الأحد، 28 مايو 2017

الرُّؤيا الشّعريّة والعودة إلى العدم المحرَّر/ قراءة في قصيدة للشّاعر الفلسطيني الدّكتور إبراهيم أبو هشهش

مادونا عسكر/ لبنان


- أوّلاً: النّصّ
 لا أُحبُّ الذّهاب إلى الموت يوم الأحدْ
لا أحبّ الذّهاب
لو أتيتَ معي
لَمَضَيْنا إلى النّهرِ..
ثم انتظرنا هنالكَ..
حيثُ يسيلُ الأبدْ
وحيثُ النّساءُ يجرّرْنَ خيباتِهنّ الطّويلةَ كالظّلْ
وحيثُ الضّبابُ يجيءُ من الغربِ
حيثُ السّديمْ
وحيثُ من الغابةِ الجبليّةِ يأتي العُواءُ العظيمْ
لو أتيتَ معي
لرأيتَ المدينةَ تجري إلى مُسْتَقرٍ لها
والجبالَ تعودُ إلى أمّها
والمدى يَضْمَحِلْ
والفراغَ يُطأْطِئُ فوق التّلالِ..
ويُطرِقُ كالصّلْ
لو أتيت معي
 لو أتيت.
ابراهيم  هشهش- فرايبورغ 1987
مُطْرِقٌ ينفثُ سُمّاً مثلما  أطْرَقَ أفعىً ينفثُ السمَّ صِلُّ (الشنفرى)

-  ثانياً: القراءة
في لحظة تجلٍّ شعريّ نادرة لا يدركها إلّا الشّعراء، يقبض الشّاعر الدّكتور إبراهيم أبو هشهش على لحظات انكشاف لما قبل التّكوين. ومن العسير المضيّ في هذا النّص الشّعريّ دون تلمّس الإبداع الرؤيويّ وفهم الإشارات والدّلائل الّتي بُنيَ عليها النّصّ الّذي يعبّر عن حالة رؤيويّة خاصّة.
بُنيَ هذا النّصّ الشّعريّ على اتّجاهين متناقضين، الحياة والموت. ولئن كان النّص حالة رؤيويّة امتزج الموت بالحياة في مكان ما من النّص ثم تفرّقا أو فرّقهما الشّاعر عمداً، لتتجلّى الرّؤيا كاملة. (لا أُحبُّ الذّهاب إلى الموت يوم الأحدْ)
اختلطت قدسيّة يوم الأحد بالموت. الأحد/ يوم الرّبّ- القيامة، مزجه الشّاعر  بالموت إذا ما ارتبط بعدم حضور الآخر (لا أحبّ الذّهاب/ لو أتيتَ معي...). فالأحد، وعلى الرّغم ممّا يمثّل من قدسيّة الحياة الجديدة، إلّا أنّه يعتمد بحسب الشّاعر على حضور يبعث الحياة الأولى الكائنة ما قبل الوجود، أو الحاضرة في إشارات ما قبل التّكوين. تكمن قدسيّة الأحد في المقلب الآخر، في دائرة الانتظار ليرتسم الشّوق إلى لحظة الأبد.
لا يمسك الشّاعر بالرّؤيا تماماً، أم إنّها ليست قائمة بالفعل لأنّه بامتناع الحضور تبقى الرُّؤْيَا قائمة بالقوّة حتّى يُجاز الحضور فتمسي رؤيا بالفعل. لكنّ الامتناع عن الحضور متعلّق كذلك بالموت، أو بالحالة الانتظاريّة للنّهوض من الموت، والانطلاق منه بطريقة عكسيّة.
(لو أتيتَ معي
لَمَضَيْنا إلى النّهرِ..
ثم انتظرْنا هنالكَ..)

