السبت، 2 يناير 2021

الكتابة كأداة في مواجهة الذات والعالم

 



وقفة مع كتاب "نسوة في المدينة"

مادونا عسكر/ لبنان

"الحقيقة عدوّة للقلب الضّعيف وهو حتماً أجمل منها، وعاجزة عن إغاثة المظلوم لأنّها منذ الأزل تأتي بعد فوات الأوان." (أنسي الحاج)

تتجلى هذه الحقيقة بنسوة في مدينة الكاتب، بل إنّها المدينة الّتي اتّسعت لكلّ هؤلاء النّساء، وقد تتسّع إلى المزيد منهنّ أو لا تتّسع. فبحسب ما نقرأه في كتاب فراس حج محمد "نسوة في المدينة"*،  تجربة واختبار شخصيّ في مرحلة من حياته أراد أن يضعها تحت المجهر  ليتحرّر منها.

استناداً إلى التّصدير، يقدّم  الكاتب  نفسه كضحيّة. فهو في عمقه يشعر أنّ هذه التّجربة إثم ثقيل يحاول أن يتخلّص منه من خلال إظهاره للعلن. فللحديث الشّريف في التّصدير (الإثمُ ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطّلع عليه النّاس) دلالة على ذلك، كأنّه ينبّه القارئ إلى أنّ الصّدق التّام والصّادم الحاضر في المضمون، ما هو إلّا اعتراف بهذا الإثم لينزع عنه ثقله. فإذا اطّلع عليه القارئ انتفت عنه صفة الإثم. وبذلك يريح الكاتب ضميره من جهة. ومن جهة أخرى يعتمد على هذا الحديث كوسيلة دفاعيّة غير واعية أمام القارئ الّذي قد يحكم عليه من خلال القصص الواردة في الكتاب.  

وإذا ما وضع الكاتب نفسه تحت المجهر، وعبّر عن ذاته دون مواربة أو تزوير ناقلاً تجربته الحياتيّة كما هي وبكلّ صدق، فلا ريب في أنّه يعرض للقارئ أعمق ما في ذاته بما فيها من جوانب مظلمة وتناقضات والتباسات. ولا ريب أنّه لا بدّ من رصد إشارات تكمن في قعر النّفس الإنسانيّة بشكل عام، وبشكل خاصّ عند الكاتب.

بطبيعة الحال لم يخرج الكاتب من هذه التّجربة وهو راَضٍ عن نفسه، فهو يعيد قراءة هذه التّجربة على ضوء الحاضر النّاضج والمتحرّر. إلّا أنّه أظهر  شجاعة في مواجهة هذه التّجربة الّتي أظهرت جوانب من شخصيّته: كالغرور والعبثيّة والعاطفة الّتي غالب الظّنّ تطبع شخصيّة الكاتب.

- العبثيّة:

 تمدّدت العبثيّة في الكتاب كلّه وتغلغلت في كلّ القصص بدءاً من حكايته مع الكتابة وصولاً إلى الجملة الأخيرة في الكتاب: " وبعد: كيف لي أنْ أتخلّصَ من كلّ النّساءِ العالقاتِ على جثّتي؟".

