الأربعاء، 11 أكتوبر 2017

يوماً...


مادونا عسكر/ لبنان

يوماً...
سيتخلّى عنّا الضّباب
وتذوب المرايا في خافق الوجه الّذي لا نعرف الحبّ لولاه.
تسألني عن عنواني ولا أجيب
تدلّك الرّيح المنهزمة على ما يشبه آثار فتاةٍ
تربّي عاشقاً في سطوة الحلم وتنتظر.
تقولُ إنّ الشّوقَ ينامُ في مهدِ آخر أمنيةٍ
أقولُ:"تعال وانظر"
ثمّة غيمة تعانق نجمةً ليلتحمَ اللّيل بالنّهار
ويُفرغَ أسراره في جعبة طيرٍ زاهدٍ.
المسافات عنيدة
والوقت طاغٍ مستبدّ
لكنّ ضحكات الأطفال أقوى من لعنة الدّقائق المتجمّدة
لكنّ بسمة امرأةٍ تزدحم في خاطرها القصائد
أقوى من عثرات الصّمت المتخفّي
لكنّ حكمة رجلٍ يوقظُ الفجرَ متى يشاء
يثقُ بهذيان صلاتي وصمتِ رؤيتي
أرحبُ من سماء تصادقُ العصافير وتؤلّف لها مزامير السّلام.
"تعال وانظر"...
وحدي أعرفُ سماحةَ الأجراس
حين تعلن ولادة  العشقِ
وحدكَ عليم برسمِ الوجه الّذي لا نعرف الحبَّ لولاه
وحدنا...
يوماً...
سنتراءى للجبالِ المنهكة
نكفكفُ دمعها
فتصغي إلى الصّوتِ المبارَكِ
ليهدأ صخب الأنهار ويرتوي العالم .


