الأحد، 7 أكتوبر 2018

صوفيّة العشق في اختبار المغبوط أغسطينيس





"أيّها النّور الأسمى تعجّل بالإشراق في أعمى يريد أن يصير ملكًا لك." (المغبوط أعسطينس).

ليس كلّ شاعرٍ صوفيّاً، وإنّما كلّ صوفيّ يحلّق في عالم الحبّ والجمال. فينمو في داخله شاعرٌ يهيّئ له الانفتاح على نور الوحي، فتتشكّل العلاقة مع الله الحبّ والجمال. وإذا كان الوحي يعرَّف بالنّور الإلهيّ المنسكب في قلب الإنسان، فلا ريب في أنّ الصّوفيّين منفتحون على هذا النّور مع اختلاف الاختبار الشّخصيّ مع الله، وتحديد مفهوم الحلول الإلهيّ والاتّحاد الإلهيّ.
فهل نقول أنّ الصّوفيّين قدّيسون بالمعنى العلائقيّ مع الله الشّخص، وليس بالمعنى الدّينيّ العقائديّ؟ فإذا كان الصّوفيّ يسعى إلى لقاء مستمرّ مع الله، ويسير نحو اكتمال هذه العلاقة باحثاً فيها عن الحرّيّة المطلقة، بالتّالي فهو يدخل في دائرة النّور، أي القداسة. وإذا كان محور حياته حبّ الله وبالتّالي حبّ الإنسان، فنحن أمام علاقة عاموديّة مع السّماء، أفقيّة مع الإنسان، تلتقي عند نقطة الحبّ الّذي يعزّز حضور النّور في الشّاعر الصّوفيّ. وإذا تبيّن أنّ الصّوفيّ قدّيسٌ، فنحن أمام شعراء يعاينون الله ويتمتّعون بسرّ جماله. رسل حبّ وجمال، يلتقون الله ويناجونه ويعكسون صورته في العالم. فمن يلتقي الجمال دون سواه لا بدّ من أن يؤثّر في النّاس بقوّة.
بيد أنّ هذه المعاينة لا تعبّر عن رؤية الله بالعين المجرّدة، بل هي معاينة عقليّة قلبيّة. عقل وقلب مستنيران يعاينان النّور. ما يدلّ على لقاء داخليّ خاص وحميم، يعبّر عنه الفيلسوف المغبوط أغسطينس في حوار عشقيّ خالد مع الله قائلاً:
"قد تأخّرت كثيرًا في حبّك أيّها الجمال الفائق في القدم والدّائم جديدًا إلى الأبد
كنت فيَّ، فكيف ذهبت أبحث عنك خارجًا عنّي
أنت كنت معي، ولكنّي لشقاوتي لم أكن معك"
تبيّن هذه السّطور الحضور العشقيّ القائم بذاته، المنتظر تفاعلاً. ما دلّت عليه المعيّة الدّاخليّة. نهل أغسطينس من العشق الإلهيّ فعاش برفقة الله في عمق أعماقه الدّاخليّة. كما تكشف لنا هذه السّطور أنّ صوفيّة أغسطينس تؤكّد حضوره الدّائم في حضرة الله ولكن الله الّذي فيه.
هذا الاتّحاد العشقيّ الملموس يوضّح سرّ انتقال أغسطينس من الضّلال إلى النّور، من الموت إلى الحياة، من العبوديّة إلى الحبّ والحرّيّة. وهو القائل: "جلست على قمّة العالم، عندما لم أعد أخاف أو أشتهي شيئاً".
من يطالع مناجاة أغسطينس يدرك يقينيّاً أنّ أغسطينس عاين الله وحدّثه وناجاه، كما يشعر حقيقةً أنّ الله كان مصغياً له. ما يعني أنّ الصّوفيّة ليست ضرباً من الخيال، ولا كفراً كما يظنّ البعض. إنّها حالة فريدة متفرّدة، تعكس حالة عشقيّة واقعيّة يعيشها الصّوفيّ اختباريّاً ويعكسها بسلوكه الشّخصيّ. إنّها حالة النّور الّتي من العسير أن يعاينها كلّ إنسان ما لم يدخل في علاقة حميمة وخاصّة مع الله.
ينفصل الصّوفيّ عن العالم بلقائه مع الله، فيغترب، ويقصي نفسه عن كلّ ما يمكن أن يحول بينه وبين هذا اللّقاء الحميم. لكنّ هذا الإقصاء لا يعني بالضّرورة التّنسّك والعزلة. بل إنّه زهد داخليّ أكثر منه ظاهريّ، يحوّل الإنسان من حالته الإنسانيّة بالقوّة إلى الحالة الإنسانيّة بالفعل الّتي يمكن تعريفها بالصّوفيّة.
"أيّها النّور غير المنظور هب لي عينين تستطيعان معاينتك! يا رائحة الحياة الإلهيّة هب لي حاسة جديدة للشّمّ تجذبني نحو رائحة أطيابك الذّكية. ربّي، نقِّ فيّ حاسّة التّذوّق حتّى تقدر أن تتذوّقك وتتعرّف عليك وتكتشف غنى لذّتك المذخرة لكلّ من يرتشف رحيق محبتك.
هب لي قلبًا لا ينبض إلا بحبّك، ونفسًا تعشقك، وروحًا أمينًا لذكراك، وفكرًا يدرك غور أسرارك وعقلاً يستريح فيك ويتّحد بحكمتك المحيية دائمًا، ويعرف كيف يحبّك بتقوى، أيّها الحبّ المذخر فيك كلّ حكمة!"
أغسطينس المنجذب إلى الله، المتّقد بناره، الهائم بملكوته، كشف عن حالة صوفيّة تمتاز بتلمّس النّور الإلهيّ ومعاينته والانصهار به.
لعلّ الصّوفيّون في حياتهم مع الله يكشفون للإنسان بشكل أو بآخر حالة السّماء إن من خلال الشّعر، أو الفلسفة، أو السّلوك الحياتيّ اليوميّ. لكنّ الحبّ الإلهيّ يجمعهم، يدّثرون به وبنوره، ويستحيلون أنبياء لا يبشّرون بالله الحبّ وحسب، وإنّما يحملونه شخصيّاً إلى الإنسان.