ستكوّن الحالة الانتظاريّة ملامح الرّؤيا لتتيح للقارئ التأمّل في العودة مع الشّاعر تدريجيّاً من الوجود إلى الحياة الحقيقيّة/ العالم السّماويّ، أو "العدم المحرّر"، كما يسمّيه أنسي الحاج، "مكان تُسمع فيه الرّوح أكثر". وبالتّالي فالشّاعر يمضي عكس النّظام الكونيّ، ساعياً للدّخول في قلب الرّؤيا حتّى يتحرّر. فينتفي الموت (لا أحبّ)، وتمسي إمكانيّة الحضور (لو أتيت) استحالة غياب (ثم انتظرْنا هنالكَ..).
تتشكّل الحالة الانتظاريّة عكسيّاً، وتفتح آفاقاً على الأبد الّذي يسيل، أي الّذي لا يحجزه ولا يردعه شيء. وبطبيعة الحال تكمن الحياة في الأبد، لأنّه ليس جماداً، وإنّما حركة ديناميكيّة فاعلة (حيثُ يسيلُ الأبدْ). وما السّيلان إلّا دلالة على هذه  الحركيّة الّتي لا تتوقّف ولا يعقبها الموت. وإنّما هي حركة مستديمة أبديّة دلّ عليها النّهر كرمز للخصب وتدفّق الحياة.
تتحدّد النّزعة الرّؤيويّة أكثر حينما يُدخل الشّاعر عنصر الضّباب الآتي من الغرب/ البحر، ليعلن عن غموض الرّؤيا أو سرّها بالمعنى القدسيّ لكلمة سرّ، الدّاعي للاكتشاف والتّأمّل. (وحيثُ الضّبابُ يجيءُ من الغربِ). أو بمعنى آخر ممكن، اجتذاب الأبد للكون ليعيده إلى مكانته الأولى ما قبل اللحظة التّكوينيّة. قد يشير السّديم إلى هذا الأمر، إلّا أنّه ممّا لا ريب فيه أنّ الشّاعر حرص على إبراز العناصر الكونيّة (النّهر/ الضّباب/ السّديم) لتعزيز الفكرة الأساسيّة المتجليّة بالرّؤية الماضية من الموت إلى الحياة. وإذا أشارت عبارة (الغابة الجبليّة) إلى حضور القوّة الخالقة فسيتداخل هذا العنصر مع النّهر كدلالة على  تدفّق الحياة والضّباب كدلالة على السّرّ ليشير إلى حضور القوّة الخالقة الّتي تعلن بداية النّهاية (العواء العظيم).
ينتقل الشّاعر من الرّؤيا بالقوّة إلى الرّؤيا بالفعل ويعتمد تناصاً مع النّص القرآنيّ (سورة ياسين/ 36) "وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ"، فتنكشف الرّؤيا أكثر ويدخل الشّاعر في تفاصيلها ويتدرّج بالانفصال عن الزّمان والمكان. ويحدّد الفعل (رأيت) معاينة لحظات العودة إلى خواتم الوجود، بل ولادتها الجديدة. (لرأيتَ المدينةَ تجري إلى مُسْتَقرٍ لها). هي نقطة اللّاعودة إلى ما قبل (ليكن.. فكان)، إلى العدم المحرّر. ويمسك الشّاعر باللّحظة الفاصلة بين الخلق والعدم (والفراغَ يُطأْطِئُ فوق التّلالِ..). وستعبّر الملاحظة الختمايّة "مُطْرِقٌ ينفثُ سُمّاً مثلما  أطْرَقَ أفعىً ينفثُ السمَّ صِلُّ" (الشنفرى) عن شركة مع السّطر الأوّل من القصيدة (لا أُحبُّ الذّهاب إلى الموت يوم الأحدْ) لتعبّر عن عدم الّذهاب إلى الموت بدل عدم الرّغبة في الذّهاب. فالشّاعر الّذي يرجو حضور الآخر الّذي يخاطبه في القصيدة، والّذي سيحضر. لأنّ هذا الآخر هو الشّاعر نفسه الّذي يطرق مستعدّاً لمجد القيامة.