يبدو الكاتب في نصّ (هذه هي أشدّ الأفكار غباء/ ص21) عبثيّاً متأمّلاً النّهاية الحتميّة: "ماذا ستستفيد البشريّة من مقالٍ كُتب؟ وما معنى أن تكتب أصلاً؟ وما الفائدة لتعابث مثل هذا العبث؟ ألتصبح مؤلّفاً مشهوراً ومفكّراً وشاعراً وروائيّاً وناقداً؟ وماذا يعني كلّ ذلك؟ ولماذا تريد أن تصبح شيئاً من ذلك وأنت ستؤول إلى "لاشيء" في نهاية المطاف؟" فيتساءل في هذا النّصّ عن أهمّيّة المعرفة والقراءة والكتابة في حين أنّ كلّها آيلة للزّوال، للموت. الكاتب في مواجهة السّؤال عن أهمّيّة الوجود بحدّ ذاته وعن الغاية المرجوّة منه. فيبرّر حزنه الكبير، لكنّه يضيف عبارة لافتة فيقول: "ألا يكفي ذلك لأكون حزيناً وإن كنت شبقاً أيضاً؟"، فهل تناقض الحزن والشّبقيّة في هذه الجملة أم أنّ العبثيّة دفعت الكاتب ليقيم علاقات عاطفيّة متعدّدة أدّت به لموت من نوع آخر. فهرب من عبثيّة إلى عبثيّة؟ هل كان يبحث عن السّعادة في هذه العلاقات ليتحرّر من العقلانيّة والتّفكير والبحث الوجودي؟ أيّاً كان الجواب، فالنّتيجة  هي أنّ الكاتب هرب ممّا اعتبره وهماً إلى وهم آخر وغرق فيه حدّ النّخاع. ولعلّ هذه العبثيّة تنطلق من الدّائرة الواسعة ثمّ تضيق شيئاً فشيئاً حتّى تخنق الكاتب. فالدّائرة الواسعة هي الكتابة، وصراع الكاتب مع شريعة الغاب والأحكام المطلقة جزافاً كما صراعه مع عبثيّة الكتابة نفسها. وأمّا الدّائرة الضّيّقة فهي نفس الكاتب حيث يتمّ الصّراع الحقيقيّ وحيث يفعل اللّاوعي فعله في سلوكيّاته الّتي قد تكون غير مفهومة للآخر، أو على أقل تقدير يتمّ الحكم عليها ظاهريّاً.

يسبق هذا النّصّ "هذه هي أشدّ الأفكار غباء" نصّ يبدو لي أشبه بنصّ حكميّ، يربط الكاتب بين الكتابة والنّساء "الكتابة ليست شفاء دائماً/ ص20"، فيلامس الفكرة من بعيد ليعود ويتحدّث عنها جليّاً في نصّ آخر. ويبدو هذا الحكيم قاسياً في حكمه على الكتابة وعلى نفسه. وأظنّ أنّ ذلك يعود لما كان في نفس الكاتب من تخبّط  في مرحلة من حياته. كما أظنّ أنّه كان يعتبر الكتابة تعبيراً عن ذات متخبّطة أم أنّه كان يترجّى من كتاباته أكثر من اللّزوم. فالفقرة الواردة في نصّ "الكتابة ليست شفاء دائماً" توحي للكاتب كأنّ الكتابة مرض ينهك الكاتب حتّى الموت: "نحن ما نحن يا سيّدتي، فكلّ ما كتبناه وما سنكتبه لا يساوي جملة في أيّ كتاب مقدّس أو في أيّ نصٍّ لكاتب عظيم ممن تشبّعنا بنصوصهم ورؤاهم. لقد أصبحنا أعشاباً طفيليّة، لا تتقن سوى مصّ الماء الآسن في حفرة طين التّكنولوجيا، تتعربش على الجذور وأغصان الشجر، وتنام مع الدّيدان والرّخويات، وتلطّخ الفضاء الأزرق.".  تحيل هذه الفقرة إلى الكتابة والكتّاب  بشكل عام في الفضاء الأزرق حيث غالباً ما تشهد الكتابة انحداراً وانحطاطاً ناتجين عن أخلاقيّات الكتّاب والكاتبات. فتظهر الكتابة كشكل من أشكال الغواية غير معنيّة ببناء الفكر.

- الغرور:

ثمّة خيط رفيع  بين الثّقة بالنّفس والغرور. إلّا أنّ كاتبنا كشف عن اعتداد بالنّفس حدّ  الغرور.  في نص "من يجرؤ على فعل ذلك؟ ص23"، يهدي أستاذه في الجامعة كتابه جعل مع الكتاب ولّاعة في غلاف واحد كُتب عليه: "الأستاذ الفاضل والنّاقد المحترف، تحيّة الأخوّة الأدبيّة، أمّا بعد: إن لم يعجبك هذا الكتاب، فهذه أولى به" ويكرّر السّلوك ذاته مع امرأة ما، ويقرّر أن يهديها آخر كتبه ويجعل مع الكتاب ولّاعة وزجاجة عطر صغيرة، ويكتب رسالة قصيرة ويلصقها في الكتاب: "عزيزتي، إن أعجبك الكتاب فتطيّبي به وطيّبيه بهذا العطر، وإن لم يعجبك فالنّار أولى به".