الاختبار الرّوحيّ العميق عند الصُّوفيّين الحلّاج نموذجاً


مادونا عسكر/ لبنان



إنّ الحالة العشقيّة الّتي يمرّ بها الصّوفيّون بل الّتي يبلغونها، ووجد لها تمثيلاً مناسباً عند الحلّاج، لهي ثورة على جمود النّصّ الدّينيّ وعلى واقع التّعامل معه لإقامة علاقة مع السّماء وغوص في سرّ الكلمة الإلهيّة. الكلمة السّرّ بالمفهوم القدسيّ/ Sacrement، الّتي تحتاج من العقل الإنسانيّ ارتقاء معيّناً، ومن القلب نقاء خالصاً حتّى تنجلي الحقيقة وتنكشف لمن التحم بقلب الله.
تحتاج الحقيقة من العاشق قراراً يتيح لها الاقتراب والتّسرّب إلى الدّاخل الإنسانيّ حتّى تتمكّن من كشف ذاتها. كما تحتاج انفتاحاً من الجانب الإنسانيّ على النّور المتدفّق منها حتّى تظهر الأنا على نور الهُوَ.
لا بدّ أنّ الصّوفيّ كعاشق لله يمرّ بعدّة حالات، تتدرّج صعوداً نحو الله. فينطلق من العمق الدّنيويّ إلى العمق السّماويّ اختباريّاً. لذلك لا يمكن المرور على الشّعر الصّوفيّ، ومنه ما فاض به الحلّاج، دون تبيّن الحالة الرّوحيّة والذّهنيّة اللّتين تُدْخِلانه في عمق النّور الإلهيّ. فالشّاعر الصّوفيّ لا يسلك منهجاً تأليفيّاً أو يرنو إلى التّنظير عن الفكرة الإلهيّة، وإنّما يخوض غمار الاختبار الرّوحيّ العميق مع الإله الشّخص.
من العسير أن ينتهج الشّاعر الخطّ الصّوفيّ بمعزل عن الاختبار، بعيداً عن الولوج في قلب الله. فالتّأليف في هذا السّياق يكشف عن سطحيّة الشّاعر وهشاشة المعنى. كما أنّه من الصّعب أن يُظهر في قصائده حالة خارجة عنه، فيأتي شعره ناقصاً بل خالياً من الشّعر.
لا يترجم الشّعر الصّوفيّ حالة الشّاعر وحسب، بل يظهر تجسّد الكلمة في الشّعر حتّى أنّها تستبين واضحة بيّنة لتكشف عن ذاتها من خلال القصيدة الصّوفيّة. لذلك فليس بإمكان الشّاعر اعتراض سبيلها وإلّا جنح إلى طرح فكره الشّخصيّ بدل أن ينقل الحقيقة. ولا عيب في ذلك، فالشّعر حركة تنويريّة معرفيّة لكنهّ في هذه الحال لا يرتقي سلّم الصّوفيّة.
هذه الحالة من الكشف ينشدها الحلّاج في عشقه الإلهي قائلاً:
رأَيتُ ربّي بعين قلبِ
فقلتُ من أنت قال أنت
فليس للأين منك أينٌ ..
وليس أين بحيثُ أنت
وليس للوهم منك وهمٌ
فيعلم الوهم أين أنت
أنت الذي حُزْتَ كل أين
بنحو لا أينَ فأينَ أنت
وفي فنائي فنا فنائي
وفي فنائي وجدت أنت
