الاثنين، 23 يناير 2017

الرمزية ومدلولاتها في ديوان "من عبادان نحو العالم الفرنكوفوني" للشّاعر الإيراني جمال نصاري


مادونا عسكر/ لبنان

عندما تعجز اللّغة يحضر الشّعر بانسيابه العذب ومنطقه الأعلى وروحانيّته المتّقدة. يحضر، وتحضر معه فضائل العالم الشّعريّ الملامس للأرض المطاول للسّماء. "من عبادان إلى العالم الفرنكوفوني" ديوان تتجلّى فيه قدرة الشّاعر جمال نصاري على تخطّي  اللّغة بل تطويعها وكسر قيدها العاجز، وتحرير الكلمة من حرفيّتها ورفعها إلى مستوى "المعنى" مستخدماً الرّمز لتخطّي المعنى الحرفي والغوص في أعماق سرّ الكلمة ليمسيَ الشّعر رتبة  الإنسان الملامس للكمال.
تتميّز لغة الشّاعر جمال نصاري بالبعد الكوني المتفلّت من المعاني الضّيّقة والمنفتح على أسرار الكون غير المدركة بالعقل الضّيّق المحدود. الحبّ/ الموت/ الصّلاة/ العقيدة الكونيّة... ملامح الكون الشّعريّ المتمرّد على التّقليديّة والتّعبير السّهل.
يرسم الشّاعر في ديوانه لوحات سرياليّة ننظرها فنبصرها لنعاين حقيقة لامسها الشّاعر وعبّر عنها مستدرجاً العقل الباطن للنّطق بما يخالج النّفس فينساب الشّعر كنهر يجرف معه  رواسب علقت في دواخلنا، ويرتقي بنا إلى الحبّ الكونيّ الّذي تخضع له كلّ الحقائق المزيّفة عن الحبّ. كما يعالج واقعاً إنسانيّاً تمرّس بالوجع والأسى.
- المبالغة في الرّمزيّة:
يكثّف الشّاعر استخدام الرّمز في قصائده، بل يبالغ في استخدامه حتّى لا تكاد القصيدة  تخلو منه. ولعلّ ذلك يعود بالدّرجة الأولى إلى ارتقاء الشّعر إلى مستوى العالم المقدّس. بمعنى آخر، للكون الشّعري مكانة خاصّة محاطة بما يشبه الوحي، وبالتّالي فلا بدّ أن ترتقي لغته إلى مستوى "السّرّ". وإذ أستخدم لفظة "السّرّ"، فلا أعني بذلك حائطاً مسدوداً لا يمكن اختراقه، وإنّما السّرّ/ Mystère الّذي يحتاج من القارئ حفراً عميقاً في اللّغة الشّعريّة كيما يستنبط مقاصد الشّاعر.
يقول مالارميه: "إنّ الشّيء المقدّس والّذي يريد أن يظلّ مقدّساً يتجلّل بالسّرّ". وأهميّة الشّعر تكمن في كونه يتجلّل بالسّرّ حتى يحافظ على مكانته الّتي تتوسّط السّماء والأرض. ولا ريب أنّ الشّاعر جمال نصاري يدرك أهميّة هذه المكانة، فيعلي شعره رتبة السّرّ/ Mystère، وذلك من خلال استخدام الرّمز المكثّف مستقياً إيّاه من الأسطورة والدّين والإبداع الشّخصيّ، أي خلَق رموزاً خاصّة يتفرّد فيها لابتكار لغة خاصّة فيه.
استخدم الدّين الرّمز ليعبّر قدر الإمكان عن اللّغة الإلهية المنسكبة في قلب الكاتب، واعتمدت الأسطورة الرّمز للتضخيم الواقع الحقيقيّ ليصبح متجذّراً أكثر في نفس المتلقّي. وفي الدّيوان نشهد الرّمز كعامل تفاعليّ مع الواقع ثمّ تخطّيه للتّعبير عمّا لا يمكن التّعبير عنه بحرّيّة.
وتشكّل الرّموز في الدّيوان مفاتيح نستدلّ من خلالها على مكنون لغة نصاري، فيعبر القارئ إلى دواخله ويعاين المسكوت عنه في ضمير الشّاعر. وهي، أي الرّموز، جزء لا يتجزّأ من الرؤيا الشّعريّة الّتي يعرّفها الشّاعر اللّبناني يوسف الخال كونها "لا تشرح العالمَ أو تفسّره أو تنقله أو تكشفه وإنّما تريد خلقه من جديد على محكّ تجربة الشّاعر وبواسطة حدسه ومخيّلته". هذا ما يتجلى في ديوان "من عبادان إلى العالم الفرنكفوني". فتجربة الشّاعر بين الواقع الدّينيّ والسّياسيّ والاجتماعيّ انكشفت للقارئ من خلال الرّمز الّذي حمل مدلول الحياة والاتّجاه نحو العالم العلويّ لإعادة خلق مفاهيم إنسانيّة جديدة، أو بمعنى أتمّ إعادة تجديد المفاهيم الإنسانيّة الأصيلة.
نلاحظ جليّاً أنّ الشّاعر ينظر إلى العالم من علٍ، أي بعين الموحى له، وهو المغترب عن هذا العالم. يرنو إليه بعين الشّاعر فيعاين خلله بدقّة، ويكشف تفاصيل ظلمته على ضوء الوحي الشّعريّ.
أكتبي على قبري
رجل مجهول امتلك مشاعري
وحلّق في اللّامجهول. (1) 
يظهر  فكر الشّاعر ورؤيته لمحيطه وواقعه من خلال غربته عن العالم. فهو غريب  ومجهول في  واقع تؤذيه حقيقته، وتؤلمه أيديولوجيّاته. إلّا أنّ الموت يفتح له باب الحياة/ الحقيقة ويظهر هذا جليّاً في عنوان القصيدة  "عندما أموت" كما في مضمونها. فعبارة (عندما) السّابقة للموت، تمنح القارئ آفاقاً جديدة تعلن الحياة لحظة الموت ذاته؛ لاقترانها في سياق القصيدة وارتباط هذا الظرف بفعل الحياة. (عندما أموت... فعندئذٍ سأرجع طفلاً بريئاً/ عندما أموت... سأترك أسئلتي مفتوحة...). ولا يقف الشّاعر عند حدود الحياة بل يتخطّاها لتتجلّى القيامة رمزاً خالداً يعبّر عن الشّاعر الخالد. إذن فالموت رمز القيامة، أي الخطوة النّهائيّة نحو الحرّيّة المطلقة واستمراريّة الحياة. (فعندئذٍ ستجتمع أجزائي/ وسأكتب شعراً..). من هذا العلو الّذي ارتقاه الشّاعر يرنو القارئ إلى عالمه، ويعاين معه وجع الأرض والإنسان على جميع المستويات.
وفي نقد لاذع للواقع الدّيني يستعين الشّاعر بالرّجل الرّمز والمرأة الرّمز اللّذين يكوّنان معاً صورة الحبّ الإلهيّ. هذه الصّورة ارتسمت منذ البدء إلّا أنّ الدّين هشّمها وشوّه الرّباط المقدّس بين الصّورتين واستغلّتها السّياسة المرتبطة بالدّين.
 في بلاد نجيبة
الحبيبة
لا تصل إلى حبيبها
مرّتين
فالبيت قصر شرعيّ
تقرأ فيه سورة النّساء (2)
إلّا أنّ هذه الصّورة تطال المجتمع بأسره حتّى تتشكّل ملامح الجريمة المستمرّة بحقّ الإنسانيّة، فتستحيل نجيبة رمزاُ للضحيّة المنتظرة الخلاص، ومصطفى رمز المخلّص بل الإله.
تعيش نجيبة مع طيفها
وترى على جناحيه
ثلاثة أحرف تقرأ عموديّاً
الألف: لا إله موجود في حيمة العرب