بهذا النّصّ يدخل الشّاعر عالماً حافلاً بالإشارات السّيميائيّة، الّتي تجعل النّصّ نصّاً مكثّفاً مكتنزاً بالمعنى، يدفع شاعره نحو المزيد وليس التّوقّف عن الفعل الشّعري المختلف والحقيقيّ، فكيف لمثل هذا الجمال أن يصمت؟

السبت، 6 مايو 2017

كان ما سيكون


مادونا عسكر/ لبنان



-١-
ماذا سنكون بعد؟
تحفر الدّهور رسوماتها في كفّكَ
أمضي
ولا أرى
أتكلّم
ولا قول عندي
ماذا سنكون بعد؟
لن نكون
لن نرى
لن نقول...
أطبق كفّكَ
تتسرّب الرّؤى إلى ما كان
غمر عشق
شاءَ
فكان ما سيكون....


-٢-
انتظار شريد وردةٍ
أفسِح لي مكاناً عن يمينكَ
وارخِ على أهدابكَ دمعتي
أغصان الكونِ
بين يديكَ
تنحني لها الرّيحُ
إذا ما عبرت خلسةً
أمام ناظريْكَ
أين منّي لحظة شتاتٍ
تروي مقاعد فارغة في رحاب السّماء
أين منكَ كلمةً
أشعلت انتظاري
فأحيت وردة غافية في ظلّ انتظاركَ


-٣-
صادقٌ هو الخوف
يُنبئ بانحناءاتٍ
من زمن التّكوين الأوّل
من روحانيّة الانبعاثات...
برهة وقتٍ
تتفلّتْ
أعِد ليَ زماناً
قادني إليكَ حبّاً
تمرّسَ بالخوف
والوقت
أرِح عينيكَ في منازلَ
شيّدَها الهواء
لمّا طاف في الأرض تعِباً
خٌذِ الوقت والخوف
وامنح برْديَ لهفة شمعةٍ
صمتتْ فاتّقدَتْ



الأربعاء، 19 أبريل 2017

جدليّة الصّراع بين القشور الدّينية والجوهر الإيمانيّ/ قراءة في رواية "جيل آخر (أولاد النّصرانيّة)" للأديب المغربي أحمد شطيبي

