الأحد، 13 مايو 2018

عشقٌ مُترعٌ بالخيالات




مادونا عسكر/ لبنان
(1)
فلنمضِ إلى الوعر المزهرِ
هناك
يغنّي الشّقاء الّذي أحببنا
ارتماء الوجود في حضن قيثارة
يخفي آثارنا صمت الحجر
يخنق أنفاسنا موعد بلا لقاء
فنتقدّس...
(2)
توحّدت فينا صورة الإله
خلاصة الجنون العاقل المتوشّح الحكمة
وقلبي أمام وجهك
باب مشرّع على نبضات قصيدة لم تولد بعد
وقلبك الماثل أمام روح السّماء
مثقل بالرّؤى المحتجبة في أسفار لم يكتشفها أحد.
تكتبُ الحبّ للّحظة المحتوية صغار العصافير
يكتبك الأزرق الشّفيف للأبرار المتلألئين في راحة العشق
جمالاً جارحاً
تحدّث به الأرواح الظّامئة إلى الموت المترع بخيالات الحياة.
(3)
أنا- أنتَ
ويمضي الدّهر إلى ما كانَ قبل أن يكون
تجالسُ بريق البدايات المنعزلة
عن ذاكرة
قد
تحيا
أو
تموت
أنت- أنا
وتجثم المناجاة في رغيف أخضر
أنازع الجوع في ليل الأشواق
يأخذني النّوم
إلى جبل ناحت على كتفه الشّمس
قبل أن ينجبنا ضمير الإله.
(4)
هل يصفح الورد للعطر بوحهُ
أم
يهذي كلّما مرّت بخاطره فتنة نبيّ
انتزع  الشّعر من كونٍ
يستر عريه بأحزان الموت الثّاني؟
غيمة تعبر إلى فوق
يستكين  البوح في عطش الخفقِ
يكتم السّحر في سماء وحفنة نجوم.
يصمت السّرّ
فتعرف أنّك في قلبي
تحيا ألوهيّة  العشق.

الاثنين، 9 أبريل 2018

اتّحاد البصريّ والذّهنيّ في تجسيد الجمال الإنسانيّ / قراءة في لوحة "القبلة" لغوستاف كليمت



