الأحد، 7 أكتوبر 2018

وعي الحبّ الإلهيّ في "الصّلاة الرّبّيّة"


مادونا عسكر/ لبنان

لا شيء أقوى من ثورة الحبّ كمبدّلة للكيان الإنساني فكريّاً ونفسيّاً وروحيّاً. ولكي تُحدث فعلها الأكيد، ينبغي  أن تتغلغل في كلّ ذرّة من هذا الكيان، حتّى يستحيل كتلة حبّ متنقّلة في هذا العالم. تلك الاستحالة من مشروع إنسان إلى إنسان مكتملٍ، تلك الّتي يمكن تعريفها بالحالة الصّوفيّة  يلزمها اتّصال بالحقيقة المبدّلة المحوّلة، كما يلزمها التّعرّف إلى هذه الحقيقة قبلاً، ثمّ السّلوك في اكتشافها تدريجيّاً حتّى بلوغها تماماً. ما يُعرف بالجهاد الرّوحيّ والجسديّ في سبيل التّحرّر من كلّ ما يُمكن أن يعيق السّبيل إليها.
وإذا كان الصّوفيّون همُ السّاعين إلى بلوغ هذه الحقيقة، فلا بدّ من أنّهم يسمحون لها  بالانسكاب في قلوبهم. فيتبيّنون لغتها ويتفاعلون معها، ولكن أنّى لهم أن يتلمّسوا خيوطها ما لم يستندوا إلى كلام إلهيّ يضع خطواتهم على الطّريق الصّحيح؟ وبالحديث عن كلام إلهيّ، فلا بدّ من أن يتّسم هذا الكلام بالنّعمة باعتبارها الخصّيصة المتعلّقة بالحبّ الإلهيّ.
يوقظ السّيّد المسيح في النّفس الإنسانيّة الوعي المرتبط بالحبّ الإلهيّ من خلال نصّ الصّلاة الرّبّيّة (متى 9:6)/ (لوقا 2:11). ويعلن ثورة الحبّ الّتي تمنح العلاقة الإلهيّة الإنسانيّة مفهوماً جديداً، يقرّب الإنسان من الحقيقة ويكشف له السّبيل لبلوغها.
يفتتح السّيّد المسيح نصّ الصّلاة بجملة (أبانا الّذي في السّماوات)، ومن هنا يُعلن ثورته على المفهوم المتعارف عليه عن الله. فتكون الخطوات الأولى نحوه بمنادته (أب). لن تأخذ الأبوّة في هذه الآية معنى أيديولوجيّاً وإنّما معنى أصيلاً للعلاقة الإلهيّة الإنسانيّة. فإذ يتوجّه الإنسان بكلمة (أب) إلى الله فذاك يعني أنّه ارتضى علاقة خاصّة مع شخص الله الّذي يراه. فالأبوّة تعني اصطلاحاً، العلاقة الطّبيعيّة والشّرعيّة بين الأب وأولاده. ولمّا كان بالإمكان مناداة الله بـ (أبانا)، دلّت العلاقة على الوعي القائم في الّذهن والنّفس والرّوح بأنّ الحبّ الموجّه إلى الله حقيقة لأنّ كلمة أب/ (أبانا) تحقّق حضور الله الشّخص. كما بيّنت حقيقة الوجود الإلهي وألغت مفهوم الله الفكرة الغامضة المبهمة. ووطّدت العلاقة بين الله والإنسان.
تتجلّى في هذه الآية كيفيّة بلوغ مقام الحبّ الإلهيّ. فالمسيح ينطلق من السّماء أوّلاً، أي من ذروة الحبّ. وكأنّي به يدلّ الإنسان إلى أنّ البدء يكون من الذّروة إلى الذّروة. ذاك لا يستثني المراحل الحياتيّة والتّدرّج الرّوحيّ الّذي ينبغي أن يسلكه الإنسان، والجهاد الّذي تقتضي ممارسته. لكنّ المسيح يشدّد على أنّ المبادرة إلهيّة ثمّ إنسانيّة. وعبارة (في السّماوات) لا تلغي حضور الله في الإنسان، وتؤكّد عليها كلمة (أبانا) الّتي ستعرّف المفهوم الإلهيّ الجديد (الأب الّذي لا يحويه مكان). الأب الإلهيّ الّذي في السّماوات يحضر في الإنسان ليتمكّن الإنسان من معاينته ثمّ مناداته أبانا. وبهذا تتشكّل العلاقة العاموديّة بين الله والإنسان أوّلاً، لتمتدّ أفقيّاً بين الإنسان والإنسان. ما يخرج الحالة الصّوفيّة من أنانيّة العلاقة، إن جاز التّعبير، لتصبح شركة إلهيّة إنسانيّة، وشركة إنسانيّة إنسانيّة. فلفظ (أبانا) يحمل في عمقه اتّصالاً أخويّاً ينفي العلاقة الفرديّة الأنانيّة. يقول القدّيس يوحنا الذّهبيّ الفم: "يعلّمنا يسوع في الصّلاة الرّبّيّة أن نجعل صلاتنا مشتركة، لمصلحة إخوتنا. إذ لا يقول (المؤمن): "أبي الّذي في السّماوات، بل "أبانا" مقدّمًا تضرّعاته من أجل الجسد المشترك، غير ناظر قطّ إلى مصلحته الخاصّة، بل إلى مصلحة قريبه في كلّ مكان".
وستغدو كلمة (أبانا) الكلمة المبدأ للعلاقة الإلهيّة الإنسانيّة، الّتي منها سينبعث التّقديس، وفيض النّعمة الإلهيّة، وتحقيق مشيئتها. هي الكلمة المفتاح للارتباط بالله والإنسان معاً. وهي حالة الشّركة بين الله والإخوة المؤكّدة على البعد الكونيّ للحبّ، لا الحصريّ المحدود. وأمّا إذا اقتصرت الحالة الصّوفيّة على العلاقة الفرديّة مع الله دون الإنسان فستبقى ناقصة، وسيكون الاكتمال الإنسانيّ أمراً صعب المنال. فالحبّ حقيقة جذورها في السّماء وموطئ قدميها الأرض، وهي امتداد نورانيّ يشرّع أبوابه على الخلق كلّه حتّى يصبح الله الكلّ في الكلّ. 



