الخميس، 2 فبراير 2017

التطرّف

مادونا عسكر/ لبنان


ينشأ في المجتمعات غير المتطوّرة أو الّتي تتقاعس عن بذل الجهود لنموّها الفكريّ والاجتماعي، سلوكاً يتّجه بها نحو التّمسّك بفكرة ما، قد تكون مستوردة أو محليّة وذلك بهدف إثبات الذّات أو الاحتماء بهذه الفكرة. كما قد تكون هذه الفكرة وليدة أحداث معيّنة نتيجة لعدم انفتاح الشّعوب على بعضها، وعدم التّمييز بين الانفتاح والتّقليد. والانفتاح هو الاطّلاع على ما هو مختلف واختيار ما هو مناسب لنموّ الإنسان الفكريّ والاجتماعيّ والنّفسيّ، دون أن يعيق مسيرته الحضاريّة ودون أن يلغيها. أمّا التّقليد فهو أن يمارس الإنسان ما هو مختلف عن محيطه وبيئته بغض النّظر إذا ما كان سليماً أم غير سليم. وبالتّالي يستقدم عادات وتقاليد غريبة عن مجتمعه، ويدخلها في صلب الحياة اليوميّة باعتبار أنّه يتطوّر. وإن دلّ التّقليد على شيء فهو يدلّ على عدم النّضج والثّقة بالذّات، وعدم القدرة على ابتكار ما هو جديد. وهذا يعيق حرّيّة الإنسان الشّخصيّة، إذ إنّه يمارس ما هو منافٍ لطبيعته ولكنه متأثّر ومنبهر بما هو جديد، دون استخدام العقل والتّحليل فيما إذا كان مناسباً أم لا
لا ندعو طبعاً إلى نبذ كلّ ما هو مختلف وجديد، ولكنّ المطلوب أن نعي ما هو مهم ومفيد لمجتمعنا وما هو مضرّ أو ما يتسبّب في انحلال حضارتنا.
عندما انفتحت شعوبنا على الغرب، انحصر اهتمامها إلى حدّ بعيد بما هو سطحيّ، وقلّة قليلة هي الّتي استقدمت ما يساعدها على التطوّر الذّاتيّ. فمثلاً، سيطر الإعلام الغربيّ على مجتمعاتنا بشكل اتّخذ فيه مساحة كبيرة من حياتنا اليوميّة وبتنا نقلّد ما نراه، بل أكثر من ذلك توهّمنا أنّ ما نراه هو الحقيقة. ممّا أثّر بشكل سلبيّ على تقدّمنا الفكريّ والنّفسيّ. ثمّ جاء الإنترنت وساهم إلى حد أكبر بتعزيز غرائزنا وإثارة فضوليتنا اللاعلميّة، وعزّز كسلنا في البحث والتّقدّم. وبدل أن نستخدم تلك الوسائل بشكل إيجابيّ بتنا نسعى إليها لتزيد من تخديرنا العقليّ والنّفسيّ
وأهمّ ما نتج عن تخديرنا الفكريّ والنّفسيّ، حالة التطرّف الّتي نحن عليها. والتطرّف لا يعني التطرّف الدّينيّ وحسب، وإنّما يشمل أيّ نوع من التطرّف المتعلّق بالتّمسّك السّلبيّ بفكر معيّن إلى حد اعتباره الحقيقة الكاملة، ومحاولة السّيطرة على الآخر من خلاله. والمتطرّف هو الشّخص الّذي تجاوز الاعتدال في رأيٍ أو عمل وهو الّذي تمسّك بعقيدة أو فكر حزبيّ أو سياسيّ... إلى أقصى حدّ.  والتّطرّف، هو حالة مرضيّة، سواء أكان على المستوى النّفسيّ أم على المستوى الاجتماعيّ
إن تحدّثنا عن التطرّف الدّينيّ، فسوف نرى أنّ المتطرّف الدّينيّ، هو شخص مرتبك اجتماعيا، متشبّث بفكرة عقائديّة معيّنة، ويفرضها على الآخر. ليس لأنّه مقتنع بها وحسب، وإنّما لأنّه يعتبرها حقيقة كاملة، ويعتبر نفسه سيّد هذه الحقيقة. كما وأنّ المتطرّف الدّينيّ، وإلى أيّ دين انتمى، يعاني نوعاً من اضطراب نفسيّ، ولا أقول مرضاً، ينتج عن نقص في الثّقة بالذات. وبالتالي يحاول إثبات ذاته من خلال الدّين لأنّه الأشمل والأقوى. هذا الاضطراب النّفسيّ يقلّل من أهميّة التّحليل العقليّ، فيصبح العقل في حالة اكتساب فقط، دون العودة إلى المقارنة، كما يمتنع الشّخص عن الحوار والنّقاش بهدف اكتساب الأفضل. فتسيطر عليه حالة الانغلاق على الذّات، ويسجن نفسه داخل عقيدته، عن تعصّب وليس عن إيمان، والفرق شاسع. لأنّ الإيمان هو علاقة مع الله ومع الآخر، ولا علاقة مع الأوّل دون الثّاني.  أمّا التّعصّب فهو التّمسّك بالفكرة كفكرة، دون الغوص فيها، وبالتّالي تبقى الفكرة قشوراً غير قابلة للتطوّر.
وإن تحدّثنا عن التّطرّف الالحاديّ، ولا أقصد الملحد الباحث عن الحقيقة، وإنما الملحد الّذي يتبع موضة الإلحاد. هذا النّوع أيضاً يرفض بشكل مطلق الآخر ويستهزئ به، ومتى ادّعى الحوار يسخر من كلّ معتقداته مفتقداً النّقاش العلميّ والمنطقيّ. ولأني أجزم، أنّه إذا ما سيطر التطرّف الإلحادي يوماً ما، فسوف يكون أشدّ قسوة على المجتمعات من التطرّف الدّينيّ. ولسوف يضّطهد الآخر لأنّه يتشبّث بفكره ليس عن قناعة، إنّما عن ردّة فعل، وسيسلك طريقه بناءً على ردّات فعل وليس عن قناعة حرّة.
ونأتي على ذكر التطرّف السّياسيّ، الّذي يستخدم سياسة التّخوين، والمزايدة على حبّ الوطن وإلى ما هنالك من ادّعاءات كاذبة. فالتطرّف السّياسيّ هو الأخطر لأنّه يستبعد أيّ فكر حرّ، ويتّهمه بالعمالة والخيانة إذا لم يتّفق معه، من هنا نشهد الاقتتال ما بين أبناء الوطن الواحد، والطّرفان خائنان، لأنّهما يدمّران وطناً، ويدمّران حضارة بأكملها.
والتطرّف السّياسيّ، يشمل كل أنواع التطرّف، فهو يتكلّم باسم الدّين والعلمانيّة والإلحاد....إلخ. ونشهد حروباً كلاميّة مقيتة، وشجاراً إعلاميّاً رخيصاً، لا يثمر العقل ولا يفيده. وينتفي من عقولنا أسلوب الحوار وعرض الأفكار، وطرحها بشكل منطقيّ بهدف التّكامل وبناء بعضنا البعض.
ليس المطلوب أن ننصهر ببعضنا البعض ويفقد كلّ منّا حرّيّة فكره الشّخصيّة. المطلوب أن نعمل على تثقيف ذواتنا من خلال الآخر، ومحاورة الإنسان فيه. كما علينا أن نتخلّى عن فكرة امتلاكنا للحقيقة الكاملة، وادّعاء أنّنا المخلصون والمخلّصون للمجتمع أو للوطن. كما علينا أن نسعى لتثقيف عقولنا حول كيفيّة الحوار وأصوله. ونحن بعيدون عنه كلّ البعد، فما نسمّيه حواراً، ليس إلّا ثرثرات وتعبير عن غضب ورفض لفكر الآخر. ونطالب بالحرّيّات ونرفض حرّيّة الآخر، على المستوى الفكري والدّيني والاجتماعي، ومتى اختلف عنّا نخوّنه أو نكفّره
من حقّ كل إنسان أن يفكّر على طريقته، ويمارس فكره شريطة ألّا يتعدّى حدود حرّيّة الآخر. فليس من شأن أحد إن آمن هذا أو ألحد ذاك. وليس من شأن أحد إن اختار أحدهم الانتماء لحزب معيّن أو اختار آخر أن يكون مستقلّاً .