مادونا عسكر/ لبنان


"الظّلام لا يمكنه أن يبدّد الظّلام، الضّوء وحده يمكنه ذلك. والكراهية لا يمكنها أن تبدّد الكراهية، فالحبّ وحده يمكنه ذلك." (مارتن لوثر كنج)
في حركة مفعمة بالحبّ والسّلام  قد تجنح إلى المثاليّة أحياناً  أو الرّجاء بتحقيق الانفتاح والتّسامح بين الأديان. يحاول الكاتب أحمد شطيبي معالجة موضوع الاختلاف الدّينيّ والعمق العلائقيّ بين الأديان ومدى تأثير هذا الاختلاف  في التّركيبة النّفسيّة الإنسانيّة، من حيث عدم تقبّله  والتّعامل معه كغنىً اجتماعيّ وثقافيّ وحضاريّ.
يحدّد الكاتب إطار الرّواية في مناخ متعصّب متقوقع على ذاته، ينبذ الآخر المختلف عنه حتّى أنّه يعتبره مسكوناً بروح الشّرّ. فيتمّ استبعاده ونبذه بل اعتباره عاراً على الوجود الإنسانيّ. يقابل هذا المناخ نسل امرأة أوروبيّة تزوّجت عدّة مرّات وأنجبت أولاداً من زيجاتها المتعدّدة ليرى السّارد نفسه بين أخ مسيحيّ، تاجر أسلحة ترتبط مصالحه بالحروب والتّحريض على الفتن. وأخت يهوديّة، ربّانة طائرة حربيّة في الجيش الإسرائيليّ، بعيدة عن الجوّ الديّنيّ لكنّها مخلصة لعملها. وأخ أصوليّ اختبر الجهاد في العراق وأفغانستان. فيكون هذا النّسل نقلاً واقعيّاً لعالم تتصارع فيه الحضارات بشتّى انتماءاتها، وعقائدها. وتمثّل المرأة رحم الأرض الّذي تجتمع فيه البشريّة على مختلف أطيافها وألوانها وتشترك معاً بالبنوّة على هذه الأرض والأخوّة البدهيّة، كون كلّ إنسان منها وإليها يعود.
لا ريب أنّ الكاتب يحاول في هذه الرّواية أن يسلّط الضّوء على العنصريّة الدّينيّة من جهة، ومن جهة أخرى يطرح معالجة هذه القضيّة القديمة الجديدة من خلال الحوار ومحاولة إنشاء قنوات إنسانيّة فكريّة بين الإنسان وأخيه الإنسان بمعزل عن الانتماء الدّينيّ. لكنّ الأهمّ هو تلك الملاحظات والتّساؤلات الّتي يطرحها السّارد في قلق فكريّ ونفسيّ، يطال بها فكر القارئ ويستفزّ إنسانيّته ليضعها أمام منطق إنسانيّ يعالج مفهوم الانتماء الدّينيّ انطلاقاً من وعي إيمانيّ يميّز بين العبادة العمياء، والعبادة القلبيّة.
"لكن ترى لماذا لقّبوا "دادا كبورة" بالنّصرانيّة؟ هل هذا يعني أنّها كافرة وستعذّب وتحرق في النّار كما قال لنا الفقيه عبد السّلام: إنّ النّصارى واليهود سيعذّبون ويدخلون جهنم؟ لقد حيّرني الأمر كيف يعقل أن امرأة طيّبة مسالمة ومحترمة، كدادا كبورة، ستذهب إلى جهنّم مع اليهود والنّصارى!؟ وجدّتي بكلّ وقاحتها وسوء معاملتها حتّى للحيوانات، ستذهب إلى الجنّة!" (ص10)
هذا التّساؤل الّذي أقلق السّارد وهو ما زال في المراحل الابتدائيّة يعبّر عن انفتاح قلبيّ على المعرفة الإيمانيّة ولا أقول العقائديّة. فالمقارنة هنا تمّت بناء على معطيات سلوكيّة إنسانيّة وليس عقائديّة. وبالتّالي فهو تساؤل إيمانيّ قلبيّ يرتكز على وعيٍ منطقيّ يجنح إلى إدراك المحبّة الكونيّة. ما أراد الكاتب أن يوصله للقارئ بطريقة  من الطّرق ليحرّكه من الدّاخل ويوقظ فيه الحسّ الإنسانيّ الّذي يعزّز في داخله الإيمان بدل العبادات الاعتباطيّة.
حرص الكاتب على إظهار قسوة الواقع الّذي ينزاح إلى تدمير النّفس بل انتهاك الكرامة الإنسانيّة نتيجة التّعصّب الدّينيّ الّذي يظهر الآخر كمخلوق غير إنسانيّ. ولعلّ هذه الصّورة أشدّ فاعليّة من العظات أو الخطابات الّتي تدعو إلى التّآخي والتّسامح في مواسم محدّدة. هذه الصّورة درس بحدّ ذاته.