الثلاثاء، 19 سبتمبر 2017

التّعالي على الوحدة بالحبّ والقصيدة/ قراءة في قصيدة للشّاعر التّونسي محمد الحمدي

مادونا عسكر/ لبنان 
- النّصّ:
وأنتِ وحيدهْ..
وأنتِ مسهّدة في اللّيالي الشّديدهْ..
أجيئكِ سرّا..
وراحلتي الوجدُ..
والشّوقُ..
والذّارياتُ العنيدهْ..!
وفجرا أكون كما الطّائرُ الأخضرُ حذوكِ..
أغنّيكِ موّال حبٍّ..
وأنثُرُ حولكِ حَبّا وردا..
وأهديكِ نايا يبدّدُ وحشتكِ وقصيدهْ..!
وأنت وحيدهْ..
وأنت معذّبةٌ في الفيافي البعيدهْ..
أجيئكِ عند المساءِ..
أجيئكِ كالنّورس المتنائي..
وأمنحكِ كي تطيري جناحي..
ويا روحَ روحي..
نشقُّ الفضاء معا في اتّجاهِ الأقاصي الجديدهْ..!
- القراءة:
يمنح الشّاعر نفسه في هذه القصيدة رتبة المخلّص، مخلّص المحبوبة من وحشة الوحدة. وللمخلّص ميزات خاصّة تتسّم بالقدرة على بذل الذّات حتّى المنتهى دلالة على الحبّ الفائق التّصوّر، ومواجهة الموت إعلاناً للحقيقة. ما يبدو جليّاً للقارئ إذا ما تبيّن عشق الشّاعر المتمدّد في الزّمان والمكان. فهو حاضر في كلّ وقت، ومستعدّ للحلول في أيّ مكان. ينقاد بالحبّ والشّغف لفعل الخلاص.
الوحدة شكل من أشكال الأسر، يتولّد فيها الحزن والقلق والاضطراب والشّعور بالخوف من المجهول نتيجة الشّعور بالإهمال والنّبذ. ولا ريب أنّ هذه المشاعر تختلج في قلب الشّاعر نفسه، فهو شعور موحّد بينه وبين محبوبته. يتماهى معها ويدرك عمق قلقها الّذي يجتاحه الصّمت (وأنت وحيدة)، والّذي ينتظر رفيقاً أنيساً ليخرج من عزلته (وأنتِ مسهّدة في اللّيالي الشّديدهْ..).
الشّاعر المخلّص متوغّل في العشق، مناضل من أجله. لا يتباكى ولا يتخاذل وإنّما يخوض غمار هذا العشق ويجود بالعطاء ويغدق إنسانيّته حبّاً في سبيل انتشال المحبوبة من وحدتها.
أجيئكِ سرّا..
وراحلتي الوجدُ..
والشّوقُ..
والذّارياتُ العنيدهْ..!
يحدّد الفعل (أجيئكِ) حضور الشّاعر القويّ المتحسّس لتفاصيل حالة الوحدة، والمدرك للفراغ القاتل الّذي قد يؤدّي إلى التّبدّد والتّلاشي. فالمجيء سرّاً قد يعبّر عن تواضع، ولكنّه من المؤكّد أنّه يدلّ على صلابة الشّاعر وثقته بنضاله وعزمه على المضيّ في فعل الخلاص. يحمله الشّوق والوجد، العنصران الأساسيّان في القدرة على بذل الذّات. ولمّا كان المجيء ليلاً، فليكون كالنّور المرشد الّذي يشقّ الظّلمة، ويبدّدها، فيقود محبوبته إلى خيوط الضّوء الأولى:
وفجرا أكون كما الطّائرُ الأخضرُ حذوكِ..
أغنّيكِ موّال حبٍّ..
وأنثُرُ حولكِ حَبّا وردا..
وأهديكِ نايا يبدّدُ وحشتكِ وقصيدهْ..!
الشّاعر المخلّص يحقّق الحرّيّة لمحبوبته ويمنحها آفاقاً أرحب من المكان المحدود. وما الأفعال (أغنّي/ أنثر/ أهدي) إلّا انعتاق من العالم الموحش والانطلاق إلى عوالم الجمال والحبّ والحرّيّة، دلّ عليه (النّاي) كعنصر روحانيّ، ضارب في عمق الوجدان. يرنو إلى التّعبير عن الغبطة والابتهاج المتولّدتين من فعل الحبّ والمرافقتين لعنصر الجمال، القصيدة. النّاي هو الشّاعر والشّاعر هو النّاي الّذي يرمز إلى التّوق إلى الأعالي، فيهدي محبوبته ناياً وقصيدة ويرتقي بها ومعها. وإن دلّ النّاي على الفرح، متجاوزاً دلالته المعهودة على الحزن، فالقصيدة تدلّ على الوحي والإلهام. ما يعني أنّ شاعرنا يبحث عن حرّيّة أبعد من المحدود والمنظور، ويهدف إلى تحقيق خلاص يسمو بمحبوته إلى الكونيّة.
أجيئكِ كالنّورس المتنائي..
وأمنحكِ كي تطيري جناحي..
إنّ الشّاعر متيّم بمحبوته حدّ الجنوح إلى التّضحية والانغماس في العطاء. والتّضحية تحمل في تركيبتها شيئاً من الحرمان. لكنّ الشّاعر يستخدم فعل (منح) ليعبّر عن حبّ مجّانيّ لا ينتظر مقابلاً، يهب من خلاله ذاته المتماهية مع المحبوبة (يا روح روحي).
ولئن كان الشّاعر يتطلّع إلى حريّة كونيّة وخلاص شامل ونهائيّ، يعلن عن قدرة على خلق عالم جديد، أرحب وأغنى من عالمه الحاضر، وأسمى من الوجود باتّجاه الأقاصي الجديدة.


الثلاثاء، 29 أغسطس 2017

الوحدة النّصّيّة والإبداعيّة في مجموعة "بائعة الكبريت"