تُرى من يظنّ نفسه هذا الكاتب؟ فهكذا سلوك ينمّ  في الظّاهر عن غرور وتعالٍ مغلّفين بالرّومانسيّة. إلّا أنّه في تأمّل بسيط للعمق يمكن استنتاج محاولةً غير واعية من جانب الكاتب لفرض الكتاب أو لجعله ذا أهميّة. فلحرق الكتب دلالات وإشارات اقتنصها الكاتب وخزّنها في عقله، لكنّه يفتح قوسين على حرق بعض الكتب وبعض المؤلّفين كتعبير عن نقمة على أشباه الكتّاب والشّعراء.

نصوص الفصل الأوّل بشكل عام تمهّد إلى لحظة تمرّد على كلّ شيء، وعمليّة تحرّر من كلّ شيء انبعثت منها روائح الجوانب المظلمة الكريهة الكامنة في النّفس الإنسانيّة. لقد أخرج الكاتب من ذاته كلّ الشّوائب والأدران العالقة على جدار روحه. كاتب، غرق في التّكنولوجيا والافتراضيّة وسخافتها وتفاهتها حتّى شوّه خياله ونفسه.  

لعلّ ما أعلنه الكاتب في نصّ "ما أجملك أيّتها الحرّيّة/ ص40"، مدخل إلى عمق أعماق الكاتب. ولعلّه شاء في هذا النّصّ أن يمهّد للقارئ قراءة النّصوص اللّاحقة وفهمها. فيجلو مرآة نفسه ويعبّر بصدق وحرّيّة. فالحرّيّة عند الكاتب تعني الكتابة بصدق، فالكاتب الحقيقيّ يكتب ذاته كما هي ويدخل القارئ في سراديب نفسه وإن كانت مظلمة حتّى الموت.  ولا بدّ للقارئ من أن يتطلّع إلى ما هو أبعد من قصص وسرد، فبطبيعة الحال للكتاب هدف وليس محصوراً بسرد "البطولات" الزائفة والعلاقات الغراميّة.

- العاطفة الملتبسة:

يذكر الكاتب أنّه كان مولعاً  بالأفكار والشّخصيّات في الرّوايات ومنغمساً فيها كحقيقة، فيغار من البطل إذا أحبّ، ويتمنّى البطلة لنفسه. ويشبّه نفسه بأمّه الّتي كانت تبكي إذا مات أحد الأشخاص في مسلسل بدويّ. ما يشير إلى قوّة خيال الكاتب وتحويله إلى واقع معيش، وهو ما يجعلنا نفهم سبب انغماسه في الفضاء الأزرق.

هذه هي "العاطفة الملتبسة"، بل يمكنني القول "العاطفة الضّعيفة" تحتاج إلى إشباع عبّرت عنه النّصوص الّتي تضمّنت علاقات الكاتب الافتراضيّة مع نساء عديدات لم تخلُ من الابتذال وشيءٍ من الفوقيّة الذّكوريّة الّتي لا ترى في المرأة إلّا جسداً يغوي. فالكاتب في هذه النّصوص استخدم المرأة كسلعة لإشباع خياله وعاطفته وربّما غريزته الجنسيّة الافتراضيّة، مع العلم أنّ نساء الكاتب في القصص هنّ المسيطرات، وهو المستجدي لهنّ وأسيرهنّ. وإنّ قدّم الكاتب نفسه كضحيّة إلّا أنّه قدّم نساءه كضحايا كذلك. وأظّنّه بسرد قصصهنّ معه، وجرأتهنّ وإن الافتراضيّة، وبحثهنّ عن إشباع غريزتهنّ وإرسال صورهنّ العارية له، أظّنه يقول إنّ الرّجل والمرأة على حدّ سواء يعانيان من كبت اجتماعيّ وعاطفيّ ونفسيّ. هؤلاء النّسوة لم يقتحمن مدينة الكاتب رغماً عنه، ولا هو اقتحم أسوارهنّ رغماً عنهنّ. ما حصل في الحقيقة هو ممارسة في الخفاء ما هو ممنوع في العلن. وعلى الرّغم من الكذب والمراوغة اللّذين تظهرهما هذه السّلوكيّات إلّا أنّها تشير إلى النّفس الإنسانيّة المكبوتة والمحتاجة إلى الإشباع العاطفيّ والغرائزيّ. وأعتقد أنّ الكاتب أراد أن يقول إنّ أغلب الأشخاص يختبئ خلف هذا الفضاء الأزرق ليعبّر عن حاجاته المكبوتة خاصّة الجنسيّة. بيد أنّ هذه العلاقات الواهمة الّتي ينعتها الكاتب بالعشق والحبّ ما هي إلّا خيال وأوهام. هذه العلاقات الافتراضيّة منحت الكاتب لذّة ما وأشبعت غروره ربّما، أو أنّه كان يبحث عن شيء مختلف، أو كان يبحث عن الحبّ بطريقة خاطئة. وقد تكون إحدى هذه العلاقات مع إحداهنّ تقمع في داخل الكاتب الغيرة أو الشّعور بالنّقص  ممّن يسمّيهم "أصدقاءها الكتّاب الكبار".