"أخبرتني "دادا كبورة" أنّها زوجة عمي، وقد تولّت تربيتي منذ أن عاد بي أبي إلى القرية. وأنّ أمّي الحقيقيّة هي النّصرانية. وأنّ جدّتي تكرهني لأنّها تعتقد أنّي أحمل في جسمي دم النّصارى، والشّيطان لا يفارقني ويحلّ معي حيثما حللت. لذلك تمنعني من دخول المنزل والاقتراب من أخي "محمد" خوفاً عليه من المسّ الشّيطانيّ."(ص13)
بالمقابل يسلّط الكاتب الضّوء على الجهل الّذي يلحق بالمتعصّب ظنّاً منه أنّه يحمل الحقيقة التّامّة بمعزل عن الآخر.
"أمّا أستاذ اللّغة العربيّة "سي مبارك" رجل طيّب يعشق كرة القدم، ويعاملنا كأبنائه، ولطالما كان يحذّرني من مصاحبة الأستاذ روبير لأنّه نصرانيّ، وقد يؤثّر فيّ بأفكاره المسيحيّة. لقد كان "سي مبارك" رجلاً وطنيّاً مخلصاً يحاول قصارى جهده شحن أدمغتنا الصّغيرة بأفكاره الوطنيّة وكراهيّته للغرب الاستعماريّ، حيث يرجع كلّ أسباب تخلّفنا عن ركب التّاريخ إلى المؤامرة غير المفهومة الّتي يدبّرها لنا الغرب، من خلال اختراعه لوسائل وأدوات تساعده على ذلك. فقد كان "سي مبارك" يعتقد جازماً ويحاول إقناعنا أنّ الغرب اخترع الرّاديو والتّلفزيون خصّيصاً لإلهاء العرب والمسلمين عن التّفكير في الاستقلال والعمل والاجتهاد. ولمّا كان يطيل الحديث في هذا الموضوع، كنا نتحين الفرصة ونقحم كرة القدم، فينسى"سي مبارك" الموضوع ويتماهى مع حبّه لكرة القدم وينغمس في الحديث عن الكرة، وعدم نزاهة حكام المقابلات، وأنواع الخطط الكرويّة،... فنستريح ونستمتع". (ص 33)
يفصّل الكاتب في روايته نقاطاً تستدعي التّوقّف عندها، من شأنها أن تحاكي العقلانيّة والحكمة في الإنسان لينتزع من داخله أحكامه المسبقة تجاه الآخر. كحثّه على اختبار العلاقة الإنسانيّة مع الآخر بمعزل عن الدّين مع المحافظة على القيمة الدّينيّة الخاصّة بكلّ إنسان. فالأصوليّ المخدَّر بالأفكار الجاهزة الّتي حفظها من مرشديه ومعلّميه لم يختبر حقيقة الآخر المختلف عنه إلّا من خلال ما حشوا رأسه به. "فقد كان أخي محمّد يعتقد أنّ اليهود والنّصارى كفّار، لا يؤمنون بالله، ويأتون الفاحشة جهاراً، ويتآمرون على الإسلام. وها هو قد اكتشف أنّ إخوتي طيّبون وودودون، يؤمنون بالله، ولا علاقة لهم بصراع الأديان. (ص 73). وربّانة الطّائرة الحربيّة اليهوديّة، لا ريب أنّها تنشّأت على أنّ الآخر مخلوق غير إنسانيّ فأتى حكمها موروثاً كعقيدتها لا حكماً اختباريّاً. "أختي "تسيبي" بجدّيّتها الصّارمة، ومنطقها العلميّ، تعترف أنّها تيقّنت أن الإيديولوجيا تصنع أفكاراً معكوسة ومناقضة للحقيقة الموضوعيّة. فقد كانت تعتقد أنّ العرب مجرّد أشباح لا يفكّرون، ومستعدّون للموت، كما كانت تراهم من الفضاء حينما تحلّق بطائرتها الحربيّة. وأنّهم متّسخون ونتنون وقبيحو الوجوه، كما تشكّلت صورهم في ذهنها من خلال أوصافهم في الكتب المدرسيّة الّتي درست فيها خلال المرحلة الابتدائيّة والثانوية." (ص 73)
الاختبار العلائقيّ وحده يؤكّد للإنسان فعاليّة الآخر، وإدراك معاني الإنسانيّة المشتركة بين البشر تبدّد ظلاميّة الصّراعات والنّزاعات الّتي يدفع ثمنها الّذين يتشبّثون بالقشور الدّينيّة لا بالجوهر الإيمانيّ

