الجمعة، 26 يونيو 2020

جان ميلييه ينحاز إلى الإنسانيّة



مادونا عسكر/ لبنان
الإنسان عقل يفكر ويرتقي وقلب يحبّ، يدفع العقل للسّلوك بضمير حيّ وإرادة حرّة بمعزلٍ عن أيّ ضغوطات فكريّة أو عقائديّة أو أيديولوجيّة. إنّه الإنسان كما هو وكما يجب أن يكون بجوهره العاقل والمحبّ. قد نختلف على تحديد الأساليب المنطقيّة المؤدّية إلى نتائج سليمة، وقد نختلف على تعريف المحبّة وكيفيّة السّلوك فيها، وما إذا كانت مطلقة أو خاضعة إلى أصول محدّدة. إلّا أنّ الإنسان الحقّ هو الجامع في جوهره العقل والقلب اللّذين يكوّنان الضّمير. وما هو الضّمير غير عقل متّزن يتحرّك بدافع المحبة؟ وما هو الضّمير غير صوت المحبّة الموجّه للعقل؟
الأب جان ميلييه Jean Meslier، كاهن كاثوليكيّ عاش في أواخر القرن السّابع عشر وبداية القرن الثّامن عشر. إرضاء لوالديه واصل دراسته الدّينيّة على الرّغم  من عدم تحمّسه للفكرة، وما لبث أن عيّن كاهناً على رعيّة إتريبنييه Étrépigny الفرنسيّة وخدم رعيّته طيلة أربعين عاماً بهدوء ومحبّة مبتعداً عن الأضواء في عصر كانت فيه الكنيسة مسيطرة بالكامل على عقول النّاس وحياتهم ومصائرهم. ناهيك عن أنّ أي خلاف صريح لمسلّمات الكاثوليكيّة يمكن أن يجعل المخالف وقوداً لعذابات محاكم التّفتيش.
كان الأب جان ميلييه محبوباً من أبناء رعيّته خاصّة الفلّاحين والفقراء والمستضعفين. عرف بلطفه ومحبّته وأخلاقه الحميدة ولم يتوانَ عن الأخذ بأيدي أبناء رعيّته ومساعدتهم ومساندتهم. إلّا أنّ جان ميلييه صدم الجميع بما فيه السّلطة الكنسيّة بوصيّة اكتُشفت بعد مماته تبيّن أنّه احترم العقيدة والإيمان المسيحيّ ظاهريّاً، وأمّا في السّر وطيلة أربعة عقود تبيّن الوصيّة أو الرّسالة الفلسفيّة المتضمّنة ما يقارب الخمسمائة صفحة ونشرها رودولف شارل سنة 1864 تحت عنوان "Le testament Jean Meslier"، والموجّهة إلى سكان القرى والمدن والسّلطة الكنسيّة إلحاده ورفضه للأديان وآراءه السّلبيّة فيها. ما كان سببّاً لعدم دفنه في مقابر الكنيسة وعدم تسجيله في سجلّ الموتى، ولا نعرف إلى اليوم أين دفن الكاهن الكاثوليكي الملحد.
قد يتساءل البعض عن قدرة الأب ميلييه على كتمان سرّه أربعين عاماً. ويمكن الرّد على هذا التّساؤل ببساطة إذ إنّ الخوف من السّلطة الكنسيّة المسيطرة كان سببّاً منطقيّاً لعدم إعلانه عن إلحاده. فلا ريب أن ميلييه لم يرغب في المثول أمام محكمة التّفتيش أو الموت حرقاً أو ذبحاً أو  شنقاً. وقد يحتار البعض الآخر في سلوك الأب ميلييه تجاه رعيّته وأمانته وتفانيه في الخدمة. وفي هذا كلام آخر، واستشفاف للحالة الإنسانيّة الواحدة في كلّ زمان ومكان. فعلى الرّغم من الضّغط النّفسيّ الّذي عاشه ميلييه كونه غير قادر على إعلان إلحاده ومناقشة أفكاره المعتمدة على النظريّة العقليّة فقط. وعلى الرّغم من رفضه للعقيدة المسيحيّة ورفضه للأديان بشكل عام، وعلى الرّغم من الواقع المعيش المعاين لفظائع كثيرة ارتكبت بحقّ أبرياء إلّا أنّ الأب جان ميلييه تصرّف كإنسان. وأمّا أفكاره وقناعاته الإلحاديّة وآراؤه الدّاعية للاشتراكية الّتي تأثّر بها الكثير من مفكّري عصر التّنوير، فلم تقف حاجزاً أمام إنسانيّته الجامعة للعقل المفكر والقلب المحبّ.
تصرّف جان ميلييه بضمير حيّ ومحبّة حقيقيّة تجاه الفقراء والمستضعفين وذوي الاحتياج، مع أنّه كان بإمكانه أن يستفيد من كهنوته آنذاك ويسلك سلوك السّلطة الكنسيّة وينزع طبيعيّاً إلى الانتقام أو الظّلم. كما كان بإمكانه أن ينتقد السّلطة الكنسيّة ويتحدّاها وينتهي به الأمر إلى الموت. أو أن يتصرّف كملحد في زيّ كاهن أو يمارس كهنوته كوظيفة. إلّا أنّ ميلييه تصرّف إنسانيّاً وضميريّاً وبإرادة حرّة بمعزل عن أيّ منهج عقائدي أو إيمانيّ. ولا ريب أنّ الدّافع هو المحبّة. فلئن قيل إنّ الأب ميلييه كان محبوباً من رعيّته فذاك يعني أنّه تصرّف عمليّاً بما يتوافق وهذا التّفاعل المحبّ. إذ لا يمكن للإنسان أن يشعر بضعف الآخر وحاجته أيّاً كانت الحاجة، سواء أكانت ماديّة أم معنويّة، إلّا إذا حمل في عمقه المحبّة. ولا يمكن للإنسان أن يحمل رؤية للمستقبل داعياً من خلالها إلى توحيد الصّفوف وإلغاء الطّبقيّة الاجتماعيّة إلّا إذا تمتّع بعقل مثقّف ومتّزن يدفعه إلى احترام  الحرّيّة والحقوق الإنسانيّة. ولا يمنع الإنسان عن الظّلم والانتقام إلّا الضّمير الحيّ ونبذ السّلطويّة. فيسعى إلى الاهتمام بشأن الآخر ومساندته وتشجيعه إلى المضي قدماً.
القيمة الإنسانيّة واحدة، أكان الإنسان ملحداً أو مؤمناً أو علمانيّاً. وغالب الظّنّ أنّ هذه التّصنيفات تخلق حواجز بين البشر وتقيّد إنسانيّة الإنسان وتحجب عنه الرّؤية العميقة لأخيه الإنسان فيتعالى ويتكبّر وينغمس في الإعلاء الوهميّ للذّات. فإمّا يشعر أنّه ملاحق أبداً وإمّا يشعر أنّه محور الكون. قد تكون هذه التّصنيفات أسهل للعقل إلّا أنّها غير موجودة في حقيقة القيمة الإنسانيّة. فالإنسان هو الإنسان، وإذا ما تكاسل في السّعي إلى تنمية العقل وتطويره وتثقيفه، وتوانى عن اكتشاف عمق المحبّة المتأصّلة في داخله، وتراخى في تدريب ذاته على مناقشة الآخر واحترام عقله وإرادته وخبراته وتجاربه، بقي مشروع إنسان ملقىً على حافّة هذا الوجود.     