الميم: فقدت الماء ومصطفى خيال لا ينسى
اللّام: لم تحتضن الفجر يوماً
والحبيب يحمل صخرته على كتفه
هل أراد الشّاعر جمال نصاري إعجازاً ما في هذه السّطور، ليبقى الأمل (ألف/ ميم/ لام/ أمل) سرّاً لا يمكن إدراكه، أم أنّ تلك الحروف الّتي تقرأ عموديّاً تتّجه نحو السّماء ولا يمكن إدراكها على أرض الواقع؟ يظهر الحبيب/ المخلّص الّذي رمز إليه الشاعر بمصطفى مصلوبا في العالم يحمل على كتفه الوجع الإنسانيّ، وجع الحبّ. (والحبيب يحمل صخرته على كتفه). وفي ذات الوقت يبحث مصطفى عن ذاته بل أُسقط ونجيبة  من جنّتهما.
ونجيبة تصرخ بوجه قاتلها
لم أنزلتنا من الجنّة
لم نأكل التّفاحة بعد
السّقوط بالمفهوم الدّيني نتج عن رفض الإنسان لله الحبّ، فأٌخرج من الجنّة. وأمّا هنا فيُطرد منها لأنّه أحبّ. ولعلّ العقاب أبديّ، يرمز إليه الرّقم (ألف) الّذي يحمل دلالة الخلود.
فمصطفى قريب منّي وبعيد
خمسون متراً أفقيّ اللّحظة
وصلبوا طيفه في غرفتي
لتكتمل دورة الموت في جسدي
ويبتعد ألف سنة ضوئيّة
حتّى يحتفل أبي بفحولته.
ويبالغ الشّاعر في الرّمزيّة إلى حتميّة العقاب ولانهايته باستخدام لفظة (الضّوئيّة) ليكثّف صورة الواقع القاسي والممارسة الدّينيّة الفاشلة.
مصطفى/ المختار/ الحبيب الّذي يرمز إلى الحبّ يحمل في ذاته الألوهة والنبّوءة والإمامة وفعل الخلاص. وبهذا تتّضح معالم الحقيقة الّتي يؤمن بها الشّاعر الرّائي، حقيقة الحبّ الإله. يتخطّى الشّاعر في هذه السّطور العقيدة الّتي يعبدها الإنسان أكثر من الله ويتمسّك بها بعيداً عن ربّ العقيدة. ويتطلّع إلى عقيدة أسمى منبعها قلب الإله، الحبّ. (وكلّ الدّيانات متّهمة بدم مصطفى/ هكذا يقول طيف نجيبة)، فهنا يتلاشى كل شيء يحمل صبغة دينية، من آلهة وأنبياء وأولياء، ليكون مصطفى هو وحده كل ذلك، فالإله الرامز إلى العالم المطلق، والخلق المتجدّد، والقوّة الفاعلة في الضّمير الإنسانيّ. والنّبيّ حامل الكلمة الإلهيّة والمبلّغ إيّاها للعالم/ الحبّ الفاعل. وعليّ رمز الحكمة والمعرفة، والمسيح المخلّص يجتمعون في مصطفى رمز الإنسان الإله. فيتجلّى لدى القارئ المفهوم العقائديّ الكونيّ الّذي يتطلّع إلى النموّ والصّبوّ نحو المستقبل. وتظهر أهميّة الإنسان وقدرته الّتي تخوّله استعادة إنسانيّته من خلال التّحرّر من جلباب الدّين للانطلاق نحو خلاص الإنسانيّة بالحبّ.
ولا يقف الشاعر عند هذا الحد في استخدام الرموز الدينية، فثمّة مقارنة يعقدها الشاعر بين صورة المسيح وصورة الحسين للدّلالة على انصهارهما في كلّ ضحيّة مع اختلاف واقع المسيح وواقع الحسين. إلّا أنّ الاثنين تمّ رفضهما ونبذهما ما دفع الشّاعر لاتّخاذهما رمزاً للإنسانيّة المغدور بها. ويعرّف هذان الرّمزان  الشّهادة بمعناها القويّ والمطلق، يقول نصاري:
ثقافة تحيا في ماضيها
وأنا لا أملك المرآة
لأرى المسيح
يمتدّ ف يجسد أبي
بين أرض وسماء
والحسين ينبعث من روما
إلى كربلاء (3)
- المرأة الرّمز:
احتلّت المرأة الرّمز مكانة خاصّة في الديوان، فعبّر الشّاعر عن آلامها ومعاناتها من جهة، وعن قوّتها وتأثيرها من جهة أخرى، ويوليها الشّاعر أحيانا رتبة الألوهيّة، فيمنحها صفة الخلق، والإلهام، فتجعله أكثر قدرة على كتابة الشعر:
سيخفق القلب مرّات
فعندئذٍ ستجتمع أجزائي
وسأكتب شعراً
في فلسفة الشّفاه... آه (4)
كما حضرت المرأة باعتبارها أمّا، ترمز إلى الحياة وانتهاء البؤس وامّحاء الشّقاء لتظهر حياة جديدة يولد فيها الإنسان الجديد المتفلّت من تاريخه المثقل بالحزن والألم.
عندما أموت
سأرى أبي في السّنين الّتي فارقني بها
فعندئذٍ سأسترجع طفولتي
وستولد أمّي من جديد (5)
ولا شكّ في أنّ الشّاعر لا يتحدّث عن أمّه وحسب، وإنّما عن الأمّ بشكل مطلق ليوليها رتبة الموجّهة والمرشدة للأبناء حيث تعلمهم الأمّ "أبجديّات الحبّ والغزل"، فيستعيد الإنسان/ الابن طفولته بالولادة الجديدة.
ومن صور المرأة ورموزها كذلك في الديوان تحضر المرأة العاشقة، تلك المرأة الّتي تمتلك كيان الشّاعر، فيوليها أهميّة خاصّة. موظفا لفظ الخيوط ليعبر بذلك عن المشاعر والأحاسيس الّتي تحفر في عمق الشّاعر. فالمرأة خلقت من ضلع الرّجل، وهي بذلك جزء من كيانه ملتحمة فيه، تمتدّ في كيانه وتخترق آفاقه وتطلّعاته:
ليس لي سوى الأرض
والمرأة الّتي تغزل خيوطها
على أضلعي
في زمن الخرافة
والحداثة
وما بعد الحداثة) (6)
ويلتفت الشاعر كذلك إلى نموذج آخر من نماذج المرأة الواقعية، ألا وهي المرأة المستَغلّة، والمجاهرة في استخدام جسد المرأة إعلاميّاً ودينيّاً وسياسيّاً. والواقع السّياسي الّذي ادّعى المساندة والدّعم ساهم في هذا الاستغلال ليحقّق مآربه الشّخصيّة:
 في البثّ المباشر
وضعت امرأة بكارتها
في المزاد الدّينيّ
انتصرت كوباني
هل سترى أميركا هذا الفيلم في الإعادة؟ (7)
إن اللغة الشعرية في الديوان صغيت بالاعتماد على الرموز والإشارات الموحية، مما جعل الديوان حافلا بالكثير منها، حاولتُ في هذا المقال البحث عن أهم مدلولاتها في الرموز الكبرى، وتشكّل علامات بارزة فيه. وقد منحت العبارة الشعرية ميزتها الخاصة، والتي تسم الشاعر بأسلوبها الدال عليه.
-------------------
 (1) عندما أموت- ص 13
(2) نجيبة ومصطفى – ص 29
(3) الجريمة- ص 39
(4) عندما أموت- ص 19
(5) عندما أموت- ص 16
(6) أنا الأرض بشهواتها- ص 49
(7) المعصية- ص 55



مادونا عسكر/ لبنان
" يصبح الكون مختلفاً عندما تعشق النّار الماء." (1)
قراءة في " قواعد العشق الأربعون" ( رواية عن جلال الدّين الرّومي)/ إليف شافاق.