1-الـتّطرّف الدّينيّ

لعلّ أكثر المواضيع الّتي نواجه فيها الكثير من الصّدامات، هو موضوع الدّين. وذلك لأنّه موضوع بالغ الحساسيّة، لا بل يطرق مشاعر الإنسان وكرامته.  ولعلّنا نخلط كثيراً بين ما هو حوار دينيّ  عقلانيّ يتضمّن عرض الفكر العقائديّ وبين محاولة إقناع الطّرف المحاور بالحقّ. وما زلنا في مجتمعاتنا نفتقد كثيراً للحوارات الدّينيّة الرّاقية والعقلانيّة، إذ إنّنا ونحن نحاور، ندافع أكثر ممّا نشرح قناعاتنا ، كما أنّنا نمزج بين الإيمان كعلاقة شخصية حميميّة مع الله، وبين الدّين الّذي هو وسيلة تعبير عن هذا الإيمان.  
نشأت الأديان نتيجة انغلاق مجموعات معيّنة على بعضها، وخلقت منظومة دينيّة تتوافق وظروفها الاجتماعيّة والنّفسيّة، متأثّرة بمحيطها، وتتوق إلى معرفة السّامي والمطلق، ولكن باختلاف طرائق التّعبير. إنّ كلّ مجموعة انغلقت على نفسها خوفاً من الآخر فخلقت منظومة اجتماعيّة هي "الدّين" . وأذكر مثالاً على ذلك "المسيحيّة". إنّ المسيحيّة لم تنشأ كدين في البداية، وإنّما هي الخبر المفرح المعلن للعالم أجمع، ألا وهو الخلاص. ولم يكن بعد قد أطلق على من اتّبعوا هذا الفكر تسمية "مسيحيين". إلّا أنّهم فيما بعد لقّبوا كذلك لأنّهم يتبعون المسيح. ولمّا انغلقت المسيحيّة على نفسها خوفاً من اليهود والوثنيّين نشأت كديانة، أي كمنظمة. ولم يعترف بها كدين رسميّ إلّا في عهد الملك قسطنطين.  كذلك اليهوديّة، فاليهود انغلقوا على أنفسهم خوفاً من الحضارات الوثنيّة. ولا يمكنا التّحدّث عن ديانة يهوديّة إلّا مع الملك داوود... ولا أدخل في تاريخ الأديان لأنّه خارج عن موضوعنا . 
إذاً، فالخوف والانغلاق نتج عنه مجموعة دينيّة معيّنة وبالتّالي تمسّكت هذه المجموعة بفكرها على أنّه الحقيقة المطلقة، ومتى استلمت زمام الأمور وامتلكت السّلطة، فرضت ما تعتقده حقيقة مطلقة ونسيت الجوهر الحقيقيّ للعقيدة. كما استخدمت هذه الحقيقة المطلقة وسيلة ترهيب أو ترغيب لمحاولة السّيطرة على الآخر دون احترام فكره وعقيدته وقناعاته. والتّاريخ حافل بالممارسات المسيئة بحق الإنسان من المجموعات الدّينيّة باسم الله والدّين .
متى استخدم الدّين كوسيلة ضغط على الآخر من حيث أن نفرض عليه ما نعتقده حقيقة مطلقة، واستبعاد أي فكر يخالف قناعاتنا، ومتى استخدمنا الدّين كسلطة تدير شؤون المجتمعات، أعتقد أنّنا نكون قد وصلنا إلى التّطرّف الّذي هو اتّخاذ أقصى طرف في قناعة معيّنة والتّمسّك بها كحقيقة مطلقة، وكلّ ما دونها يكون باطلاً.
لا أحد يملك الحقيقة المطلقة، ولا أحد يحقّ له أن يفرض قناعاته على الآخر بحجة إعلان الحقّ. فكلّ واحد منّا يسعى إلى معرفة الحقّ، ولا نعرفه بشكل مطلق، إنّما نحن في بحث دائم ومستمرّ إلى أن نلامس الحقّ وبالتّالي ندخل تدريجيّاً في سرّه لنتأمّله ونعيشه. ولا يدعينّ أحد أنّه يعلن الحقّ، فكأنّه يقول: إنّه هو الحق.ّ
ذكرنا سابقاً أنّ المتطرّف هو شخص يعاني من اضّطراب نفسيّ، نتيجة النّشوء في محيط معيّن، ونتيجة تربية معيّنة وغالباً ما تكون قاسية وتفقد الفرد ثقته بنفسه. فيحاول إثبات ذاته من خلال الانخراط في فكر معيّن، يتمسّك به، ويحاول فرضه. كما يسعى إلى النّجاح في ذلك على أن يحسّن من صورته أمام ذاته. أمّا المتطرّف الدينيّ، فهو يحاول أوّلاً إثبات ذاته أمام الآخر، وثانياً  يقتل حاجز الخوف من الآخر  من خلال اعتباره على ضلال. فيأتي هذا الشّعور بالتّعالي الّذي يعزّز نظرته لذاته ويؤكّد له ثقته بنفسه. إن الخطير في الموضوع أنّ المتطرف دينياً يمارس قناعاته وضغوطاته باسم الله. فيتمسك بالله الحرف، وينسى تماماً الله الجوهر. فالله الحرف هو مجموعة نصوص وكلمات، وتكاليف تملي على الإنسان منهج عيش معيّن. أمّا الله الجوهر، فهو أن يدرك الإنسان أنّ علاقته بالله  تكون متينة بمقدار ما تكون علاقته مع الإنسان قويّة .
المتطرّف الدّينيّ يستبعد الإنسان، أو بمعنى أصح، يستبعد كلّ من يخالفه قناعاته الدّينيّة، ويستخدم النّصوص الحرفيّة في حقّ الآخر، ولا يخلو الأمر من إهانات وشتائم والأخطر، أنّه يصل به الجنون الدّينيّ إلى القتل باسم الله .
من خلال حواراتي مع الكثير من المتطرّفين دينيّاً، ولا أحصر الموضوع في دين معيّن، وإنّما أتحدّث بشكل عام. يخلو قلب المتطرّف الدّينيّ من الإنسانية التي جاء من أجلها الدّين. وبالتّالي ينحصر عقله  بما هو متمسك به. لا يصغي وإنّما يفكّر كيف سيملي ما حفظه من نصوص وشروحات على الآخر. لا يفعل ذلك بدافع الحبّ، إنّما بدافع كسب النّجاح الّذاتيّ، وتحسين الصّورة أمام الذّات. لا يحاور وإنّما يقمع. ومتى نفذ صبره استخدم سياسة التّرهيب والتّهديد إلى أن يصل إلى جرح كرامة محاوره.
هذا على المستوى الفرديّ. أمّا على المستوى العام، فنشهد تلك الجماعات الدّينيّة المتطرّفة، والموجودة في جميع الأديان، كيف تغذّيها منظمات شتّى وتدرّبها  على قمع الفكر الحرّ.  والقمع إمّا يكون باستخدام الوسائل الإعلاميّة وحدّث ولا حرج عن انحطاطها الفكريّ، إمّا باستخدام القتل وإنهاء حياة كلّ مخالف .
التّطرف الدّيني هو موضوع أبعد ما يكون عن الدّين، حتّى لو أن الأفراد يعتقدون أنّهم يدافعون عن الدّين. إنّما على مستوى الكبار فهو مدخل واسع لتحقيق مصالح شخصية، وامتلاك السّلطة. وهو وسيلة لحرب فكريّة تبيد حضارة أجيال بكاملها. فالحروب الفكرية أخطر بكثير من الحروب الّتي يستخدم فيها السّلاح. السّلاح يقتل وانتهينا، أمّا  السّلاح المستخدم في قمع الفكر فهو يتغلغل في خلايا الإنسان الدّماغية، وفي سلوكيّاته لينشّئ جيلاً على العنف والعداء والكراهية. 