الجمعة، 19 يونيو 2020

اخلع أفكارك إنّك في حضرة الشِّعر!


مادونا عسكر/ لبنان


 

أن تقدّم ديواناً للشّاعر يوسف الهمامي، فكأنّك تقرب الوحي وتلازم الأنغام العلويّة وتلامس الأسرار الأرضيّة. وفي ذلك تكمن صعوبة التّقديم لما يمتاز به الشّاعر من خصّيصة نادرة، ألا وهي التّماهي مع العالم الشّعريّ والانصهار به حدّ اعتلاء رتبة الشّاعر النّبيّ. فيخضع الشّاعر للشّعر/ الوحي ويستحيل شاعراً ولا يبقى عند حدود الصّياغة الشّعريّة.

يتجلّى الشّعر في ديوان "نشأة الظّلّ" إلهاً يوحي لشاعره الّذي اختاره من بين النّاس وانتزعه من بينهم ليكون رسول الشّعر والإنسانيّة معاً. فالقصائد في الدّيوان لم تُكتب لتعبّر عن جماليّة شعريّة معيّنة وحسب، ولم تترجم مشاعر الشّاعر وأفكاره ورؤيته وحسب. وإنّما القصائد أشبه بالسّرّ  / Mystère؛ تستدعي القارئ ليتأمّلها ويحسّها عميقاً في داخله. فيستيقظ فيه الإنسان، ذلك الكائن اللّغز. ويتحرّك في أعماقه الحسّ الّذي يقود البصيرة إلى النّموّ تدريجيّاً مع كلّ قصيدة.