مادونا عسكر/ لبنان
اللّوحات قصائد صامتة يتلوها المبدع على أعين الباحثين عن الحبّ والخير والجمال. ولا شكّ أنّه، أي الرّسّام، يجسّد في لوحاته الجمال فينقله من عالم التّجرّد إلى العالم المحسوس، لترتشفه الحواس وتنصهر به.  وإذا قال نيتشه إنّ أسمى أنواع الجمال هو ذلك الذي يتسلّل إلينا ببطء فنحملهُ معنا ونحن لا نكاد نشعر به. فلوحة الرّسّام النّمساويّ غوستاف كليمت "القبلة" جمال يتجسّد في الرّاني إليها فيحمله في داخله ويغتسل به كلّما لوّث القبح الأعماق.
قد تكون القبلة محور اللّوحة إلّا أنّ هذه القبلة عنوان للاتّحاد التّام بين الرّجل والمرأة، العاشقين الملتحمين حبّاً وعشقاً. وهي قبلة مقدّسة دلّت عليها وضعيّة الرّجل والمرأة معاً. كما رمزت إليها الحركة الهادئة بين العاشق والمعشوقة. وهي مقدّسة لأنّها تصوّر اتّحاداً روحيّاً لا جسديّاً وحسب، ويظهر ذلك من خلال تفاصيل الجسدين الغائبة نسبيّاً، إلّا ممّا يدلّ على تمايز الشّخصيّتين حتّى لا يبدوَ الاتّحاد الرّوحيّ كذوبان الواحد في الآخر، فتمّحي شخصيّة الواحد دون الآخر.
يقبّل العاشق حبيبته على خدّها فتحملنا هذه الحركة إلى صورة من صور العشق الكامل في سفر نشيد الأناشيد (2:5): "أنا نائمة وقلبي مستيقظ، صوت حبيبي قارعاً افتحي لي يا أختي يا حبيبتي يا حمامتي يا كاملتي لأنّ رأسي امتلأ من الطّلّ وقصصي من ندى اللّيل". في نشيد الأناشيد يحاكي العاشق محبوبته مع أنّه يمنحها كينونة الأخت. ما يدلّ على قداسة العلاقة وعمقها الضّارب في الوجدان العشقيّ السّماويّ. وفي اللّوحة ما يشبه هذه الصّورة، من ناحية أنّ المرأة مغمضة العينين هائمة في صوت المحبوب الّذي يصغي له قلبها. ومن ناحية أخرى، تتماهى قدسيّة القبلة والحالة العشقيّة بمعزل عن الجسد. ذاك لا يعني التّفلّت من الجسد، بل يعني الالتحام الكيانيّ الّذي يحيط بعلاقة الرّجل بالمرأة كيانيّاً لا جسديّاً وحسب. بمعنى أصحّ، هو اتّحاد بين "المرأة" و"الرّجل"، لا بين الأنثى والذّكر.
 وإذا كانت القبلة رمزاً للانصهار الرّوحيّ بحيث يلتقي العاشقان في كيان واحد، وإذا كان الانصهار دلالة على بلوغ ذروة العشق، فتفاصيل اليدين، إن من جهة المرأة أو من جهة الرّجل، دلّت على الاحتواء العشقيّ، العنصر الأساسيّ المؤدّي إلى هذا الاتّحاد.
تظهر يدا الرّجل العاشق ملتفّتين حول وجه المرأة، لتبيّنا احتواءً للحبّ المتجسّد في المرأة ذاتها. ويشكّل تباين المستوى الجسديّ البسيط بينهما حركة عشقيّة أقرب إلى القداسة، فالمرأة راكعة، حافية القدمين، وكأنّي بها في حالة صلاة، وأمّا الرّجل فمستقيم منحنيَ الرّأس كفعل ارتشاف لهذه الصّلاة. ما يشير إلى ذروة الحبّ المترفّع عن كلّ ما يدور من حوله. وتأتي الحركة تفاعليّة بالتّدقيق إلى يد المرأة الملتفّة حول عنق الرّجل لتظهر بدورها أهميّة الاحتواء حتّى لا يختلّ التّوازن بين الشّخصين، فيفقد الاتّحاد معناه الجوهريّ. لا ريب أنّ كليمت استفاد من الألوان والزّركشات ليجسّد هذا الاتّحاد، ويظهره باللّون الذّهبيّ الّذي يبدو طاغياً على اللّوحة، أو جاذباً للنّاظر إليها، حتّى يكون محور اللّوحة الحالة العشقيّة وليس القبلة وحسب.  
يحيط بالعاشقين فراغ تتخلّله أنوار خافتة توحي بالحالة الرّوحيّة المقدّسة. ونلاحظ عن يمين اللّوحة بدءاً يتمثّل بالزّهور كأساس يرتكز عليه العاشقان، لكنّه منفتح على اللّانهاية. فرسم الزّهور ينتهي عند أقدام المرأة ليبقى الفراغ النّيّر محيطاً بهما رامزاً إلى خلود الاتّحاد بين العاشقين.
إنّه وإنّها تلك اللّغة الكائنة في قصائد الشّعراء الّذين رسموا بالكلمات فأسمعوا صوت الألوان في جملهم، وإنّه وإنها تلك اللّوحة اللّونية المترجمة بالخطوط، أليست الكتابة أيضاً لوناً من الألوان ومجموعة من الخطوط على هيئات أخرى، ذهنيّة تستحضر الجمال وتؤطّره في القصيدة وتطلقه في فضاء من الانفعال الجمالي الّذي لا ينضب؟

الثلاثاء، 20 مارس 2018

السّماء...