كلّ النّسوة في مدينة الكاتب واحدة. دلّ على ذلك تكرار المشاهد، وتكرار الحالة العاطفيّة، واستجداء الكاتب للمرأة الّذي يظهر في لغته كأن يقول لإحداهنّ: "تبا لكلّ نصّ لم تمرّي عليه بضمّة أو قبلة. إنّه لا يستحقّ أن يكتب أصلاً، هذه أمارة النّصوص عندي، فهل ستجعلين نصوصي نَدِيّة حيّة أم سيكون الوأد مآلها الأخير؟ القرار قرارك وحدك"، خلف هذا المكر الذّكوريّ المدغدغ لمشاعر بعض النّساء استجداء كاتب يرى في كلّ النّساء على اختلاف أشكالهنّ وجمالهنّ واستجابتهنّ امرأة واحدة. "كلّ الرّجال واحد كلّ النّساء واحدة/ ص 62" يسلّط الضّوء على أنّ الرّجل والمرأة جسدان ملهمان لبعضهما البعض، فيعبّر بذلك عن فكرة الكون القائم على الجنس. كما أنّه يرى في الحالة الإنسانيّة وجهاً واحداً للمرأة والرّجل، وكلّ ما يقال عن العلاقة بينهما لا ينفي هذه الحالة الإنسانيّة الواحدة. وأيّاً كانت النّزاعات بينهما تبقى اللّعبة قائمة بينهما، لعبة الحرب. يبقى الرّجل منقاداً إليها، وتبقى هي الأصل. الفكرة الّتي  ينزاح إليها الكاتب  في هذا النّصّ ضمناً، المرأة الأصل، وكأنّي به يبحث عن الحبّ في المرأة الأم، المرأة الاحتواء.

قد يكون الأمر صحيحاً من وجهة نظر الكاتب، إلّا أنّ هذه التّجارب لا تدخل في إطار البحث عن الحبّ. مع أنّ الكاتب استخدم  لفظ الحبّ واحداً وستّين مرّة، وغالب الظّنّ أنّ الأمر اختلط عليه، فتوهّم أنّه يعيش حالات حبّ في حين أنّها مجرّد حالات عاطفيّة، بل مجرّد حالات غرائزيّة عبّر فيها الطرفان- الكاتب ونساؤه- عن إشباع غرائزي خياليّ واهم. وبلغت الغريزة ذروتها في نصّ "عاهرة على أطراف الكون/ص218". وصف للغريزة بأبشع صورتها ووحشيّتها. فيظهرها الكاتب بشكلها الحيوانيّ المطلق ويلوّح لدور الرّجل المسبّب في تجريد هذه الغريزة من إنسانيّتها أو هدفها كتعبير عن الحبّ. يقابل هذا النّصّ نصّ آخر "مع الألمانيّة في شقّة صديقتي/ص225" يظهر فيه الذّكوريّة المريضة المنحدرة كذلك إلى الحيوانيّة فتلهث خلف جمال ظاهريّ بدافع الغريزة فقط.

كلّ النّساء في مدينة الكاتب واحدة حتّى الزّوجة. "زوجة ثانية لا تشبهني/ص258". زوجة ثانية تشبه الأولى، لكنّها لا تشبه الكاتب، كدلالة على رتابة الزّواج، وربّما فشله في تحقيق السّعادة كما يُظنّ. ولعلّ الزّوجة في نصوص هذا الكتاب هي الوحيدة المستسلمة بشكل أو بآخر. فغالباً ما لا يرى الرّجل في زوجته ما يراه في نسائه، ولا يبحث في زوجته عمّا يبحث في نسائه. وذلك يعود إلى العقدة الذّكوريّة الّتي توهم الرّجل أنّه هو المسيطر، وهذا ما أبانت عنه نصوص أخرى.