"نشأة الظّلّ"، ديوان (مشفّر)، أشبه برؤية تستدعي التّفكيك لبلوغ المعنى الأصيل في قلب الشّاعر. وقد لا يبلغ القارئ هذا الحدّ، لأنّه لا يرافق الشّاعر وحسب وإنّما يرافق وحيه. وبالتّالي فهو ملزم أن يذهب إلى الينبوع الّذي منه يرتوي شاعرنا.

العنوان إنسانيّ بامتياز، ويدلّ على إنسانيّة الشّاعر المتوغّلة في عمقه والمتفجّرة من قلبه لتحمل على عاتقها الهمّ الإنسانيّ. ما يظهر تفاصيل الشّاعر النّبيّ الّذي لا يلعب دور ناقل الوحي وإصلاح البشر، وإنّما الاشتراك مع الوجع الإنسانيّ:

إلاهي إني أحبّ ..

وإني أضيء للنّاس جميعاً

ماذا لو فقد النّاس يوماً ضيائي؟؟ (ص 7)

/

أنا الكليم ..

أخبّئ في الغاب غصّة شجرتي (ص 53)

 

سيأخذ الظّل أشكالاً متعدّدة، سواقٍ تصبّ في نهر واحد هي كينونة الشّاعر. وإذ كان الحديث عن شاعر نبيّ، فذاك يعني أنّ الشّاعر يتوغّل عميقاً في الألم بفعل الاشتراك بوجع الإنسان. كما يدلّ على تعريف خاصّ للشّعر المرادف للنّبوءة؛ فالشّعر هو الّذي يتوسّط العالم العلويّ والعالم الأرضيّ. فكلّما تماهى الشّاعر مع الأرض والإنسان ارتقى إلى السّماء وأصغى أكثر إلى الوحي الّذي يقول. ألا يقول الشّاعر نفسه: "القصيدة الّتي لا تكتب شاعرها لا تستطيع الإنجاب"؟ وبالتّالي فالشّاعر يراعٌ في يد القصيدة تكتبه وتصوغه. والشّاعر قيثارة تعزف القصيدة على أوتارها الوحي/ النّور الّذي يتغلغل في نفس القارئ ليدلّه على الجمال.

الحقيقة تكمن في ما لم أقله... (ص 29)/ الحقيقة قطيع من الاحتمال (ص 33)

في قلب الشّاعر تكمن الحقيقة. وكأنّي به عاينها ويحياها، لكنّه لا يحتكرها بل ينقلها للقارئ شعراً. والقارئ الذّكيّ يستطيع سبر أغوار الكلمة ليتلمّس تلك الحقيقة. ذاك أبهى ما في الدّيوان. ما يدلّ على نقاء خاص، يلتقطه الشّاعر وينقله للقارئ تلقائيّاً. وسيتجلّى الشّعر النّبوءة في قصيدة (هوامش بوح) (ص33) لتتشكّل المقاطع ومضات نبويّة لا يبوح بها الشّاعر وإنّما ينقل ما باح به الشّعر/ الوحي.

يا أيّها الوضوح غيّبني

وطأة القلب في ما اعتلى

يا أيّها الغيب أنبئني

متعة الرّوح في ما لم أرَ.. (ص 34)

بالمقابل يرتسم في القصيدة مبدأ التّكوين الإنسانيّ للشّاعر، فيعود إلى أصوله الّتي هيّأها له الخالق من قبل إنشاء العالم. ما يعزّز مبدأ إدراك الشّاعر لكينونته ودوره في الوحي الشّعريّ، ومكانته من العالم.

انا انتظرتُ قبل ميلاد التّاريخ

قبل اندلاع الحياة بقليل من الموت

قبل القَبل (ص 35)

..

لكنّ الشّاعر لا يغفل عن أنّ كينونته ترتبط بالأنثى المتماهية معه حتّى تكتمل إنسانيته. وسيأخذ الظّل هنا معنى الاكتمال ليكون الشّاعر، بل لتتحقّق كينونته فيتحقّق الشّعر.

لا بدّ لي من ظلّ كي أراني

لا بدّ لي من أنثى كي أكون (ص 35)

تكوّن هذه الأنثى مع الشّاعر الصّورة النّهائيّة له، فهي ليست خارجة عنه، ولا جزءاً منه. وإنّما الاثنان متّحدان حتّى التحام الأنا- أنت، وانصهار الكينونتين لتصيرا كينونة واحدة:

أراك مع أطفال الكلمات

تضيئين من براءة يوسفك الأولى

تجمعين طيور الكون حول مائدة قلبي

وترسمين على ريشهم بماء الوحي العظيم (ص 49)

هذا الاتّحاد الضّمنيّ لا يحرم أيّاً من الطّرفين استقلاليّتهما ودورهما، وإنّما يحافظ على إشراقة كلّ منهما. فالشّاعر حريص على إبراز المعنى الاتّحاديّ المخالف للذّوبان بالآخر.