"هل يعقل أنّ الله علّم آدم الأسماء ولم يعلّمه الأفعال؟ / هل العقل هبة ملغومة لتفريق البشر؟..." (ص 77). تساؤل برسم القارئ، ينتظر إجابة شخصيّة تعتمد على التّجربة الواقعيّة، ملتزمة بالإيمان بالإنسان أوّلاً كقيمة مقدّسة، وباللّه المحبّة  المتفاعل مع حرّيّة مثله: "الإنسان"

الجمعة، 7 أبريل 2017

الوعي الموجع في استبصار التّيه/ قراءة في قصيدة "عابر الشّرق السّريع" للشّاعر التّونسي نزار مجاهد


مادونا عسكر/ لبنان


أوّلاً- النّص:

عابر الشّرق السّريع.
/ د. نزار المجاهد


- 1 -


أشفّ من ألقي... فينضح قلقي...


أرنق .....
في زجاج الرّوح...أحترق.
أشعّ على دم المصباح
كالشّفق المعتّق ....في سماء الصّيف ...
كالبلّور ..
أندلق ...


وأمتلئ احمرارا
على قفا تفاحة شاميّة ...
ربعي لأحمرها ...
والرّبع للزّيتون في قرطاجة
والرّبع للرّمّان في غرناطة
والرّبع في سهل البقاع.


قوس القصيدة
ينحني
......كالرّيح
..............تعتصر
.....................الشّعاع.


-2-


تخباني السّطور بمقلتيها..
..تكحّل بصري...
تشدّ أجنحتي
لكي لا تشرد الأرباع في
الملكوت .


....للزّيتون أنباء هنا
و للرّمّان ذاكرة هناك
و للتّفاح شوق إلى خدّيه ..
في بيروت .


لماذا حينما تصحو الشّعوب
تجيء من ماض إلى ماض؟
لماذا حينما تنسى .....
......تموت؟.


...وترمّم الأرباع تاريخ المياه...
"مجردة" يصبّ على "الفرات"
و"دجلة" يحدوه "نيل "....
والبحيرات استدارت حولها
قصص اللّواتي
قد تنازعن الغسيل.
ليت لي عنق النخيل لكي أرى ...
ليت لي صبر النّخيل.


😚
..أمشي ...
فتشتبك مع ظلّي خطايا.
أكتب ما تخباه المرايا...
عن تفاصيل الفراشات الصّغيرة..
عن حماقات الصّبايا ..
عن تضاريس الهجير
على خدود الأرض ...
......عنّي...
أعتلي البرج العتيد.
أرى ...ما لا يرى...قبلي وبعدي...
ولا رأى أحد سوايا .
دعابة التّاريخ أوقات.
فوقت للّذي انتصر
ووقت للّذي خسر
ووقت للّذي فرّ
ووقت للّذي كرّ
ووقت للّتي نسيت على خدّي أناملها ....
لتنسيني...هوامشها...
ووقت للشّعوب لتستمر.


والوقت توق.
والتوق شرق.
والشّرق طوق للهموم وللجياع.
إنّي أحنّ إلى ثمارك...
انت .....يا......... أنثى الغلال …
وياسمين الشّوق
.....مأدبة التوحّد...
واندماج اللّبّ في الأرباع...
...يا ....شبق الغلال.


..... وأنت....
يا شبهي....متى....
متى...تهبّ من لفح؟
ومن قحط ؟
ومن عطش؟
ومن ملح؟
....متى...؟
متى ستبعث من أحفورة الطّين....
.....
.....
......وذاكرة الرّمال.