- أين أخطأ السّارد؟

ورد هذ النص في الصفحات الأخيرة من الكتاب (ص 289)، نصّ يستبق فيه الكاتب حكم القارئ، وهو العارف أنّه أخطأ حتّى وإن قدّم نفسه كضحيّة معتبراً ما فعله إثماً. ولعلّ السّؤال بحدّ ذاته لا ينتظر جواباً بقدر ما هو تأمّل لتجارب الكاتب الّتي أدخلته في حالة من الاكتئاب وربّما القرف. ولست أدري إن كان بإمكاننا الحديث عن خطأ أو صواب. إنّها الحياة بطبيعيّتها وتجاربها. إنّه الإنسان بتركيبته المعقدة والغريبة العجيبة. إنّها أعماق النّفس المتأثّرة بالمحيط والظّروف والأسباب الظّرفيّة على أنواعها. لعلّ السّارد أخطأ في انغماسه في الوهم والخيال. فعلى الرّغم من أنّ الكاتب يضع نفسه تحت المجهر في هذا الكتاب ويتحدّث بكثير من الصّدق، إلّا أنّه غرق في الوهم. وكلّ ما تضمّنه هذا الكتاب من سلوكيّات وعلاقات وتعبيرات حصلت في الحقيقة فإنّما هي بنيت على الوهم. وما بُني على وهم فهو وهم. فليكن السّؤال إذاً: أين أصاب السّارد؟

لقد أصاب السّارد في إبراز التّناقضات الإنسانيّة بين الظّاهر والعمق الإنسانيّ الحقيقيّ. كما دلّ بشكل مباشر على العلاقة الجنسيّة بين الرّجل والمرأة بمفهومها الحيوانيّ، ولعلّه أراد للقارئ أن يعيد بناء مفهوم العلاقات على أنواعها. وبيّن أنّ المستور في أعماق النّفس هو ما يحدّد الأخلاقيّات وليس الظّاهر منها. لقد أصاب السّارد في تلميحه إلى أنّ الظّاهر الدّينيّ لا يحمي الإنسان سواء أكان رجلاً أم امرأة من الغريزة، وإنّ العقل والفكر هما من يهذّبانها ويرتقيان بها. وبلغ صواب الكاتب ذروته عندما وضع نفسه تحت المجهر فوضع معه كثيرين؛ فاتّسعت الصّورة، وظهرت بتفاصيلها الدّقيقة. ولعلّك أيّها القارئ حينما تقرأ هذا الكتاب تقف أمام مرآة نفسك فتتبيّن.

والسّؤال المهم، هل تحرّر الكاتب فعلاً بعد سرده هذه القصص؟ وحده يجيب في آخر جملة من هذا الكتاب: "وبعد: كيف لي أنْ أتخلّصَ من كلّ النّساءِ العالقاتِ على جثّتي؟".

__________________

* صدر الكتاب عن دار الرعاة للدراسات والنشر  ودار جسور ثقافية، رام الله وعمان، 2020.

 

 

 

الأحد، 15 نوفمبر 2020

المرأة والكتابة والحبّ قرابين الخلود المؤكّدة

 



قراءة في قصيدة "يَصْنَعُني الخلودُ"  للشّاعر الفلسطيني  فراس حج محمد

مادونا عسكر/ لبنان

- النّص:

(1)

‏وأنتِ تعدّين جلسة القهوة هذا الصباحْ

وترشفين بلطفٍ شفاه الوقت في الفنجان

وتقبلين على الحياة بقلبٍ أبيضَ

زهرة فُلّ

دوّني على جدارٍ لا يموتْ

بضع كلماتٍ تومئ لي

وتقول:

"إنّني كنتُ هنا"

(2)

اهزمي الموتَ بالحبّ والشعرِ والمشي تحت المطرْ

لعلّني أنبتُ مثل تلك الشجرةْ

في مَراح البساتينْ

أنا إنْ كتبتكِ لا أهرمُ

لا أموتْ

لا يهزمني الوقتُ والحزنُ والطاعونُ والطاغوتُ والجبروتْ

سأظلّني ثمراً غنائيّاً في قلوب العصافيرْ

(3)