 "سيتراكم لديك مزيد من المعارف، ومزيد من الكتب كلّما تقدّم بك العمر، وعند ذلك سينظر إليك العدد المتنامي من الكتب غير المقروءة من على الرّفوف نظرة عتاب ووعيد". (2). لكن، ثمّة كتاب واحد تقرأه ويمتصّه كيانك كلّه، بل تشعر أنّك فيه قرأت كلّ ما يخالج قلبك وروحك، وكلّ ما يستفزّ شكوك عقلك. تجالسه وتترافق معه، علّك من خلاله تشهد الحقيقة الّتي كنت تبحث عنها طويلاً، أو علّك تغرق في طيّاته وتحيا لحظات حاضرة لا تملك سواها. وتغوص في عمقه حتّى تعاين الجمال الممتدّ من عصور مضت والمترامي حتّى آخر الأجيال.
" قواعد العشق الأربعون"، أربعون نبضة في حياة الصّوفيّ، بل في حياة كلّ إنسان عرف أنّه منذ البدء، كان العشق الإلهيّ هو الحقيقة الخالقة والمخلّصة والمحيية. وإذا كان الصّوفيّ يرفع يداً نحو السّماء ويرمي بأخرى على الأرض ليحقّق اتّصالاً بين السّماء والأرض ويصل إلى حالة الكمال،  فالعشق الحقيقيّ المترسّخ في الإنسان، يشهد لعلاقة عاموديّة مع الله المحبّة وأخرى أفقيّة مع الإنسان. لا يمكننا الحديث عن العشق كحالة منفصلة عن الآخر، فمعناها لا يتحقّق ولا يشرق نوراً وجمالاً، ما لم يرتوِ من العلى ليسقيَ العمق.  
سنحاول في هذه القراءة المتواضعة محاكاة حضور الكاتبة " إليف شافاق" الفكري والرّوحي، والإطلالة على شخصيّات الرّواية الأساسيّة. فنعاين  عظمة حضور " شمس التّبريزي" و" جلال الدين الرّومي"، وانسكاب العشق بين " إيّلا وعزيز".

- كتاب يحرّك صفو المياه الرّاكدة:
" إذا سقط الحجر في بحيرة، فلن تعود البحيرة ذاتها مرة أخرى." ( إليف شافاق).
تستهلّ الكاتبة الرّواية باختصار الحركة الإنسانيّة المتأرجحة بين الرّكود والجريان. فهي في حالات شتّى تشبه المياه الرّاكدة الّتي تغزوها وُحول الخمول والكسل والملل، وفي لحظة الاستيقاظ العشقيّ تتحرّك وتنطلق نحو "الحياة". يثير العشق الإلهيّ ديناميكيّة الحياة ويبعدها عن رتابتها القاتلة، لأنّ الله إله أحياء لا إله أموات. والحبّ جوهر الله، يجدّد الخليقة كلّ يوم بل كلّ لحظة. كما يظهر من الرّواية بشكل عام، دعوة الكاتبة إلى البحث عن العشق المتدفّق من علٍ والكامن في الإنسان. وتحثّ القارئ على التّنقيب عن هذا العشق أنّى اتّجهت رياحه. ما تعبّر عنه القاعدة الأربعين: " لا قيمة للحياة من دون عشق. لا تسأل نفسك ما نوع العشق الّذي تريده، روحي أم مادي، إلهيّ أم دنيويّ، غربيّ أم شرقيّ. فالانقسامات لا تؤدّي إلّا إلى مزيد من الإنقسامات. ليس للعشق تسميات ولا علامات ولا تعاريف. إنّه كما هو نقيّ وبسيط. العشق ماء الحياة، والعشيق هو روح من نار! يصبح الكون مختلفاً عندما تعشق النّار الماء."
تستخدم الكاتبة الرّقم الأربعينيّ على امتداد الرّواية في تمازج جميل مع قواعد العشق الأربعين، الّتي تشهد تدرّجاً في الرّؤية والحياة العشقيّة. وتحاكي في كلّ شخصيّة حالة التّدرّج من الموت إلى  حالة العشق التّامّة والمكتملة أي " الحياة". إلّا أنّ الرّقم ( 40) يرمز بشكل خاص إلى زمن الأزمة أو المحنة، تليها لحظة الاستنارة والارتقاء والسّمو. ولقد وردت هذه الدّلالة في الرّواية على لسان  " أ. ز. زاهارا "،  شخصيّة مؤلّف رواية " الكفر الحلو"، الّذي ستقع روايته لاحقاً في يد "إيلّا"، المرأة الأربعينيّة الّتي تشهد تحوّلاً كبيراً في حياتها، لحظة يحرّك حجر العشق مياهها الرّاكدة.  " هل تعرفين أنّ الأربعين في الفكر الصّوفي ترمز إلى الصعود من مستوى إلى مستوى أعلى وإلى يقظة روحية؟  لقد استمرّ طوفان نوح أربعين يوماً. وقد خرج المسيح إلى القفر أربعين يوماً وليلة وكان محمد في الأربعين من عمره عندما نزل عليه الوحي وتأمّل بوذا تحت شجرة زيزفون أربعين يوماً بالإضافة إلى قواعد العشق الأربعين ".
وستشهد كلّ شخصيّة تحوّلاً جذرياً في حياتها إذ يلمسها العشق ويدركها، فتستحيل كتلة عشق متنقّلة في هذا العالم.  

- شمس التّبريزي، الشّخصيّة النّجمة:
"عندما كنت طفلاً، رأيت الله، رأيت ملائكة؛ رأيت أسرار العالمين العلوي والسفلي. ظننت أن جميع الرجال رأوا ما رأيته. لكنّي سرعان ما أدركت أنّهم لم يروا..."
شمس تبريزي