اختيار الموت وحقيقة الوصول إلى الله: تأمُّل في تجربتين متشابهتين



مادونا عسكر/ لبنان
قد يكون من غير المنطقيّ أن يحبّ الإنسان دون أن يرى مَن يحبّ. وقد يكون واهماً في ما لو ظنّ أنّه أحبّ هذا الشّخص حقّاً، دون أن يتعرّف عليه على أرض الواقع. لكن ثمّة معطيات تبدّل هذه الظّنون وتحوّلها إلى منحى آخر، خاصّة حينما يتعلّق الموضوع بحبّ الله. ذلك الّذي نراه مستحوذاً على قلوب أولئك العاشقين الهائمين في ملكوت العشق، المنغمسين فيه حتّى النّفس الأخير. وإذا كان الله مجرّد فكرة أو وهم أو تصوّر إنسانيّ يرسمه الإنسان بحسب احتياجاته العاطفيّة، فكيف يمكن أن نفسّر الحالة العشقيّة الّتي يمرّ بها الصّوفيّون، خاصّة أنّهم يهجمون على الموت، مواجهين إيّاه بشجاعة وبطولة؟
أمام شخصيّتين عاشقتين حتّى المنتهى، من ثقافتين مختلفتين، ومعتقدين متباينين، نقف مندهشين أمام هذا العشق الّذي يخطف الأنفاس ويتساوى والجنون، إذا وافقنا على المنطق القائل إنّ العشق لحظة جنون إلهيّة.
الحلّاج بن منصور في لحظاته الأخيرة، والقدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ، عاشقان يخرجان إلى الموت حبّاً بالله دون أن يرفّ لهما جفن. ولا يواجهان الموت وحسب، بل يطرحان مفهوماً آخر للموت كطريق نهائيّ حرّ للقاء الله الّذين حملانه في قلبهما.
تتشابه ظروف موتهما إلى حدّ بعيد، وتتطابق الإرادة الحرّة في مواجهة الموت ببطولة بدافع الحبّ. فالقدّيس أغناطيوس الأنطاكي إذ سمع به الأمبراطور تراجان وعن غيرته على انتشار المسيحيّة، استدعاه ودخل معه في حوار من جهة "يسوع المصلوب"، انتهى بإصداره الأمر بأن يقيّد أغناطيوس القائل عن نفسه أنّه حامل في قلبه المصلوب، ويُقاد إلى روما العظمى، ليُقدَّم هناك طعامًا للوحوش الضّارية. إلّا أنّ فرح القدّيس أغناطيوس كان عظيماً، فلطالما انتظر أن تأتي هذه السّاعة، ساعة اللّقاء بالسّيّد الحبيب. ويقدّر أنّ استشهاده قد تمّ بين عامي 107 و 117 م.