ثانياً- القراءة:
منذ السّطر الأوّل يعبّر الشّاعر عن استنارة داخليّة تمهّد لكشف حقيقةٍ ما، أدركها في داخله، نتيجة تأمّل وقراءات للأحداث المتتالية والمؤلمة لواقع  يعايشه. (أشفّ من ألقي... فينضح قلقي...). يعود إلى الدّاخل لفهم الخارج  بشكل أفضل بنظرة تأمّليّة تفصّل هذه الأحداث وتعبّر عن حزن وقلق يجتاحان ضمير الشّاعر الوجداني.
وإذا كان الشّعر عالم الحرّيّة، فلا بدّ من أن يحرّك في قلب الشّاعر التّوق إلى الحرّيّة بمفهومها القيميّ، ولا بدّ من أن تتصارع في داخله معرفيّة المبادئ المتعلّقة بها، وتتجاذب الأحاسيس وتولّد في عمقه مشاعر الألم إذا ما واجه واقعاً انتُزعت منه الحرّيّة عنوةً تحت شعار الحرّيّة ذاتها.
أرنق .....
في زجاج الرّوح...أحترق.
أشعّ على دم المصباح
كالشّفق المعتّق ....في سماء الصّيف ...
كالبلّور ..
أندلق ...
ولا ريب أنّ السّطور المتتالية ستبيّن معالم قصيدة سياسيّة يطلق من خلالها الشّاعر صرخة تعبّر عن حالة فيها الكثير من الأحاسيس المرتبطة بالانهزاميّة. لكنّها تطرح في ذات الوقت أسئلة عدّة تستفزّ القارئ وترجعه إلى داخله كما الشّاعر، ليتشارك وإيّاه هذه التّساؤلات.
بعيداً عن التّصنيفات، حيث يصعب التّصنيف في الشّعر، لأنّ الشّعر هو الشّعر وحسب، ولأنّ الشّعر هو غير السّياسة.  وقد يشكّل التّصنيف عائقاً أمام انطلاق روح الشّاعر. كما أنّ الشّاعر ليس بصدد كتابة تحليل سياسيّ، وإنّما يطلق صرخة وجع، ويعبّر عن همّ إنسانيّ إزاء واقع مرير، ليكتشف المتلقّي انغماس الشّاعر في الواقع وابتعاده عنه في آن، ليلقي نظرة شاملة من جهة، إلى تاريخ مضى، ساحب ظلّه إلى الحاضر ليغذّيه، فتلتبس ملامح المستقبل. ومن جهة أخرى، يضع نصب أعين القارئ واقعه المتأزّم ليستشفّ بنفسه حجم المأساة.
وكي لا تستحيل القصيدة مقالاً سياسيّاً، أو خطاباً يُنزل الشّعر من رتبته الأصيلة، فلا يتوجّه مباشرة إلى القارئ، ليعلن عن مواقف سياسيّة، بل يصبّ فكره السّياسيّ في قوالب فنّيّة لا تلغي جماليّات الشّعر، ويخلق معجمه الشّعريّ الخاص ليكشف عن رؤيته. وبالتّالي فالقارئ الذّكيّ يستشفّ مواقف الشّاعر من خلال النّصّ وما اعتمد عليه من معجم شعريّ. فلا ينزلق إلى شرح الشّعر، فينفي عنه جماليّة الرّمز، والغنى المعرفيّ.
ولعلّ الشاعر قد وقع في مثل هذا الفخ، حينما توضّحت معاني المقطع الأولّ والثّاني من القصيدة في المقطع الثّالث من القسم الأوّل:
قوس القصيدة
ينحني
......كالرّيح
..............تعتصر
.....................الشّعاع.
فالمقطع الّذي سبق كشف عن تشرذم الشّاعر الدّاخليّ وأوضح بشكل أو بآخر ما يرنو إلى التّعبير عنه، فرسم صورة تعيد القارئ إلى تاريخه، فربط بين الشّام وغرناطة  لما بينهما من تاريخ مجد مشترك، لكنّه يحيل كذلك إلى انهزاميّة العرب المشتركة؛ حيث تسليم غرناطة العربيّة كآخر ما سقط من الممالك، فاستحال المجد خنوعا واستسلاما. وها هو الحاضر يشي بمثل ذلك الماضي الّذي كان.
هذه الثيمة تتكرر كذلك عند الحديث عن مجد تونس التّاريخيّ في قرطاج ومجد لبنان في سهل البقاع، فثمّة حاضر مليء بالقتامة والدم والتّشرذم:
وأمتلئ احمرارا
على قفا تفاحة شاميّة ...
ربعي لأحمرها ...
والرّبع للزّيتون في قرطاجة
والرّبع للرّمّان في غرناطة
والرّبع في سهل البقاع.