ليس من حقّ أحد أن يفرض معتقده، وليس من حقّ أي معتقد أن يسعى إلى الحكم والسّلطة مدّعياً إعلان حق الله. وأيّ دين ومهما كان متسامحاً، متى وصل إلى السّلطة سيكون في قمّة الظّلم إذ إنّه يكفي أنّ يفرض عقيدته كسلطة أو كقانون. 
من حقّ كل إنسان أن يعبّر عن فكره الحرّ، وأن يقتنع أو لا بفكر معيّن.  كما أنّه من حقّه أن يعلن انتماءه لله أو لا. وليس دورنا كمؤمنين أن نقنع الآخر بما نعتقده أنه حقّ، وإنّما دورنا أن نكون في خدمة الإنسان، أي إنسان، لنكون بالتّالي في خدمة الله. 

2-التّطرّف الإلحادي.
الإلحاد هو الميل أو العدول عن الشيء، وهو وصف لأي موقف فكري يرفض التّصديق بوجود صانع (خالق وفق الفهم الديني) واعٍ للوجود، أو بوجود "كائنات" مطلقة القدرة (الآلهة).لأن شرط العلم (بحسب أفلاطون) هو أن يكون المعلوم قضيّة منطقيّة صحيحة، مثبتة، ويمكن الاعتقاد بها. ولما كان ادّعاء وجود إله، بحسب الملحد، غير مثبت (ادّعاء كاذب) فإن التّصديق بوجود إله ليس علماً وإنّما هو نمط من "الإيمان" الشّخصي غير قائم على أدلّة، وما يـُقدّم بلا دليل يمكن رفضه بلا دليل. ومن هذا فإن الإلحاد الصّرف هو موقف افتراضي بمعنى أنه ليس ادّعاء ولكنّه  جواباً على ادّعاء بالرّفض.  ويعرّف الإلحاد من وجهة نظر كثير من الأديان بأنه إنكار للأدلةّ العلميّة والعقليّة ونحوهما على وجود صانع واعٍ للكون والحياة ومستحقّ للعبادة (الله).
وإن طالعنا  قاموس لسان العرب، فسوف  نقرأ باستفاضة التّعريف  عن الإلحاد . وبغضّ النّظر عن التّعريفات، فكلمة "ملحد" المتداولة بين النّاس، تعني من يرفض وجود الله.
وإنّي أرى في الملحد باحثاً عن الحقيقة. إن كان يرفض الله أم لا، أو إن كان يعترف بوجوده أم لا. هو يبحث عن الحقيقة انطلاقاً من فكره وخبرته الشّخصيّة وهذا حقّ مشروع لا جدال فيه. وأعتقد أن ما خلق الفكر الإلحادي أو الاتجاه الإلحادي، هو ما قدّمه الفكر الدّيني من مغالطات  ومن قمع لحرّيّة الإنسان. بمعنى أنّه لم يغص  سابقاً بما يكفي في دراسة النّصوص الكتابيّة دراسة علميّة أوّلا واستسلم لإيمان أعمى . ثانيّاً قدّم الله بحسب ما فهمه على أنّه سيّد جبار مخيف يقمع حرّيّة الإنسان الفكريّة ويعيق انطلاقه الفكريّ. كما عكس صورته كمحرّك الخير والشّر ولم يعطِ  الدّين بالمفهوم الإنساني جواباً واضحاً لأمور كثيرة تحصل ويحار بها الفكر  الإنسانيّ.  لا بل هناك الكثير من الأجوبة المبهمة يرفضها الفكر الإنسانيّ الحرّ. والأخطر المواجهة العنيفة لمفكّرين كثر حاولوا تحليل ما يدور حولهم بعيداً عن الدّين أو نقد النصوص الكتابيّة.
حاربت المؤسّسات الدّينيّة من أطلق عليهم اسم "هراطقة"، وأفضّل أن أسمّيهم مفكرين يحاولون إيجاد حقيقة ما. كما شرّعوا إعدامهم أو نفيهم، وهذا انتهاك للإنسانيّة باسم الله. فأي نقد  بنّاءٍ لنصّ كتابيّ أو لجوهر عقيدة، لا يضرّ العقيدة بشيء ولا يزعزعها . كما أنّه لا يمس الله بشيء. ولا أُدين أحداً ولا أتّهم أحداً، كما أنّي لا أدافع عن الإلحاد، إنّما أعترف له بالحقّ في البحث عن الحقيقة، وفق منظوره الشّخصيّ وخبرته الشّخصيّة
كما أنّه لا يجب فرز النّاس بين مؤمن وملحد. وأعتبر هذه التّسميات، مجحفة بحقّ الإنسان. لقد قابلت ملحدين، ملء قلبهم الحبّ والصّدق، وقابلت متديّنين أشدّ إلحاداً من الملحد نفسه بحسب تعريفنا للملحد .
أرفض أن أسمّيه ملحداً، إنّه إنسان يبحث عن الحقيقة. وإن كان الإلحاد هو الميل عن الدّين أو العدول عنه، فكثير منّا، نحن من نلقّب أنفسنا بالمؤمنين، يعدل أحياناً عن الدّين ويطعن به، ولكنّ الفرق بيننا وبينه، جرأته على إعلان ذلك. 
ولمّا انفتح الحوار بين الملحدين والمؤمنين، أخذ أغلب المؤمنين بالدّفاع عن الدّين أو عن الله دون مناقشة عقليّة متّزنة. ثمّ استخدموا سياسة التّهديد والتّرهيب، الّتي تحرّر منها الملحد أصلاً  ولا تعني له شيئاً. وأعتقد أنّنا لم نعرض غالباً فكرنا وعقائدنا بشكل راقٍ ومتّزن. فالفكر يواجه بالفكر وليس بالشّتائم والرّصاص. وننظر إلى الملحد وكأنّه كائن مخيف أو إنسان دون مستوانا.  وهذا ينفي إيماننا كلّ النّفي ويطعن الدّين في الصّميم.
بالمقابل، فمن المرفوض أن يتّخذ الملحد أقصى طرف إلحاده ويمارس قمعاً فكريّاً وإنسانيّاً على فكر المؤمن. وليس من المقبول محاربة الفكر الدّينيّ والاستهزاء به، وشتم رسول أو شفيع أو من يعتبره المؤمن مقدّساً. هذا ليس من شأن أحد، لكلّ منّا حرّيّته الشّخصية في التّعبير والفكر. وكما أنّ الإيمان بالنّسبة للملحد غير يقينيّ، كذلك الإلحاد ليس يقيناً. وما يقرّب المسافة بين فكر وفكر مضاد هو الحوار وليس الحرب
إنّ التّطرّف الإلحاديّ كما الدّينيّ، يستخدم شتّى الوسائل لخوض حرب شرسة يثبت فيها الواحد للآخر فكره.  مع العلم أنّ الحروب تبيد ولا تبني، تقتل ولا تبقي على شيء. كما أنّه يستفزّ  المؤمن باستهزائه بالدين والإيمان، وهذا ليس إنسانيّاً وليس فعلاً حرّاً، إنّ  سيطر التّطرّف الإلحادي يوماً على العالم، فسيكون أشدّ قسوة من التّطرّف الدّينيّ . وسيحكم ويقمع بما يراه حقيقة مطلقة. وسيعتقل ويعدم ويرهب. ذلك لأنّه سيستخدم نفس الكرباج الّذي جلده به من يخالفه فكريّاً، ولأنّه سيتصرّف غرائزيّاً وليس وفق منطق يقتنع به.
ولقد استُخدِم التّطرّف الإلحادي كما الدّينيّ لمحاربة الفكر والحدّ من نموه وتطوّره. فأيّ محاربة لفكر ينتج عنها إبادة فكريّة للطّرفين ويخلق مكان الإبداع العنف والقمع. 