تشير رسالة القدّيس أغناطيوس الأنطاكي إلى أهل روما، إلى رغبته العميقة في قبول الموت طوعاً، لأنّ في موته ربحاً له. فالموت حياة إذا ما كان لقاء بالمحبوب الإلهيّ. ولمّا بذل الكثير من المؤمنين جهوداً في سبيل إنقاذه، كتب إليهم رسالة يرجوهم عدم التّدخّل واعتراض طريقه نحو الله. ممّا جاء في الرّسالة: "إنّني وبإرادتي الحرّة الذّاتية أموت من أجل الله ما لم تعيقوني أنتم  وأتوسّل إليكم لا تشفقوا عليّ بلا لزوم، دعوني أصير طعاماً للوحوش المفترسة، بهذا يمكنني أن أصل إلى الله، أنا حنطة  الله، تطحنني أسنان الوحوش الضّارية لأثبت أنّني خبز نقي، وأفَضِّل أن تهيجوا عليّ الوحوش المفترسة ليصيروا لي قبراً، فلا يتبقّى من جسدي شيء، حتّى لا أثقل على أحد بعد رقادي. وحينئذ أصير تلميذاً حقيقياً ليسوع المسيح، حين لا يرى العالم جسدي بعد. صلّوا إلى الرّبّ عني، حتى أبرهن بهذه الأدوات أن أصير ذبيحة لله. إذ أتألّم سأكون حرّاً من أحرار يسوع المسيح وسوف أقوم حرّاً فيه. كأسير أتعلّم ألّا أشتهي شيئاً."
بالمقابل لقي الحلّاج مصرعه مصلوباً بباب خراسان المطلّ على دجلة على يديّ الوزير حامد بن العبّاس، تنفيذاً لأمر الخليفة المقتدر سنة 922 م. كان الحلّاج متصوّفاً زاهداً مجتهداً في إحقاق الحقّ. ولم يكن تصوّفه علاقة مع الله وحسب بل طوّر مفهوم النّظرة العامّة إلى التّصوّف، فجعله جهاداً ضدّ الظّلم والطّغيان في النّفس والمجتمع. وللحلّاج اختباره الخاص في علاقته مع الله وفلسفته الّتي ترى توحّد الله في مخلوقاته، ومن هنا قال: "ما رأيت شيئاً إلاّ رأيت الله فيه". لكنّه كذلك يعبّر عن اتّحاده بالله بقوله: "أنا أنت بلا شكّ فسبحانك سبحاني"، "فإذا أبصرتني أبصرته"، "أنا من أهوى ومن أهوى أنا". كُفّر الحلاج بسبب هذه الأبيات وما شابهها وسيق للموت. لكنّه كان سعيداً راضياً معبّراً عن ذلك في قصيدته "اقتلوني يا تقاتي".
يتشابه النّصّان من حيث المضمون العشقيّ، وتترسّخ فيهما معاينة الله الشّخص. فالقدّيس أغناطيوس والحلّاج رأيا الله حقّاً وإلّا لما كانا قبلا الموت بفرح كبير. فالعشق الإلهيّ كشف لهما أنّ حقيقة الموت مغايرة لما يعتقده النّاس عن الموت. لقد رأى هذان العاشقان في الموت عبوراً نحو المحبوب الإلهيّ. فيقول القدّيس أغناطيوس في رسالته إلى أهل روما: "لن أنعم مرّة أخرى بمثل هذه الفرصة لأصل إلى الله". كما يقول الحلّاج: "مماتـي في حياتـي وحياتي في مماتـي".
كما أنّه ليس من استدلال حقيقيّ يقود إلى اعتبار أنّ هذين العاشقين أقبلا على الانتحار. فالمنتحر على الرّغم من وعيه لما يقدم عليه إلّا أنّه مسلوب الإرادة. وأمّا في حالة القدّيس أغناطيوس والحلّاج، فالإرادة الحرّة حاضرة وبقوّة (وبإرادتي الحرّة الذّاتية أموت من أجل الله/ أغناطيوس الأنطاكي. أقتلوني يا تقاتي/الحلّاج).
من جهة أخرى، وإذ نطالع النّصّين، يتبادر إلى ذهننا أنّ العاشقين ومن خلال الموت يمدّان يدهما ليلتقطها الله ويجذبهما إليه. يعاينان الحياة ويرجونها بغضّ النّظر عن الألم الكبير الّذي سيواجهانه. (إخوتي وأخواتي: لا تمنعوني عن الحياة/ دعوني أستقبل النّور الصّافي، لأنّني حيث أصل هناك أصير إنساناً/ القدّيس أغناطيوس). (سَئِمَتْ نفسـي حياتـي...في الرسوم الباليـات/ الحلّاج). وبالتّالي فإنّ العشق الإلهيّ حقيقة تكشف الحقيقة. تفكّك أسرار الحياة والموت، تبدّل المفاهيم  وتنقل الإنسان من مشروعيّة إنسانيّته إلى إنسانيّته الحقيقيّة. ويتبيّن لنا من خلال هذين الاختبارين المتماثلين أنّ العشق الإلهيّ يعزّز في الإنسان نظرته السّماويّة للأرضيّات. ويخلق ثورة في داخل الإنسان. ثورة تبدّله أوّلاً ثمّ تزعزع الواقع لتوجّهه للخير الّذي يريده الله. كما أنّ الاتّحاد بالله، يمنطق العاشق بالمنطق الإلهيّ المتّسم بالحبّ المساوي للحرّيّة. وما دلالة امّحاء الجسد في النّصّين إلّا تفلّت كامل من كلّ شيء في سبيل تحقيق الحرّيّة في الله. (تطحنني أسنان الوحوش الضارية لأثبت أنني خبز نقي، وأفَضِّل أن تهيجوا عليّ الوحوش المفترسة ليصيروا لي قبراً، فلا يتبقى من جسدي شئ، حتى لا أثقل على أحد بعد رقادي./ القدّيس أغناطيوس) (فاقتلونـي واحرقونـي... بعظامـي الفانيــات... ثم مـرّوا برفاتـــي... في القبور الدّارسـات... تجدوا سـرّ حبيبــي... في طوايا الباقيــات/ الحلّاج).
عاشقان أحبّا حتّى المنتهى، حتّى مواجهة الموت كفعل حرّيّة عاشقة للخلود في قلب الله. "ركعتان في العشق لا يجوز وضوؤهما إلى بالدّمّ" (الحلّاج). "لا تقدّموا لي سوى أن أنسكب صعيدة لله والمذبح لا يزال قائماً" (القدّيس أغناطيوس الأنطاكي). 
وضوء الدّمّ تقابله معموديّة الدّم، منتهى الإدراك العشقي، حيث لا شيء ولا أحد يفصل العاشق عن محبوبه الإلهيّ.

صوفيّة العشق في اختبار المغبوط أغسطينيس





"أيّها النّور الأسمى تعجّل بالإشراق في أعمى يريد أن يصير ملكًا لك." (المغبوط أعسطينس).

