الأربعاء، 18 يوليو 2018

ظلال في بهاء المطلق



مادونا عسكر/ لبنان
الظّلال المنتشرة هنا وهناك
ظلّ واحد
للواحد الّذي لا ظلّ له
المفردات ثقيلة
الكلمات وضيعة
العظام الّتي تشبع جوع التّراب
الأنفاس المندثرة في عزلة الغموض
الّدماء المعانقة صدى الطّبيعة
تجتمع في يده
صادقة هي الكلمة
لأنّها
ثبات الرّحيل...
الرّحيل أبقى.

(2)
العالم موت في السّماء
السّماء موت في العالم
لِم الكون يشتكي؟
السّحب جافّة في يدي
الجفاف ماطر في عينيك
الخلود ملتبس في ثرثرة الألسن
اللّبس في "الكلمة" أخضر
يضيق الكون... لم يبقَ إلّا فتات غيمٍ
روحي تطوف في رحابك

(3)
البحر الراقد
زرقة داكنة
أمواج تائهة عن مثواها
تقرع باب السّماء
***
موت ثمّ هذيان ثمّ ماء الخلق
الحقيقة مدفونة في بئر بيضاء
تراب متعثّر
يستند إلى إصغاء السّماء
***
أنت الموت الشّاسع فيّ
تغريدة ما لا يُرى
سيلان القمر في ليلة عيد
سحابة خلاص
معلّقة في السّماء.

السبت، 30 يونيو 2018

الألم بوصفه مرتبة عليا في الرّؤية الشّعريّة/ قراءة في قصيدة للشّاعر التّونسي يوسف الهمّامي







- النّصّ:

الغيمة الغامضة تسند
عبقها إلى صحراء غصن كسير
..
الأرض تتثاءب
بين ذراعين ووشم
..
بكاء الرّحيق يتعالى
في النّاي عبر الثقوب
..
الأخضر الغافي يخافت في الصّدر
الأسود العتيّ يغامر على اعتلائه


- القراءة:

يمكث الشّاعر بين الأرض والسّماء. يهتمّ لما فوق ويحمل أثقال الأرض. لكنّه بلغ مقاماً رفيعاً من الألم. فالاهتمام بالعلو كشف تفاصيل العمق.
الغيمة الغامضة/ رؤى الشّاعر الّتي تبلسم الضّعف الإنسانيّ وتداوي جرحه. إلّا أنّ الشّاعر يتألّم بصمت الشّعراء القدّيسين حاملاً حزن الكون في قلبه وبهجة العلا في آن. ليس الغموض هنا دليل التباس وإنّما دليل إعجاز الغيمة، وهي الحاملة الحياة تواجه الموت.
الغيمة الغامضة أو رؤى الشّاعر غطّت العالم. وهي أشبه بخيمة نُصبت من أجله ليتطلّع على هذا العالم من عمق شعره ويداوي بنور الشّعر آلام الإنسانيّة. (الغيمة الغامضة تسند // عبقها إلى صحراء غصن كسير). الغيمة المهيّأة للفيض تقابلها صحراء غصن كسير. وإن دلّ الغصن على أمر فهو يدل على ضعف ووهن وألم وظمأ وربّما فراغ أشبه بالموت أشارت إليه (الصّحراء). ولئن كانت الغيمة  قد سندت عبقها إلى الظّمأ والألم والفراغ المحزن تبيّنت عين الشّاعر الحاضنة لهذا الألم/ الموت. لكنّ العين لا تملك ذراعين يحتضنان بل هي تحتوي بما ستفيض به من ماء. ولو تعمّق القارئ في المعنى المحتجب في قلب الشّاعر لوجده متألّماً حدّ فيض الدّمع المحتوي لا المشفق وحسب. ما يعني أنّ الشّاعر يحتوي الكون بالقوّة بالدّمع ويحتويه بالقوّة بعالمه الشّعريّ الرؤيويّ.
لكنّ الأرض مسلوبة الإرادة غير مبالية ولا تستجيب لهذا الاحتواء (الأرض تتثاءب// بين ذراعين ووشم). وما تكاسلها إلّا دلالة على الألم المكثّف الّذي سلب إرادتها فخارت قواها وباتت غير قادرة على المقاومة. والشّاعر المقيم في رؤاه مجروح في محبّته لهذا الكون، متألم في عمق إنسانيّته. إنّه ألم الوعي وألم الحبّ.
الوعي الممزوج بألم المعرفة والحبّ الفيض الّذي يغرق فيه الشّاعر ويهفو إلى إغراق الأرض به. وامتداداً للألم المعبّر عنه في السّطور السّابقة، يتوسّع الشّاعر في وصف حاله وما يسبغه عليه الألم فيدخل في محاكاة تثاقفيّة تفاعليّة مع جلال الدّين الرّومي وقصيدته (النّاي الحزين) وما كان فيه من حزن:

"أنصت إلى النّاي يحكي حكايته
ومن ألم الفراق يبث شكايته:
مذ قطعت من الغاب، والرّجال والنّساء لأنيني يبكون
أريد صدراً مِزَقاً مِزَقاً برَّحه الفراق
لأبوح له بألم الاشتياق..
فكلّ من قطع عن أصله
دائماً يحن إلى زمان وصله..
وهكذا غدوت مطرباً في المحافل
أشدو للسّعداء، وأنوح للبائسين ​
وكلٌّ يظنّ أنّني له رفيق..."

ويتماهى حزن ناي الرّومي مع حزن ناي الشّاعر، إلّا أنّ حزن الهمامي يشدو بكاء ورحيقاً، ما لم يطله الرّومي في قصيدته. فرحيق البكاء ممزوج ببهجة السّماء وألم الأرض و(الأخضر الغافي يخافت في الصّدر). الأخضر/ الحياة العائد إلى الشّاعر المتغلغل في ذاته يثق بالغيمة المسندة عبقها إلى صحراء الغصن الكسير حتّى وإن غامر الموت في تحدّي الحياة.

الأخضر الغافي يخافت في الصّدر
الأسود العتيّ يغامر على اعتلائه.

إنّ الدّخول إلى عمق الأشياء صعب، ولكنّ الأصعب منه ملامسة كنه الحقيقة والأشدّ صعوبة هو الإقامة هناك بوعي رؤيويّ يطلّ على العالم من خلال هذه النّافذة المفتوحة والمتّقدة من الرّؤى، هذا ما يعمل الهمّامي عليه دوماً في نصوصه الّتي تنحو نحو الباطن الإنسانيّ الغنيّ بالأفكار والمتشبّع بالبصيرة.


الثلاثاء، 12 يونيو 2018

الشّعر ومأزق الورقة البيضاء



مادونا عسكر/ لبنان
"أعتقد أنّ صمت الشّعر والعجز عن كتابته ومأزق الورقة البيضاء هي جميعها جزء من الشّعر نفسه. إنّها النّاحية الخفيّة من الكتابة الشّعريّة. إنّها ما يمكن تسميته ما وراء الشّعر أو ذاكرته الغائبة". (عبده وازن)
صمت الشّاعر الفرنسيّ بول فاليري قرابة الخمسة عشر عاماً قبل أن يكتب قصيدته الطّويلة الرّائعة "بارك الشّابة". ولعلّه صمت قسريّ يخشاه جميع الشّعراء ويشكّل هاجساً حقيقيّاً في حياتهم. ولعلّه شبح العجز الّذي يتراءى لهم كلّما تأكّد أنّ الشّاعر لا يكتب متى يشاء بل ينتظر لحظة وحيٍ تزلزل كيانه وتضرم فيه نار الشّعر فيكتب. قد تكون الفترة الزّمنيّة بين نصّ شعريّ وآخر سنوات، أو أيّاماً أو حتّى ساعات، فهل هو الوحي الّذي يصمت، أم إنّه الشّاعر الّذي ما عاد ينفتح على هذا النّور الموحى به؟ فمن العسير القول إنّ الوحي ينقطع، وذلك لأنّه خيوط نور تتجدّد كالخلق فيكون الإبداع. ومن العسير استحضار النّور عنوةً بهدف كتابة الشّعر. والشّاعر الّذي يصارع ورقته البيضاء لينتصر عليها أتى بنصّ فارغ هشّ فاقد للحياة.
قد يكون مأزق الورقة البيضاء كما يسمّيها الشّاعر الفرنسي مالارميه، هاجس جميع الشّعراء، لكنّه في الحقيقة ليس مأزقاً بقدر ما هو لحظة اتّحاد الوحي بالشّاعر ليكون الاثنان واحداً. فيستحيل الشّاعر هو القصيدة. ولئن كان الشّاعر يتعامل مع هذا الصّمت الشّعريّ كمأزق يضطرب ويخاف من فقدان القدرة على الكتابة الشّعريّة في حين أنّ الشّعر هو الّذي يكتبه وليس العكس. لا بدّ من صمت يفرض نفسه، إنْ على مستوى الوحي أو على مستوى الشّاعر ليتاح للّغة الجديدة أن تولد وتتفجّر من أعماق الشّاعر. فيكون صمت الوحي المتّحد بصمت الشّاعر ذروة الولوج في الشّعر لا أحد يتكلّم ولا أحد يسمع. لحظة تأمّل وارتقاء خالصين إمّا يدخلان الشّاعر في الصّمت النّهائي، وإمّا تولد قصيدة تُنسي ما قبلها ليتجلّى الإبداع خلقاً متجدّداً.
الشّاعر الحقيقيّ لا يكتب ذاته الّتي لا يعرفها يقينيّاً بل ينتفتح على نور الوحي يقطف ومضاته ليكتشف قدراته ويصغي إلى صوته الدّاخليّ، ويتعرّف على ذاته من خلال هذا الوحي. وكلّما تقدّم بالمعرفة ازداد التّأمّل والإصغاء وقد يبلغ هذا الصّمت الكبير الّذي يعتبره مأزقاً في حين أنّه القصيدة الأمّ، القصيدة الحقيقة الّتي هي الشّعر عينه. ومتى استحال الشّاعر لغةً بلغ منتهى العالم الشّعريّ وما عاد بحاجة إلى ورقة بيضاء يسكب فيها ذاته بل احتاج إلى كون أرحب يجسّد فيه هذه اللّغة/ القصيدة.