مادونا عسكر/ لبنان

في عمل مشترك بين الكاتبين العراقيّين علي غازي وإبراهيم عدنان، تتشكّل المجموعة القصصيّة "بائعة الكبريت"، في انسكاب روحيّ واحدٍ حتّى يكاد القارئ لا يميّز وهو يتنقّل بين القصص، مَن صاغ هذه القصّة أو تلك إلّا بالعودة إلى اسم القاصّ. ذاك لا يعني أنّ الكاتبين ذاب بعضهما في بعض، وتاهت ملامح أحدهما في الآخر. لكنّ العمل يشبه لوحة فسيفسائيّة أضاف كلّ منهما لمسته حتّى اكتملت اللّوحة وظهرت واحدة.
تتضمّن المجموعة ستّة فصول، تنقل الواقع العراقيّ بدقّة محاكية تفاصيل المجتمع الّذي شرذمته الحرب والإرهاب فكريّاً ونفسيّاً وروحيّاً. ولا ينقل الكاتبان الواقع وحسب، وإنّما يتغلغلان في خلاياه ويعالجان سلوكيّات المجتمع الّتي أنتجتها الحرب والتّشرذمات العلائقيّة، والحالات الاجتماعيّة الّتي تراوحت بين الوحدة، والخيبة، والظّلم، والفقد، واليأس، والحلم... لكنّ روحاً حيّاً يعمل في النّصوص، فلا يجعل منها حائطاً مسدوداً لا يمكن اختراقه نتيجة غموض أو حزن.
يصوغ الكاتبان قصصهما من وجع، ولكن بروح حيّ يلمس القارئ، يعرض مشكلته، يدلّه على وجعه، ويعالج فكره من خلال  تفاصيل الحياة اليوميّة في دوائر الفرد والعائلة والمجتمع. ولئن كان عنوان المجموعة القصصيّة "بائعة الكبريت" فلا بدّ من الإشارة إلى تناصّ بين قصّة "بائعة الكبريت" للشّاعر والأديب الدّنماركي هانس كريستيان أندرسن الّتي تروي معاناة فتاة فقيرة تجوب الشّوارع ليلة رأس السّنة لتبيع أعواد الثّقاب. كانت تعاني من البرد والجوع، وماتت وهي غارقة في هذيانها. وفي القصّة الّتي أوردها إبراهيم عدنان مشهد مماثل، لا يختلف كثيراً عن قصّة أندرسن، إلّا في النّهاية. فالقاصّ إبراهيم عدنان بدّل حركة الفتاة ليجعلها مفتوحة على حرمان أكبر:
"حافية تجوب شوارع يزفّتها الجليد، بثوب ممزّق ترقعه سترة تغطّي سنتها الخامسة؛ أنفها الورديّ، مجرى ينحدر ماؤه فوق شفتين ناشفتين؛ ضفائرها تبعثرها الرّياح، حلمها الكبير نار مدفأة لا يطفئها المطر. تنفخ بقايا حرارة قلبها في أنامل مصلوبة بسياط الشتاء.
اليوم رأيتها عارية، علبها متفحمة وسترتها مكوّرة فوق شيء ما، تحاول جاهدة إشعال النّار لدميتها أخبرتني: أنّها آخر من تبقى لها.." (بائعة الكبريت/ إبراهيم عدنان).
في قصّة أندرسن تشعل الفتاة أعواد الثّقاب لتشعر بالدّفء، وما تلبث أن  تموت وهي تحلم بالمدفأة، بالطّعام، بجدّتها، ما يعني أنّ الموت غلبها، ولا يشهد القارئ حركة انفعاليّة حقيقيّة للفتاة. وأمّا في قصّة إبراهيم عدنان فالفتاة مصدر قوّة بشكل أو بآخر على الرّغم من عوزها. (اليوم رأيتها عارية، علبها متفحمة وسترتها مكوّرة فوق شيء ما، تحاول جاهدة إشعال النّار لدميتها أخبرتني: أنّها آخر من تبقى لها..). الفتاة المعوزة الفقيرة تشعل أعواد الثّقاب لا لتستدفئ وإنّما لتُدفأ دميتها الّتي يشير إليها إبراهيم عدنان بـ (من) بدل (ما)، فيحرّر الدّمية من جمادها، ويمنحها الحياة. ويمكن اعتبار هذه القصّة القصيرة جدّاً مركزيّة تمتدّ لتحتوي كلّ النّصوص، أو لتتوغّل فيها كلّ المعاني الّتي أرادها الكاتبان. الفقر والعوز حاضران في جميع النّفوس إن على المستوى المادّيّ أو المعنويّ. لكنّ الحلم قلق وملتبس في المجموعة القصصيّة على عكس اتّساعه في قصّة أندرسن:
"في الحلم رأيتهم يشيرون نحوي
- هذا الّذي قال أنّه ملك بني إسرائيل
صلبوني ثالث ثلاثة... نظرت عن يساري وجدت أبي، يلعق دمه ويصرخ في وجهي