أنا - أنت

نحن ساقيتان تلتقيان معا

بين حقول الشّمس والحلم

قبل نهاية العالم برجفة واحدة (ص 51)

 

هذه الأنثى ليست مصدر إلهام أو وحي شعريّ. وهي المتّحدة به تشكّل سنداً يؤسّسان من خلاله درباً يقود إلى الله. وهنا ينكشف التّجلّي الصّوفيّ في الدّيوان. فالشّاعر النّبيّ لا بدّ أن يكون على علاقة حبّ بالله، وقد يتلمّس القارئ أنّ الأنثى في هذا الدّيوان رفيقة درب إلى الله: أريدك أكثر كي أقترب أكثر إلى ربّي.. (59)/ أنت اتّحادي العظيم في حضرة الرّبّ (ص 68).

/

سنتراءى معاً هناك

نصلّي بروح واحدة

خفيةً عن الأجساد (ص 78)

يعرف الشّاعر من هو من العالم ومن الملكوت. كما أنّه يعي أنّه مفعول به لا فاعل. ولعلّ قدسيّة القصائد تظهر هذا الأمر وتستبين للقارئ فرادة يوسف الهمامي الشّاعر الّذي بشعره يعرّف الشّعر الّذي  من العسير تعريفه. ويكشف الدّيوان عن نقل الجمال الإلهيّ في سطور تقترب من القداسة لفظاً ومعنى. فإذا مرّ القارئ بها عليه أن يخلع أفكاره وهواجسه المضطربة لأنّه أمام نصوص نطقها الوحي فتجسدت الكلمة.