رؤية الحلّاج القلبيّة لا تعبّر عن الرّؤية الإيمانيّة وحسب بل تخلص إلى الرّؤى المكاشفة لحقيقة بلغها الحّلاج (فقلت من أنت قال أنت). يندرج فعل القول ضمن حوار داخليّ عميق بين الحلّاج والكلمة يحقّق لقاء حميماً بين الأنا والهُوَ. بل فناء فيه حدّ الالتحام العشقيّ (وفي فنائي وجدت أنت). عبارة شكّلت الحقيقة الّتي عاينها الحلّاج، فخرج الشّعر وحياً حوّله إلى ما يشبه رسولاً للحقّ. ويمكن القول إنّ الشّاعر الصّوفيّ رسول الكلمة، يعشق، يعاين، فينقل الوحي العشقيّ.
ولئن وصل الحلّاج إلى هذه المرحلة لزمه تحرّراً من الأنا وانغماساً في الهُوَ فيمسي الأنا هو والهو أنا. فبقدر ما يتحرّر الشّاعر من ذاته يلج قلب الله، قلب الحبّ ويمتزج به. فلا يعود يعاين إلّاه، ويصبح الله المعشوق حاضراً في ذات العاشق نوراً يفيض في العالم. وسيحتّم هذا اللّقاء بين الله والشّاعر نوعاً من تجسّدٍ يدخل الشّاعر في حوار دائم مع الحضور العشقيّ/ الله. وبالحديث عن تجسّد، خاصّ عند الحلّاج، لا بدّ من التّفريق بين المعنى العقائديّ للتّجسّد، أي حضور الإله الإنسان، والحضور الإلهيّ الّذي عاينه الحلّاج في عمق أعماقه.
فعندما يشير إلى التّجسّد في إحدى قصائده قائلاً:
سبحان من أظهر ناسوته
سرّ سنا لاهوته الثّاقب
ثم بدا في خلقه ظاهراً
في صورة الآكل والشّارب
حتّى لقد عاينه خلقه
كلحظة الحاجب بالحاجب
لا ريب في أنّ الحلّاج عاين التّجسّد الإلهيّ بشكل أو بآخر. عاين اختباريّاً الإله الشّخص ما استدعى منه تنازلاً عن الإله الفكرة. وهنا يظهر الشّعر الوحي. الشّعر الكاتب لا المكتوب، ويستحيل الشّاعر رسول هذا الوحي، ناطقاً به حتّى لو كلّف الأمر ما كلّف الحلّاج. لقد قدّم الحلّاج حياته مقابل النّطق بهذا الوحي، دون أن يتراجع عن كلمة واحدة. ما يعني أنّه بلغ مقاماً من العسير أن يتفلّت منه لينقذ حياته. بمعنى آخر استغنى الحلاج عن حياته لأنّه وجد حياته.
أُقْتُلُوني يا ثقاتـــي
إنّ في قتـْلي حياتي
ومماتـي في حياتـي
وحياتي في مماتـي
في هذا السّياق هل يمكن السّؤال عن شهادة في الشّعر؟ هل يستشهد الشّاعر الموحى له من أجل الحقّ؟ هل يبلغ الشّاعر الصّوفيّ مقاماً يتعذّر عليه من خلاله التّفلّت من الحقيقة حتّى لو كلّفه الأمر حياته؟


الخميس، 4 أكتوبر 2018

الحبّ حتّى المنتهى / قراءة في ديوان "لنتخيّل المشهد" للشّاعرة اللّبنانيّة سوزان عليوان