- اللّعنة عليك وعلى دينك الجديد.
عن يميني... نزعت أمّي يدها من المسمار ورفعت عن رأسي أكليل الشّوك، فيما هتفت عجوز بين الجموع الغفيرة
" إنّه الـنـّبـيّ الـمـنـتـظـر " (كابوس- علي غازي)
الحلم/ الكابوس، الّذي يرنو إليه الكاتب مشيراً إلى النّبوّة كعنصر خلاص وتحرّر من الألم، والظّلم، والقهر. وهو كابوس لاستحالة تحقيق الحلم، ولفداحة الألم الّذي بلغ منتهاه. (صلبوني ثالث ثلاثة... نظرت عن يساري وجدت أبي، يلعق دمه ويصرخ في وجهي).
تناصّ آخر مع مشهد الصّلب في الإنجيل المقدّس، مع مفارقة أحدثها الكاتب تجري فيها الأحداث على حساب أحداث أخرى هي المقصودة والرّئيسيّة. فحدث الصّلب الّذي يعبّر عن العقوبة نتيجة فعل خارج عن القانون أو الشّريعة، يسيطر عليه حدث النّبوّة وذاك ما يقصده الكاتب. الكابوس الحقيقيّ هو الوعي الّذي دلّت عليها النّبوّة، وعوقبت من أجلها الشّخصيّة الحالمة.
سيجد القارئ تناصاً آخراً مع المزمور 22 في الكتاب المقدس:
"إلهي، إلهي، لماذا تركتني، بعيداً عن خلاصي، عن كلام زفيري؟
ثقبوا يديّ ورجليّ.
أحصي كلّ عظامي، وهم ينظرون ويتفرسون في.
يقسمون ثيابي بينهم، وعلى لباسي يقترعون." (مزمور 22 الآية 1،16،17،18)
"سملوا عيني، وسمّروني على الصّليب ثاني اثنين. لا شيء يتحدّث عنّي غير أصابعي الخمسة، كلّها تشير إلى مدن تصرخ بوحشيّة.
إيلي لمّا شبّقتني. (مصير/ علي غازي)
(إيلي لَمَّا شبقتني) لفظ مركّب من العبرية والآراميّة يعني (إلهي إلهي لماذا تركتني). وفي هذا اللّفظ منتهى السّلبيّة، أو ما يرادفه في اللّاهوت معنى الإلحاد السّلبيّ. أي أنّ الإنسان يشعر أنّ الله تخلّى عنه. فالشّخصيّة الّتي تدور حولها القصّة الّتي يمكن أن تكون الوطن، أو الإنسان تُظهر عنف الواقع إلى حدّ اندثار الإيمان، أو اعتباره غضباً أعظم.
في الفصل الثّالث "أمّنا الحرب"، يشير العنوان إلى تأصّل الحرب في النّفوس وكيفيّة استحواذها على العقول حتّى نكاد نتبيّن ثقافة الحرب. وفي هذا الفصل يعالج الكاتبان واقعيّة الحرب الّتي ما برحت مرتبطة بالإنسان كأنّه لا يمكنه الاستغناء عنها. فلظ (الأمّ) يدلّ على رباط وثيق وحميم، بل لعلّ الكاتبين أرادا أن يبيّنا مدى تورّط الشّعوب بالحروب من ناحية استمراريّتها وتنفيذ مآربها.
"عبّأ بندقيته بتفانٍ، صوّب تجاه خطوط النّار ثم بدأ بإطلاق الرّصاص. وأخذ يصرخ مع كلّ إطلاقة:
... حمقى... يا أبناء الزّواحف...
لم يكن يرغب في التّوقّف أبداً لولا أنّ أحدهم ربّت على كتفه قائلاً:
 العدوّ من الاتّجاه الآخر ياسيّد! (بوصلة/ علي غازي).
أضاع الإنسان بوصلته، وتاه عن الاتّجاه الصّحيح، ولم يعد يفرّق بين أخ وعدوّ. وذاك يعود إلى تشتّت العقل، وانغلاق الروح على ذاتها. فاجتاحها الخوف والرّعب والاستسلام. بل إنّ الحرب جعلت الإخوة أعداء، يقاتلون من أجل قضيّة مبهمة:
"1- قابيل ----
استلّ خنجره العتيق، غرزه في ظهره، ثمّ حمل الجثّة وألقاها في البئر المهجور. وكلّما طلب الماء، اهتزّ عرق في داخله ...وتذكّر قابيل.
2- قابيل آخر ----
أترقّب بطن أمّي، وأنتظر قدومه لأغرز في قلبه هذا الدّبوس. وبدل أن يدخل أخي غرفته الجديدة، سكن المقبرة في جوف أمّه. وبقيت أنا، وحدي، أحتفل كلّ عام، بذكرى ذلك الانتصار  لعشرين مرّة متتالية.
3- قابيلان ----
يتقاسمان نفس الشّارع، كلّ على رصيف، في النّهار يقرءان ذات الجريدة وفي اللّيل، يفترشانها. رغم الظّلام، والمخاوف، فإنّ قلبيهما يتحدّثان بلغة و احدة :