ليس كلّ شاعرٍ صوفيّاً، وإنّما كلّ صوفيّ يحلّق في عالم الحبّ والجمال. فينمو في داخله شاعرٌ يهيّئ له الانفتاح على نور الوحي، فتتشكّل العلاقة مع الله الحبّ والجمال. وإذا كان الوحي يعرَّف بالنّور الإلهيّ المنسكب في قلب الإنسان، فلا ريب في أنّ الصّوفيّين منفتحون على هذا النّور مع اختلاف الاختبار الشّخصيّ مع الله، وتحديد مفهوم الحلول الإلهيّ والاتّحاد الإلهيّ.
فهل نقول أنّ الصّوفيّين قدّيسون بالمعنى العلائقيّ مع الله الشّخص، وليس بالمعنى الدّينيّ العقائديّ؟ فإذا كان الصّوفيّ يسعى إلى لقاء مستمرّ مع الله، ويسير نحو اكتمال هذه العلاقة باحثاً فيها عن الحرّيّة المطلقة، بالتّالي فهو يدخل في دائرة النّور، أي القداسة. وإذا كان محور حياته حبّ الله وبالتّالي حبّ الإنسان، فنحن أمام علاقة عاموديّة مع السّماء، أفقيّة مع الإنسان، تلتقي عند نقطة الحبّ الّذي يعزّز حضور النّور في الشّاعر الصّوفيّ. وإذا تبيّن أنّ الصّوفيّ قدّيسٌ، فنحن أمام شعراء يعاينون الله ويتمتّعون بسرّ جماله. رسل حبّ وجمال، يلتقون الله ويناجونه ويعكسون صورته في العالم. فمن يلتقي الجمال دون سواه لا بدّ من أن يؤثّر في النّاس بقوّة.
بيد أنّ هذه المعاينة لا تعبّر عن رؤية الله بالعين المجرّدة، بل هي معاينة عقليّة قلبيّة. عقل وقلب مستنيران يعاينان النّور. ما يدلّ على لقاء داخليّ خاص وحميم، يعبّر عنه الفيلسوف المغبوط أغسطينس في حوار عشقيّ خالد مع الله قائلاً:
"قد تأخّرت كثيرًا في حبّك أيّها الجمال الفائق في القدم والدّائم جديدًا إلى الأبد
كنت فيَّ، فكيف ذهبت أبحث عنك خارجًا عنّي
أنت كنت معي، ولكنّي لشقاوتي لم أكن معك"
تبيّن هذه السّطور الحضور العشقيّ القائم بذاته، المنتظر تفاعلاً. ما دلّت عليه المعيّة الدّاخليّة. نهل أغسطينس من العشق الإلهيّ فعاش برفقة الله في عمق أعماقه الدّاخليّة. كما تكشف لنا هذه السّطور أنّ صوفيّة أغسطينس تؤكّد حضوره الدّائم في حضرة الله ولكن الله الّذي فيه.
هذا الاتّحاد العشقيّ الملموس يوضّح سرّ انتقال أغسطينس من الضّلال إلى النّور، من الموت إلى الحياة، من العبوديّة إلى الحبّ والحرّيّة. وهو القائل: "جلست على قمّة العالم، عندما لم أعد أخاف أو أشتهي شيئاً".
من يطالع مناجاة أغسطينس يدرك يقينيّاً أنّ أغسطينس عاين الله وحدّثه وناجاه، كما يشعر حقيقةً أنّ الله كان مصغياً له. ما يعني أنّ الصّوفيّة ليست ضرباً من الخيال، ولا كفراً كما يظنّ البعض. إنّها حالة فريدة متفرّدة، تعكس حالة عشقيّة واقعيّة يعيشها الصّوفيّ اختباريّاً ويعكسها بسلوكه الشّخصيّ. إنّها حالة النّور الّتي من العسير أن يعاينها كلّ إنسان ما لم يدخل في علاقة حميمة وخاصّة مع الله.
ينفصل الصّوفيّ عن العالم بلقائه مع الله، فيغترب، ويقصي نفسه عن كلّ ما يمكن أن يحول بينه وبين هذا اللّقاء الحميم. لكنّ هذا الإقصاء لا يعني بالضّرورة التّنسّك والعزلة. بل إنّه زهد داخليّ أكثر منه ظاهريّ، يحوّل الإنسان من حالته الإنسانيّة بالقوّة إلى الحالة الإنسانيّة بالفعل الّتي يمكن تعريفها بالصّوفيّة.
"أيّها النّور غير المنظور هب لي عينين تستطيعان معاينتك! يا رائحة الحياة الإلهيّة هب لي حاسة جديدة للشّمّ تجذبني نحو رائحة أطيابك الذّكية. ربّي، نقِّ فيّ حاسّة التّذوّق حتّى تقدر أن تتذوّقك وتتعرّف عليك وتكتشف غنى لذّتك المذخرة لكلّ من يرتشف رحيق محبتك.
هب لي قلبًا لا ينبض إلا بحبّك، ونفسًا تعشقك، وروحًا أمينًا لذكراك، وفكرًا يدرك غور أسرارك وعقلاً يستريح فيك ويتّحد بحكمتك المحيية دائمًا، ويعرف كيف يحبّك بتقوى، أيّها الحبّ المذخر فيك كلّ حكمة!"
أغسطينس المنجذب إلى الله، المتّقد بناره، الهائم بملكوته، كشف عن حالة صوفيّة تمتاز بتلمّس النّور الإلهيّ ومعاينته والانصهار به.
لعلّ الصّوفيّون في حياتهم مع الله يكشفون للإنسان بشكل أو بآخر حالة السّماء إن من خلال الشّعر، أو الفلسفة، أو السّلوك الحياتيّ اليوميّ. لكنّ الحبّ الإلهيّ يجمعهم، يدّثرون به وبنوره، ويستحيلون أنبياء لا يبشّرون بالله الحبّ وحسب، وإنّما يحملونه شخصيّاً إلى الإنسان.