تمتدّ نجوميّة شمس التّبريزي من القرن الثالث عشر وحتّى القرن الحادي والعشرون. إنّها نجوميّة العشق الإلهي المبدّلة لكلّ حال، والشّعاع الّذي استقى من النّور الأصيل وروى نفوساً عطشى إلى الجمال والحقّ.  لا يمكن أن تكون عاشقاً لله وتمرّ مرور الكرام على هذه الأرض. الله حبّ، والارتباط به تمسُّك بالحبّ حتّى الرّمق الأخير، والتّفاعل معه ينضح عطراً. فكلّما مرّ عاشق بالإنسانيّة اخترق شذاه أنفاسها.
" شمس"، الدّرويش النّقيّ، صاحب البصيرة النّيّرة، أدرك أنّ البحث عن الله يكمن في معرفة الذّات أوّلاً. فالذّات هي سكنى الله، والارتحال إليها غوص في الأعماق حيث التّفاعل بين المحبّ والمحبوب الإلهيّ. " إنّ الطّريق إلى الحقيقة يمرّ من القلب لا من الرّأس فاجعل قلبك لا عقلك دليلك الرّئيسي. واجه، تحدّ وتغلّب في نهاية المطاف على النّفس بقلبك. إنّ معرفتك بنفسك ستقودك إلى معرفة الله". ( القاعدة الثّانية). وأيقن " شمس" أنّ معرفة الله تذهب إلى إيقاظ الجمال الإنساني الّذي على صورة الله. وفي مسيرته الحياتيّة، نراه يتعاطى مع النّاس بمحبّة واحترام لأنّه يرى فيهم صورة الله. لقد حاكى إنسانيّتهم وبلسم جراحها، واستفزّ الجمال الكامن فيها.  وعرف " شمس" أنّنا على اختلاف أجناسنا وانتماءاتنا وعقائدنا، نبقى متساوين أمام المحبّة الإلهيّة.
جال " شمس" في كلّ الطّرق وعرف الكثير من الصّعوبات، وتعرّف على أشخاص من كلّ لون وجنس وعرق. وقد شكّل له هذا التّرحال خبرة عقليّة وروحيّة، حقّق من خلالها ارتباطاً مع العلو والعمق. إلّا أنّ رحلته الحقيقيّة كانت في أعماق ذاته حيث تجتمع الإنسانيّة كلّها. " لا يوجد فرق كبير بين الشرق والغرب، والجنوب والشمال. فمهما كانت وجهتك، يجب أن تجعل الرّحلة الّتي تقوم بها رحلة في داخلك، فإذا سافرت في داخلك، فسيكون بإمكانك اجتياز العالم الشاسع وما وراءه." ( القاعدة العاشرة).
قد توحي شخصيّته بالفظاظة، بيد أنّه أشبه بماء عذب يعكس أعماقه بشفافيّة وأمانة وثقة. ما منحه أن ينقل حبّ الله إلى كثيرين، ويدلّهم عليه ويحثّهم على البحث عنه.  أثّر شمس في " أ. ز. زاهارا "، ونقله من حالة الموت الإنساني إلى حالة الحياة السّائرة نحو الله. وسنرى " أ. ز. زاهارا "، عاشقاً متجوّلاً في هذا العالم، لغته الحبّ والحبّ فقط.
قد يعتبر البعض ممّن ينتقدون الصّوفية والصّوفيين، أنّ أؤلئك مجانين أو مدّعين أو هراطقة. وأيّاً كانت الآراء أو الادّعاءات، إلّا أنّ الصّوفيّة حالة عشق حاضرة في كلّ إنسان يتوق إلى العشق الإلهي. وينتج عن هذا التّوق إدراك ووعي إنسانيّ، يخلص إلى أنّ الحبّ فعل إلهي لا إنسانيّ، فيكرَّس القلب للكائن الأسمى ليتمكّن من أن يحبّ بقلب إله لا بقلب إنسان. وها هو " شمس التّبريزي"، وإن اختلفت الآراء حوله، وأحبّه البعض وأبغضه آخرون، يعشق بقلب الإله لا بقلبه الضّيّق الأفق.
هذا العشق البديع، حوّل " الرّومي"، العالم الجليل والخطيب البليغ، إلى شاعر مغمور بالعشق. وبدّل حياة " أ. ز. زاهارا "، وسنراه ينادي " إيلا"، للنّهوض من ثبات الخمول العميق، والانطلاق نحو الحياة. واستفزّ " وردة الصّحراء"، المسمّاة بعاهرة، لتخلع رداء ذاتها وتلبس ثوب العشق وتثابر في البحث عن الله. كما حرّك قلب التّلميذ وقاد عقله للغوص إلى ما بعد الحرف كي لا تقتله الماديّة والسّطور المغلقة. وترك المتعصّبين وفرّيسيّي العقل والقلب على حافة الطّريق المؤدّي إلى الهلاك. سيلمس " شمس" كلّ من صادفه في الطّريق وسيسرق قلوب البعض، ويشكّل خطراً على البعض الآخر، إلّا أنّ أنهار العشق تجري أبداً ولا يمكن لأحد أن يعترضها.

- جلال الدّين الرّومي:
" لا تَكُن بلا حُبّ، كي لا تشعُر بأنَّكَ ميّت. مُت في الحُبّ، وابقَ حيًاً للأبد".
                                                                      - جلال الدّين الرّومي.
أنت شاعر، إذن أنت  ذاك الّذي انفتح على نور العشق وسمح له أن يتسرّب إلى عمق أعماقه. وتجربة "جلال الدّين الرّومي"، العالم البارع في الفقه وغيره من العلوم الإسلاميّة، تؤكّد أنّ الإنسان مهما بلغ في ذاته من أهمّيّة فكريّة وعلميّة، لا تكتمل إنسانيّته إلّا بالعشق. وسيمسي معنى الشّعر بالنّسبة له: ما يؤدّيه في غضون ذلك، من رقص ونشيد، حتّى وصول الوجود الأسنى الّذي يعشقه: انسيال دمع، هبة من العين، كي يتملّى خلالها انحلال المشهد." (3).
ونلاحظ جليّاً أن العشق الإلهيّ المكتفي بذاته، وإذ يفيض على الإنسان، يفترض فيضاً ممائلاُ على الآخر. بمعنى آخر، لا بدّ من رفيق درب، يبادل الإنسان عشقاً مماثلاً ، متطلّعيْن معاً نحو البنيان الإنساني العشقي، كي لا يختنق هذا العشق ويفنى.  وسنشهد في علاقة " شمس والرّومي" رتبة العشق الأرفع من الحبّ. لعلّ الحبّ مرحلة، أو درب يسير عليها المحبّين راجين الاكتمال بالعشق. فالحبّ، كما يقول الدّكتور يوسف زيدان: " الحبّ متوحّد بأحواله ولا حكم فيه لمحبّ على محبوب. أمّا العشق فجوهره الإشتراك والإشتباك والإنهماك وذوبان العاشق بالمعشوق حتى تنعدم بينهما الأنا." ومذ ارتبط " الرّومي" بشمس التّبريزي"، تماهى الاثنان بعلاقة عجيبة خلصت بهما إلى انعدام الأنا، وتجلّي الحالة العشقيّة.
 ذلك الّذي يغمر حَرَمي السّرّي
الّذي ابتنيته، من يحرمني النّومَ،
من يسحبني ويلقيني أرضاً،
طيفه هو النّشوة الّتي انطق بها. ( جلال الدّين الرّومي) (4)
وبموت " شمس"، أو بمعنى أصحّ، بانتقال " شمس التّبريزي"،  تالّم " الرّومي" وحزن، تعبيراً عن حالة انسلاخ عن الذّات عند " الرّومي".

