاتب أو الشّاعر. ويظنّ بذلك أنّه أبدى رأياً. لذلك يتمّ وصف الكاتب بالفاسق أو الملحد أو المُفسد وما شابه من الألفاظ غير اللّائقة. لقد مسّ الأستاذ فراس أعمق مكان في نفس هؤلاء القرّاء ما حرّك كلّ وسائلهم الدّفاعيّة من خلال ردّات فعل  فوضويّة تبعد عنهم المعنى الّذي مسّهم أو مسّهنّ. ولو لم يكن الأمر كذلك لمرّ النّصّ مرور الكرام بسبب عدم فهمه ببساطة.
يقول الشّاعر المكسيكي أوكتافيو باث: "أوافق طوعاً على أنّ القراءة تعني الفهم. لكن ماذا عن التّأمّل؟ التّأمّل هو الشكل الأرقى للفهم لأنّه يجمع بين النّظر والفهم". والنّصّ الشّعريّ نصّ للتّأمّل أكثر منه للفهم العقليّ، لأنّه قد يخرج من لاوعي الشّاعر. ويخرج كما هو بنظامه، بتلقائيّته، بتعبيره عن ذاته العميقة.
القارئ المسكين يركّز على شكل الكلمة والشّكل فيه ما فيه من فراغ، وأمّا القارئ الحرّ فهو الّذي يمزّق قشرة الكلمة  ليسبر أغوارها ويحسّها بقوّة. هذا هو القارئ الّذي يبحث عنه الكاتب/ة، الكنز الّذي يرافقه في التّعبير عن ذاته وعن القارئ الّذي يبدي ملاحظاته برفعة وأدب. يقول العقاد: "اقرأ كتاباً جيداً ثلاث مرّات أنفع لك من أن تقرأ ثلاث كتب جيدة مرّة واحدة". والقارئ الصّديق والرّفيق مدعوّ لقراءة النّصوص جيّداً والارتباط بها والولوج فيها، فهذا أنفع من التّطاول على شخص الكاتب. فالشّعوب تزدهر بمقدار ما تحمل من فكر حرّ يعي كيفيّة التّعامل مع الأدب.