الاختبار الرّوحيّ العميق عند الصُّوفيّين الحلّاج نموذجاً


مادونا عسكر/ لبنان



إنّ الحالة العشقيّة الّتي يمرّ بها الصّوفيّون بل الّتي يبلغونها، ووجد لها تمثيلاً مناسباً عند الحلّاج، لهي ثورة على جمود النّصّ الدّينيّ وعلى واقع التّعامل معه لإقامة علاقة مع السّماء وغوص في سرّ الكلمة الإلهيّة. الكلمة السّرّ بالمفهوم القدسيّ/ Sacrement، الّتي تحتاج من العقل الإنسانيّ ارتقاء معيّناً، ومن القلب نقاء خالصاً حتّى تنجلي الحقيقة وتنكشف لمن التحم بقلب الله.
تحتاج الحقيقة من العاشق قراراً يتيح لها الاقتراب والتّسرّب إلى الدّاخل الإنسانيّ حتّى تتمكّن من كشف ذاتها. كما تحتاج انفتاحاً من الجانب الإنسانيّ على النّور المتدفّق منها حتّى تظهر الأنا على نور الهُوَ.
لا بدّ أنّ الصّوفيّ كعاشق لله يمرّ بعدّة حالات، تتدرّج صعوداً نحو الله. فينطلق من العمق الدّنيويّ إلى العمق السّماويّ اختباريّاً. لذلك لا يمكن المرور على الشّعر الصّوفيّ، ومنه ما فاض به الحلّاج، دون تبيّن الحالة الرّوحيّة والذّهنيّة اللّتين تُدْخِلانه في عمق النّور الإلهيّ. فالشّاعر الصّوفيّ لا يسلك منهجاً تأليفيّاً أو يرنو إلى التّنظير عن الفكرة الإلهيّة، وإنّما يخوض غمار الاختبار الرّوحيّ العميق مع الإله الشّخص.
من العسير أن ينتهج الشّاعر الخطّ الصّوفيّ بمعزل عن الاختبار، بعيداً عن الولوج في قلب الله. فالتّأليف في هذا السّياق يكشف عن سطحيّة الشّاعر وهشاشة المعنى. كما أنّه من الصّعب أن يُظهر في قصائده حالة خارجة عنه، فيأتي شعره ناقصاً بل خالياً من الشّعر.
لا يترجم الشّعر الصّوفيّ حالة الشّاعر وحسب، بل يظهر تجسّد الكلمة في الشّعر حتّى أنّها تستبين واضحة بيّنة لتكشف عن ذاتها من خلال القصيدة الصّوفيّة. لذلك فليس بإمكان الشّاعر اعتراض سبيلها وإلّا جنح إلى طرح فكره الشّخصيّ بدل أن ينقل الحقيقة. ولا عيب في ذلك، فالشّعر حركة تنويريّة معرفيّة لكنهّ في هذه الحال لا يرتقي سلّم الصّوفيّة.
هذه الحالة من الكشف ينشدها الحلّاج في عشقه الإلهي قائلاً:
رأَيتُ ربّي بعين قلبِ
فقلتُ من أنت قال أنت
فليس للأين منك أينٌ ..
وليس أين بحيثُ أنت
وليس للوهم منك وهمٌ
فيعلم الوهم أين أنت
أنت الذي حُزْتَ كل أين
بنحو لا أينَ فأينَ أنت
وفي فنائي فنا فنائي
وفي فنائي وجدت أنت
رؤية الحلّاج القلبيّة لا تعبّر عن الرّؤية الإيمانيّة وحسب بل تخلص إلى الرّؤى المكاشفة لحقيقة بلغها الحّلاج (فقلت من أنت قال أنت). يندرج فعل القول ضمن حوار داخليّ عميق بين الحلّاج والكلمة يحقّق لقاء حميماً بين الأنا والهُوَ. بل فناء فيه حدّ الالتحام العشقيّ (وفي فنائي وجدت أنت). عبارة شكّلت الحقيقة الّتي عاينها الحلّاج، فخرج الشّعر وحياً حوّله إلى ما يشبه رسولاً للحقّ. ويمكن القول إنّ الشّاعر الصّوفيّ رسول الكلمة، يعشق، يعاين، فينقل الوحي العشقيّ.
ولئن وصل الحلّاج إلى هذه المرحلة لزمه تحرّراً من الأنا وانغماساً في الهُوَ فيمسي الأنا هو والهو أنا. فبقدر ما يتحرّر الشّاعر من ذاته يلج قلب الله، قلب الحبّ ويمتزج به. فلا يعود يعاين إلّاه، ويصبح الله المعشوق حاضراً في ذات العاشق نوراً يفيض في العالم. وسيحتّم هذا اللّقاء بين الله والشّاعر نوعاً من تجسّدٍ يدخل الشّاعر في حوار دائم مع الحضور العشقيّ/ الله. وبالحديث عن تجسّد، خاصّ عند الحلّاج، لا بدّ من التّفريق بين المعنى العقائديّ للتّجسّد، أي حضور الإله الإنسان، والحضور الإلهيّ الّذي عاينه الحلّاج في عمق أعماقه.
فعندما يشير إلى التّجسّد في إحدى قصائده قائلاً:
سبحان من أظهر ناسوته
سرّ سنا لاهوته الثّاقب
ثم بدا في خلقه ظاهراً
في صورة الآكل والشّارب
حتّى لقد عاينه خلقه
كلحظة الحاجب بالحاجب
لا ريب في أنّ الحلّاج عاين التّجسّد الإلهيّ بشكل أو بآخر. عاين اختباريّاً الإله الشّخص ما استدعى منه تنازلاً عن الإله الفكرة. وهنا يظهر الشّعر الوحي. الشّعر الكاتب لا المكتوب، ويستحيل الشّاعر رسول هذا الوحي، ناطقاً به حتّى لو كلّف الأمر ما كلّف الحلّاج. لقد قدّم الحلّاج حياته مقابل النّطق بهذا الوحي، دون أن يتراجع عن كلمة واحدة. ما يعني أنّه بلغ مقاماً من العسير أن يتفلّت منه لينقذ حياته. بمعنى آخر استغنى الحلاج عن حياته لأنّه وجد حياته.
أُقْتُلُوني يا ثقاتـــي
إنّ في قتـْلي حياتي
ومماتـي في حياتـي
وحياتي في مماتـي
في هذا السّياق هل يمكن السّؤال عن شهادة في الشّعر؟ هل يستشهد الشّاعر الموحى له من أجل الحقّ؟ هل يبلغ الشّاعر الصّوفيّ مقاماً يتعذّر عليه من خلاله التّفلّت من الحقيقة حتّى لو كلّفه الأمر حياته؟