طفلة ظَلّي كما كنتِ

أعيدي الأغنياتِ

ارقصي مع طيفيَ المرسوم في النصّ الأخير من الحكايةْ

اشبعي منّي على مهلٍ وغذّي الوحيَ بي

أعدّيني شراباً نخبويّاً في سهرة القمر الطويلةْ

تزيّني باللون الفاتح الشفّافْ

لأراك زهرة لوزٍ تضحك نصف ثغرْ

هناك أنا سأكونْ

أرشف نصف ثغركْ

على نار الكتابةِ يرفعني الخلودُ إلى شفاهكِ

بيتَ شعرٍ لا يموتُ...

- القراءة:

"الّذي يكتب لا يموت" كذا يقول المفكّر المصري الدّكتور يوسف زيدان. ولعلّ قصيدة "يصنعني الخلود" تعبّر عن عمق معنى هذه المقولة. فالكاتب الّذي لا يموت هو ذاك الّذي يسكن لاوعي الإنسان لاسيّما الشّاعر. كما أنّه يدخل في تكوينه الفكري، وقد يتنفّس معه ويُسمع صوته من خلاله، فيمتزج الصّوتان. ولكن لا بدّ من التّفريق بين الامتزاج الصّوتي والحضور الطّاغي والتأثير. فالشّاعر يختزن في لاوعيه كلّ ما قرأ واختبر وتأمّل وينتظر لحظات الوحي المتفجّرة تنبعث منها قصيدة بنظامها الخاص والمنضبط. إلّا أنّه لا يُلام على لاوعيه إذا ما طغى في قصيدته حضور شاعر آخر. قد يبدو الأمر مزعجاً إلّا أنّه هذا ما حصل مع الأستاذ فراس حج محمد خاصّة في مطلع القصيدة حيث لفتني السّطر الأوّل المشابه لمطلع قصيدة درويش "فكّر بغيرك. فيقول الأستاذ فراس:

وأنتِ تعدّين جلسة القهوة هذا الصباحْ

وترشفين بلطفٍ شفاه الوقت في الفنجان

وتقبلين على الحياة بقلبٍ أبيضَ

زهرة فُلّ

دوّني على جدارٍ لا يموتْ

ويقول محمود درويش في قصيدة "فكّر بغيرك:

وأَنتَ تُعِدُّ فطورك ’ فكِّرْ بغيركَ

[ لا تَنْسَ قُوتَ الحمامْ ]

قد لا يكون هذا التّناص متعمّداً إلّا أنّه طغى صوت درويش في مطلع القصيدة وامتدّ ليصبح حضوراً خاصّاً في القصيدة حتّى إنّني في قراءتي للمقطع الأوّل لم أشعر بوجود فراس حج محمد ليعود ويظهر حضوره بشكل قويّ في المقطع الثّاني وبشكل أقوى في المقطع الثّالث حين يمتزج صوت فراس حج محمد بصوت درويش ليشكّلا صوتاً واحداً. وهنا لا مجال للحديث عن التّأثر بمحمود درويش. فالقصيدة لا توحي بتأثير درويشيّ بل إنّ فكرة القصيدة مختلفة وخاصّة بفراس حج محمد. لكنّ الصّوت الدّرويشيّ غلب في البداية واختطف من القارئ الإحساس بحضور الشّاعر صاحب القصيدة. ولئن كان لاوعي الشّاعر أصل القصيدة أمكنني القول أنّ محمود درويش الّذي لا يموت حضر حضوراً خاصّاً استلب من الشّاعر حضوره الشّخصيّ.  ولمّا كان من غير المستطاع الحديث عن تأثير درويشيّ انكشفت بعض معاني القصيدة وتمّ الاستدلال على مفاتيحها ليفيض العمق الشّعريّ في قلب القارئ.