ويحاول الشّاعر أن يدخل إلى عمق التّكوين الطّبيعي للمدن العربيّة المعاصرة ومدينة غَرناطة الموصوفة بالبعد (هناك)، لكنّه استحضرها هنا بنغمة حزن طافحة في موسيقى النّصّ، فتآلف الزّيتون في تونس مع الرّمّان في غرناطة مع التّفاح في بيروت، وكلّها تحدّث أخبار تلك المدن المصابة:
....للزّيتون أنباء هنا
و للرّمّان ذاكرة هناك
و للتّفاح شوق إلى خدّيه ..
في بيروت .
ثمّة مفارقات عدّة بُنيت عليها القصيدة، أهمّها إشكاليّة استحضار التّاريخ وقراءته أو تقديسه وكيفيّة الاستفادة منه. في ظلّ واقع عربيّ يتغّذى على الأمجاد أكثر ممّا يتعلّم منها. فتستولي عليه ذكريات مجيدة دون أن يبحث في ثغرات وصلت به إلى حال مأساويّ. فيكرّر التّاريخ بمآسيه ومحنه، ولا يسعى إلى استعادة المجد. فإذا ما استذكر الماضي انغمس فيه وانفصل عن الواقع، وإذا ما نسيه فنى نفسه وأعاد سلسلة الأحداث الانهزاميّة:
لماذا حينما تصحو الشّعوب
تجيء من ماض إلى ماض؟
لماذا حينما تنسى .....
......تموت؟
والشّاعر يدرك تمام الإدراك تلك الخيوط المتشابكة، والتّفاصيل الّتي أدّت إلى ما هو عليه الواقع العربيّ. ولعلّه يرى من الواقع ما لا يُرى، أي أنّه يكشف عمّا خلف الكواليس، ليكون الواقع مغايراً لما هو مسكوت عنه ومحجوب عن الأنظار. وبالتّالي فالواقع شيء وما أتى بهذا الواقع شيء آخر.
..أمشي ...
فتشتبك مع ظلّي خطايا.
أكتب ما تخبّئه المرايا...
عن تفاصيل الفراشات الصّغيرة..
عن حماقات الصّبايا ..
عن تضاريس الهجير
على خدود الأرض ...
......عنّي...
أعتلي البرج العتيد.
أرى ...ما لا يرى...قبلي وبعدي...
ولا رأى أحد سوايا.
وهنا يقتفي الشّاعر آثار غربته عن هذا الواقع وانفصاله عنه (أرى ...ما لا يرى...قبلي وبعدي.../  ولا رأى أحد سوايا) فإذ يرى ما سبق يعبّر عن رؤيته لما سيأتي. غير أنّه وحده يرى عمق التّفاصيل، وتيه المستقبل. ما يكشف لنا عن وعي موجع عند الشّاعر، يعرّف من خلاله أنّ التّاريخ مجرّد حقبات، أفضل ما تعلّمه أنّها لا تعلّم شيئاً:
دعابة التّاريخ أوقات.
فوقت للّذي انتصر
ووقت للّذي خسر
ووقت للّذي فرّ
ووقت للّذي كرّ
ووقت للّتي نسيت على خدّي أناملها ....
لتنسيني...هوامشها...
ووقت للشّعوب لتستمر
ولتبلغ القصيدة هدفها كرسالة توقظ في القارئ ضميره النّائم في أحضان التّيه والاستسلام والتّجاذبات السّياسيّة يتوجّه إليه الشّاعر بطريقة غير مباشرة ليتساءل عن ميعاد انتفاضة الوعي لدى الشّعوب العربيّة، ونهوضها من الحالة التّخديريّة الّتي جعلت منها شاءت أم أبت أداة لرسم شرق أوسط جديد الّذي دلّت عليه القصيدة:
..... وأنت....
يا شبهي....متى....
متى...تهبّ من لفح؟
ومن قحط؟
ومن عطش؟
ومن ملح؟
....متى...؟
متى ستبعث من أحفورة الطّين....
.....
.....
......وذاكرة الرّمال.

لعلّ هذه الخاتمة المفتوحة على قلق التّيه والدّخول إلى مستقبل مجهول جعلها خاتمة محمّلة بالأسئلة، أسئلة تهزّ الوعي المصاب بالتّخدير بأمجاد ماضٍ كان يوما ما مجيداً، ليكون القارئ أمام تحدٍ ذاتيٍّ وجماعيّ ليحدّد "متى سيبعث من أحفورة الطّين" فيشهد حاضرا ومستقبلا زاهرا كما كان الماضي المجيد، لكن دون إعادته أو استحضاره كما هو، وهنا لا بد من استبصار الوعيّ المحرّك للقوّة الدّافعة بعزم وثبات للتّخلص من وجع السّيطرة الماضويّة وتكثيف حاضر مؤلم والخروج من تيه المستقبل الذي لا يرحم.