 ما أفظع أن نكون من نفس  الأمّ." (أبناء آدم/ علي غازي)
تناصّ آخر مع قصّة قايين وهابيل، وإن تكرّر هذا الأسلوب فليعبّر الكاتبان عن أنّه لا جديد تحت الشّمس، ولم يتغيّر الكثير من بدء التّكوين إلى يومنا. حقيقة الحرب خدعة، الحقد بين أخوين، وتستمرّ مع كلّ ولادة لم تتثقّف على الحبّ.
"عاد أطفال الحي ببنادق بلاستيكية يتقاسمون أزقته؛ تحت مسميات قبلية وطائفية يجمعهم
هتاف واحد (نغزوهم ولا يغزوننا).." (عيد جديد/ إبراهيم عدنان)
وهنا أيضا تتناصّ القصّة مع ذلك القول المأثور للنّبيّ محمّد عقب غزوة الخندق، فبعد هزيمة الأحزاب، قال هذه الجملة "اليوم نغزوهم ولا يغزوننا"، وتبرز المفارقة في هذا التّوظيف، لاختلاف الواقعين، فالأطفال الهاتفين بهذه الجملة ضمن سياق الصّراع الطّائفيّ في العراق، هو بلا شكّ مختلف عن السّياق الأول لهذه العبارة، مع ملاحظة السّخرية في قصّة إبراهيم عدنان وذلك عندما استخدم لفظي الأطفال والبنادق البلاستيكيّة، سخرية مرّة فيها ظلال من العبث الّذي لا جدوى منه.
استخدم الكاتبان في هذه المجموعة نمط اللّوحة الشّعريّة، ولعلّ هذا النّمط مغامرة ما لم يتحلَّ الكاتب بإحساس عالٍ ودقيق، يرتقي بروح القارئ دون أن يبعده عن مضمون القصّة، أو يؤثّر في فعاليّتها في ما تريد إيصاله.
"تبدّد اللّيل فوق جسديهما..
تغفو الأرض على حرارة أنفاسهم
حروف متقطّعة:
- أنا أحبّك
- لم تبلغ معشار حبّي.
- تبالغين حبيبتي بعدّ النّجوم..
- لا شك أما ترى كيف أحتضنهم في عتمتك!
- قد أكون آخر من يصله الضّوء..
- كيف ذلك وأنت بين ذراعيّ..
- لم أكن مولدك الأوّل.! أليس كذلك..
- أنت توأم حياتي..
أغلق الهاتف
وعيناه تحتضن سقف الغرفة
محدّثاً نفسه:
هل توأمي يستمتع بهذا الحديث.. (مصارحة/ إبراهيم عدنان)
أنموذج يتكوّن في لغة عاطفيّة بسيطة، تحمل واقعيّة الكلمة وتتحلّى بالرّومانسيّة. إلّا أنّ هذه اللّغة لم تقضِ على القصّة. فسؤال النّهاية المفتوح على مضمون الحديث وتأثيره يبلّغ تأثير القصّة وفعاليّتها. 
بالمقابل في الفصل السّادس، ينفرد علي غازي في "عشق ودموع" ليخلق من كونشرتو "الفصول الأربعة" لفيفالدي محاكاة لفصول الحياة. قام فيفالدي في هذا العمل الموسيقيّ بمحاكاة عوامل الطّبيعة المختلفة مثل نسمات الهواء والرّياح الشّديدة والعواصف. وأمّا علي غازي، فحاكى فيفالدي والقارئ معاً بنفسٍ شعريّ امتزج باللّغة السّرديّة، ليخرج العمل لوحة حياتيّة تترجم فصول الحياة من خلال فصول السّنة.
"كونتشيرتو فصل الرّبيع
الحركة الثّانية / Largo
 حتّى الحجر....
تفجرّت دموعه
وتفتّت بين يديه ألما،
عندما رماني القدر.
 في مقبرة الأطفال، يتراكم حزنه ويسرق ما تبقى له من ثبات. مئة قبر تحتضنهم تربتها الجرداء، كلّهم من أمّ واحدة. ذلك الّذي يتوسّط اثنان من إخوته، والآخر في الطّرف الأيمن، والأبعد... كلّهم ينتمون إلى ليلى ما غيرها.
 لذلك نحيبه لا يتوقّف، والشّموع، ستبقى بين يديه قائمة في صلواتها، لا يطفئها غير العاصفة والمطر." (فصول فيفالدي الأربعة/ علي غازي)
امتزجت في هذه القصّة اللّغة الشّعريّة بالسّرد فأظهرت للقارئ عمق الإنسان الملتهب بالعاطفة، والألم، والحزن. حملت اللّغة القصصيّة/ الشّعريّة رؤية الإحباط الّتي يواجهها الإنسان في عالم اليوم، الّذي تواجهه فيه أخطار عديدة ومؤلمة.
وأخيراً، وليس آخراً،