- إيلّا وعزيز":
" إيلّا"، السّيّدة المنتظمة في حياتها والمهتمّة بعائلتها على أكمل وجه، تعاني من أزمة سنّ الأربعين، تتّجه بها نحو إعادة قراءة الماضي على ضوء الحاضر. وما تلبث أن تقف لا تحرّك ساكناً أمام فقدان التّوهّج والألق في حياتها الزّوجيّة، والشّعور بالفراغ ينخر عمق اعماقها.
تأخذ الحقبة الأربعينيّة مداها عند النّساء اللّواتي لم يبنينَ مشروع حياة. فيقفن وكأنّهنّ عند مفترق طرق، لا يعلمن الآتي، مكتفين بما حقّقن في السّنوات الماضية. خاصّة إذا كنّا نتحدّث عن نساء في مجتمعات منغلقة، ترتكز حياتهنّ على الزّواج وتربية الأولاد فقط.
تقرأ " إيّلا" رواية " الكفر الحلو" وتراسل مؤلّفها عزيز ( " أ. ز. زاهارا "). وتنشأ بينهما علاقة حبّ تلقائيّة دون مشاهدة، تستمدّ غناها من العشق الإلهي. تضع هذه العلاقة العجيبة " إيّلا" أمام مرآة ذاتها لتعيد النّظر في كلّ تفصيل في حياتها، ثمّ تترك كلّ شيء وترحل.  سيبدو للقارئ ربّما، أنّ " إيلّا" تصرّفت بأنانيّة، حين تركت بيتها وأولادها وزوجها. وقد ينتقد البعض سلوكها، إلّا أنّ رحيل " إيلّا" ليس سوى ارتحال عن الذّات إلى الذّات على ضوء العشق. وبغضّ النّظر عن حقّها أو عدمه في إثبات الأنا وتحقيق حرّيّتها، تمتلكنا الدّهشة أمام علاقة عشقيّة بين شخصين لم يعرفا بعضهما البعض إلّا من خلال رسائل متبادلة. وتتجلّى أمامنا حالة عشقيّة عجيبة، تبيّن لنا أنّ الكيان الإنسانيّ ليس اللّحم والدّم وحسب، وإنّما كيان يلتقي بآخر إنسانيّاً فتمتزج الأرواح وتتّحد في عشق انسكب من خارج الكون وتفاعل مع العشق الكامن في الإنسان.
على الرّغم من أنّ الكاتبة وضعت علاقة " شمس والرّومي" بموازاة مع علاقة " إيّلا وعزيز"، لكن يبدو أنّها، أي الكاتبة، لم تمنح ذات الحجم العشقي لكلتا الحالتين. وبدت علاقة " شمس والرّومي" أكثر تألّقاً وغنىً، في حين أنّ علاقة " إيلّا وعزيز" بانت وكأنّها أقرب إلى التّقليديّة. فلم نعاين نفس التّماهي وذات العشق، وإنّما قرأنا عن رجل وامرأة أحبّا بعضهما البعض. وقد نجنح إلى القول إنّ "إيلّا"، هربت من واقعها باتّجاه واقع آخر بحثاً عن ذاتها الضّائعة.
            
- " يصبح الكون مختلفاً عندما تعشق النّار الماء."
في البدء كان العشق، ومن قلبه خلق الإنسان، أي من محبّته الّتي تفوق كلّ محبّة. إنّه الجمال الأعظم الّذي يرغبه كلّ إنسان، القوّة المحيية والمبدّلة للكيان الإنساني. إنّه الله الّذي مهما اختلفت تسمياته، ومهما تعدّدت وجهات النّظر في تحديده. أكان اسمه الله، أو يهوه، أو أدوناي، أو إيلوهيم، أو إيل،... إنّه العشق، الحقيقة المتجلّية لكلّ الأجيال، والكلمة الفاعلة في عمق اعماقهم. وإذا كان لا بدّ من بحث عن الله، فليكن بالارتحال نحو الدّاخل الإنساني، والغوص في أعمق مكان فيه، حيث يمّحي الحسّ والإدراك ولا يبقى إلّا عبق الحبّ الإلهي. نستنشقه فنحيا ونحيي كثيرين، نمتلكه فنغتني ونغني الجميع، نحيا به ونستحيل كتلة حبّ تنتقل في هذا العالم لنحوّل مسار التّاريخ بأنفاسه، ونجدّد وجه الأرض بروحه. نرقص " سما"(5)، كلّ بطريقته، ونرفع قلوبنا إلى السّماء، موطن العشق الإلهي، ونرنو إلى الإنسانيّة، وندور في فَلكه حتّى نصل إلى الكمال.  وإذا أردنا أن نرى الله فلا بدّ لنا أن نحبّه، لأنّه من السّهل أن نعبد الله دون أن نراه، لكنّه من الصّعب أن نحبّه دون أن نراه.
عندما تعشق النّار الماء، يقترب الكون من حالة التّحوّل إلى الاكتمال، وتزهر الإنسانيّة في سماء جديدة وأرض جديدة. وما تفلّت الغضب والحقد والظّلم إلّا ابتعاد عن النّهايات، على عكس ما يظنّ كثيرون.  فالنّهايات ليست نهايات، بل هي ولادة العشق المكتمل في قلب العاشق الأسمى، الله.   
  
------------
(1) قواعد العشق الأربعون ( رواية عن جلال الدّين الرّومي)/ إليف شافاق
(2) البجعة السّوداء- نسيم طالب- ص 27.
(3)- (4) رباعيّات جلال الدّين الرّومي- ترجمة لديوان
 , by Jhon Moyne- 1989 Quatrains of Rumi  - ص 6- 10

(5) " سما": أي رقصة الدّراويش، ابتكرها " جلال الدّين الرّومي" و " شمس التّبريزي".

نور الحقيقة وسرّ الاتّحاد


مادونا عسكر/ لبنان

قراءة في نصّ للشّاعر التّونسي يوسف الهمامي

 - النّص:
أنا - أنت
نحن ساقيتان تلتقيان معاً
بين حقول الشّمس والحلم
قبل نهاية العالم برجفة واحدة..