الخميس، 4 أكتوبر 2018

الحبّ حتّى المنتهى / قراءة في ديوان "لنتخيّل المشهد" للشّاعرة اللّبنانيّة سوزان عليوان



مادونا عسكر
"الحبُّ لا يصنعُ المعجزات
هو، بحدِّ ذاتِهِ، معجزة" (سوزان عليوان)
يتجلّى الحبّ في ديوان "لنتخيّل المشهد"، عذباً  رقراقاً كالنّدى المنسكب على وريقات الورود عند الفجر. أرادته الشّاعرة كذلك، وخلقت مفهوماً شاملاً للحبّ، اختزلته بعاشقين جعلت منهما رمزاً لهذا الحبّ.
يلاحظ القارئ بوضوح ارتباط الحبّ عند سوزان عليوان بالطّفولة، لكنّه يأخذ الأبعاد النّقيّة البسيطة المتجذّرة في هيكليّة الطّفل، دون المساس بالنّضج العاطفيّ والعلائقيّ. فللطّفولة عند الشّاعرة أهميّة كبيرة، إمّا لأنّها تحنّ إلى استعادتها، أو أنّها تحيي في داخلها تلك الطّفلة الّتي تاهت بحكم ظروف معيّنة أو نتيجة اختبارات شخصيّة أفقدتها الحسّ الطفوليّ. لكن لا ريب في أنّها تعرّف الحبّ ككائن طفوليّ يحمل في ذاته مقوّمات الطّفل المرادفة للبراءة، والعفويّة، والنّقاء، والخيال، والحلم...
تحكم الشّاعرة ديوانها بين قصيدة افتتاحيّة "لنبدأ بالنّهاية" (ص3) وقصيدة ختاميّة "من يكملُ الحلم؟" (ص 49). فيأتي الحدث معاكساً للنّمط التّقليديّ، لتبدأ من النّهاية وتنتهي بالحلم، أو بمعنى أصحّ، تعبّر الشّاعرة عن الحبّ الحلم الغريب عن العالم، المنفصل عنه. ترسمه لوحات استمدّتها من عالم الشّعر ومن عمق ذاتها حيث يسكن إنسانها العاشق الحقيقيّ.
إذا قرأنا الدّيوان بطريقة تقليديّة من القصيدة الأولى إلى القصيدة الختاميّة، نرصد معاناة الحبّ في هذا العالم القاسي والمرعب. فالقصيدة الأولى وإن حكت عن افتراق عاشقين، إلّا أنّها تحمل  ما بين سطورها غربة الحبّ في عالم يصعب عليه تقبّل الحبّ المتجرّد والمتفلّت من مقوّمات العالم:
عاشقان في اللّيل.

 خائفان
كدمعتين
في عينيْ طفلٍ
مثقوبِ القلب
وردتُهُ مجروحة.