مادونا عسكر
"الحبُّ لا يصنعُ المعجزات
هو، بحدِّ ذاتِهِ، معجزة" (سوزان عليوان)
يتجلّى الحبّ في ديوان "لنتخيّل المشهد"، عذباً  رقراقاً كالنّدى المنسكب على وريقات الورود عند الفجر. أرادته الشّاعرة كذلك، وخلقت مفهوماً شاملاً للحبّ، اختزلته بعاشقين جعلت منهما رمزاً لهذا الحبّ.
يلاحظ القارئ بوضوح ارتباط الحبّ عند سوزان عليوان بالطّفولة، لكنّه يأخذ الأبعاد النّقيّة البسيطة المتجذّرة في هيكليّة الطّفل، دون المساس بالنّضج العاطفيّ والعلائقيّ. فللطّفولة عند الشّاعرة أهميّة كبيرة، إمّا لأنّها تحنّ إلى استعادتها، أو أنّها تحيي في داخلها تلك الطّفلة الّتي تاهت بحكم ظروف معيّنة أو نتيجة اختبارات شخصيّة أفقدتها الحسّ الطفوليّ. لكن لا ريب في أنّها تعرّف الحبّ ككائن طفوليّ يحمل في ذاته مقوّمات الطّفل المرادفة للبراءة، والعفويّة، والنّقاء، والخيال، والحلم...
تحكم الشّاعرة ديوانها بين قصيدة افتتاحيّة "لنبدأ بالنّهاية" (ص3) وقصيدة ختاميّة "من يكملُ الحلم؟" (ص 49). فيأتي الحدث معاكساً للنّمط التّقليديّ، لتبدأ من النّهاية وتنتهي بالحلم، أو بمعنى أصحّ، تعبّر الشّاعرة عن الحبّ الحلم الغريب عن العالم، المنفصل عنه. ترسمه لوحات استمدّتها من عالم الشّعر ومن عمق ذاتها حيث يسكن إنسانها العاشق الحقيقيّ.
إذا قرأنا الدّيوان بطريقة تقليديّة من القصيدة الأولى إلى القصيدة الختاميّة، نرصد معاناة الحبّ في هذا العالم القاسي والمرعب. فالقصيدة الأولى وإن حكت عن افتراق عاشقين، إلّا أنّها تحمل  ما بين سطورها غربة الحبّ في عالم يصعب عليه تقبّل الحبّ المتجرّد والمتفلّت من مقوّمات العالم:
عاشقان في اللّيل.

 خائفان
كدمعتين
في عينيْ طفلٍ
مثقوبِ القلب
وردتُهُ مجروحة.

معطفُهُ على كتفيها
ذراعُها حول عنقِهِ
يرتعشان
بردًا و عتمة
مثلَ ورقتيْ شجرةٍ
شبهِ عارية.
المشهد قاتم وقاسٍ تدعمه دلالة الدّمعتين في عينيّ طفل، والارتعاش برداً وعتمة، لتقبض الشّاعرة على وجدان القارئ وتحرّك فيه الوعي العاطفي، فتحثّه على استدراك مشاعر الحبّ الحقيقيّ لتنقذه من قسوة العالم.  وتنساب القصائد تباعاً لترسم كلّ واحدة منها رسماً فنّيّاً خاصّاً حتّى تكتمل معاني الحبّ بالمفهوم الّذي أرادته الشّاعرة، وبالمعنى الّذي يتوق إليه القارئ من ناحية اختلاج المشاعر، وارتعاش القلب، واستيقاظ الحبّ المعجزة الّذي يحوّل القارئ من مشروع إنسان إلى إنسان.
بالمقابل، إذا تمّت قراءة القصائد بطريقة معاكسة، تصاعديّة، بدءاً من القصيدة الأخيرة "من يكمل الحلم؟"، سيتعرّف القارئ إلى حلم الشّاعرة، حلم الحبّ، بل سيشاركها الحلم، إذ تفتح له آفاق إكماله. كما أنّها تدخله في عالم الأحلام، والخيال دون أن تفقد الواقع قيمته، وإنّما تهدف إلى زرع الحبّ في كلّ ذرّة من الإنسان.
في قصيدة "زمن الوردة" (ص48)، تُدخل الشّاعرة القارئ في مشهديّة أشبه بأسطورة لتبيّن تفاصيل الحبّ، والعلاقة الوطيدة الأبديّة بين عاشقين الّتي يغفل عنها الإنسان، ليتحدّث عن الحبّ بشكل عام دون أن يهتمّ للتفاصيل الّتي ترتكز عليها الحالة العشقيّة. وبهذا فإنّ الشّاعرة تتحدّث عن حبّ حقيقيّ خارق، يتجذّر في التّراب لينبت في الأعالي. ما يغفل عنه العالم قطعاً:
يُحكى
أنَّ عاشقيْنِ
في زمنٍ قديمٍ
دُفِنا في حفرةٍ واحدة.
لنتخيَّلَ المشهد:
هيكلان عظميَّان
مُمدَّدان جنبًا إلى جنبٍ
كما لو أنَّ الترابَ سريرٌ من عشبٍ
والدودَ الذي ينهشُ اللحمَ الباردَ
فراشاتٌ تنقلُ القبلاتِ في رحيقِها.