 - القراءة:
تشبه هذه الشّذرة إلى حد بعيد لوحة الرّسام النّمساوي غوستاف كليمت - "القبلة"- من حيث المضمون المعبّر عن الاتّحاد العشقي الكيانيّ (أنا- أنت) الذي يحافظ على تفرد المتّحِدّيْن. فالاتّحاد لا يعني ذوبان الواحد في الآخر بل المعنى الأوضح والأجلّ للاتّحاد يكمن في انصهار الشّخصيْن مع ملازمة كلّ منهما لدوره وإشراقته. 
النّصّ/ الشّذرة لوحة تقول معنىً منبعثاً من حالة شعريّة، تولّد فيها الحرف في داخل الشّاعر ليمنح للصّمت شكلاً شعريّاً. وكأنّي به يجسّد الكلمة، فتمسي مرئيّة للعين، عذبة للسّمع، وقادرة على محاكاة الحواسّ من خلال الجسد الّذي مُنح لها. بالمقابل، اللّوحة قصيدة صامتة تُتلى على مسمع العين ثمّ تتسرّب إلى العمق الإنساني لتحرّك فيه كلّ معاني الجمال.
بالحديث عن تجسّد الكلمة نجد هذه العمليّة الإبداعيّة في نصّ الشّاعر يوسف الهمامي كما في لوحة كليمت. وبالتّالي فنحن أمام شذرة تجسّد الكلمة في لوحة ولوحة تجسّد الكلمة في نصّ. وبين اللّوحة والنّصّ/ الشّذرة علاقة حميمة من حيث المضمون والشّكل. وإذا أمكن استخدام (أنا- أنت) كعنوان لنصّ الشّاعر، فالعنوان (القبلة) للوحة كليمت يتقارب من معنى الانصهار والاتّحاد العشقيّ.
كما أنّ عبارة (أنا- أنت) تحمل في عمقها الإنسانيّ حقيقة الوحدويّة الكونيّة الّتي تتّخذ بعداً أعمق من الاتّحاد الجسديّ. بالعودة إلى لوحة كليمت يظهر لنا الاتّحاد الجسديّ كمبدأ أوّل بحيث يظهر لنا واقعيّاً الأنوثة الغارقة في الحلم والاحتواء. إلّا أنّ كليمت استفاد من الألوان والخطوط والزّخرفات ليُظهر جليّاً الوحدويّة بين الشّخصيْن، محافظاً على تفرّد كلّ منهما. وفي لوحة الشّاعر الهمامي نذهب إلى عمق أبعد، وحالة استثنائيّة تخلق حركة ديناميكيّة في الاتّحاد العشقيّ. ما نفهمه من جملة (نحن ساقيتان تلتقيان معاً.)
حافظ الهمامي على تفرّد الأنا والأنت من خلال الضّمير (نحن)، الّذي يعزّز الفرادة والاتّحاد في آن. فيتجلّى للقارئ الاتّحاد الفكري والرّوحي من جهة، وأهميّة السّعي لبلوغ اللقاء من جهة أخرى. السّاقية في حالة جريان مستمرّ لا يحدّه حدود، وبالتّالي فالسّاقيتان السّاعيتان إلى اللّقاء تمتزجان لتتوحّدا في جريان واحد. (تلتقيان معاً.)
ولمّا كان اللّقاء قد تمّ بين حقول الشّمس والحلم، تشكّل الوجود الحركيّ الديناميكيّ الّذي سيروي حقول النّور (الشّمس) والوحي الملهم (الحلم). وجودٌ حاضر أمام نور الحقيقة والوحي الشّعريّ يغوص في سرّ الاتّحاد بالمعنى القدسي لكلمة (سرّ) وليس بمعنى حدود يقف عندها الطّرفين المتّحديْن. فالسّرّ حقيقة تمّ اكتشافها وتلمّسها، وبالتّالي فالخطوة التّالية هي الولوج فيها كحياة لا تخمد فيها الحركة، ولا يضمحلّ فيها العيش. الحقيقة/ النّور حياة معيشة، غذاؤها الوحي، أي انسكاب النّور في داخل الاتّحاد العشقيّ.
في لوحة كليمت يظهر اتّحاد العاشقين في وحدة يتجلّى فيها الالتحام الكيانيّ، إلا أنّ كليمت حافظ على إبراز الوجهين المتماهيين واليدين المتعانقتين، معبّراً عن تكامل داخل الوحدة الكينونيّة. بالمقابل أظهر الشّاعر يوسف الهمامي اتّحاد الأنا.. أنت، مع الحفاظ على الوجهيْن المتماهييْن (ساقيتان)، واليديْن المتعانقتيْن (تلتقيان). وأعرب عن اتّحاد دائم أبديّ يهيم بين حقول الشّمس والحلم. ما خلق تمايزاً بين الشّذرة واللّوحة. وإن بدا لنا في لوحة كليمت لقاء حميميّاً اتّحاديّاً أغرق الحواسّ في مفهوم واحد للانصهار، إلّا أنّ الشّذرة حلّقت بنا في سماوات عالية حيث الأبد اللّا محدود.
تمّ اللقاء عند الشّاعر قبل نهاية العالم برجفة، ما يجعلنا نتعرّف إلى اللّحظة (الرّجفة) الّتي يحياها هذا اللّقاء كحركة كونيّة لا تلتفت إلى أمس أو غد، وإنّما حاضر أبديّ في كنف النّور. وبريشة الوحي صاغ الكلمات الموحى بها، وخلق لوحة تخلد بمضمونها الدّلاليّ. فالكلام الموحى به كما الوحي نور لا يخمد عبقه ولا يتلاشى تأثيره.


نستولوجيا الحنين المتشعّب في الألم بين ماض مندثر وحاضر منخور بالضّلال.


قراءة في قصيدة "أسئلة اللّغة الحرام" للشّاعر التّونسي السّيّد السّالك.
مادونا عسكر/ لبنان
أوّلاً: النّصّ:
أسئلة اللّغة الحرام


عاد أبي من صولة الحقل بديدا
عاد أبي من ضيعة الحلم عديدا
لا عين لدمعته
لا جبين للعرق المكابر مذ نعى
جرحا عنيدا
عاد للوهم المقدّس هاهنا
يسّاءل
عن جارة سكنت صداه
عن جار رتقت مداه
عن بدويّة ضلّت طرائقها
يعلم كلّ موضعا.. إلاه
اليمام الرّاحل يمضي إلى شغف
فهل يجيب سواه؟
لغة المسافر حجريّة في بدئها
والطّلل المخبّأ في المراسم
يدرك من مرّ قبل الرّحيل
ومن ضاع قبل المجيء
ومن ..
وأنت
تعود مع المجيء وفي الوصول تغيب
تجيء عنك صبابة وافتراض
هات يديك أدسّ فيها صحائفي
هات يديك
زمن الحصاد حاصره الخريف الطّويل
والغيمة تسرف في المضيّ إلى الشّرف الجديد
هات يديك
هذا جنوبك من جنوبه مفرغ
والجبين يضيء شمسك إن تهاوت ...
قل لغربتها أقيمي
وسجّلي من يخطّ على الرؤى
أسماءها الحسنى
بم تعود لقبر أمّك
ما البكاء وما الورود وما العويل؟
ضجّت معاجمك الأولى بالتّردّد والتّردّي
كأنّما الخيبة عشبة الأرض الولود
زنجيّة
لا شوق هدهدها
ولا زائر يطرق بابها ليلة العيد
لا باب لغرفتها
لا باب لغربتها
من أين يأتي الصّرير؟
والبدويّة السّمراء ما سبيل تربتها؟
هو يساءل دائما
وأنا أعرف دربها
قبل وصولي بصبوة
قبل اغترابي بحسرة
قبل..
قبل اقترافي خطيئة الشّعر
والآن نسيت
أو نسي السّبيل
نسيت فراستي وضراعتي
نسيت ذاكرتي
وعدت للقبائل أمردا
عند بوابة القيروان الأخرى
أو عند مشارف الدّمشقي
أو عند حدائق بابل الّتي ما علقت
وقفت مرتين
واحدة وكنت أعرفني
وواحدة لا أذكر حتّى تفاصيلي
جلست..
لأقرأ سورة الشّعراء
بكيت
أنا أفعل ما أقول
أنا افعل ما أقول
أنا المقاتل والقتيل
أنا العليل
أنا الرّسول
ها صحفي
اقرؤوا ما تيسّر من مواويلي
خذوا مراكبكم
لا أحتاج ناقلة
قادرون على الحياة بأرضنا
قادرون على الفناء بأرضنا
قادرون..
علّمنا الغراب كيف نواري سوءتنا
للغة الحرام رحيل الملح في شفتي
للغة الحرام عهرها والبيان
للغة الحرام أنوثتها المستباحة
والذّنب الجليل
لنا في النّزيف ما نحتاج  لرسمنا
سجّل على لوحك المختوم اسم أبي
وخارطة الحزن
وسجّل أنّني السّفر وأنّ راحلتي
إن ضاقت بها السّبل
تأتي معاجمها
خبرني الرّعاة
للغة الحرام بعض مفاتن..
علّمتني
أدركت مفاتـني
وأبي
يرحل في الأمس ويأتي مفردا
أين آنك يا أبي والبدويّة الّتي خبأتها
بين الرّحلتين؟
أين الطّل من طللي؟
اثنان نمضي
من سلافة الحلم نقتص لخادمة
خبّأت الرّغيف في لفّ جبّتها لنأكل
أكلنا من تراثها ما استطعنا
والتهمت قطة الحيّ صغارها السّبع
ثم جثت على خارطة المبكى
ربما سألتها جارتـنا عن جريمتها
ربما دارت فيها جارتنا أسرار فاجعة
ما عدت أذكر
ما عدت أسأل
يكفيني أستمع
ما الفصاحة؟ ما أقول؟
هنا لا شيء على البيان يقوم
اللّيل والصّبح البهيم
أهيم..
بأرض دجلة؟
لا..
يكفيها غربتها
ويكفي الأرضَ سوادُ حلتها يُقيم
من غربتي أدركت غربتها
يا كيف أمر بالصّمت إلى لغتي
لألعن
ما ضاق فيها عن الكلام
لألعن..
ما ضاع منها في الزّحام
وما صار منها من الرّخام إلى الرّخام
وألعن أقلامي وما كتبت
خطت سوادا
ويؤلمني أنّي ذرفت ملامحي وملاحمي
ليت الحبر يدركها ويدركني
وأبي من السّؤال إلى السّؤال
والبدوية الثكلى على آنية الفجر واجمة
من الوريد إلى الوريد
متى سيأتي البريد بالرّسائل كلّها؟
ربما يقضي أبي
ربما تضيع الرّسائل كلّها
أو نموت
ولا يجيء البريد.