3-التّطرّف السّياسيّ
السّياسة هي فن الممكن وهي من "ساس"، وتعني: تولي أمر الناس وإرشادهم إلى الطريق الصالح. ولابد من التّفريق  بين السّياسة باعتبارها علماً له مفاهيمه وقواعده وبين السّياسة باعتبارها ممارسة وتصرّفات وقرارات. وإن كان من المنطقي أن تستند الثّانية على الأولى، ولكن جرى العمل على الانفصال بين السّياسة العلميّة والسّياسة العمليّة.  
هناك اتّجاهان في تعريف علم السّياسة وهما :
 الأوّل: يعرفّها بأنّها علم الدّولة أي ذلك العلم الّذي يدرس الدّولة: مفهومها، وتنظيمها ومؤسّساتها، وتشكيلاتها، وممارستها، وسياساتها .
الثّاني: يعرّفها بأنّها علم السّلطة أي ذلك الّذي يدرس السّلطة باعتبارها مفهوماً شاملاً يمتدّ إلى الاجتماعات البشريّة كافة، فمنذ وجد الإنسان على ظهر الأرض والعيش مع الآخرين ظهرت ضرورة تتطلّبها الطّبيعة الإنسانيّة وهي بدورها تفرض ضرورة وجود علاقات مبنيّة على أساس  التّفاوت والاختلاف. ممّا يتطلّب وجود حقوق وواجبات والتزامات واختلافات بصدد كلّ هذه ممّا يفرض وجود سلطة.  فالسّلطة وضع اجتماعيّ وهي علاقة بآخر. السّلطة إذن، هي إحدى مسلّمات الطّبيعة البشريّة، يكمن سبب وجودها من شرعيّتها في الهدف الّذي تشكّلت من أجله  في المجتمع .
والسّياسة ليست كما يعرفها الجميع زعامة أو وراثة أو إقطاع أو مناصب وهي ليست محصورة لا بأحزاب ولا جمعيات ولا مؤسّسات.
إنّ السّياسة بمفهومها الحقيقيّ والمغيّب هي إدارة شؤون الدّولة والوطن والمواطن. وأعتقد أنّه اليوم بات مفهوم السّياسة بعيداً إلى حدّ ما عن مفهوم السّياسة الرّاقي. إذ بات مفهوم السّياسة، اللّعبة الأساسيّة للسّيطرة على الشّعوب، وتسييرهم وفق مصالح معيّنة وأهداف  خاصة تحكمها السّلطة ويستأثر بها المال
والسّياسة، إن على المستوى العالمي أو المحلّي، فقدت قيمتها كخدمة للشعوب وباتت خططاً تحاك بعنايةٍ ودقّة وحرص لفرض سياسات عالميّة على الشّعوب من خلال منظّمات سرّيّة أو علنيّة، تهدف إلى السّيطرة المحكمة على كلّ ما  لا يتوافق وأهدافها الإستراتيجية، والسّياسيّة، والماليّة .
وما نشهده اليوم في مجتمعاتنا العربيّة، وأحصر الموضوع في مجتمعاتنا كي لا يتشعّب كثيراً، خير دليل على أنّ السّياسات العالميّة هي الّتي تقودنا ونُساقُ خلفها، إمّا عن جهل وإمّا عن قناعة، وإمّا عن مصلحة وهذا الأخطر .
لا أريد أن يفهم القارئ أنّني أستخفّ بالشعوب العربيّة وإنجازاتهم، أو أنّني أقلّل من شأن أحد. جلّ ما أريده هو تسليط الضّوء على بعض الأمور الّتي أراها خطيرة جدا، ونحن نتعامل معها بعاطفة وردّات فعل .
لقد تحدّثت سابقاً عن التّطرّف الدّينيّ والتّطرّف الإلحاديّ، اللّذين يدخلان في صميم التّطرّف السّياسي، وليسا بعيدين عنه، فهما يتشكّلان ضمن نفس الهيكليّة ولكن مع اختلاف الأهداف  والمضمون. ولا شك أنّهما يستخدمان ضمن اللّعبة السّياسيّة. ليساهما بتدمير ما تبقّى من فكر راقٍ في مجتمعاتنا، ولقمع الحرّيّة الفكريّة. ومن يستخدمهما، يعي تماماً مدى تأثيرهما الخطير والفعّال في شعوب لا تفقه بعد معنى الحرّيّة بشكل واضح، ولا تؤمن بعدُ بحرّيّة المعتقد وإن ادّعت ذلك. ولا تحترم الفكر الحرّ الّذي يخالفها. ولا ننسى الإعلام السّياسيّ الموجّه، الّذي يُنفق عليه المليارات من المال السّياسيّ، ليساهم في هذه الحرب الفكريّة البغيضة. إنّ دور الإعلام أرقى من التّحريض والانحياز إلى فئات معيّنة. كما أن دوره إيصال الحقيقة وليس إيصال نصفها . فمن أوصل نصف الحقيقة، كان كاذباً بامتياز .
السّياسات العالميّة تدرس منهجيّة تفكير الشّعوب، وعلى أساس ذلك تبثّ سمّها، ونحن نبتلعه متهلّلين على أنّه شراب فاخر ومستورد .

- التّطرّف الديني المستخدم في السّياسة لمحاربة الفكر الحرّ وقمعه :
إن الجماعات المتشدّدة سواء أكانت مسيحية أم إسلاميّة أم أيّاً كانت، لهي جماعات هدفها الأساسيّ تدمير الدّين بغض النّظر عن قناعة الأفراد، وهي المنهجيّة العامّة الّتي يجهلها الصّغار ويهدف إليها الكبار. إن البدع الّتي نشأت لمحاربة المسيحيّة، جذورها واحدة وهدفها واحد هو تدمير المسيحيّة ولا أعلن سرّاً في هذا الموضوع. ولقد ساهمت إلى حدّ بعيد في تضليل البعض عن جوهر المسيحيّة الأساس، كما أنّها تركت انطباعاً عامّاً عند السّذّج والكسالى في البحث عن جوهر مسيحيّتهم، أنّها المسيحيّة الحقّة. ولا يُخفى على أحد التيّارات المسيحيّة الصّهيونيّة الّتي تنشر فكرها البغيض، وتستقطب السّذّج وضعيفي النّفوس وتستخدمهم في تنفيذ مآربها. وهذه التيّارات يندرج تحت لوائها أهمّ حكّام العالم، ويتحفوننا كلّ يوم بأفكارهم البغيضة. لا أحد ينسى يوم أعلن"جورج بوش" الابن بغباء الحرب الصّليبيّة على العراق، والأغبى من ابتلع هذه الجملة وجنّد جماعاته للدّفاع عن القيم الدّينيّة. وتركت الدّولة الأميركية العراق يتخبّط بأبشع وأعنف الجماعات المتشدّدة ولا أفهم أين الحرّيّة في ذلك. وهجّرت النّاس من بيوتهم وشرّدتهم باسم الدّين وباسم الله. وخلقت جيلاً تسري العدائيّة في دمه. وها هم العراقيّون مشتّتون في العالم، بلا وطن وبلا أمان، لأن السّياسة العالميّة أرادت أن تحرّرهم من "صدّام" .
ثمّ التّيّارات الإسلاميّة المتشدّدة والمتعجرفة، الّتي شوّهت جوهر الإسلام، الّذي هو حرّيّة الإنسان، وجعلت منه بعبعاً يخيف النّاس من الإسلام الكريم. هذه الجماعات الّتي انحدرت بالدّين إلى مستوى الحزب.  ولا أهين الأحزاب ولا أمقت الفكر الحزبيّ، إنّما الدّين وربّما يتّفق معي الجميع، هو رسالة إنسانيّة وليس فكراً بحاجة إلى دعاية في الانتخابات، ومن لم يلتزم به يكون كافراً .
وحدّث ولا حرج عن الجماعات الدّينيّة وسلوكها طريق الخلاص باسم الله والدّين، وهي بعيدة كلّ البعد عن المفهوم الإنسانيّ للدين. فمن يفقه في المسيحيّة والإسلام يفهم تماماً ما أقول. أمّا من يريد أن يهدي النّاس إلى الحقّ لأنّه يعتبر أنّه يملكه وحده، فورقته هذه الأيّام خاسرة، وإن كانت تُستخدم لأهداف سياسيّة. فهناك طبقة مفكّرة لا بأس بها وتستحقّ كل الاحترام، تسعى لنشر الوعي بين النّاس، إن كان وعياً دينيّاً أو إنسانيّاً . 
ومع احترامي وتقديري لكلّ الثّورات العربية، وللشّعوب المعبّرة عن رفضها للقمع والاضطهاد الفكري، ومحاربتها للفساد، إلّا أنّه سبق هذه الثّورات تحرّكاً لافتاً للجماعات الدّينيّة، ونراهم اليوم وكأنّهم صنّاع الثّورات ويطالبون بالتّفرّد بالحكم، مع أنّهم يطالبون بالحرّيّة والديمقراطية. يكفي أن ندخل الغرف الصّوتيّة ونشهد قمّة الانحطاط في الحروب الكلاميّة المقيتة الّتي تتبادلها أفراد الأديان، لا بل  الطّوائف. ويكفي أن نمرّ على  بعض الفضائيّات لنشهد أبشع أنواع الصّور عن الفكر الديني ..كلّهم يعلنون الحقّ والخلاص، وكلّهم يهدون إلى الحقّ، وكلّهم يكفّرون...  والمأساة أن نرى جيلاً يتربّى على هذه الأفكار المقزّزة.
هؤلاء تسلّلوا إلى الثّورات وادّعوا أنّهم يطالبون بالحرّيّة، وهم فعلياً ينتقمون لأنفسهم، ويودّون السّيطرة والتّفرد بالحكم ليعيدوا أمجادهم. وهذه الجماعات تحضّر نفسها من سنين طويلة، وليست ضعيفة وإنّما زادت قوّة بمن يقوّيها. لكنّها ستقع في فخّ اللّعبة السّياسيّة يوم يتمّ الاستغناء عن خدماتها، وستفقد الأصوليّة هالتها المقدّسة .
أمّا التيّارات الإلحاديّة الّتي تستخدم في اللّعبة السّياسيّة، تشوّه أيضاً الفكر الإلحادي. فليس الملحد إنساناً كما يظهره لنا التّطرّف الإلحادي. هناك مجموعة من الملحدين الذين يتمتّعون بالخلق الرّفيع ويستحقون كل الاحترام. أمّا من ينشرون فكرهم على أنّه حقيقة مطلقة ويستفزّون مشاعر النّاس ليعزّزوا الحقد والكراهية، فهؤلاء أيضا سينتهون مع الوقت لأنّ أهدافهم فارغة .
التطرّف الدّيني والإلحادي على السّواء ورقة خطيرة يستخدمها التّطرّف السّياسي في إبادة الفكر، وفي قمع الإنسان الحرّ. ونحن شعوب نتصرّف بردّات فعل أكثر ممّا نعقل الأمور، فنتأهب فوراً للدّفاع، بدلا عن قراءة ما بين الأسطر .