فإنّ كتابة عمل أدبيّ مشترك بهذا التّناغم، وبهذه الإحالات النّصّيّة الّتي تربط النّصوص بنصوص أخرى ومن حقول متعدّدة دينيّة وأدبيّة وموسيقيّة، يجعل من هذه المجموعة عملاً أدبيّاً مكتنزاً مفتوحاً على شهيّة التّأويل، ويكرّس فنّاً إبداعيّاً، مستفيداً من كلّ تلك التّقنيات السّرديّة الّتي تحفل بها منظومة السّرد العربيّ المعاصر.

الجمعة، 11 أغسطس 2017

في السماء صوت يهمسُ


مادونا عسكر/ لبنان



(1)
السّماء
كائنٌ حيّ يقلّص مسافة الصّوت
سمائيَ
جهالة الفلسفة وحكمة الحبّ
جنون يقارب عبثيّة طفل
واتّزان ملاك
سمائيَ
ضدّ أوطان البشر
صليبٌ يرتوي من خضرة خافقٍ
ما برح يلدُني من ماء ودم.
(2)
ليس حبّاً
بل كون يستعيد
لحظات منعزلة عن ضجيج الوحدة
تماهٍ
مع عبير الشّمس
ومخلوقات النّور
سكون يتحدّى غواية الرّيح
يتهادى كعصفور ثملَ من وهج السّماء
أرخى جناحيه وسبح في الأثير...
ليس حبّاً
بل
لحظة كائنة بين "كن" "فكان".
(3)
إلى أين ستؤول الملامح
إلامَ تصبو؟
الأرض خاوية
الفجر جديد
 ظلال ماض
تجتذب
سواعد النّضج المتعبِ...
هناك
في السّماء
صوت يهمس:
"نحن فوق"


الثلاثاء، 18 يوليو 2017

البحر ورمزيّة المعرفة الإنسانيّة في رواية "أرواد" للكاتب اللّبناني محمود عثمان.