السّماء...ما السّماء؟
أحشاء "المرأة" الأولى
المباركة بين النّساء
المتجلية في فكر الله قبل إشارة: "كُن"المتماهية مع العالم والمنفصلة عنه
المتّضعة، حتّى إنّ الملائكة انذهلت من صحوة التّراب
المتعالية، حدّ مجاورة خلاص الله الجالسة عند أقدام الرّبّ
المعلّمة الأمّ
الإنسان المضمّخ بطيب الإله
المتصوّفة بالجسد والرّوح
الممجّدة بالعشق الّذي أفاضه روح العليّ
الصّامتة عشقاً لتزهر اللّغة
المتكلّمة حتّى انبهار الصّمت
الواقفة عند الصّليب تحمي بستر جناحيها أجيالاً يعطش إليها الرّبّ.أيّتها السّيّدة الفائقة القداسة
ازرعي في نفوسنا بسمة
لنحصد مواعيد الحياة.إليكِ
تنسّمات الوجد المترامية إلى ما بعد الدّهر
وسنابل خضراء تجثو لك كلّما عصفت النّعمة في الأرض
إليكِ
روح الورد، أيّتها الّتي يهيم بها الجمال.


السبت، 24 فبراير 2018

الارتقاء المطلق في حضرة العشق / قراءة في نصّ للشّاعر التّونسي محمد بن جماعة

مادونا عسكر/ لبنان


- أوّلا النّصّ:

"عندما أخرُّ عاشقًا
أقتفي أثرَ الكون المطلق
من العمر السّريع..
لا أتعجّل النّهايات
حتمًا سيُغلق البابُ.. لا
يبقى إلاّ السقف بلا جدران
لا أرى فيه
سوى زوايا الحبّ القائمة
في رقصة غافية
بفستان غضّ"..!

- ثانياً القراءة:

"في حضرةِ من أهوى
عَبَثت بي الأشواق
حدّقتُ بلا وجهٍ
ورقصتُ بلا ساق" (محمد الفيتوري)


يقتفي الشّاعر محمد بن جماعة في هذا النّصّ الشّعريّ آثار الصّوفيّين الكبار الّذين بلغوا ما بلغوه من مقام عشقي يرتقي بكيانهم إلى ذرى الأعالي الإلهيّة. يتيهون عشقاً في حضرة الحبّ الحقيقة، ينطقونه، ويدخلون دائرته بروحانيّة عالية يطوّعون من خلالها إنسانهم جسداً وروحاً.
يمكن إدراج هذا النّصّ ضمن الأدب الرّؤيويّ (Apocalypse )، فالشّاعر يفتتح النّصّ بما يشبه الانكباب على الأرض والسّجود. لكنّنا هنا أمام حالة أقوى من السّجود، إذا يقول الشّاعر (عندما أخرُّ عاشقًا). قد تعبّر هذه الحالة عن صوفيّة الحالة الّتي وصل إليها الشّاعر، كأنّي بنسمات إلهيّة تجتاح قلبه فيسقط أمام الحقيقة، حقيقة الرّؤيا. وبالتّالي فنحن أمام اختبار عميق للشّاعر أدخله في عمق التّجربة الصّوفيّة. فانبعثت الرّؤيا من داخله واتّخذ عشقه بعداً كونيّاً اتّسم بأبعاد ثلاثة:

- البعد الأوّل: أرضيّ/ سماويّ
يخرّ الشّاعر عاشقاً ليقتفي أثر الكون المطلق. ولا ريب أنّه عنى بالكون المطلق، ما كان قبل الكون وما سيكون بعده. بل عنى أيضاً تحوّله من مادّة إلى حالة. فلسنا أمام نظريّة كونيّة يتأمّلها الشّاعر أو يحاول ولوجها. وإنّما الشّاعر في عمق هذا التّحوّل.
عندما أخرُّ عاشقًا
أقتفي أثرَ الكون المطلق
من العمر السّريع..
العشق سبيل إلى الحقيقة، إلى جوهر الفكر والوجود. وفي حركة خاصّة يمضي الشّاعر إلى كونه، ليأخذ مكانته منه وفيه. ولقد استدلّ الشّاعر على هذا الجوهر الّذي قادته إليه الحالة العشقيّة. وكشف عن سكرة العشق المترقّبة البدايات مع أنّه يتحدّث عن نهايات.
لا أتعجّل النّهايات
حتمًا سيُغلق البابُ...
لكنّها نهايات مفتوحة على الولادة الجديدة. أو لعلّها اللّقاء الحتميّ بالعشق الشّخص. فقلب الشّاعر سيغلق حتماً بمعنى التّسليم للعشق لينفتح على الأسرار الكونيّة.

- البعد الثّاني: سماويّ/ سماويّ
إذا كانت النّهايات مفتوحة على البدايات فلأنّ الشّاعر امتزج بالعشق الّذي أنار عينه الثّالثة ليرى ما لا يُرى. فتنكشف له معالم الكون المطلق (لا يبقى إلاّ السّقف بلا جدران). يشير لفظ (السّقف) إلى الذّروة العشقيّة الّتي بلغها الشّاعر المتفلّت من القيود، والمتحرّر من سجن العالم. فها هو يتطلّع إلى فوق بالمعنى الكيانيّ لا الحسّيّ وحسب. وما لفظ (السّقف) إلّا دلالة على خروج الشّاعر من ذاته وتخطّيها نحو عالم أرحب. عالم مقدّس خرّ الشّاعر ساجداً بل عاشقاً أمامه.
لقد امتزج الشّاعر بالعشق حدّ التّفلّت من نفسه. فأصبح هو، أي العشق، من يحيا به لا الشّاعر حيّ بذاته. ولعلّها اللّحظة الذّروة الّتي يصل إليها المتصوّف. لحظة التّماهي مع العشق حتّى يصير الاثنان واحداً.
لا أرى فيه
سوى زوايا الحبّ القائمة
تعبّر الزّوايا عن استحكام الحبّ بالشّاعر. وهي بمثابة بناء مجازيّ اللّغة، حقيقيّ المعالم، يسكنه الشّاعر ويلتحم به. وإن دلّ الفعل (رأى) على أمر، فهو يدلّ على مكاشفة ومعاينة الحبّ ممجدّاً. فلا يبلّغ معناه الحسّيّ بل الرّؤيويّ، حيث تتلاحم الرّؤيا والشّاعر. فيدور في فلكها، كصوفيّ في غمر التّجلّي. (في رقصة غافية/ بفستان غضّ"..!) وإذا كان الصّوفي في رقصته يصبو إلى بلوغ الحالة العشقيّة. فشاعرنا صوفيّ يدور في عمق الحالة العشقيّة ليبلغ ما بعد العشق.

- البعد الثّالث: الشّعر/ الكون المطلق
ابتنى الشّاعر نصّه في لحظة مكاشفة، فحمل النّصّ تعريفاً لعالم الشّعر الّذي ينتمي إليه الشّاعر. وبين السّجود عشقاً وحركة الرّقص الغافية تجلّت ملامح عالم الشّعر. فالشّاعر لم يرتقِ تدريجيّاً سلّم العشق في النّصّ. وإنّما حلّ النّصّ فيه فجسّده كلاماً. نطقَ الشّعر فتلا الشّاعر مقطوعته العشقيّة في رقصة غافية.