هل قُتِلا؟
انتحرا معًا؟
أم أنَّهُما من ضحايا الكوليرا؟
الزّمن القديم يعود بالحبّ إلى أصوله الأولى، والدّفن في الحفرة الواحدة، يرمز إلى أزليّة هذه العلاقة العشقيّة الّتي لا تسقط حتّى وإن احتضنها التّراب. بل وكأنّ الشّاعرة تبرز المعنى المتجدّد الأبديّ للحبّ، وتسكبه في إطارٍ قصصيّ خياليّ لطيف، يحوّل الفناء إلى حياة (الترابَ سريرٌ/ الدّود فراشات). لكنّه في ذات الوقت يطرح تساؤلات عدّة، ويكشف سذاجة العالم، استهتاره، اهتمامه بما لا فائدة منه بدلاً من الاكتراث والاعتناء بالتّبشير بالحبّ:
تجاهلَ الرّواةُ
عبرَ العصورِ
هذه التّفاصيل العابرة
لتسطعَ
في الحكايةِ
وردةٌ حمراء
نبتَتْ
من التّرابِ الّذي احتضنَ العاشقيْنِ في عناقٍ أخيرٍ
جذورُها عظامُ أصابعِهِما
المتشابكةُ في الموتِ
كما في الحياة.
لا يحتاج الحبّ إلى طرح إشكاليّات وجدليّات وشروحات نظريّة. يكفي التأمّل  بوردة حمراء منسيّة حتّى تفيض معاني الحبّ ودلالاته في تفاصيل يعتبرها العالم عابرة، إلّا أنّها ذات دلالات عميقة:
بعدَ ألفِ عامٍ تقريبًا
من زمنِ الوردة
وفي زاويةٍ صغيرةٍ من جريدة
خبرٌ عن طائرةٍ تحطَّمَتْ
عن علبةٍ سوداء مفقودة
عن غوَّاصٍ من فرقةِ الإغاثة
عثرَ
في أعماقِ البحرِ
على ما يُشبِهُ وردةً حمراء:
يدان متعانقان
انفصلتا عن جسديْهِما
دونَ أن تنفصلَ الواحدةُ عن الأخرى
دونَ أن يفترقَ العاشقان.
يأخذ الحبّ عند سوزان عليوان بعداً إنسانيّاً شاملاً، فلا يتحدّد في علاقة بين شخصين، بل ينطلق من الشّخص إلى المحيط. ويُظهر الأعماق الإنسانيّة الّتي يعوزها أن تحبّ لتعاين الجمال، وتشعر بالآخر، وتتلمّس العلاقة بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والطّبيعة وجميع الخلائق. فيرتقي الإنسان وتسمو المعاني الإنسانيّة، ويحيا النّقاء والصّفاء:
لأنَّهُ يحبُّها
يصعدُ
كُلَّ ليلةٍ
على سلالمِ العتمةِ
بقدميْنِ حافيتيْن
خشيةً  أن يدنِّسَ السماءَ بحذاءٍ
لا ينزلُ
إلاَّ والقمر في يدِهِ
رغيفًا يفتِّتُهُ
على شكلِ كواكب ونجوم صغيرة
دونَ أن يهدرَ حبَّةَ قمحٍ واحدة
ولئن احتلّ الحبّ هذه الرّتبة في عليائه واستحال قوتاً ضروريّاً للعالم (القمر/ الرّغيف)، امتدّ إلى الكون بأسره ليشبع النّفوس الجائعة:
بالتّساوي
بالعدلِ الذي لا تعرفُهُ سوى أصابع عاشق
يوزِّعُ كعكاتِهِ الدّافئةَ
على أطفالِ الشّوارع
على شبابيكِ النّائمينَ دونَ عشاءٍ أو أمل
على الكلابِ والقططِ الضالَّةِ أيضًا.
في الحبّ يتجلّى مفهوم العدالة، والرّحمة، والخلاص. لا بدّ للكون بأسره أن ينغمس في الحبّ كي يخلص، كي تتحقّق فيه العدالة والحرّيّة لأنّ الحبّ لا يحابي الوجوه، ينطلق حرّاً باذلاً ذاته مجّاناً:
فقط
لأنَّهُ يحبُّها.
من أحبَّ إنسانًا
أحبَّ الناسَ جميعًا. (كواكب و نجوم من قمح/ ص 12)
بالحبّ ترى ما لا يُرى، وتدرك معاني الإنسانيّة الأصيلة، وتستخرج الجمال من القبح، أو ما تعتقده قبحاً. ذاك ما رآه طفلان صغيران متعانقان في متسوّلٍ بعينين مفقوءتين، يتوسّل نظرة حنان واحدة:
وحدهما الولد والبنت المتعانقان
ضفيرةً من لحمٍ ودم
تحتَ مظلَّةٍ ملوَّنة
وضعا، برفقٍ، في ثقبيْهِ العميقيْنِ
قطعةً من الخبزِ المُحلَّى
وكمشةَ زبيبٍ وياسمين
متوهِّميْن أنَّهُ شجرةً
وأنَّ تجاويفَ جمجمتِهِ
- هذه التي تقرفُ الناسَ
وترعبُ الأطفال-
أعشاشَ عصافير.
ذاك ما يعوز كلّ إنسان ليكون إنساناً، وهو أن يعود طفلاً. وحدهم الأطفال ينفتحون على حقيقة الحبّ، ويسمحون لها أن تتسرّب إلى قلوبهم دون فلسفة الأشياء. ببساطة وتلقائيّة، يحتضنون الحبّ في قلوبهم ويعكسون صورته على العالم. هم فقط يفهمون معنى المعجزة، يدخلون في سرّها ويحبّون حتّى المنتهى.