لم تكن هذه المقالة إلّا لتسليط الضّوء على ما يدور من حولنا علّنا نعي ما يحاك لنا ونستيقظ من غفوتنا، ونسعى إلى حبّ بعضنا البعض واحترام بعضنا البعض كي يحترمنا العالم.

الإيزيديّون بشر مثلنا

مادونا عسكر/ لبنان

لم يتعدَّ خبر حرق تسع عشرة إيزيديّة سطوراً قليلة في الصّحف وشاشات التّلفزة ومواقع التّواصل الاجتماعيّ. وبين تضارب الأخبار بين الصّحة والنّفي، لا بدّ أن نؤكّد أن لا شيء يستعصى على جماعات تدّعي التّطهير والإصلاح بحجّة الولاء لله. سيّما أنّه من الممكن أن يكون الخبر صحيحاً، فما يحصل من جرائم وحشيّة وهمجيّة بحقّ الإنسان لا يقلّ عن ذلك. ولا يصلنا إلّا نصف الحقيقة أو حتّى ربعها، وما خفي كان أعظم. وما يشهده الإيزيديّون وغيرهم اليوم من اضّطهاد يستدعي اعتراض الضّمير على هذه الوحشيّة خاصّة من مدّعي التّسامح الدّيني.
التّسامح الدّينيّ كذبة كبيرة يتلطّى خلفها أصحاب الشّعارات لتبرير عنصريّتهم، ودعوة فاشلة لطمس الحقائق وعدم الوقوف بجديّة وجرأة أمام هذا الكائن الوحشيّ المجنّد للقتل والنّهب والاغتصاب بإشارة إلهيّة. يقول غاندي: "إنّ التّسامح الدّينيّ لا يكفي، بل حريّ بالإنسان أن يتخطّاه إلى الدّفاع عن دين الآخر كأنّه دينه الشّخصيّ". ولئن اعتبرَ وجود ديانات سماويّة ثلاث هو الأساس، تمّ إقصاء الآخر الخارج عن إطارها، ليحرم من إيمانه، وإنسانيّته. والكلام عن ثلاث ديانات سماويّة لأشدّ عنصريّة  لأنّه يقصي الآخر قطعاً، ويجعله في إطار لا إنسانيّ، مُخرجاً إيّاه من الوجوديّة الإنسانيّة.
الدّيانات السّماويّة تعريف محض بشريّ، لأنّ الدّين هو الدّين كمنظومة اجتماعيّة انغلقت على ذاتها خوفاً من الآخر، وتشبّثت بتقاليد وموروثات وإن تسببّت بعدم انفتاحها، لتحافظ على مكانتها الدّينيّة السّلطويّة. ليس من دين سماويّ وآخر غير سماويّ، بل ثمّة  اختبار إنسانيّ مع الله يتفاوت بين الجماعات. منهم من تخطّى المرئيّ إلى اللّامرئيّ، ومنهم من بقي عند حدود المنظور والملموس. وأيّاً كانت الانتماءات والاعتقادات، وجب احترام الإنسانيّة كجوهر بغضّ النّظر عن أيّ عقيدة مهما بلغت من حقيقة.  
لسنا بصدد إلقاء الشّعر وتنميق الكلام ونحن نتحدّث عن احترام الكيان الإنسانيّ، بل هي دعوة جدّيّة للمتديّنين أوّلاً ليتّخذوا موقفاً حازماً من هذه الجرائم، وينفتحوا على الضّمير الحيّ، ويتجرّأوا على نقد أيّ نصّ كتابيّ يدعو لإقصاء الآخر وتكفيره. بل هي دعوة للتّخلي عن مقدّسات زائفة، وموروثات فانية، وتقاليد بالية، وشروحات معقّدة تبرّر الوحشيّة أكثر ممّا توقظ الحسّ الإنسانيّ.
الإنسانيّة تسير نحو الحقيقة باحثة عنها باختلاف الطّرق والمفاهيم. البعض يتلمّسها والبعض الآخر ما زال يبحث، والأغلبيّة تحتكرها. فإلى هذه الأغلبيّة نقول إنّ الله لا يحابي الوجوه ولا ينظر إلّا إلى القلب. وحده القادر على إثبات ذاته غير معوزٍ لزمرة مأجورة لا تفقه من الإيمان شيئاً، ولا ترى من الله إلّا اسمه.  


البحث عن الخلل عند الآخر واختراق خصوصيّته.

مادونا عسكر/ لبنان

في عالم باتت فيه الخصوصيّة  شبه معدومة ومطروحة غالباً بشكل مبتذل بسبب الانفتاح المفرط، هل يمكننا بعدُ الحديث عن اختراق لخصوصيّة الآخر، ومراقبته والبحث عن أخطائه ونواقصه. وهل يمكننا بعدُ أن نحدّد بدقّة الأسباب الّتي تدفع الإنسان عامّة للتّدخّل بشؤون الآخر أو الّتي تدفعه للبحث عن الخلل عند الآخر؟
 ولعلّنا في مجمعاتنا العربيّة نفتقد لاحترام خصوصيّة الآخر، ونعزّز في داخلنا  اقتناص هفواته الصّغيرة كما أخطائه الكبيرة ونسعد بتداولها. ولعلّ هذا الأمر يعود لسبب رئيسيّ ألا وهو إخفاء مشاكلنا الشّخصيّة أوّلاً، فنُبعد الأنظار عنّا ونختبئ خلف أخطاء الآخر. كما أنّنا نودّ إظهار كمالنا المزيّف على حساب الآخر، فنسعى إلى إبراز مساوئه لنبدو وكأنّنا الأفضل والأكمل.
اقتحام خصوصيّة الآخر نابع من تدنّي مستوى الوعي لدى الفرد، وفراغ داخليّ يدفعه لاقتحام حياة الآخرين والتّدخّل بكلّ شاردة وواردة. كما أنّ هذا التّدني بمستوى الوعي يحول بينه وبين إدراك معنى احترام الآخر. فالاحترام يبدأ من النّظرة مروراً بالتّفكير وصولاً إلى النّتيجة الّتي تظهر بالسّلوك المنتقد للآخر بغضّ النّظر عن احترام إنسانيّته وخصوصيّته.
الوعي الإنساني يفترض أوّلاً احترام الآخر على كلّ المستويات، لا سيّما احترام حياته الشّخصيّة والاستئذان باختراقها ولو من بعيد. فللفرد حرّيّته في التفكير والتّعبير والسّلوك طالما أنّه لا يؤذي أو لا يسبّب إزعاجاً لأحد.  وأمّا انتهاك حريّة الآخر فهو أشبه بسجنه وقد تسهم في انعزاله ووحدته.
الإنسان كائن اجتماعيّ بطبعه  إلّا أنّه لحظة يشعر أنّه مراقب طول الوقت، وأنّ حياته منتهكة، يفضّل الانعزال عن الآخر ليعيش بسلام. من ناحية أخرى، قد يُدخل هذا السّلوك البعض في دوّامة عدم الثّقة بالنّفس، أو التّحسّب من أيّ خطوة أو فعل يُحتسب عليه والاحتراس من مواجهة الآخر. هذا الأمر مقلق ومتعب، ويعاني منه كثيرون  خاصة ذوي الشّخصيّات الحسّاسة الّذين يودّون دائماً الظّهور بأفضل صورة ممكنة. فإذا تلمّسوا أيّ نقد من الآخر يقلقون ويضطربون، مع أنّه من المفروض تجاهل المتطفّلين وعدم إظهار ذي أهميّة لهم.
لكنّ الإنسان في مكان ما تُفرض عليه هذه النّوعيّة من الأشخاص، خاصّة إذا كانوا من الأهل والأقارب. فتمسي الحياة صعبة لضرورة وجودهم من ناحية، وصعوبة مواجهتهم ومنعهم من التّدخّل في الأمور الشّخصيّة من ناحية أخرى. فتدخّلهم ليس إلّا فضولاً مبتذلاً يعزّز في داخلهم راحة ما، يشعرون بها عندما يسبّبون الحرج للآخر. وذلك يعود لعدّة أسباب نفسيّة تدفعهم للسلوك بفضوليّة قد تصل إلى التّسبّب بخلافات عدّة.
لا ريب أنّه ينبغي تفهّم هؤلاء الأشخاص مع عدم تبرير فعلهم، وذلك لنقص الوعي عندهم، والفراغ الدّاخليّ الّذي يجتاح أعماقهم. ناهيك عن الأسباب الاجتماعيّة والنّفسيّة الّتي تجعلهم يختبئون خلف سلوك الآخر وانتقاده ليخفوا مشاكلهم الشّخصيّة. إلّا أنّه علينا ألّا نسمح لهم بتخطّي حدودهم، ونفرض حدوداً تمنعهم من انتهاك حرّيّتنا الشّخصيّة، والعبث بحياتنا، أقرباء كانوا أم غرباء. ولا نخفّانّ من ردّة فعلهم، أو نظرتهم لنا. فبقدر ما نردعهم ننعم بحريّتنا وثقتنا بذواتنا، ولعلّنا نساعدهم على تخطّي هذا السّلوك الفضوليّ المؤذي والمقلق.  