الجمعة، 12 يناير 2018

الغيم الأزرق

مادونا عسكر/لبنان





يحميكَ الغيم الأزرق،
من سقطة الوعي وانفراجات الشّمس الخادعة. من تعابير تتصارع على إيقاد قنديلٍ
حملته إليك يدٌ، تدفئ بعثرة الألم دون أن تلمس حرّيّتك. دون أن تمسّ الأيّام الغابرة.
القناديل خاملة دونَكَ.
البرد ينتظر إيحاء النّار واضطرام الإلهام. في صقيع النّفس مكان للإصغاء. في حزنها نافذة مشرّعة
على جدار العزلة.
في ابتهاجها، باب ضيّق تتهافت إليه عصافير نادرة. تتمرّد على أسرابها. تعانق ما لا يُدركُ.
ما الأعظم؟
الموت أم الحياة؟ أم ما بينهما؟
أم تلك الأنا المتوارية، المنشقّة عن عبثيّة الأسى؟
ما الأعظم؟
صمت يضجّ في داخلك. ينهشُ فتور الأيّام؟ أم كلمة،
تكون فتقول؟
يحميك الغيم الأزرق،
من زوال محتوم.
قد لا تراه  لكنّك تبصره. قد لا تلمس قدم الأيّام في نعومة هيأته. لكنّك تأنس لغمر الجنون.
القناديل الفقيرة
يغويها الدّرب الممتدّ بين يدٍ حانية والظمأ إلى لهيب الاشتعال.
  



الثلاثاء، 2 يناير 2018

للإبداع حكمته الجماليّة

مادونا عسكر/ لبنان



"حينما تصبح مبدعاً، لن ترى بعدها الأمور في العالم كما يراها الأشخاص العاديّون". (الرّوائي بريان مور)


يتضّح لنا من حكمة الرّوائي الإيرلندي براين مور أنّ الإنسان يصير إلى الإبداع، أو لعلّه بمعنى أصحّ ينتقل من مرحلة الإبداع بالقوّة إلى الإبداع بالفعل. فلا شكّ في أنّ بذور الإبداع حاضرة في كلّ شخص. ومرحلة الطّفولة تبرهن عن مشروع إبداع لدى الطّفل من جهة اكتشاف الأشياء، وابتكار بعضها، والتّمرّد على التّقليد وانتهاج طرق مختلفة. لكنّ الإبداع لينتقل من مرحلة القوّة إلى الفعل يحتاج تدريباً وتنمية وتربية واحتراماً للقدرات ليبرز الإبداع كجوهر إنسانيّ. وإذا ما أُهمل الإبداع الإنسانيّ بقي الإنسان عاديّاً، يسلك في هذه الحياة دون أيّ إدراك لقوّة الخلق الكامنة فيه. فالإبداع أشبه بالخلق. قدرة على الإبهار والإدهاش وقدرة على القبض على العقل والرّوح بهدف معاينة الجمال.