الأربعاء، 29 أغسطس 2018

عذوبة وصلاة وقناديل



مادونا عسكر/ لبنان
(1)
ارمِ نفسك داخل القنديل
واخترق لظى النّور واحترق
غِب وأنت حاضر
واحضر وأنت غائب
تمثّل بالجسد حين ينغمس في أبعاد التّراب
واحذُ حذو الرّوح الغارق في الجهات السّبع
الحقيقة أن تعشى
لا أن ترى
أن تتجاهل الرّماد وتتسلّق حبال الصّلى
تبلغ قمماً يشعلها الماء
(2)
أَطفئ الشّمس لنرحل
ونلتقي
قبل أن تتمرّدَ الطّرقات وتثور الأمكنة
قبل أن يعيَ الزّمن قسوة الجمال، فيهجر ذاته ويلحق بنا
اللّيل ملاذ الرّاحلين
الظّلمة سراج الخطى نحو النّور حيث لا
نرى، نبصر. نهتدي. نعاين. نقرع حتّى يُفتح لنا.
وإذا بالوجه الّذي لا نعرف المجد لولاه
يبتسم ويعانق يقظة الكمال
(3)
إذا رأيتَ حسنَهُ مع الفجر بازغاً
تأدّبَ الحسُّ، تنقّى النّظر
وإذا هَمَّت روحُك تطرقُ أبواب الجمال
رَتَّلَ جبينُه ترانيم تسنيمٍ
يجري فوق يديه
يوقظُ في ضمير العشقِ
غبطةً
تكشفُ اللّغةُ بعضها
وتموت.
(4)
بين بحر وسماء
يلتفّ على نفسه
يتكوّر في ركن الحلم
ويفيض
كنور الصّباح الخجول
عذوبته صباح آخر
ذاك الّذي يليه مساء أنشودة الخلق الأولى، قبل أن مسّت يد الله التّراب، بعد أن
امتزجت أنفاسه بالحَسَنِ جدّاً
أُصغي إلى تطوافه حول النّجوم
أُنصتُ إلى قلبه المتجذّر في الأثير
المعلّق
بين بحر وسماء

الأربعاء، 18 يوليو 2018

ظلال في بهاء المطلق



مادونا عسكر/ لبنان
الظّلال المنتشرة هنا وهناك
ظلّ واحد
للواحد الّذي لا ظلّ له
المفردات ثقيلة
الكلمات وضيعة
العظام الّتي تشبع جوع التّراب
الأنفاس المندثرة في عزلة الغموض
الّدماء المعانقة صدى الطّبيعة
تجتمع في يده
صادقة هي الكلمة
لأنّها
ثبات الرّحيل...
الرّحيل أبقى.

(2)
العالم موت في السّماء
السّماء موت في العالم
لِم الكون يشتكي؟
السّحب جافّة في يدي
الجفاف ماطر في عينيك
الخلود ملتبس في ثرثرة الألسن
اللّبس في "الكلمة" أخضر
يضيق الكون... لم يبقَ إلّا فتات غيمٍ
روحي تطوف في رحابك

(3)
البحر الراقد
زرقة داكنة
أمواج تائهة عن مثواها
تقرع باب السّماء
***
موت ثمّ هذيان ثمّ ماء الخلق
الحقيقة مدفونة في بئر بيضاء
تراب متعثّر
يستند إلى إصغاء السّماء
***
أنت الموت الشّاسع فيّ
تغريدة ما لا يُرى
سيلان القمر في ليلة عيد
سحابة خلاص
معلّقة في السّماء.