الإنسان بين الخير والشّر.

مادونا عسكر/لبنان


لعلّ موضوع الخير والشّر من أكثر المواضيع الّتي تأمّل فيها الإنسان ، كما طرح على نفسه السّؤال عن مصدر الخير والشّر، وكانت الأجوبة تأتي متباينة عادة بحكم تأثرها بالحضارة والثقافة والوعي الفكريّ للمجتمعات المختلفة على مرّ العصور. ولقد تدرّج المفهوم الإنسانيّ للخير والشّرّ انطلاقاً من نموّه الفكريّ والاجتماعيّ والإنسانيّ. فلو تكلّمنا عن الإنسان ما قبل التّاريخ الّذي كان يحاول اكتشاف محيطه، سنرى أنّه كان في حذر وخوف دائمين من الظّواهر الطّبيعيّة الّتي كان يواجهها، كالعواصف والأمطار والشّمس والحيوانات... وذلك لأنّها كانت تشكّل خطراً على حياته. ما دفعه إلى الاقتراب من الطّبيعة بالعبادة. فعبد النّار والشّمس والحيوان ثمّ بعض الظّواهر الطّبيعيّة. حاول أن يبحث عن قوى تفوق قواه لتحميه، فلجأ إلى مبادئ الدّين البدائيّ واخترع آلهته بحسب حالة خوفه. 
ومع تقدّمه في مسيرته الإنسانيّة، ونموّه الفكريّ والاجتماعيّ، ومع دخوله مرحلة معيّنة من التّطوّر كان لا بدّ من أن ينشئ قواعد ومبادئ أخلاقيّة ليحمي الضّعيف من القويّ عن طريق فرض العقوبات على المخالف وذلك بهدف المساواة بين النّاس.
هذه القواعد أتت وفق ما يتوافق والمصلحة الفرديّة كما العامّة ، كذلك نشأت انطلاقاً من حاجة المجتمعات للقوانين وستطوّر لاحقاً لما يناسب تطوّر الإنسان والمجتمع. ويعتبر الفعل المخالف للمصلحة الفرديّة والعامّة شرّاً من حيث أنّه أضرّ بالمجتمع أو سبّب بخلل ما فيه. ولمّا كان فعل المخالف يعتبر شرّاً، وجب السّؤال عن مصدر شرّه والدّافع لفعل الشّرّ.
إنّ الحضارات القديمة أوعزت الشّرّ لآلهة الشّر الّتي تتصارع مع آلهة الخير. وتكثر الأساطير الّتي تروي عن كيفيّة حدوث الشّرّ في العالم، كما تكثر الشّروحات في الفلسفات والدّيانات الشّرقيّة القديمة كذلك في الفلسفة اليونانيّة. وكان السّؤال دائماً إذا ما كان هناك من مقياس ثابت لتحديد الخير والشّرّ يناسب الإنسانيّة على مرّ العصور.
أمّا الدّيانات السّماويّة (الديانات المؤمنة بالوحي) الّتي جاءت بعدها، رفعت مفهوم الخير إلى مرتبة القداسة وجعلته من صفات وأعمال الله الخالق  لجميع الأشياء. أمّا وجود الشّرّ في هذا العالم فهو يرجع إلى عمل روح الشّرير أو إبليس (الشّيطان).  ولا بدّ من ذكر أنّ نشأة هذه الدّيانات خاصة اليهوديّة،  اعتبرت بداية أنّ الله هو من خلق الخير والشّر وهو الّذي يمتحن عبده وذلك لاعتباره السّبب الأوّل لكلّ شيء. إلّا أنّه مع تطوّر الوعي الإيمانيّ نفى الإنسان فعل الشّرّ عن الله وأوعزه إلى الشّيطان.
وإن تعمّقنا في النّفس الإنسانيّة ودرسنا حالاتها النّفسيّة المتغيّرة لوجدنا أن الإنسان في صراع دائم مع ذاته بين فعل الخير وفعل الشّرّ. إنّ دراسة الحالات النّفسيّة تؤكّد أنّ لكلّ سلوك سبباً، فالإنسان يخضع لعدّة عوامل بيئيّة واجتماعيّة تساهم في تكوين شخصيّته وتحديد سلوكه. وهذه العوامل تشمل الوراثة والتّربية والمحيط الاجتماعيّ والبيئيّ. وبما أنّ الإنسان مخلوق حرّ، فلا بدّ من أن تتدخّل إرادته في أفعاله. وإن كان يمارس فعل شرّ فذلك لأسباب معيّنة، إلّا أنّه يجب الأخذ بعين الاعتبار الكثير من الظّروف الّتي ساهمت في وصوله لهذه النّتيجة. كما وإن مارس فعل الخير، فذلك يعود أيضاً إلى الظّروف الّتي أحاطت به.
يولد الإنسان حرّاً ولا بدّ أنّه يولد خيّراً، ولا يولد شرّيراً، بدليل طفولته الّتي تخلو من أيّ فعل شرّ ولكنّها تتميّز بالأنانيّة. فالطّفل يعتبر نفسه محور العالم وبالتّالي يريد كل ما هو لخيره ولا يميّز بعد بين المصلحة الفرديّة والمصلحة العامة. كما لا يمكننا التّكلّم عن فعل شرّ عند الطّفل، كالكذب أو السّرقة أو الأذيّة، وذلك لأنّ الطّفل في مراحله الأولى يمرّ بعدّة حالات كالخجل والخوف، ثمّ إثبات الذّات إلخ... كما أنّ سلوك فعل الخير أو الشّرّ يتوقّف على مدى التّوجيه الّذي يتلقّاه من خلال التّربية والمحيط العائلي والاجتماعيّ. فإن نشأ في بيئة سليمة، تجنّب الكثير من السّقطات. أمّا إذا ولد في بيئة غير سليمة فلا بدّ أن ينعكس ذلك على سلوكه.
إذن، الإنسان مفطور على الخير والظّروف الّتي ينشأ فيها والّتي تحيط به هي الّتي تدفعه لفعل الشّرّ. وكلّ إنسان يسقط في فخّ الشّرّ والسّبب يعود لأنّه مخلوق حرّ، وحرّيّته تقتضي الاختيار الحرّ. كما أنّه مخلوق غير كامل وبالتالي فهو بحاجة إلى الاختبار للوصول إلى التّمييز بين ما هو خير وما هو شرّ.
ولكن يبقى السّؤال، ما هو الشّرّ وما هو مصدره؟
إن كان الإنسان بطبعه خيّراً، وإن كان سلوكه مرتبطاً بظروف معيّنة، فهذا لا يلغي إرادته. فالإنسان في نموّ وتطوّر مستمرّين، وبالتّالي يكتسب خبرة حياتيّة تساهم في صقله . وإن تجنّب الوقوع في أخطائه مرّة بعد مرّة سيبتعد عن فعل الشّرّ. وإن تصادق مع ذاته ورفع حسناته وحاول التّخلّص قدر المستطاع من سيّئاته، سيصل إلى إنسانيّته الحقيقيّة.
لمعرفة مصدر الشّرّ، علينا أن نفهم ما هو الخير أوّلاً. والخير هو الابتعاد عن كلّ ما يسبّب الأذى للفرد والجماعة، بمعنى أن يسلك الإنسان سلوكاً لا يضرّ لا به ولا بالآخر. ولعلّ الخير الحقيقيّ هو أن يُقدّم الآخر عليه، وذلك لا يعني أن يلغي ذاته وإنّما أن يسعى لخير الآخر ليرتدّ خيره عليه. فالخير الذّاتيّ دون الآخر قد يسقط في فعل ما نسمّيه شرّاً. ونضرب مثالاً على ذلك: عندما يسلب إنسان ما مالاً أو مقتنى، فإنّه يفعل ما هو لخيره ولكنّه يؤذي الآخر. أمّا إذا اعتبر أنّ الآخر قيمة بحدّ ذاته ولا بدّ من احترامها واحترام كلّ ما هو مرتبط بها، بالتّالي لن يقدم على الفعل. أو إذا ما قتل بهدف الانتقام فهو يحقّق ما هو لخيره الذّاتيّ بغض النّظر عن خير الآخر.  إذن، فعل الشّرّ مرتبط بالخير الذّاتيّ، ولا يوجد شرّ بحدّ ذاته، وأكاد أقول أنّه لا يوجد شرّ في هذا العالم. وإن عدنا إلى دراسة الحالات النّفسيّة لأشخاص مارسوا شرّاً عظيماً فلسوف نرى بوضوح أسباباً عديدة أدّت إلى هذا السّلوك. فمثلاً الشّخص الّذي يغتصب هو شخص مورس عليه هذا الفعل في مرحلة معيّنة من حياته، وبالتّالي ينفّذ الفعل في آخر. ولو بحثنا في شخصيّة طاغٍ لوجدنا أنّه نشأ في محيط قاسٍ ومؤلم وبالتّالي متى شعر بشيء من الحرّيّة سوف يمارس الفعل ذاته بآخر. ومثال آخر على بائعات الهوى فأغلبهنّ تعرّضن لحالات اغتصاب متكرّرة في طفولتهنّ أو مراهقتهنّ وبالتّالي خوفاً من أن يتعرّضن لذلك ثانية يهبن أنفسهنّ بلا شروط. وكلّ ذلك طبعاً لا يدركه الإنسان بشكل واعٍ كامل، ولكن لا ننسى أنّ الظروف القاسية الّتي يمرّ بها الإنسان تغذّي في داخله الخوف. والخوف هو العائق الأكبر لحرّيّة الإنسان الذّاتيّة، كما ينتج عنه سلوك شرّير بهدف حماية الذّات. ولا أورد ما سبق لتبرير الفعل السيئ بل لمحاولة فهم الأسباب وبالتّالي مساعدة الآخر على تخطّي ما يشوّه إنسانيّته.
إنّ الأديان لم تحلّ معضلة الشّرّ، وإنّما عالجتها ووضعت شرائع يلتزم بها الإنسان كي لا يفعل الشّرّ. وأهمّ ما أتت به الأديان لمعالجة موضوع الشّرّ هو محبّة الآخر حبّنا لأنفسنا. فإن اهتمّ الإنسان بالآخر كما يهتمّ بذاته أبعد عنه كلّ أذى. المحبّة هي الشّريعة الوحيدة الّتي تساعد الإنسان على الابتعاد عن فعل الشّرّ. وإن خضع لهذه الشّريعة سوف يتقدّم الآخر عليه وبالتّالي يرتدّ فعل الخير باتجاهه. وأن يتقدّم الآخر علينا، فهذا لا يعني الانسحاق أمام الآخر أو التّخلي عن حقوقنا وإنّما يعني تدريب النّفس على التّخلّي عن الأنانيّة. ولا بدّ أنّه مبدأ يصعب على الإنسان الأخذ به، إلّا أنّ الخير يفترض التّفكير بالآخر والاهتمام به على كلّ الأصعدة ليثبت فعل الخير. وإن تطلّب الأمر التّخلّي عن المتطلّبات الشّخصيّة من أجل خير الآخر فلا داعي للتّردّد. إن سعى الإنسان لخيره فقط فلن يسعد لأنّه مرتبط بالجماعة ولا يكتمل إنسانيّاً إلّا بها، وبالتّالي خير الجماعة يتقدّم على الخير الفرديّ.
وإن تحدّثنا عن الظّواهر الّتي نعتبرها شرّاً كالمرض والموت والفقر... فلكلّ منها أسبابه الّتي يجب على الإنسان أن يقبلها وبالتّالي يعترف بمحدوديّته وعدم كماله. إذا كان المرض شرّاً فهذا طبيعيّ نسبة للأسباب الّتي ينتج عنها المرض. فالجسد مادّة لا بدّ أن تصاب بخلل ما نتيجة ظروف معيّنة. كذلك الفقر في العالم ليس لأنّ مجموعة من النّاس كُتب لها أن تولد فقيرة، وإنّما لأنّ أصحاب المال والسّلطة حجبوا ثرواتهم لخيرهم الذّاتيّ. أمّا الموت فهو النّهاية الطّبيعيّة للإنسان على هذه الأرض، ولا يمكنه الاستمرار فيها نظراً لمحدوديّته البشريّة. والموت يعود للإنسان، ربّما لا يقرّر هو السّاعة وإنّما قد يسرع في مجيئها أم لا. فإن مرض أحدهم وواظب على العلاج سيؤخّر السّاعة والعكس صحيح. وإن قاد أحدهم سيّارته بسرعة فائقة واصطدم بجسم أدّى إلى موته فهو من سعى لذلك. ولا ننسى الظّروف البيئيّة الّتي تساهم إلى حدّ بعيد في التّقليص من عمر الإنسان وذلك لما يواجهه من تلوّث وأمراض. القبول بالموت هو جزء من تدريب النّفس على التّخلّي عن الأنانيّة، وبالتّالي ينتفي الشّرّ عن الموت إذا اعتبرنا أنّه خطوة نحو "الحياة". فالقيمة الإنسانيّة لا يمكن أن تنتهي لأنّها تستحق البقاء . الموت ليس شرّاً بحدّ ذاته إنّما هو يتناقض وخير الإنسان الذّاتي.
لا وجود للشّرّ في العالم بل هناك حجب للخير الإنسانيّ، ولا وجود لأناس أشرار وإنّما أناس تألّموا فترجموا ألمهم بفعل شرّ. ولا يجوز نعت إنسان بالشّرير، ووصمه بالشّرّ، بل يجب وصف عمله بالشّرير.
من السّهل جدّاً أن نفرز النّاس بين أشرار وأخيار، إلّا أنّنا كلّنا نسلك الخير والشّرّ،  بطريقة متفاوتة. كما أنّه من السّهل اتّهام النّاس والابتعاد عنهم. ولكنّ من الصّعب أن نتفهّم أسباب فعلهم لمساعدتهم، فهذا يتطلّب الكثير من الصّبر والحبّ والوعي. وفهمنا لعمل الشّرّ لا يعني تبرير العمل والتّساهل، وإنّما يعني المحاسبة بهدف أن يسيطر فعل الخير دونما الانتقام ممّن فعل الشّرّ، والأخذ بعين الاعتبار الأسباب فتخفّ النّقمة نسبيّاً على الآخر وذلك بعدم المعاملة بالمثل، لأنّنا وإن رددنا بالمثل فوكأنّنا نقيم نوعاً من التّحالف مع فعل الشّرّ فندخل في دوّامته.