الإبداع نعمة خاصّة للإنسان لكن لا بدّ من التّمييز بين الإبداع المؤقّت أو المرحليّ وبين الإبداع الحقيقيّ أي الإبداع الخالد. ذاك الّذي يتخطّى الزّمان والمكان، ويبقى أوّلاً. إنّ الإبداع المرحليّ ومضة آنيّة، تبهر لفترة وجيزة أو طويلة، لكنّه لا يخلد بمجرّد أن يظهر إبداع آخر. وأمّا الإبداع الحقيقيّ، فهو ذاك الّذي وسط إبداعات كثيرة يحافظ على مكانته، بل وكأنّي به يصبح شخصاً، يحلّ أينما كان. لم يترك سقراط كتابات، وجلّ ما نعرفه عنه استقيناه من روايات تلامذته، لكنّه حاضر وبقوّة بفكره وفلسفته منذ قرون. حمل كتاب النّبيّ لجبران خليل جبران سمة الإبداع الخالد. هذا الكتاب الّذي ظهر سنة 1923 نقرأه اليوم وكأنّه معاصر لنا. وكتب فيكتور هوغو رواية البؤساء ليقرأها آخر إنسان في التّاريخ. ورسم ليوناردو دافينتشي الموناليزا لعصور لن يمرّ بها. ونحت مايكل أنجلو تمثال موسى وبثّ فيه الحياة وكأنّي به يحيي النّبي موسى من جديد وإلى الأبد. وإبداعات لا تعدّ ولا تحصى لا يمكن التّطرّق إليها في هذا المقال تفرض ذاتها للأبد دون أن تزاحمها إبداعات أخرى. من هنا يمكن الاستدلال على الإبداع، بحيث أنّه قائم بذاته، يبدأ من حيث تولد الفكرة في المبدع وينتهي باستحالته إلى لغة يتحدّث بها كثيرون.
لا يقتصر الإبداع على إظهار أعمال خارقة، وإنّما يكمن في إظهار الجمال البسيط بمحبّة خارقة. ولا ينحصر بأشخاص محدّدين دون سواهم، بل هو جزء لا يتجزّأ من كلّ إنسان تمكّنه بصيرته من استنطاق الجمال وتجسيده ليحاكي الكون بأسره. فالأمّ التّي تربّي أولاداً من مختلف الأعمار وتنتقل بين المراحل العمريّة تبرهن عن إبداع خاصّ يبقى متجذّراً في قلب الإنسان. أو عامل يبتكر طريقة خاصّة لإتمام عمله يتحوّل إلى خبرة تُمنح لآخرين. الإبداع حالة الذّروة الإنسانيّة في لحظاتها الهائمة بالجمال والغائبة عن الزّمن عن وعيٍ حتّى تتمكّن من تخطّيه.
يقول مكسيم غوركي:"يكمن في كلّ إنسان قوّة الباني الحكيمة ولا بد من إفساح التّطوّر والازدهار لها لكي تثري الأرض بعجائب ومعجزات جديدة." إذاً، فتغيير العالم ممكن إذا ما استحوذ عليه الجمال. وتبديل سلوكيّات الإنسان ممكنة إذا ما تربّى على الجماليّات الإبداعيّة. واستئصال الشّرّ من العالم ممكن إذا ما جرح الجمال الإنسان وزلزل كيانه ليفيض منه الخير، جوهره الحقيقيّ.