إذا كان البحر قد عبّر في الأدب العربيّ بشكل عام عن الحياة بصراعاتها وتجاذباتها، فإنّه في رواية "أرواد"(*) يمثّل وطناً خاصّاً لمصطفى البطريق، القبطان الذّي لا ينتمي إلى مكان، الّذي قادته الحياة فقادها سفينةً تبحر ولا تصل ولا تريد العودة. مصطفى البطريق، الأرواديّ الأصل الّذي عاش في الميناء الطّرابلسيّ، أبحر في الحياة قبطاناً مدمناً السّفر والخمر والنّساء. وسيكتشف القارئ في هذه الرّواية شخصيّة حملت في ذاتها اختبارات حياتيّة جمّة واستخرجت حكمتها من البحر، واستخلصت منه خلاصة الحياة. بل كان له عالم خاصّ حميم صقل خبرته بالعرق والدّمّ.
"لكلّ نصّ روائيّ بحره" يقول النّاقد المغربيّ إبراهيم أولحيان. ولهذا النّصّ الرّوائيّ بحره الّذي رمز إلى الحياة بكلّ مراحلها وأشكالها. وتعامل معه الكاتب كوصف من الرّموز الّتي لا يمكن القبض عليها إلّا بارتباطها بشخصيّة القبطان مصطفى البطريق. فالبحر بدلالته الحركيّة المصوّرة للولادة والتّحوّلات والإحياء، ارتبط بالقبطان حتّى أصبح البحر أشبه بتوأمه. يحيا مثله بحركة دائمة مستمرّة، تتضمّنها التقلّبات، والهزائم والانتصارات. ناهيك عن أنّه استعان برمزيّة البحر ليستخلص منه أسرار الحياة من حيث العمق الفكري والقيمي والإنسانيّ. ولعلّ الكاتب أخفى ذاته وراء الشّخصيّة الرّئيسيّة (القبطان) ليعبّر عن فكره الخاص وهواجسه المتعلّقة بالدّين، والحبّ، والأخلاق، والسّياسة... فأتى النّصّ الرّوائي مشبعاً بالتّساؤلات الّتي يمكن أن تستفزّ القارئ، أو توخز ضميره الإنسانيّ، وتضعه أمام ذاته ليعيد النّظر في اعتقاداته وقناعاته الموروثة. وتحثّه على تفحّص واقعه العام والخاص الّذي لم يتغيّر بفعل تشبّثه بشعارات بالية استهلكها العقل دون فعاليّة.
يبدو القبطان مصطفى البطريق للقارئ شخصاً مشبعاً بالخبرة، مطّلعاً على الأمور بتفاصيلها الدّقيقة. يحكي سيرة حياته لأستاذ يرافقه في جميع فصول الرّواية تقريباً. وكأنّي به رفيق القبطان المبحر بسفينته بطريقة عكسيّة إلى الذّكريات المحمّلة بالفرح والحزن، الانتصار والهزيمة، الحكمة والجهل، الحبّ والتّخلّي... وفي شتّى الحوارات القائمة بينهما، يلمس القارئ قسوة الواقع الإنسانيّ الّذي يرفضه القبطان، ويعبّر عن هذا الرّفض بأسلوب بسيط غير منمّقّ، وقد يميل إلى البذاءة أحياناً. فيشمئزّ القارئ تارّة منه، وطوراً ينغمس في القراءة وكأنّه أمام مرآة تعكس أسلوبه المماثل في تعبيره عن الرّفض. وإن دلّ هذا الأمر على شيء، فهو يدلّ على شخصيّة القبطان الّتي شكّلها البحر، من حيث التّأثير البنيويّ النّفسيّ وتركيبة الشّخصيّة المماثلة بشكل أو بآخر للبحر. فتارة يتلمّس القارئ هدوء القبطان وحكمته وانفتاحه، وتارة هيجانه وثورته، وطوراً تقلّباته العاطفيّة والنّفسيّة. وها هو في سرده لأحداث حياته، يقذف أدرانه إلى السّطح ليحافظ على نقائه الدّاخليّ، كما يعبّر عنه في بوح لرفيقه:
"حنّت نفسي إلى سفوحكم. جاعت روحي إلى جبالكم. قلبي يصلّي متّجهاً إلى قبلته الخضراء. حيث تستريح قريتكم على ذاك المنحنى الشّامخ. تعال نعيّد معاً في الغابات والسّفوح والأودية. إنّ جبالكم بحر آخر، زاخر بأمواجه، لا نهائيّ الزّرقة والجمال." (75).
على الرّغم من أنّ البحر، "هذا العالم العائم، أكبر من أن نحيط به"، كما يذكر الرّوائيّ حنّا مينة، إلّا أنّ القبطان عبّر عن انصهار شبه تامٍّ به، إذ إنّه لم يُغلَب يوماً ولم يستعصِ عليه أمر، بل كان دائماً أشبه بالبحر الّذي يتميّز بالسيطرة والنّفوذ.
"أقسم لك، أنا السّندباد البحريّ الّذي انتصر على الحوادث الطّارئة، ونجح في كلّ امتحانات الحياة، إنّي لم أفشل إلّا في حياتي الزّوجيّة. وكم أنا مزهوّ بهذا الفشل، فالسّقوط عند أقدام أمّ فريد انتصار"(ص94).