في حرّيّة الرّأي والتّعبير


مادونا عسكر/ لبنان
إنّه لحقّ مقدّس أن يمارس الإنسان حرّيّته في طرح رأيه والتّعبير عنه، بل هو الحقّ الواجب احترامه وتقديسه بغية بناء إنسان يرتقي إلى مستوى إنسانيّته الحقيقيّة، لأنّه بدون ممارسة هذا الحقّ نخلق أشباه آلات تتلقّى الأمور دون أي تفاعل أو تأثّر بما يدور من حولها. وتُعتبر حرّيّة الرّأي والتّعبير حقّاً لأنّها العامل الأساس في تطوير الإنسان، فكريّاً وروحيّاً، فيعبّر عن هواجسه وأفكاره بغضّ النّظر عن صوابيّتها أو أخطائها. إلّا أنّ هذه الحريّة تفترض أصولاً محدّدة تعتمد أولاً وبشكل أساسيّ على الأخلاق الرّفيعة الّتي تمكّن الإنسان من إيصال أفكاره، وإلّا تحوّلت إلى فرض للرّأي بعيداً عن الأصول الإنسانيّة.
وتتأصّل فينا أصول هذه الحرّيّة أو هذا الحقّ بدءاً من التّربية العائليّة، حيث يتيح الأهل لأولادهم الفرص للتّعبير عن أرائهم أيّاً كانت، وذلك بالإصغاء لهم ومناقشتهم وتوجيههم. كما يتطلّب هذا الأمر الكثير من المرونة والانفتاح واحترام اختلاف الآخر من قبل الأهل. فالعائلة هي المكان الأوّل الّذي يكتشف فيه الإنسان اختلافه عن الآخر. ولعلّ المرحلة الأكثر صعوبة الّتي يمرّ بها الأهل، مرحلة المراهقة. تلك المرحلة الّتي ينتفض فيها الإنسان على نفسه وعلى مجتمعه فيثور على الكثير من العادات والتّقاليد والأفكار باحثاً عن حرّيّته وعن شخصيّته الّتي يرجو أن تكون كما يشاء هو وليس كما يشاء الآخر. وإذا أجدنا الاستماع والإصغاء إلى المراهق وثورته فقد نخرج بما يساهم في تطوير المجتمعات أو أقلّه وضع اليد على السّلبيّات الّتي يعاني منها المجتمع. وقلّما نجد في مجتمعاتنا العائليّة تلك الممارسة لحرّيّة الرّأي والتّعبير بدليل ما نراه من سلوكيّات أولادنا وشبابنا. فما زلنا وإلى اليوم نشهد قمعاً غير متعمّد من الأهل لأفكار الأبناء وهواجسهم، وذلك بهدف التّربية على الطّاعة والامتثال. وإن سمح بممارسة هذا الحقّ فقد يٌسمح به للشّاب وليس للفتاة، ممّا يساهم في تغذية العنصريّة والتّفرقة بين شخص وآخر. فالحقّ هو الحقّ سواء أكان لهذه الفئة أم تلك، ولا يكون حقّاً إلّا إذا مارسه الجميع بشكل متساو وعادل.    
ولمّا كان أولادنا لا يتربّون على أصول وقواعد ممارسة حرّيّة الرّأي والتّعبير خرجوا إلى المجتمع حاملين في داخلهم هذا الكبت، منتظرين فرصة لتفجيره. فغدا سلوكهم فوضويّاً وغير ممنهج، إذ وهم في صدد التّعبير عن رأيهم، اتّخذوا المنهج الّذي تربّوا عليه ألا وهو فرض الرّأي وليس طرحه، ناهيك عن عدم قبول الرّأي الآخر واحترامه. وعندما نتحدّث عن احترام الرّأي الآخر، فهذا يعني الإصغاء له ومناقشته بشكل حضاريّ بغض النّظر عن الاقتناع به أو لا. إذ ما هو حقّ لي هو حقّ للآخر أيضاً، وبالتّالي وبالسّماح للآخر بممارسة هذا الحقّ نساهم في بناء مجتمع يتقارب فيه النّاس بأفكارهم أو أقلّه يبحثون عمّا يجمعهم ولا يعود هاجسهم الوحيد القضاء على بعضهم البعض، في حرب تجسّد صراع البقاء الفكريّ والوجودي.
الرّأي الشّخصي لا ينفي رأي الآخرين ولا يمنعه من الصّوابيّة ولا يُبعد عنه الخطأ، فالرّأي ليس قانوناً يُعمل به أو بنداً دستوريّاً وجب الالتزام به.  وإنّما الرّأي هو خلاصة تجربة شخصيّة، وحصيلة تجارب حياتيّة وفكريّة ساهمت في بناء الإنسان، وقد تتوافق مع شخص وتتعارض مع آخر.
ولمّا كانت أصول وقواعد حرّيّة الرّأي والتّعبير تعتمد بشكل أساسيّ على الأخلاق، فلا بدّ من الكلام عن نقاط ثلاث تندرج في السّلوك الفكريّ الأخلاقي السّليم لنتمكّن من التّكلّم عن حريّة رأي وتعبير كحقّ مقدّس.
- النّقطة الأولى: التّواضع وعدم الادّعاء.
كثرت في مجتمعاتنا هذه الأيّام المطالبة بالحرّيّة وبشكل خاص حرّيّة الرّأي والتّعبير، وذلك لأنّنا ولسنين طويلة نواجه قمعاً فكريّاً وجسديّاً وحتّى روحيّاً، ممّا حوّل حياتنا بشكل أو بآخر إلى سجن نحيا فيه آليّاً دونما الإحساس بقيمتنا الفرديّة كمؤثّرين في المجتمع ومساهمين ببنائه وتطويره. فإمّا نحن بمواجهة القمع السّياسي الّذي يمنعنا من طرح أفكارنا السّياسيّة ما لم تتوافق والسّياسة العامة، إمّا القمع الفكريّ الّذي يحيل بيننا وبين الأعراف والتّقاليد البالية الّتي لم تعد تتناسب وعصرنا الحاليّ، وإمّا القمع الدّينيّ الّذي يخنق في داخلنا كلّ التّساؤلات الّتي تجول في خاطرنا بغية الوصول إلى الحقيقة. هذا القمع الّذي يخضع له الإنسان بسبب الخوف والرّعب الّذي يفرضه الأقوى، بحيث يتمكّن من السّيطرة والتّحكّم، لا بدّ أنه سيأتي يوم إمّا يثور فيه على هذا القمع  وينتفض، وإمّا يموت خانعاً خاضعاً.
ولئن اختار الإنسان أن يثور ويكسّر أغلاله ويتحرّر من هذا القمع  وهذه السّلطة المستحكمة بحياته وفكره، ولأنّه لم يتدرّب بشكل منهجيّ على مواجهة القمع منذ البداية ورفضه وعدم الخضوع له، ثار بشكل عشوائيّ وفوضويّ، وصوّر لنفسه مطالب محدّدة تتوافق ونظرته الشّخصيّة بعيداً عن نظرة الآخر.
بالمقابل إذا طوّر الإنسان نفسه وتثقّف، وكوّن في داخله شخصاً مستنيراً ومتحرّراً من كلّ قيد وواجه القمع والتّسلّط، وجب عليه الأخذ بعين الاعتبار من لم تُتح له الفرص للسّعي لهذا التّحرّر نتيجة الظّروف الاجتماعيّة. ولا يجوز التّعالي عليه والاستخفاف به، واعتباره درجة ثانية في المجتمع، فيرذله ويحاول بدوره فرض رأيه عليه وبالتّالي قمعه.
فما نشاهده اليوم من الطّبقة المثقّفة بأغلبها يعبّر عن تعالٍ وتكبّر خاصة إذا تمكّن المثقّف من فرض رأيه والنّجاح في اكتساب شريحة لا بأس بها من المجتمع في صفّه. والإشارة هنا إلى الفئة المثقّفة دون سواها، لأنّها هي الطّبقة المعوّل عليها في توعية المجتمع وانتشاله من جهله وتخلّفه. كما أنّها الطّبقة المعوّل عليها في رفع مستوى المجتمع وليس إغراقه في نوع جديد من التّطرّف، ألا وهو التّطرّف الثّقافي إن جاز التّعبير. فالطّبقة المثقّفة عليها التّمسّك برأيها كمبدأ وليس التّعصّب له دونما المحاولة  لاستيعاب من هم أقلّ ثقافة ووعي. فبين التّمسّك بالرّأي والتّعصّب له، فرق شاسع، فالأوّل، هو ثقة بالرّأي وبفعاليّته على مستوى المجتمع، أمّا الثّاني فهو عمى للعقل والقلب يحوّل النّضال من أجل قضيّة ما إلى حرب شرسة تستخدم فيها كلّ الأسلحة في سبيل البقاء والانتصار.
التّواضع يسمح لمن يعتبر نفسه مثقّفاً ومدركاً لرسالته الإنسانيّة،  أن يتفهّم الآخر ويستوعبه ويحاول جاهداً زرع المفاهيم السّليمة في نفسه وعقله بهدف التّغيير والتّطوّر. ومن غير المسموح مواجهة الجهل بالتّعالي والتّكبّر، لأنّ النتيجة ستكون سلبيّة وغير مرضية، إذ إن الجاهل سيواجه هذا التّعالي بعنف وشراسة بغية إثبات وجوده.
والتّفهّم لا يعني تبرير سلوك مشين أو قبيح، ولا يعني غضّ النّظر عن أي تصرّفات تعيق المسيرة الإنسانيّة الحرّة وإنّما التّفهم يعني عدم استفزاز الطّرف الآخر واستفزاز سلوكه غير السّوي،  وتوخّي التّصرّف بردّات فعل على أن يكون التّصرّف مرتكز على الحكمة والوعي.
- النّقطة الثّانية: عدم الانجرار إلى المجادلات السّخيفة.
إنّ الثّقافة تفترض مستوى معيّن من النّقاش يتحلّى بأدبيّات الكلام والحوار، كما تتطلّب حكمة في طرح الرّأي وتسليط الضّوء على السّلبيّات والأخطاء. ولا يجوز لمن يعدّ نفسه مثقّفاً أن يستخدم ألفاظاً نابية وغير لائقة  بحجّة أن الطّرف الآخر يستخدمها وإلّا انتفت عنه ثقافته إذ إنّه انحدر إلى مستوى محاوره وأصبح مثله. ومتى تحوّل أي نقاش أو حوار إلى مجموعة شتائم وكلام سفيه فعلى المثقّف أن ينسحب ويحافظ على مكانته دون أن يحتسب ذلك هزيمة له. فتغيير المجتمعات وتطويرها لا يندرج ضمن حسابات ضيّقة ومصالح فرديّة.
كما أنّه لا يجوز لمن يدّعي الثّقافة والحرّيّة أن يتّخذ نفسه ديّاناً للبشر فيبدأ بفرز النّاس بين مؤيّد ومعارض، لأنّه بذلك يتساوى مع أي محاور متطرّف. فالمتطرّف هو من نصّب نفسه والياً على البشر ويبرمجهم بحسب تشدّده وتعصّبه لقناعاته. أمّا المعتدل فهو ذاك الّذي يتمسّك بقناعاته دون أن يفرضها على أحد، محترماً الجميع على حد سواء.
وما نشاهده اليوم، أو ما يثير قلقنا هو مشاهدة بعض المثقّفين الّذين يجنحون إلى التّطرّف، ولا يختلفون كثيراً عن أؤلئك الّذين يقصون الآخر لمجرّد أنّه مختلف عنهم. فالحركات التّكفيريّة لم تعد مقتصرة على الحركات الدّينيّة وحسب، وإنّما بدأت تتعدّاها إلى الحركات الثّقافيّة.
- النّقطة الثّالثة: احترام إنسانيّة الآخر.
أنت تدرك إنسانيّة الآخر، إذن أنت حرّ ويحقّ لك أن تعبّر عن حرّيّتك. أمّا وأن نستهزئ بإنسانيّة الآخر أيّاً كانت توجّهاته أو انتماءاته أو عقيدته فهذا مشين بحق المثقّفين. احترام إنسانيّة الآخر هي الأولى في سلّم الأولويّات الأخلاقيّة، أيّاً كان سلوك الآخر. قيمة الإنسان تكمن في شخصه وليس في معتقده أو انتمائه أو رأيه أو قناعته، وبالتّالي يجب ألّا ننتقص من إنسانيّته لمجرّد أنّه لا يتوافق وقناعاتنا.
كما أنّ احترام إنسانيّة الآخر لا تحول دون إبراز أخطائه بهدف الحرص على المجتمع، وإنّما باحترامنا لإنسانيّته نقصّر المسافة بين الدّافع والهدف لنبلغ مآربنا الأساسيّة دونما التّلهي بمهاترات وسجالات لا تعدّ ولا تحصى.

إنّ تغيير المجتمعات للأفضل، وتحريرها من الجهل والتّخلّف يتطلّب عملاً دؤوباً ونضالاً شريفاً في سبيل نهضتها وتطوّرها ولا يتطلّب مجادلات وثرثرات من هنا وهناك لا تهدف إلا لهدر المزيد من الوقت وإغراق ما تبقّى لنا من ثقافة في مستنقعات الجهل.