السبت، 30 يونيو 2018

الألم بوصفه مرتبة عليا في الرّؤية الشّعريّة/ قراءة في قصيدة للشّاعر التّونسي يوسف الهمّامي







- النّصّ:

الغيمة الغامضة تسند
عبقها إلى صحراء غصن كسير
..
الأرض تتثاءب
بين ذراعين ووشم
..
بكاء الرّحيق يتعالى
في النّاي عبر الثقوب
..
الأخضر الغافي يخافت في الصّدر
الأسود العتيّ يغامر على اعتلائه


- القراءة:

يمكث الشّاعر بين الأرض والسّماء. يهتمّ لما فوق ويحمل أثقال الأرض. لكنّه بلغ مقاماً رفيعاً من الألم. فالاهتمام بالعلو كشف تفاصيل العمق.
الغيمة الغامضة/ رؤى الشّاعر الّتي تبلسم الضّعف الإنسانيّ وتداوي جرحه. إلّا أنّ الشّاعر يتألّم بصمت الشّعراء القدّيسين حاملاً حزن الكون في قلبه وبهجة العلا في آن. ليس الغموض هنا دليل التباس وإنّما دليل إعجاز الغيمة، وهي الحاملة الحياة تواجه الموت.
الغيمة الغامضة أو رؤى الشّاعر غطّت العالم. وهي أشبه بخيمة نُصبت من أجله ليتطلّع على هذا العالم من عمق شعره ويداوي بنور الشّعر آلام الإنسانيّة. (الغيمة الغامضة تسند // عبقها إلى صحراء غصن كسير). الغيمة المهيّأة للفيض تقابلها صحراء غصن كسير. وإن دلّ الغصن على أمر فهو يدل على ضعف ووهن وألم وظمأ وربّما فراغ أشبه بالموت أشارت إليه (الصّحراء). ولئن كانت الغيمة  قد سندت عبقها إلى الظّمأ والألم والفراغ المحزن تبيّنت عين الشّاعر الحاضنة لهذا الألم/ الموت. لكنّ العين لا تملك ذراعين يحتضنان بل هي تحتوي بما ستفيض به من ماء. ولو تعمّق القارئ في المعنى المحتجب في قلب الشّاعر لوجده متألّماً حدّ فيض الدّمع المحتوي لا المشفق وحسب. ما يعني أنّ الشّاعر يحتوي الكون بالقوّة بالدّمع ويحتويه بالقوّة بعالمه الشّعريّ الرؤيويّ.
لكنّ الأرض مسلوبة الإرادة غير مبالية ولا تستجيب لهذا الاحتواء (الأرض تتثاءب// بين ذراعين ووشم). وما تكاسلها إلّا دلالة على الألم المكثّف الّذي سلب إرادتها فخارت قواها وباتت غير قادرة على المقاومة. والشّاعر المقيم في رؤاه مجروح في محبّته لهذا الكون، متألم في عمق إنسانيّته. إنّه ألم الوعي وألم الحبّ.
الوعي الممزوج بألم المعرفة والحبّ الفيض الّذي يغرق فيه الشّاعر ويهفو إلى إغراق الأرض به. وامتداداً للألم المعبّر عنه في السّطور السّابقة، يتوسّع الشّاعر في وصف حاله وما يسبغه عليه الألم فيدخل في محاكاة تثاقفيّة تفاعليّة مع جلال الدّين الرّومي وقصيدته (النّاي الحزين) وما كان فيه من حزن:

"أنصت إلى النّاي يحكي حكايته
ومن ألم الفراق يبث شكايته:
مذ قطعت من الغاب، والرّجال والنّساء لأنيني يبكون
أريد صدراً مِزَقاً مِزَقاً برَّحه الفراق
لأبوح له بألم الاشتياق..
فكلّ من قطع عن أصله
دائماً يحن إلى زمان وصله..
وهكذا غدوت مطرباً في المحافل
أشدو للسّعداء، وأنوح للبائسين ​
وكلٌّ يظنّ أنّني له رفيق..."

ويتماهى حزن ناي الرّومي مع حزن ناي الشّاعر، إلّا أنّ حزن الهمامي يشدو بكاء ورحيقاً، ما لم يطله الرّومي في قصيدته. فرحيق البكاء ممزوج ببهجة السّماء وألم الأرض و(الأخضر الغافي يخافت في الصّدر). الأخضر/ الحياة العائد إلى الشّاعر المتغلغل في ذاته يثق بالغيمة المسندة عبقها إلى صحراء الغصن الكسير حتّى وإن غامر الموت في تحدّي الحياة.