القبطان العاشق، المدمن على النّساء، المتفلّت من كلّ قيد إلّا من قيد واحد، ألا وهو الحبّ الّذي حفظه في قلبه لامرأة بلغاريّة لم تعتبره سوى أخٍ. ظلّ حاملاً في عمقه طيفها وشوقه إليها ورغبته في اقتحام بحرها. ولعلّ هذا الحبّ دلّ على إنسانيّة القبطان العميقة الّتي قلّما تظهر في الرّواية من حيث بروز صلابته الّتي لا يمكن هزمها. فالقبطان الّذي اكتسب خبرته بالعرق والدّم، والّذي لم يرتبط إلّا بالبحر، يحتفظ بداخله بإنسانيّة عاشقة شكّلت توازناً في الشّخصيّة لتخلق بحر القبطان الخاصّ الّذي حاول أن يرسو على شاطئه ولم يقوَ إلّا في لحظة هذيان الموت:
"اللّيلة زارتني كيتي وزرتها. سرنا معاً والثّلج يخشخش تحت أقدامنا في أزقّة "بورغاس" وأسواقها... كانت كيتي مبتسمة تلفّ شالاً من الكشمير حول عنقها. والثّلج ينهمر على شعرها وكتفيها... تسلّقت وإيّاها الهضبة المشرفة على المدينة والبحر. وجدنا هناك كنيسة تختفي بين الأشجار. قالت تعال ندخلها لنصلّي. تعال نوقد أمام المذبح شمعة حبّنا الأخيرة بأصابعنا العشرة. صرختُ لا. سنصلّي في العراء. وسنمشي عراة في الثّلج. إنّ أبانا السّماويّ سيكون في غاية السّرور إذ نسجد له بين الأشجار أو نقف متعانقين متأوّهين من البرد والحبّ". (ص101).
سيجلي هذا المشهد في النّصّ الروائيّ عن القبطان همّ الشّوق والتّوق إلى الحبيبة. وسيبدّل نظرة القارئ إليه. فمن قبطان ماجن، عاشر العاهرات، وقصد المواخير والحانات، إلى قبطان حالم بعُري الحبّ الّذي تاق إليه. فيرتدّ هذا المشهد عكسيّاً ليبدّل مفاهيم ظهرت في الرّواية عن الحبّ والجنس، ويدلّ على إنسانيّة ظامئة إلى حبّ أعمق من المتعارف عليه. ولعلّ الصّلاة في العراء توحي إلى الحبّ المنطلق بلا حدود، كالبحر الّذي حدوده زرقة السّماء.
كما أنّ هذا المشهد سيعزّز وجهة نظر القبطان للعالم الإلهيّ. فالقبطان الّذي لم ينتمِ إلى مكان، لا يظهر في الرّواية منتمياً إلى عالم دينيّ خاصّ. بل إنّه منفتح على الله بروح طفل وحكمة عجوز، ليعبّر عن حرّيّة إيمانيّة متفلّتة من التّعصّب والتّشدّد والارتباط بالمكان والطّقوس والشّعائر:
"أنا العجوز الّذي لم يحلّل شيئاً ولم يحرّم في حياته شيئاً. ولكنّني أؤمن بالله. لا يمكن لإله عظيم أن يضع عقله في عقل مخلوق حقير مثلي. إنّه سيسامحني على ذنوبي الصّغيرة والكبيرة... الأب يا أستاذي العزيز، لا يميّز بين أبنائه، بل ينظر بعطف زائد إلى ولده الأزعر. وكذلك هو الله، له المثل الأعلى. لن يميّز بين من يصلّب له بالثّلاثة أو بالخمسة، ولا بين من يصلّي واقفاً أو راكعاً. المهم أن يصلّي بقلب خاشع. ربّنا لا يؤاخذ الطّفل الّذي يقلب الرّاء لاماً وهو يتلو سورة الفاتحة، أو الطّفل الّذي يغمغم وهو يصلّي الأبانا... ربّنا ينظر إلى قلب الطّفل ووجهه البريء." (ص 55/56).
مصطفى البطريق الّذي اصطفاه أبوه ليصبح بحّاراً مثله، فأصبح قبطان سفينة. قاده البحر إلى عالمه المتناقض المتقلّب المزدحم بالمفاهيم والهواجس، فقاده هو في حياة استحكم فيها مصطفى البطريق حتّى النّهاية.


لعلّ الكاتب في هذه الرّواية كتب روايته وهو محمّل بالعديد من الإشارات الثّقافيّة والخبرات الإنسانيّة من أسطورة السّندباد إلى رمزيّة البحر الكونيّة والصّٰوفيّة، وكذلك الدّينيّة والأعمال السّرديّة والشّعريّة، ليصنع بحرا خاصّا، أبحر فيه بسفينة التّجربة الشّخصيّة الّتي دلّت على عمق التّأثر والتّأثير، لينتج عملاً أدبيّاً يستدعي كلّ ذلك ويشير إليه.

--------------------
(*)الرّواية من منشورات ضفاف في بيروت ودار الأمان في الرابط- 2017.

(*) نبذة عن الكاتب: مواليد 1969، بيت الفقس الضنية. حائز دكتوراه دولة في الحقوق وإجازة في اللّغة العربية من الجامعة اللّبنانية. أستاذ متفرّغ في كليّة الحقوق. صدر له ستّ مجموعات شعريّة وأربعة كتب في النّثر والرّواية وأربعة  كتب في القانون.