السّؤال بوصفه مفتاحاً للمغايرة



قراءة في قصيدة "ماذا لو...!" للشّاعر الفلسطيني فراس حج محمد
مادونا عسكر/ لبنان
- النّصّ:
ماذا لو...!
ماذا لو أنّ الشّاعر كان في تلك الليلة عِنّيناً
كان عقيما والمرأة عاقرْ
أو لم يشرب كأسا من خمرْ
أو أنّ المرأة كانت حائضْ
أو كانت غير جاهزةٍ لم تنتف إبطيها
وتفوح منها رائحة العرق البدنيّ
أو أنّ العانة نابتة الشّعرِ
ولم تحسن صنع السُّكّرْ
لتصقل فخذيها، ذراعيها ونهديها
ويكون لها كل ذاك المكرُ المكّارْ
وتربّي الأطيار في حدائق صدرها المهووس بالشاعر والأشعارْ؟
هَبْ لو على حين غَرّة فاجأته القصيدة مثل وحيٍ ماج وهاجْ
هل كان سيأوي إلى عصفورها الوهّاجْ
حيث السّحرُ، السّاحرُ، والأبراجْ
هبْ لو أنّ المرأة لم تكن ذات حسنٍ
أو لم تتقن نصب الأشراكْ
وتُرعرع في خدّيها الوردَ، تعرّبُ أسراب الأفلاكْ
هل كان السّرّ سينبت في سرير عابرٍ ليولد مثل هذا "الاشتباكْ"
ليطير من بين شفاه الشّاعر حيث أذن واعية تلتقط الحَبّ والحُبّْ
وتُقرع آلاف الأجراسْ؟
هَبْ لو أنّ الشّاعر كان نبيّاً والمرأة محض ملاكْ
هل كان البحر سيهذي ويقدّم للجوعى هذي الأسماكْ؟
- القراءة:
"وجع السّؤال... تعب الحقيقة" (فراس حج محمد)
الحياة الإنسانيّة سؤال موجع يتمدّد بين قلق المعرفة والحقيقة ووهم الحقيقة. فالسّؤال واحد وإن تشعّبت الأسئلة، ومنفرد وإن تفرّع إلى تساؤلات عديدة.
(ماذا لو) السّؤال العلامة، مفتاح القصيدة الّتي أرادها الشّاعر نصّاً نقديّاً يشرّع أبوابه على عدّة أسئلة مرادها إحداث انقلاب فكريّ يؤدّي إلى نتائج مختلفة عن المعهود والمتعارف عليه. فيوجّه العقل باتّجاه معاكس ومخالف لما اعتاد عليه بهدف الارتقاء به حتّى يتّزن، ويتّخذ لنفسه منهجاً عقليّاً خاصّاً يعزّز وجع السّؤال في سبيل الحقيقة المتعبة.
لا ريب في أنّ هذا النّصّ كُتب على خلفيّة مقال طال الشّاعر الكبير محمود درويش، ولا ريب في أنّ هذا النّصّ أتى بعد تأمّل خاصّ في حال الواقفين عند التّفاصيل السّخيفة أو حال المعترضين المدافعين. وفي هذه الحال يكون العقل الجمعيّ متأثّراً بمنظومة فكريّة واحدة تؤدّي إلى نتيجة واحدة لا غير. وأمّا سؤال (ماذا لو) فيخترق هذه المنظومة، ويبدّل مسارها ويخلق سؤالاً متمرّداً يصدم العقل ليقوده باتّجاه منحىً آخر.
يستخدم الشّاعر (ماذا لو...!) مرّة واحدة، ويرفق سؤاله بعلامة الحذف أو القطع وعلامة تعجّب. ومن المرجّح أنّه ينبّه القارئ إلى التّركيز على النّص واستجماع أفكاره لفهمه بحسب منهج عقليّ جديد والغوص في الأفكار الّتي طرحها الشّاعر ثم التّجاوز إلى بناء رأيّ خاصّ مفاده حذف الأفكار/ الأحكام المسبقة وقطع الجهل بالوعي، الوعي الإنسانيّ. وغالب الظّنّ أنّ الشّاعر استتبع هذا السّؤال العلامة بعبارات قد تكون منفّرة للقارئ، لكنّها مناقضة تماماً للحالة الأصليّة. وبذلك فصل التّساؤل الافتراضيّ بشكل قاطع بين ما عُدّ حقيقة أو ضلالاً، وبين ما قد يكون الواقع الحقيقيّ. ولعلّه يدخل في حوار مع القارئ باستخدامه ثلاث مرّات حرف الاستفهام (هل) بهدف طلب التّصديق الموجب وليس بهدف الاستفهام، فيستفزّه للبحث في وسائل مغايرة حتّى يبلغ النّتيجة المغايرة، فيعرض له تساؤلاً افتراضيّاً مقابل استنتاج يحدّد من خلاله مبدأ التّساؤل الهادف إلى التّخلّي عن وجهة النّظر الأحاديّة والانتقال إلى رؤية الأمور من زوايا مختلفة.  وباستخدام (هل) ثلاث مرّات يؤكّد الشّاعر هدفه من النّص بشكل عامّ.
يختتم الشاعر نصّه ببيتين يبيّنان تناقضاً قاسياً بين مشهد العلو ومشهد الانحطاط . الشّاعر النّبيّ والمرأة المحض ملاك والبحر الهاذي غير المتّزن الّذي يمنح للجوعى ما يشبع بطونهم لا عقولهم.
هَبْ لو أنّ الشاعر كان نبيّاً والمرأة محض ملاكْ
هل كان البحر سيهذي ويقدّم للجوعى هذي الأسماكْ؟
فيشكّل هذا التّناقض هوّة بين التّساؤل الإنسانيّ الواجب والتّساؤل السّطحيّ الباحث عن الثّرثرات والسّخافات بعيداً عن الأصول. كما أنّه يبيّن الفرق بين الجوعى إلى المعرفة والجوعى إلى القوت الفاني. ويزيد حرف الاستفهام (هل) من هذا التّباين ليشدّد على أنّ سؤال العقل حركة  باتّجاه الإشباع المعرفيّ نافياً إمكانيّة إشباع العقول الهشّة الباحثة عمّا لا أهمّيّة له.
إلّا أنّ أهميّة هذا النّصّ الشّعريّ النّقديّ يتجاوز خلفيّته ليرتقي إلى نصّ نقديّ يمكّننا من إسقاط السّؤال (ماذا لو...!) على مفاهيم كبرى فنعيد النّظر فيها على مبدأ تعدّديّة الأسئلة والآراء والأفكار، وليس على مبدأ الحكم المسبّق أو القفز إلى النّتيجة بمعزل عن التّحليل وإعمال العقل في الخبر كما يعلّمنا ابن خلدون. كما أنّ النّصّ إذا ما انتُزع من خلفيّته يصلح نقديّاً لأيّ خلفيّة أخرى تجيز لنا الانقلاب على مفاهيم عدّة وحقائق عدّة نتشبّث بها عناداً، أو وهماً، أو انغلاقاً وتقوقعاً.