الجمعة، 10 نوفمبر 2017

الإنسانيّة ومرحلة العبوديّة الخاضعة


مادونا عسكر/ لبنان

تأصّلت العبوديّة في الشّعوب القديمة وامتُلك الإنسان من قبل الإنسان، وسُخّر لأجل غايات عديدة كالأشغال الشّاقة، والحروب، والزّراعة وسواها. والعبد مسلوب الحرّيّة شكّل ملكيّة خاصّة لسيّده ضمن ممتلكات عديدة. ولا ريب في أنّ السّعي للقضاء على الرّقّ مرّ بمراحل عديدة حتّى وصلت الإنسانيّة إلى مرحلة التّخلص من هذه الخطيئة الشّنيعة ضدّ الإنسانيّة، أي العبوديّة، الّتي تجرّد الإنسان من إنسانيّته ومن قيمته المقدّسة الّتي منحه إيّاها الله. إلّا أنّ العصر الحديث يشهد عبوديّة من نوع آخر، اتّخذت شكلاً مغايراً لمفهوم العبوديّة كما عرفته الشّعوب.
في بحثه عن الحرّيّة، لم يتنبّه الإنسان بشكل عامّ إلى شكل الحرّيّة الّتي يسعى إليها. فالتمس حرّيّة مرادفة للفعل الإراديّ الحرّ، الّذي قد يكون غالباً مقيّداً بالظّروف الاجتماعيّة، والسّياسيّة. وبالتّالي فهو فعل حرّ ظاهريّاً، إلّا أنّه في العمق يخضع لظروف عدّة تؤسّس لخبرات عديدة تؤكّد للإنسان لاحقاً أنّ هذا الفعل الإراديّ خلا من التّجربة. فالثّورات الّتي اندلعت على مرّ التّاريخ حتّى يومنا هذا لم تحقّق الحرّيّة للإنسان كما يُظنّ. ولم تؤدِّ إلى نتائج يستطيع من خلالها الإنسان الاعتراف بأنّه حصل على حرّيّته وتخلّص من العبوديّة. لقد انتقلت العبوديّة من مرحلة إلى مرحلة وتطوّرت إن جاز التّعبير. فمن عبوديّة الإنسان للإنسان، وشراء حرّيّته بالمال، إلى عبوديّة أشدّ فتكاً في الإنسانيّة، وأخطر من تلك الّتي يذكرها التّاريخ على أنّها منتهى الانحطاط الإنسانيّ.
في زمن الحرّيّات المختلفة الأشكال، كحرّيّة الفكر والتعبير، والحرّيّة الشّخصيّة وما إلى ذلك، يخضع الإنسان إراديّاً إلى عبوديّة مرَضيّة. وبقدر ما يسعى  إلى حرّيّته المزيّفة يتوغّل في العبوديّة.
إنّه زمن العبوديّة بامتياز.
لقد اختار الإنسان عن وعي أو غير وعي أن يقيّد ذاته بسلاسل من ذهب ظنّاً منه أنّه تحرّر من قيود عدّة. في حين أنّه سجن نفسه بنفسه وكبّل شخصه في ثلاثة عناصر أساسيّة: الأنا، والوقت والآلة.
- عبوديّة الأنا:
من المهمّ أن نفهم أنّ الإنسان كائن يولد حرّاً بمعنى أنّه يولد متفلّتاً من مجتمعه وتأثيراته، وتقاليده ومميّزاته الخاصّة. لكنّه ما يلبث أن يلبسها وتلبسه ويتأثّر بها، وإمّا ينغمس فيها أو يسعى إلى التّحرّر منها. ومع الاختبارات الشّخصيّة تتكوّن أناه منطبعة بالمحيط والاكتساب المعرفيّ والتّجربة الشّخصيّة. بيد أنّ إنسان اليوم مسجون بأناه حدّ الانعزال الضّمنيّ عن العالم حتّى وإن بدا لنا اجتماعيّاً. فالتّمحور حول الذّات والولع بها يسهم في بناء سجن عميق شئنا أم أبينا يدخله الإنسان إراديّاً حتّى يموت فيه.