الحبّ بين المعنى الملتبس والحقيقة الإنسانية


مادونا عسكر/ لبنان
"أحبّك"، كلمة صغيرة بعدد حروفها ولكنّها عظيمة  بمعناها الّذي يؤثّر في كيان الإنسان،  ويبعث في نفسه الكثير من الطّمأنينة والسّلام والفرح. إذ إنّ هذه الكلمة تشعره بأهمّيّته وقدره، وبأنه محبوب كشخص. ولعلّ الإنسان يبذل جهداً لا بأس به ليجذب الآخر إليه، ويسعى أبداً ليكون مرغوباً بوجوده ومحبوباً. ولو بحثنا عميقاً في علم النّفس وعلم الاجتماع لوجدنا أن أساس المشاكل الإنسانيّة والإضطرابات السّلوكيّة والنّفسيّة تنتج عن نقص في الحبّ. فمحور حياة الإنسان الأساس، ومهما انغمس في الأمور الحياتيّة ومشقّاتها، هو البحث عن الحبّ، وإن كان أحياناً بشكل غير واعٍ.
للحبّ وجوه عديدة، تختلف باختلاف المراحل الّتي يمرّ بها الإنسان في مسيرته الحياتيّة وباختلاف الظّروف الّتي يعيشها منذ طفولته الأولى. وتتجسّد هذه الوجوه المتباينة في عدّة عناوين منها، الحبّ المتعلّق بالعاطفة الوالديّة، والحبّ الأخويّ بين الأصحاب والأصدقاء، والحبّ المرتبط بالجنس المختلف. والوجه الأخير هو الأكثر حاجة للإنسان، إذ إنّه لا يكتفي بالحبّ الوالدي والأخوي بل ينتظر دوماً ذلك الحبيب الّذي سيشتعل من أجله قلبه بومضة لامعة، لا يمكن شرح مصدرها أو كينونتها ولكن يمكن استشعارها والإحساس بها.
يتوق الإنسان إلى آخر يحبّ فيه ذاته،  ذاك الّذي هو نصفه الثّاني أو الشّخص المكمّل. هو نصف يبحث عن نصفه الآخر كما يتحدّث عنه أفلاطون. وقد يتعلّق القلب بشخص معيّن ثمّ يُكتشف لاحقاً أنّه وهم، وذلك لأنّ المشاعر الإنسانيّة ليست ثابتة بمعنى أنّها تتبدّل وفق الخبرات الشخصيّة والنّموّ العاطفيّ والنّضج الفكريّ. كما أنّها معقّدة ومتناقضة وتحتاج الكثير من التّامّل بغية تلمّس بعضٍ من الفهم لها.
والحبّ، الحاجة الإنسانيّة العظمى، يعادل في معناه "الحياة"، فمن لم يعرف الحبّ أو لم يسع إليه فإنّما هو جثّة متحرّكة في هذا العالم. ولكن لا بدّ لنا عندما نتكلّم عن الحبّ أن نتبيّن الفرق بين معنى الحبّ الحقيقيّ ومعناه الملتبس.
الحبّ في معناه الملتبس:
ترتسم ملامح الحبّ الأولى في سنّ المراهقة؛ إذ يبدأ الإنسان في هذه المرحلة بالتّعرّف على مشاعره وانجذابه نحو الجنس الآخر المكمّل له، إلّا أنّ ما ينقصه في هذه المرحلة هو النّضج العاطفي الّذي يسمح له بالتّأكّد من مشاعره ومشاعر الآخر.
ويمرّ الإنسان بحالات عدّة قد يعتبرها حبّاً إلّا أنّها تكون مجرّد إعجاب أو رغبة أو تعلّق عاطفيّ أو سعي لملء فراغ عاطفيّ، فقد يعجب إنسان بآخر بشدّة  في لحظة ما، ويرغب في بناء علاقة جدّيّة معه ويقدّم شيئاً من التّنازلات لإرضائه، والتّعبير له عن حبّه، وما يلبث أن يمضيَ الوقت حتّى يكتشف أحد الطّرفين أو الاثنان معاً أنّ ما مرّا به ليس سوى حالة من الإعجاب أو تجربة عاطفيّة جميلة، هذا ما نسمّيه الحبّ من النّظرة الأولى. في هذه الحالة لا يمكننا التّكلّم عن علاقة حبّ فعليّة، لأنّ بداية الحبّ ليست حبّاً وإنّما هي مشاعر تتحرّك باتّجاه شخص آخر فتخلق نوعاً من العاطفة والتّعلّق الشّديد والرّغبة في ملاقاة هذا الشّخص باستمرار.
كما ونرى حالات عاطفيّة يعرّف عنها بالحبّ من طرف واحد، واللّفظ هنا أيضاً يعرّض الحبّ في معناه الحقيقيّ للالتباس، في حين أنّ الحبّ هو تفاعل بين شخصين. وأمّا فيض المشاعر من قبل شخص واحد والّذي يقابَل بعدم الاهتمام، فما هو إلّا حالة عاطفيّة مؤلمة يخيّل للإنسان من خلالها أنّه في حالة حبّ. وقد تعود أسباب هذه الحالة العاطفيّة إمّا إلى أنّ هذا الشّخص وجد الصّورة الّتي رسمها في ذهنه عن آخر معيّن وتاق إليها كحقيقة، ولمّا وجدها على أرض الواقع فاض كل اهتمامه ومشاعره عليها، وبالتّالي تعلّق بها. وإمّا أنّه تعلّق بفكرة الشّخص، بمعنى أنّه أحبّ ما يتوقّعه من محبوبه وليس شخصيّة المحبوب كما هي. وينتج عن هذه التّجربة العاطفيّة الكثير من الألم لأنّ هذا الشّخص مقتنع أنّ الطّرف الآخر يحبّه بالطّريقة عينها ويدّعي عدم الاهتمام، كما أنّه يعيش ما يسمّيه حالة الحبّ هذه في خياله كحالة واقعيّة، فيكرّس كلّ طاقاته الفكريّة والعاطفيّة للعيش مع محبوبه في خياله.
وجه آخر من الحبّ الّذي يفرض نفسه بالكثير من التّملّك والأنانيّة والغيرة بحيث أنّ المحبّ يعتبر أنّه يمتلك محبوبه بكلّيّته لدرجة أسر حرّيّته ومراقبة تصرّفاته وسلوكيّاته بدقّة وحرص، ممّا يسبّب الحزن والضّيق للطّرف الآخر وللشّخص نفسه. فتتّسم شخصيّته بالارتباك والقلق اللّذين لا يفارقان حياته فتصبح في اضطراب لا متناهٍ. وهذه الحالة تعود إلى الشّعور بعدم الثّقة بالآخر وبحبّه بشكل غير واعٍ، والخوف المستمر من خسارته لأيّ سبب كان، كما أنّها إحساس بفقدان القيمة الّذاتيّة إذا ما اختفى الآخر من حياته.
الحبّ في معناه الحقيقيّ:
يقول أرسطو: إن الحبّ الّذي ينتهي ليس حبّاً حقيقيّاً، ويضيف أنّه أسطورة تعجز البشريّة عن إدراكها إلّا لمن صدق في نطقها ومعناها. فالحبّ هو هذه القوّة الّتي تعصف بالإنسان دون سابق إنذار وتدخله في عالم داخليّ وغير منظور. وهذه القوّة غير المدركة عقليّاً أو بمعنى أصح، الّتي يصعب على العقل شرحها منطقيّاً، كما يعسر عليه البحث عن أسباب وجودها بشكل تحليليّ وعقلانيّ، هي قوّة روحيّة بامتياز تفعل فعلها في داخل الإنسان فتبدّل شخصه وتخلقه من جديد، لتظهر شخصه الحقيقيّ، الأنا المستترة في أعماقه. فما يخفيه الإنسان من مشاعر مرهفة وضعف إنسانيّ يظهر متى نفض الحبّ عنه غبار تراكمات الحياة. وهذه الولادة الجديدة ما هي إلّا حالته الّتي كان عليها مذ وجد في هذا العالم، الخالية من الشّوائب والتّشويهات الّتي تتعرّض إليها الذّات الإنسانيّة نظراً لظروف حياتيّة أو تربويّة. ومتى عاد إلى هذه الحالة تخلّى عن الأنانيّة وحبّ السّيطرة والتّملّك وأطلق العنان لمشاعره الفيّاضة لترتدّ عليه سعادة مرتبطة بألم الشّوق والتّوق إلى المحبوب. فالحبّ الخالي من الألم ليس حبّاً، فالنفس الّتي تحبّ وتشقى، كما يقول الكاتب الفرنسيّ فيكتور هيجو، لهي في أسمى حالات السعادة في الحياة. والألم غير الحزن، فالحزن وإن تسرّب إلى حنايا الحبّ قتله، لأنّه يعطّل المشاعر الإيجابيّة ويدمّر قدرة الإنسان على الإبداع. أمّا الألم فهو المصباح الّذي ينير سبيل الإنسان إلى الحبّ الحقيقيّ. وهو زاد الشّوق ليتعاظم أكثر فأكثر فيطهّر الرّوح كيما تنفتح البصيرة فتقوى على رؤية المحبوب وإن كان في أقاصي الأرض، والإحساس بحضوره القويّ وكأنّه حاضر بالجسد. وهو نبع الإلهام والإبداع والقدرة على الخلق.

والحبّ في معناه الحقيقيّ لا يستبعد رغبة الجسد، وسيلة التّعبير عن الحبّ، إلّا أنّه آخر ما يمكن استخدامه كلغة للتّعبير عنه. رغبة الجسد الّتي تتجلّى في فعل الحبّ، تؤول إلى التحام كلّيّ بين الحبيب والمحبوب فيصير الاثنان واحداً في علاقة جسديّة يمنح فيها الواحد للآخر كلّ ذاته بحرّيّة مطلقة وثقة كبيرة. ولتستحقّ هذه العلاقة قيمتها الإنسانيّة عليها أن تنبع من إحساس بالحبّ وليس من رغبة غرائزيّة، فوكأنّها آخر الكلام الّذي يمكن للحواس أن تنطق بها.
وعلى الرّغم من قدسيّة هذه العلاقة وحميميّتها إلّا أنّها قد تخفّف من التّوق الدّاخليّ للمحبوب، فيتحوّل الحبّ مع الوقت، ولا نقول ينتهي، إلى نوع من وداد أو صداقة تدغدغها مشاعر الحبّ. أمّا وإن بقي الحبّ على مستوى التّفاعل الرّوحيّ فقط، فلقد دخل في إطار الحبّ من أجل الحبّ، ولا يعود بحاجة إلى عمل حسّيّ للتّعبير عنه. فاتّحاد المتحابّين يكون على مستوى الإنسان الدّاخليّ ولعلّ هذا الاتّحاد أقوى وأمتن.
كلّما ارتفعت قدرات الإنسان الباطنيّة كلّما خفّت حاجة الجسد إلى الإدراك الحسّيّ للحبّ، وهذا ما نسمّيه الدّخول إلى صرح الحبّ من خلال دائرة الصّمت. فأبلغ ما يقال من كلام في الحبّ هو الكلام الّذي لا يقال، ولا يقوى على الخروج من الّذات لأنّه حديث أرواح لا تحتاج إلى تعابير تقليديّة. وكلّما تسامى هذا الحبّ وعظم ارتفع عن الأرضيّات والسّلوكيّات الإنسانيّة المتعارف عليها كالغيرة على سبيل المثال أو التّملّك، فالحبّ الحقيقيّ لا يعرف معنى الأسر والاستعباد. إنّه حبّ من أجل الحبّ، يحرّر الحبيب والمحبوب في آنٍ معاً، ويخرجهما من دائرة الحبّ الآنيّ والمؤقّت والمرتبط بمصالح وأهداف وإن كانت إيجابيّة، ليدخلهما في عظمة سرّ الحبّ.
وكلمة سرّ، هي أعظم كلمة ترادف كلمة حبّ، لأنّ الحبّ كما السّرّ، حالة للاكتشاف المستمر وحقيقة للعيش وليس مسألة يمكن تقديمها ثمّ تحليلها  ثمّ الوصول إلى نتائج نهائيّة لها. إنّه السّرّ الّذي يحجب كلّ تساؤل، ويفتح قلب الإنسان عل معنى الحياة. 
حبّ ينتهي ليس حبّاً لأنّه شوق إلى الخلود كما يقول سقراط، لأنّه الحياة. ويكمل سقراط ليعطي الحبّ رفعته القدسيّة بقوله إنّه شوق النفس الإنسانية المُلحّ إلى الجمال الإلهي. والمقصود بالجمال الإلهيّ، نبع الحبّ الحقيقيّ الّذي لا ينضب والّذي لا غاية لحبّه إلّا الحبّ.
لم يعرف الحبّ الحقيقيّ إلّا قليلون وهم الّذين عدّوا الحبّ قضيّة مقدّسة وإنسانيّة بامتياز، خاوية من أيّ هدف أو غاية. هذه القلّة وبعدما صقلت مشاعرها  بالتّأمل بمقاصدها النّبيلة وتنزّهت عن الحاجة الجسدية والحسّيّة، وأيقنت أنّ أقصى درجات المتعة الجسديّة هي الزّوال، دخلت في سرّ الحبّ العظيم لتسبر أغواره وتحيا حياة أبديّة تبدأ هنا ومنذ الآن في هذا العالم لتكتمل لاحقاً في الحياة الحقيقيّة.
من دخل سرّ الحبّ لامس الحقيقة وعاين من خلالها الذّات الإنسانيّة الأصيلة والنّبيلة المرتبطة بما هو أبعد من الجسد والحواس. كما أنّه أيقن أنّ الإنسان كتلة حبّ متحرّكة غاية وجودها الوحيدة هي الحبّ من أجل الحبّ. الحبّ وسيلة للخلاص، بحسب أفلاطون، إذ إنّه السبيل للتّحرّر الفكريّ والعاطفيّ، وبالتّالي السبيل إلى حرّيّة الإنسان.