ثانياً: القراءة
اقترنت قصيدة الشّاعر السّيّد السّالك بالحنين إلى الماضي، ما يعرف بالنستولوجيا الّتي ترافق الفرد والجماعة، وهي أشبه بشريط تقذفه الذّاكرة بين الحين والآخر يتعزّز من خلاله الاشتياق والتلهّف إلى عودة التّاريخ بكل ما يحمل من عزّة وإباء، وثقافات وشرائع، وما احتوى من مدوّنات أدبيّة وموسيقيّة وشعريّة شكّلت ركائز لثقافات الشّرق والعالم. يستدعي الشّاعر هذا الماضي كجزء من سجلّ حياته، وقد يتخيّله حلماً بهيّاً بفعل الصّور المتجذّرة في الذّاكرة  الّتي تعبّر عن حياة مزدهرة وراقية. ويرتبط هذا الحنين بظروف الفقد للحياة الآمنة، والثّقافة الحيويّة، وخاصّة خطر فقدان هويّة الكينونة الإنسانيّة بمعنى ضياعها وسط أحداث ترهق الكيان الإنساني، فيتعذّر عليه قبول الواقع ومعالجته. كما أنّه لا يرى أيّة ملامح للمستقبل يمكنها أن تمنحه بعضاً من الأمل. فيقف عند حدود الواقع يستدعي الماضي، يعتمره الألم والحزن والوجع.
- إشارات الفقد:
يظهر لنا الشّاعر في افتتاحيّة القصيدة واقع الألم والماضي الجميل في آن معاً، فتتشكّل ملامح الصّورة الّتي يحنّ إليها الشّاعر، ونستدلّ على الخيوط الأولى الّتي حيكت بها القصيدة. كما نتلمّس حزن الشّاعر المنطبع في عمقها والمتجلّي بين السّطور بقوّة حتّى نكاد نسمع التّنهّدات وانقطاع الأنفاس من شدّة الألم.
(عاد أبي من صولة الحقل بديدا
عاد أبي من ضيعة الحلم عديدا)
تكشف لنا كلمة (أبي) ارتباط الشّاعر الوثيق بالتّاريخ الممتدّ من الأجداد والّذي يشكّل الذّكرى المفعمة بالقوّة والنّفوذ (صولة الحقل). إلّأ أنّ هذا التّعلّق واقعيّاً مشبع بالحلم والانهزاميّة (بديدا/ عديدا). وما اصطلاح العودة إلّا إشارة إلى التقهقر بفعل فقدان ذلك الزّمن المحمّل بالقوّة والنّفوذ. عاد التّاريخ مشرذماً، يبحث عن واقع يؤسّس عليه مستقبلاً يليق بما سبق فلا يقابل إلّا جماعات متفرّقة متناحرة لا تصلح لبناء المستقبل.
فقد التّاريخ/ الماضي قدرته الفاعلة على الواقع وتجرّد من صلابته وعناده بفعل الواقع، وارتسم في المخيّلة الفرديّة والجماعيّة، بل من شدّة الحنين إليه تحوّل إلى نقمة تعود إليها الذّاكرة وتتّكئ عليها هروباً من الواقع الأليم.
(لا عين لدمعته
لا جبين للعرق المكابر مذ نعى
جرحا عنيدا
عاد للوهم المقدّس هاهنا).
قد تقودنا عبارة (الوهم المقدّس) إلى اتّجاهين، الأوّل حنين يجنح إلى الاشتياق الجارف المرَضيّ إلى الماضي كتعريف لمصطلح نستولوجيا، حدّ تجسديه وهميّاً في الواقع، فتتشرذم النّفس بين الماضي والحاضر. والخطر هنا ليس في الهيام بالماضي بل في ما يصفه المفكّر المغربي عبدالكريم الخطيبي في كتابه "المغرب العربي وقضايا الحداثة" بـ " ذاكرة تحاول أن تحيا في الكآبة من نفي الحاضر. ذاكرة تحبس الإنسان في حنين دائم إلى زمن ميت... وهي من جهة ثانية تعيش الحاضر كما لو كان حلماً وكابوساً".
وأمّا الاتّجاه الثّاني فقد يجنح إلى الواقع الدّيني الّذي تستغلّ بعض الجماعات نصوصه في سبيل تحقيق المآرب السّياسيّة، وتسطو على الماضي والحاضر والمستقبل في آن.  ويخلق هذا الواقع ارتباكاً ويهدّد الهويّة بالاندثار أو بإعادة تموضعها بشكل لا يتناسب والحضارة السّالفة، أو يسهم في امّحائها.
- النّستولوجيا بين الحالة الطّبيعيّة والحالة المرضيّة:
النّستولوجيا حالة حنين طبيعيّة وهي في صميم الذّات الإنسانيّة لكنّها ما تلبث أن تتحوّل إلى حالة مرضيّة حين تصبح معطّلة لطاقات الإنسان وغير محفّزة للاندفاع إلى الأمام من خلال الماضي الّذي لا تنكره ولا تتنكّر له.
وتأتي المصطلحات (سكنت صداه/ رتقت مداه/ ضلّت طرائقها) في هذا السّياق أي في تعطيل القدرة الإنسانيّة المحفّزة واستبعاد الأمل والدّخول في دائرة العجز. فننتقل من النّستولوجيا كحالة طبيعيّة يمتاز بها الإنسان إلى حالة وقوف أمام أسئلة شتّى ولا من مجيب.
ويتجلّى السّؤال هنا كمرادف للنّستولوجيا الّتي ستزداد جرعاتها في القصيدة وتخلق كمّا من الأسئلة المراد الإجابة عنها أو الهرب منها إليها بطرحها. وقد تدخل هذه الأسئلة في إطار العجز نظراً  للتّناقضات الذّاتيّة والموضوعيّة الّتي يعاني منها النستولوجيّون.  (يسّاءل/ عن جارة سكنت صداه/ عن جار رتقت مداه/ عن بدويّة ضلّت طرائقها)، (اليمام الرّاحل يمضي إلى شغف/ فهل يجيب سواه؟)، (بم تعود لقبر أمّك/ ما البكاء وما الورود وما العويل؟)، (زنجيّة.. لا شوق هدهدها/ ولا زائر يطرق بابها ليلة العيد/ لا باب لغرفتها/ لا باب لغربتها/ من أين يأتي الصّرير؟)، (والبدويّة السّمراء ما سبيل تربتها؟)، (أين آنك يا أبي والبدويّة الّتي خبأتها/ بين الرّحلتين؟)(أين الطّل من طللي؟)، (ما الفصاحة؟ ما أقول؟)، (متى سيأتي البريد بالرّسائل كلّها؟). كلّها أسئلة برسم الإجابة في واقع لا يبعث الارتياح والأمان، ولا يولّد في الذّات الإنسانيّة الأمل. ويشير (اليمام الرّاحل إلى شغف) إلى البحث عن الماضي والارتماء في أحضانه كحالة ذهنيّة لاستشراق غد مأمول من عصر ذهبيّ مضى. كما يقودنا تكثيف الأسئلة إلى اللّغة الحرام كرمزيّة لعدم توفّر الإجابة. وكأنّي بالسّؤال أصبح ملتبساً، محظوراً، محرّماً. وأمام هذه الحالة ينتقل الشّاعر إلى وصف الواقع بأنفاس أليمة متقطّعة معبّراً من خلالها عن اللّغة العاجزة:
(لغة المسافر حجريّة في بدئها
والطّلل المخبّأ في المراسم
يدرك من مرّ قبل الرّحيل
ومن ضاع قبل المجيء
ومن..).
لغة البعد والارتحال، تستبين في البدء جامدة مجرّدة من الإحساس، وما تلبث أن تستحيل إلى لغة عميقة بفعل التّيه والألم والحنين إلى الأرض والجذور. وعلى الرغم من عقمها تحاكي وجع المرتحلين جسديّاً وروحيّاً، والمشرّدين... ونلاحظ وكأنّ الشّاعر توقّف عن الاسترسال برهة (ومن..) ليتأمّل ويستعيد أنفاسه مرّة أخرى ويكمل سرد حنينه (وأنت/ تعود مع المجيء وفي الوصول تغيب/ تجيء عنك صبابة وافتراض). ولعلّ المخاطَب هو المخاطِبُ ذاته، أي الشّاعر. يحاكي ذاته حاضراً في الواقع غائباً عنه، وكأنّي به يهرب منه.
- انحسار الحلم:
إن بدا الشّاعر في بداية القصيدة مشبعاً بالحلم فها هو في هذه الأبيات يقترب من الواقع الحاضر ويغرق في مزيد من الحنين والألم محاكياً الشّاعر السّاكن فيه:
(هات يديك أدسّ فيها صحائفي
هات يديك                  
زمن الحصاد حاصره الخريف الطّويل
والغيمة تسرف في المضيّ إلى الشّرف الجديد)
 زمن الحصاد المحاصر بالخريف هو زمن الغربة عن الذّات في حالة من البحث عن غلال الزّرع القديم، زرْع التّاريخ المجيد، والماضي العريق. ذلك الزّرع الدّينيّ والثّقافيّ والحضاريّ الّتي ترمز إليه الصّحائف، لم ينبت في الحاضر ولم تزهر الأمجاد الغابرة سوى حنين إليها ومزيد من الاغتراب عن الماضي بفعل واقعيّة الحاضر.
(هذا جنوبك من جنوبه مفرغ
والجبين يضيء شمسك إن تهاوت ...
قل لغربتها أقيمي
وسجّلي من يخطّ على الرؤى
أسماءها الحسنى)
وهنا ينحسر الحلم ويغلب الاستذكار ويتحوّل التّاريخ إلى مجرّد مدوّنات تقذفها الّذاكرة وتذكرها النّفس كأنّها خارجة عن هذا العالم. (بم تعود لقبر أمّك/ ما البكاء وما الورود وما العويل؟). وكلّ وسائل الانتحاب لا تعيد لحظات الأمس، ولا ترجع مجدها.
ينحسر الحلم في الخيبة المرادفة للعجز والانهزام (كأنّما الخيبة عشبة الأرض الولود)، والمترافقة والألم المسيطر على ذات الشّاعر وهو في حالة من التّساؤل الدّائم. ويبدو أنّ الإجابات ترتسم في وعيه الدّاخليّ ويحاول الهرب منها لشدّة قسوتها:
(هو يساءل دائما
وأنا أعرف دربها
قبل وصولي بصبوة
قبل اغترابي بحسرة
قبل..
قبل اقترافي خطيئة الشّعر)
بين الشّاعر والأنا حوار واعٍ رغم النّستولوجيا المسيطرة، إلّا أنّ الهروب من الوعي إلى اللّاوعي هو بمثابة هروب من الواقع الّذي تتجلّى فيه سمات الوجع والحزن (والآن نسيت). إذا كان "النّسيان شكلاً من أشكال الحرّيّة" كما يقول جبران خليل جبران، فهو في القصيدة شكل من أشكال الفرار التّحرّريّ من الحقيقة الواقعة الملتبسة (نسيت ذاكرتي). وهو فرار لأنّ الأنا عند الشّاعر اغتربت عن ذاتها، وتحرّرّية لأنّه لجأ إلى عالم الجمال، عالم الشّعر (وقفت مرتين/ واحدة وكنت أعرفني/ وواحدة لا أذكر حتّى تفاصيلي/ جلست..لأقرأ سورة الشّعراء).
يرمز الجلوس إلى اللّغة التّعليميّة، ويبدو لنا وكأنّ هذه اللّغة عقيمة أيضاً لأنّها تعود به إلى الماضي ولا تؤثّر في الحاضر، وقد لا تنتج في المستقبل. ما استدعى بكاءه لأنّ اللّغة لم تعد فاعلة مؤثّرة، فالواقع أقوى من الذّاكرة وأقسى من التّجربة التّاريخيّة. (بكيت/ أنا أفعل ما أقول/ أنا أفعل ما أقول). وإذ تتكرّر هذه العبارة مرّتين فلتؤكّد مضيّ الشّاعر بحنينه، وارتمائه بالماضي. (للغة الحرام رحيل الملح في شفتي/ للغة الحرام عهرها والبيان/ للغة الحرام أنوثتها المستباحة/ والذّنب الجليل). وكأنّي به يقف على الأطلال يرثي مباهج أبيه/ التّاريخ (أين آنك يا أبي والبدويّة الّتي خبأتها/ بين الرّحلتين؟/ أين الطّل من طللي؟). بيد أنّ اللّغة تزداد عقماً وعجزاً وتندثر معانيها، ويستحكم الخيال المناقض للحقيقة كجرعة تهدّئ أنين الشّاعر (اثنان نمضي/ من سلافة الحلم نقتص لخادمة/ خبّأت الرّغيف في لفّ جبّتها لنأكل).
- عجز اللّغة:
عندما تأخذ النّستولوجيا مداها ويتملّك الحنين من الشّاعر يتوقّف عن الكلام ويلج عالم الصّمت، ويبقى السّؤال الصّامت بليغ المعاني أسير الحنين والألم. أمام الغربة القاتلة، واستفحال السّواد، ورهبة الحزن، لم يعد للّغة من مكان أو معنى. فالمعاني متشابهة والأحداث متشابهة والكلّ غارق في الأسى.
(يكفيني أستمع
ما الفصاحة؟ ما أقول؟
هنا لا شيء على البيان يقوم
اللّيل والصّبح البهيم)
ستمرّ الأحداث وهو يستمع ولا يقوى على التّغيير وسيبقى السّؤال محور النّستولوجيا، والحيرة رهن الواقع العاجز، والحسرة رهينة الّذاكرة. يتساءل الشّاعر ثمّ يصمت ويترك القصيدة مفتوحة على الألم والحنين والوجد واللّهفة إلى الماضي. يتّحد بألم عسير إرضاؤه، ويسأل عن زمن لن يعود، بل أغلق أبوابه وارتحل إلى عوالم النّسيان.
(وأبي من السّؤال إلى السّؤال
والبدوية الثكلى على آنية الفجر واجمة
من الوريد إلى الوريد
متى سيأتي البريد بالرّسائل كلّها؟
ربما يقضي أبي
ربما تضيع الرّسائل كلّها
أو نموت

ولا يجيء البريد.)