"يصنعني الخلود"، العنوان المضلّل أو الملتبس مع دلالات القصيدة، أو المترادف وحضور المرأة القويّ في القصيدة. فالخلود مرتبط بها وبأفعالها، وكأنّي بالشّاعر يقول: "افعلي لأكون، افعلي لأخلد". فيكون معنى  العنوان الأصل "تصنعني امرأتي" المرأة المساوية للخلود. ولعلّ الشّاعر يعبّر عن فكرة أعمق ألا وهي أنّ الخلود مرتبط بحركة المرأة ة وبحبّها:

أنا إنْ كتبتكِ لا أهرمُ

لا أموتْ

لا يهزمني الوقتُ والحزنُ والطاعونُ والطاغوتُ والجبروتْ

سأظلّني ثمراً غنائيّاً في قلوب العصافيرْ

المرأة الكون، المرأة الوجود تمنح الشّاعر الخلود بحركتها الكونيّة والوجوديّة. فغالب أفعال القصيدة مرتبطة بها وأمّا فعل الشّاعر وموته وخلوده فمرتبط باستمراريّة حركتها. هي تمنحه الحياة والخلود في آن، ويخاطبها حاضرة في كيانه كلّه، يخاطبها الآن ويحاورها كطيف وكحقيقة. فجاء الحوار ذاتيّاً من جهة ومعها من جهة أخرى وكأنّي به يصوّر حركتها وإن استخدم أفعالاً تندرج في إطار الطّلب (دوّني، اهزمي، أعيدي، ارقصي، اشبعي... ) امرأة الشّاعر فيه وأقرب من ذاته إليه، لكنّها في ذات الوقت بعيدة. لذلك فاضت القصيدة حنيناً وشيئاً من الرّثاء الخفيف، وحقيقةً وخيالاً.

"كوني لأحيا أبداً" تلك هي فيوض القصيدة المنبعثة من عمق الشّاعر الواثق من خلوده بالمرأة. فهو لا يتحدّث عن خلود قادم أو أنّه يترجى الخلود، بل إنّه يعدّ ذاته خالداً كرجل، كشاعر وكمحبوب.

هناك أنا سأكونْ

أرشف نصف ثغركْ

على نار الكتابةِ يرفعني الخلودُ إلى شفاهكِ

بيتَ شعرٍ لا يموتُ...

سلطة الورد في نصّ "على شفا فكرة" للكاتبة السورية صباح سعيد السباعي.

 



مادونا عسكر/ لبنان

- النّصّ:

على شفا الفكرة

كلّما ذبلت وردة؛ اختفت سيّدة من خيال حارتنا، فيقوم شاعرها بتأليف قصيدة فاتنة كلّ ليلة، يعيد الصّورة الأبهى للورد، بصرخة في منتصف اللّيل من امرأة، طارت كلماته من على الورق، تشيب قافيته، يحزم أنفاسه ويعبر للبعيد، شاعراً بالفشل. 

تاركاً المهمة لرسّام وحيد يعشق البساتين، يلفّ لفحته على عنقه، حاملاً ألوانه ولوح الرّسم، كان مشغولاً بفلسفة الضَّوء والظّلّ، والمساحة الرّماديّة، الّتي كانت تستفزّه، لم يأبه طيلة إقامته بالحيّ بقصص سكّانه، إلّا أنّ الأمر لفت انتباهه فكل ما أراد قوله في لوحة قالته زهرة، وهو عجز عن قوله.

قسّم القماش إلى أربعة أجزاء بخطوط صفراء، الألوان صارخة بطريقته، الأبيض، الأسود، فالأبيض، فالأسود.

يعاتبه الشّاعر، في المنام على فشله 

بإعادة النّبض للخيال، فما كان منه أن شكّل بحراً على المساحة البيضاء، وبدأ يسكب منه ليمحوَ السّواد، تتراءى أمامه حوريّة، تهمس في أذنه: سأدقّ اللّيل وستولد كلّ حين امرأة تحمل النجوم، تسقي الشّجر.

بقيتْ دهشته تهزّه، فأعاد الكرّة فنبتت زنبقة، ما زال ينتظر لهذه اللّحظة خالعاً ظلّه، للولادة الجديدة. 

- القراءة:

من يستطيع أن يكتب المرأة أو يرسمها أو يتبيّن أبعادها المنسجمة مع الكون بأسره؟ لعلّه سؤال الكاتبة صباح سعيد السّباعي في نصّ تنضح وروده عطراً يدوم بعد الذّبول والرّحيل. إلّا أنّ الكاتبة الّتي ربطت بين المرأة والورد لم تتوقّف عند مبدأ الذّبول، بل إنّ آفاق النّصّ اتّسعت لتحدّد مفهوم المرأة الكون الّذي قد يعسر فهمه أو احتواؤه.  