الأخضر الغافي يخافت في الصّدر
الأسود العتيّ يغامر على اعتلائه.

إنّ الدّخول إلى عمق الأشياء صعب، ولكنّ الأصعب منه ملامسة كنه الحقيقة والأشدّ صعوبة هو الإقامة هناك بوعي رؤيويّ يطلّ على العالم من خلال هذه النّافذة المفتوحة والمتّقدة من الرّؤى، هذا ما يعمل الهمّامي عليه دوماً في نصوصه الّتي تنحو نحو الباطن الإنسانيّ الغنيّ بالأفكار والمتشبّع بالبصيرة.


الثلاثاء، 12 يونيو 2018

الشّعر ومأزق الورقة البيضاء



مادونا عسكر/ لبنان
"أعتقد أنّ صمت الشّعر والعجز عن كتابته ومأزق الورقة البيضاء هي جميعها جزء من الشّعر نفسه. إنّها النّاحية الخفيّة من الكتابة الشّعريّة. إنّها ما يمكن تسميته ما وراء الشّعر أو ذاكرته الغائبة". (عبده وازن)
صمت الشّاعر الفرنسيّ بول فاليري قرابة الخمسة عشر عاماً قبل أن يكتب قصيدته الطّويلة الرّائعة "بارك الشّابة". ولعلّه صمت قسريّ يخشاه جميع الشّعراء ويشكّل هاجساً حقيقيّاً في حياتهم. ولعلّه شبح العجز الّذي يتراءى لهم كلّما تأكّد أنّ الشّاعر لا يكتب متى يشاء بل ينتظر لحظة وحيٍ تزلزل كيانه وتضرم فيه نار الشّعر فيكتب. قد تكون الفترة الزّمنيّة بين نصّ شعريّ وآخر سنوات، أو أيّاماً أو حتّى ساعات، فهل هو الوحي الّذي يصمت، أم إنّه الشّاعر الّذي ما عاد ينفتح على هذا النّور الموحى به؟ فمن العسير القول إنّ الوحي ينقطع، وذلك لأنّه خيوط نور تتجدّد كالخلق فيكون الإبداع. ومن العسير استحضار النّور عنوةً بهدف كتابة الشّعر. والشّاعر الّذي يصارع ورقته البيضاء لينتصر عليها أتى بنصّ فارغ هشّ فاقد للحياة.
قد يكون مأزق الورقة البيضاء كما يسمّيها الشّاعر الفرنسي مالارميه، هاجس جميع الشّعراء، لكنّه في الحقيقة ليس مأزقاً بقدر ما هو لحظة اتّحاد الوحي بالشّاعر ليكون الاثنان واحداً. فيستحيل الشّاعر هو القصيدة. ولئن كان الشّاعر يتعامل مع هذا الصّمت الشّعريّ كمأزق يضطرب ويخاف من فقدان القدرة على الكتابة الشّعريّة في حين أنّ الشّعر هو الّذي يكتبه وليس العكس. لا بدّ من صمت يفرض نفسه، إنْ على مستوى الوحي أو على مستوى الشّاعر ليتاح للّغة الجديدة أن تولد وتتفجّر من أعماق الشّاعر. فيكون صمت الوحي المتّحد بصمت الشّاعر ذروة الولوج في الشّعر لا أحد يتكلّم ولا أحد يسمع. لحظة تأمّل وارتقاء خالصين إمّا يدخلان الشّاعر في الصّمت النّهائي، وإمّا تولد قصيدة تُنسي ما قبلها ليتجلّى الإبداع خلقاً متجدّداً.
الشّاعر الحقيقيّ لا يكتب ذاته الّتي لا يعرفها يقينيّاً بل ينتفتح على نور الوحي يقطف ومضاته ليكتشف قدراته ويصغي إلى صوته الدّاخليّ، ويتعرّف على ذاته من خلال هذا الوحي. وكلّما تقدّم بالمعرفة ازداد التّأمّل والإصغاء وقد يبلغ هذا الصّمت الكبير الّذي يعتبره مأزقاً في حين أنّه القصيدة الأمّ، القصيدة الحقيقة الّتي هي الشّعر عينه. ومتى استحال الشّاعر لغةً بلغ منتهى العالم الشّعريّ وما عاد بحاجة إلى ورقة بيضاء يسكب فيها ذاته بل احتاج إلى كون أرحب يجسّد فيه هذه اللّغة/ القصيدة.