معطفُهُ على كتفيها
ذراعُها حول عنقِهِ
يرتعشان
بردًا و عتمة
مثلَ ورقتيْ شجرةٍ
شبهِ عارية.
المشهد قاتم وقاسٍ تدعمه دلالة الدّمعتين في عينيّ طفل، والارتعاش برداً وعتمة، لتقبض الشّاعرة على وجدان القارئ وتحرّك فيه الوعي العاطفي، فتحثّه على استدراك مشاعر الحبّ الحقيقيّ لتنقذه من قسوة العالم.  وتنساب القصائد تباعاً لترسم كلّ واحدة منها رسماً فنّيّاً خاصّاً حتّى تكتمل معاني الحبّ بالمفهوم الّذي أرادته الشّاعرة، وبالمعنى الّذي يتوق إليه القارئ من ناحية اختلاج المشاعر، وارتعاش القلب، واستيقاظ الحبّ المعجزة الّذي يحوّل القارئ من مشروع إنسان إلى إنسان.
بالمقابل، إذا تمّت قراءة القصائد بطريقة معاكسة، تصاعديّة، بدءاً من القصيدة الأخيرة "من يكمل الحلم؟"، سيتعرّف القارئ إلى حلم الشّاعرة، حلم الحبّ، بل سيشاركها الحلم، إذ تفتح له آفاق إكماله. كما أنّها تدخله في عالم الأحلام، والخيال دون أن تفقد الواقع قيمته، وإنّما تهدف إلى زرع الحبّ في كلّ ذرّة من الإنسان.
في قصيدة "زمن الوردة" (ص48)، تُدخل الشّاعرة القارئ في مشهديّة أشبه بأسطورة لتبيّن تفاصيل الحبّ، والعلاقة الوطيدة الأبديّة بين عاشقين الّتي يغفل عنها الإنسان، ليتحدّث عن الحبّ بشكل عام دون أن يهتمّ للتفاصيل الّتي ترتكز عليها الحالة العشقيّة. وبهذا فإنّ الشّاعرة تتحدّث عن حبّ حقيقيّ خارق، يتجذّر في التّراب لينبت في الأعالي. ما يغفل عنه العالم قطعاً:
يُحكى
أنَّ عاشقيْنِ
في زمنٍ قديمٍ
دُفِنا في حفرةٍ واحدة.
لنتخيَّلَ المشهد:
هيكلان عظميَّان
مُمدَّدان جنبًا إلى جنبٍ
كما لو أنَّ الترابَ سريرٌ من عشبٍ
والدودَ الذي ينهشُ اللحمَ الباردَ
فراشاتٌ تنقلُ القبلاتِ في رحيقِها.

هل قُتِلا؟
انتحرا معًا؟
أم أنَّهُما من ضحايا الكوليرا؟
الزّمن القديم يعود بالحبّ إلى أصوله الأولى، والدّفن في الحفرة الواحدة، يرمز إلى أزليّة هذه العلاقة العشقيّة الّتي لا تسقط حتّى وإن احتضنها التّراب. بل وكأنّ الشّاعرة تبرز المعنى المتجدّد الأبديّ للحبّ، وتسكبه في إطارٍ قصصيّ خياليّ لطيف، يحوّل الفناء إلى حياة (الترابَ سريرٌ/ الدّود فراشات). لكنّه في ذات الوقت يطرح تساؤلات عدّة، ويكشف سذاجة العالم، استهتاره، اهتمامه بما لا فائدة منه بدلاً من الاكتراث والاعتناء بالتّبشير بالحبّ:
تجاهلَ الرّواةُ
عبرَ العصورِ
هذه التّفاصيل العابرة
لتسطعَ
في الحكايةِ
وردةٌ حمراء
نبتَتْ
من التّرابِ الّذي احتضنَ العاشقيْنِ في عناقٍ أخيرٍ
جذورُها عظامُ أصابعِهِما
المتشابكةُ في الموتِ
كما في الحياة.
لا يحتاج الحبّ إلى طرح إشكاليّات وجدليّات وشروحات نظريّة. يكفي التأمّل  بوردة حمراء منسيّة حتّى تفيض معاني الحبّ ودلالاته في تفاصيل يعتبرها العالم عابرة، إلّا أنّها ذات دلالات عميقة:
بعدَ ألفِ عامٍ تقريبًا
من زمنِ الوردة
وفي زاويةٍ صغيرةٍ من جريدة
خبرٌ عن طائرةٍ تحطَّمَتْ
عن علبةٍ سوداء مفقودة
عن غوَّاصٍ من فرقةِ الإغاثة
عثرَ
في أعماقِ البحرِ
على ما يُشبِهُ وردةً حمراء:
يدان متعانقان
انفصلتا عن جسديْهِما
دونَ أن تنفصلَ الواحدةُ عن الأخرى
دونَ أن يفترقَ العاشقان.
يأخذ الحبّ عند سوزان عليوان بعداً إنسانيّاً شاملاً، فلا يتحدّد في علاقة بين شخصين، بل ينطلق من الشّخص إلى المحيط. ويُظهر الأعماق الإنسانيّة الّتي يعوزها أن تحبّ لتعاين الجمال، وتشعر بالآخر، وتتلمّس العلاقة بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والطّبيعة وجميع الخلائق. فيرتقي الإنسان وتسمو المعاني الإنسانيّة، ويحيا النّقاء والصّفاء:
لأنَّهُ يحبُّها
يصعدُ
كُلَّ ليلةٍ
على سلالمِ العتمةِ
بقدميْنِ حافيتيْن
خشيةً  أن يدنِّسَ السماءَ بحذاءٍ
لا ينزلُ
إلاَّ والقمر في يدِهِ
رغيفًا يفتِّتُهُ
على شكلِ كواكب ونجوم صغيرة
دونَ أن يهدرَ حبَّةَ قمحٍ واحدة
ولئن احتلّ الحبّ هذه الرّتبة في عليائه واستحال قوتاً ضروريّاً للعالم (القمر/ الرّغيف)، امتدّ إلى الكون بأسره ليشبع النّفوس الجائعة:
بالتّساوي
بالعدلِ الذي لا تعرفُهُ سوى أصابع عاشق
يوزِّعُ كعكاتِهِ الدّافئةَ
على أطفالِ الشّوارع
على شبابيكِ النّائمينَ دونَ عشاءٍ أو أمل
على الكلابِ والقططِ الضالَّةِ أيضًا.
في الحبّ يتجلّى مفهوم العدالة، والرّحمة، والخلاص. لا بدّ للكون بأسره أن ينغمس في الحبّ كي يخلص، كي تتحقّق فيه العدالة والحرّيّة لأنّ الحبّ لا يحابي الوجوه، ينطلق حرّاً باذلاً ذاته مجّاناً:
فقط
لأنَّهُ يحبُّها.
من أحبَّ إنسانًا
أحبَّ الناسَ جميعًا. (كواكب و نجوم من قمح/ ص 12)
بالحبّ ترى ما لا يُرى، وتدرك معاني الإنسانيّة الأصيلة، وتستخرج الجمال من القبح، أو ما تعتقده قبحاً. ذاك ما رآه طفلان صغيران متعانقان في متسوّلٍ بعينين مفقوءتين، يتوسّل نظرة حنان واحدة:
وحدهما الولد والبنت المتعانقان
ضفيرةً من لحمٍ ودم
تحتَ مظلَّةٍ ملوَّنة
وضعا، برفقٍ، في ثقبيْهِ العميقيْنِ
قطعةً من الخبزِ المُحلَّى
وكمشةَ زبيبٍ وياسمين
متوهِّميْن أنَّهُ شجرةً
وأنَّ تجاويفَ جمجمتِهِ
- هذه التي تقرفُ الناسَ
وترعبُ الأطفال-
أعشاشَ عصافير.
ذاك ما يعوز كلّ إنسان ليكون إنساناً، وهو أن يعود طفلاً. وحدهم الأطفال ينفتحون على حقيقة الحبّ، ويسمحون لها أن تتسرّب إلى قلوبهم دون فلسفة الأشياء. ببساطة وتلقائيّة، يحتضنون الحبّ في قلوبهم ويعكسون صورته على العالم. هم فقط يفهمون معنى المعجزة، يدخلون في سرّها ويحبّون حتّى المنتهى.