يتمحور النّصّ حول الورد والمرأة. وإن دلّ هذا على أمر فهو يدلّ على ارتباط المرأة بالورد وامتزاجهما من ناحية الجمال والبساطة. وكأنّي بالكاتبة تريد تبيان هذين المفهومين واختصارهما في المرأة الّتي تملك وحدها مفاتيحهما كما القدرة على إحيائهما. وهنا تحفر الكاتبة عميقاً في كيان المرأة الّذي لا يدركه إلّا المرأة. فمحاولات الشّاعر المجتهد كلّ ليلة في تأليف قصيدة فاتنة ليعيد الصّورة الأبهى للورد باءت بالفشل. كذلك الرّسّام العاجز، هزمته زهرة، فقالت ما عجز عن قوله؛ ما يدلّ على صعوبة إدراك عمق الجمال والبساطة، وبالتّالي إدراك المرأة عميقاً بمعزلٍ عن الظّاهر. وإذا باءت محاولات الشّاعر بالفشل فلأنّه يحاول استعادة بهاء الصّورة دون العمق. فالصّورة ليست سوى انعكاس يسير للعمق الجماليّ أو محاولة تجسيد له. وإذا عجز الرّسّام المشغول بفلسفة الضّوء والظّلّ والمساحة الرّماديّة عن التّعبير فلأنّه يعيد النّبض للخيال لا للحقيقة، والإشارة هنا إلى معالجة الأمر من خارج، من ظاهره المرئيّ وليس معاينة للعمق الجماليّ البسيط. إنّ الرّسّام يحاول أن يجسّد قوله بألوانه الصّارخة البعيدة عن فلسفة البساطة والجمال، وبالتّالي البعيدة عن إدراك المرأة. ولعلّه في تشكيله للبحر على المساحة البيضاء ليمحو السّواد شيء من محاولة سبر أغوار المرأة لتتّسع مساحة البياض المترادف والنّقاء أو الوضوح. وكأنّي بالكاتبة تشير إلى أنّ إدراك المرأة بحقّ يحتاج إلى نقاء فكريّ وقلبيّ، ما دلّت عليه الزّنبقة الّتي نبتت بعد أن أعاد الرّسّام الكرّة. إلّا أنّه يبدو أنّه تخلّى عن فلسفته وبقي ينتظر في العتمة.

بدأت الكاتبة نصّها بالذّبول وأنهته بالولادة الجديدة، وما بينهما يستشفّ القارئ معنى السّلطة، سلطة الورد، سلطة المرأة. لكنّ الكاتبة لا تتحدّث عن سلطة تترادف والسّيطرة أو التّحكّم. إنّها تتحدّث عن سلطة الجمال والبساطة  عند المرأة وعن عجز كثيرين عن إدراكهما بعمق. فتضع على لسان حوريّتها ما يعبّر عن هذه السّلطة وعن هذه القدرة على الولادة المتجدّدة: "سأدقّ الليل وستولد كلّ حين امرأة تحمل النجوم، تسقي الشجر". للنّجوم بعد كونيّ مضيء، وللشّجر بعد التحام المرأة بالطّبيعة، أو بمعنى آخر؛ تتشابه المرأة والطّبيعة بشكل دقيق شكلاً ومضموناً. فالحياة تتجدّد فيهما، وكلتاهما تمنحان الحياة، وكلتاهما لا يمكن السيطرة عليهما، وتوقّع دفق نبضهما أو مفاجآتهما. إلّا أنّ الكاتبة منحت المرأة سلطة على الطّبيعة (امرأة تحمل النجوم، تسقي الشجر) المرأة تحمل الضّوء وتمنح الحياة، وهي السّلطة الّتي قد لا تدركها المرأة ذاتها، ولو أدركتها لتبدّلت أمور كثيرة.

أدركت صباح السّباعي سلطة الورد، فنسجت نصّاً عميقاً ببساطته وجماله فشابه بساطة الورد وجماله. كما أنّها استدعت المرأة الأصل وحدّدت مفهوم الجمال والبساطة كقوّة ناعمة مربكة يعجز أمامها المبدعون ويتأمّلها أنقياء الفكر والقلب.