تسيطر الأنا اليوم على الشّخص بما يفوق قدرته على تبيّن الصّواب من الخطأ. فيركّز على شكله الخارجيّ، وتحقيق رغباته بغضّ النّظر عمّا إذا ما كانت تساهم في بناء إنسانيّته أم لا. فينحصر تركيزه على تحسين شكله الخارجيّ مستعيناً بكلّ ما أمكن للظّهور بصورة أفضل. في حين أنّ الدّاخل يهترئ ويتلاشى. وتحت شعار الحرّيّة الشّخصيّة الملتبس، ينتهك قيمة إنسانيّته ليكون حرّاً. تحتاج ممارسة الحرّيّة الشّخصيّة إلى عقل اختزن ما يكفي من المعرفة حتّى يتبيّن الصّواب من الخطأ، كما يعوزها روح حرّة تفلّتت من الأغلال الدّنيويّة بمعنى أنّها تأخذ منها كفايتها دون أن تتحوّل الحاجة إلى سيّد مستبدّ. والرّوح الحرّة تميّز بين الرّغبة والانحلال، وبين الحاجة والفوضى الغرائزيّة. وتتبيّن أنّ الحرّيّة الشّخصيّة تمتاز أوّلاً وآخراً باحترام الأنا كقيمة مقدّسة غاية وجودها البحث عن الجمال واكتشافه.
يمارس إنسان اليوم حرّيّته الشّخصيّة بجهل مقيت. وكلّما أراد أحدهم أن يظهر ذاته حرّاً يجنح إلى تبرير السّلوكيّات الإنسانيّة الّذاتيّة على أنّها حرّيّة شخصيّة. فيدافع عن الإجهاض والمثليّة الجنسيّة ومحاربة الآخر وغيرها من السّلوكيّات الّتي لا تمتّ إلى الحرّيّة بأيّ صلة. فتبقى حرّيّته الفكريّة مجرّد نظريّة يتباهى بها أمام المجتمع العارف بواقعه التّعيس. ومن ناحية أخرى، تشكّل هذه الأنا عبئاً على الإنسان لأنّ متطلّباتها الظّاهريّة إلى ازدياد، كعمليّات التّجميل ومتابعة الموضة بشغف وامتلاك ما يمتلك الآخر، إلى ما هنالك من منافسات على المستوى الظّاهريّ تبني الأنا الخارجيّة بمعزل عن العمق الشّخصيّ. لقد ضيّع الإنسان بوصلته وغرق في مستنقع الأنا الجائعة إلى الظّاهر فاهترأ العمق كي لا نقول مات.
- عبوديّة الوقت:
لا ريب في أنّ الوقت عنصر مهمّ في التّنظيم الحياتيّ، ولكنّه قاتل لا محالة؛ لأنّه مهدور في الأمور التّافهة والسّطحيّة . يهدر إنسان اليوم الكثير من الوقت في متباعة الوسائل الإعلاميّة الممنهجة في تعزيز الجهل من جهة، وفي الانغلاق على الأنا من جهة أخرى. ولو تأمّلنا بدقّة وعلى مدى أربع وعشرين ساعة من البث المتواصل وقيّمنا ما يعرض علينا من هذه الوسائل، لاحظنا مدى عبوديّتنا للوقت المهدور وتلمّسنا فراغنا المعرفيّ والثّقافيّ.
بالمقابل، تحوّل الوقت إلى عدوّ شرس، يسجننا في دقائق نجري خلفها لتحصيل الأموال من أجل إشباع رغباتنا الّتي لا تنتهي. يقال إنّ متطلّبات الحياة زادت وكثرت، ولا شكّ في ذلك. لكنّ مقياس الحرّيّة يكمن في كيفيّة فرز المهمّ من الحاجات والسّعي لتلبيتها وإقصاء الذّات عمّا لا تحتاج إليه. وإلّا فنحن عبيد للوقت الّذي يجرّنا من أعناقنا إلى موتنا الرّوحيّ.
- عبوديّة الآلة:
تحوّلت الآلة الّتي اخترعها الإنسان إلى نقمة سلبته حرّيّته لأنّه ما عاد بإمكانه العيش دونها. هذه الآلة الجماد تستغلّ الإنسان في كلّ لحظة حتّى بات مماثلاً لها أي ما يشبه الجماد. وقد أخذ الإنسان على تطوير الآلة الّتي كانت هي كذلك تعيد تشكيله ليصبح عبداً لما خلقه بيديه، ففقد قدرته على تلمّس الجمال، وضلّ طريقه نحو الخلق والإبداع. كما فقد إرادته على  وضع أهداف وتحقيقها. لقد سرقت الآلة من الإنسان الحلم، والخيال، والرّغبة في الإنتاج الشّخصيّ. وإذا اندثر الحلم والخيال، فكيف يمكن للإنسان بعدُ أن يتحدّث عن الحريّة وهو مستعبد للجماد؟
لعلّ الإنسان يعيش كذبته الكبرى ومعبودته الوثنيّة العليا تلك المسمّاة "الحرّيّة"، فكيف يكون حرّاً وهو رازح تحت أغلال صنعها بحكمته الضّالّة، وأجاد تسويقها على نفسه ليكون عبداً؟ إنّه يمارس عبوديّته، وهو يغنّي ولكنّه في الحقيقة يندب روحه برثاء لا ينتهي.