الأربعاء، 29 أغسطس 2018

عذوبة وصلاة وقناديل



مادونا عسكر/ لبنان
(1)
ارمِ نفسك داخل القنديل
واخترق لظى النّور واحترق
غِب وأنت حاضر
واحضر وأنت غائب
تمثّل بالجسد حين ينغمس في أبعاد التّراب
واحذُ حذو الرّوح الغارق في الجهات السّبع
الحقيقة أن تعشى
لا أن ترى
أن تتجاهل الرّماد وتتسلّق حبال الصّلى
تبلغ قمماً يشعلها الماء
(2)
أَطفئ الشّمس لنرحل
ونلتقي
قبل أن تتمرّدَ الطّرقات وتثور الأمكنة
قبل أن يعيَ الزّمن قسوة الجمال، فيهجر ذاته ويلحق بنا
اللّيل ملاذ الرّاحلين
الظّلمة سراج الخطى نحو النّور حيث لا
نرى، نبصر. نهتدي. نعاين. نقرع حتّى يُفتح لنا.
وإذا بالوجه الّذي لا نعرف المجد لولاه
يبتسم ويعانق يقظة الكمال
(3)
إذا رأيتَ حسنَهُ مع الفجر بازغاً
تأدّبَ الحسُّ، تنقّى النّظر
وإذا هَمَّت روحُك تطرقُ أبواب الجمال
رَتَّلَ جبينُه ترانيم تسنيمٍ
يجري فوق يديه
يوقظُ في ضمير العشقِ
غبطةً
تكشفُ اللّغةُ بعضها
وتموت.
(4)
بين بحر وسماء
يلتفّ على نفسه
يتكوّر في ركن الحلم
ويفيض
كنور الصّباح الخجول
عذوبته صباح آخر
ذاك الّذي يليه مساء أنشودة الخلق الأولى، قبل أن مسّت يد الله التّراب، بعد أن
امتزجت أنفاسه بالحَسَنِ جدّاً
أُصغي إلى تطوافه حول النّجوم
أُنصتُ إلى قلبه المتجذّر في الأثير
المعلّق
بين بحر وسماء

الأربعاء، 18 يوليو 2018

ظلال في بهاء المطلق



مادونا عسكر/ لبنان
الظّلال المنتشرة هنا وهناك
ظلّ واحد
للواحد الّذي لا ظلّ له
المفردات ثقيلة
الكلمات وضيعة
العظام الّتي تشبع جوع التّراب
الأنفاس المندثرة في عزلة الغموض
الّدماء المعانقة صدى الطّبيعة
تجتمع في يده
صادقة هي الكلمة
لأنّها
ثبات الرّحيل...
الرّحيل أبقى.

(2)
العالم موت في السّماء
السّماء موت في العالم
لِم الكون يشتكي؟
السّحب جافّة في يدي
الجفاف ماطر في عينيك
الخلود ملتبس في ثرثرة الألسن
اللّبس في "الكلمة" أخضر
يضيق الكون... لم يبقَ إلّا فتات غيمٍ
روحي تطوف في رحابك

(3)
البحر الراقد
زرقة داكنة
أمواج تائهة عن مثواها
تقرع باب السّماء
***
موت ثمّ هذيان ثمّ ماء الخلق
الحقيقة مدفونة في بئر بيضاء
تراب متعثّر
يستند إلى إصغاء السّماء
***
أنت الموت الشّاسع فيّ
تغريدة ما لا يُرى
سيلان القمر في ليلة عيد
سحابة خلاص
معلّقة في السّماء.