الأحد، 13 مايو 2018

عشقٌ مُترعٌ بالخيالات




مادونا عسكر/ لبنان
(1)
فلنمضِ إلى الوعر المزهرِ
هناك
يغنّي الشّقاء الّذي أحببنا
ارتماء الوجود في حضن قيثارة
يخفي آثارنا صمت الحجر
يخنق أنفاسنا موعد بلا لقاء
فنتقدّس...
(2)
توحّدت فينا صورة الإله
خلاصة الجنون العاقل المتوشّح الحكمة
وقلبي أمام وجهك
باب مشرّع على نبضات قصيدة لم تولد بعد
وقلبك الماثل أمام روح السّماء
مثقل بالرّؤى المحتجبة في أسفار لم يكتشفها أحد.
تكتبُ الحبّ للّحظة المحتوية صغار العصافير
يكتبك الأزرق الشّفيف للأبرار المتلألئين في راحة العشق
جمالاً جارحاً
تحدّث به الأرواح الظّامئة إلى الموت المترع بخيالات الحياة.
(3)
أنا- أنتَ
ويمضي الدّهر إلى ما كانَ قبل أن يكون
تجالسُ بريق البدايات المنعزلة
عن ذاكرة
قد
تحيا
أو
تموت
أنت- أنا
وتجثم المناجاة في رغيف أخضر
أنازع الجوع في ليل الأشواق
يأخذني النّوم
إلى جبل ناحت على كتفه الشّمس
قبل أن ينجبنا ضمير الإله.
(4)
هل يصفح الورد للعطر بوحهُ
أم
يهذي كلّما مرّت بخاطره فتنة نبيّ
انتزع  الشّعر من كونٍ
يستر عريه بأحزان الموت الثّاني؟
غيمة تعبر إلى فوق
يستكين  البوح في عطش الخفقِ
يكتم السّحر في سماء وحفنة نجوم.
يصمت السّرّ
فتعرف أنّك في قلبي
تحيا ألوهيّة  العشق.

الاثنين، 9 أبريل 2018

اتّحاد البصريّ والذّهنيّ في تجسيد الجمال الإنسانيّ / قراءة في لوحة "القبلة" لغوستاف كليمت



مادونا عسكر/ لبنان
اللّوحات قصائد صامتة يتلوها المبدع على أعين الباحثين عن الحبّ والخير والجمال. ولا شكّ أنّه، أي الرّسّام، يجسّد في لوحاته الجمال فينقله من عالم التّجرّد إلى العالم المحسوس، لترتشفه الحواس وتنصهر به.  وإذا قال نيتشه إنّ أسمى أنواع الجمال هو ذلك الذي يتسلّل إلينا ببطء فنحملهُ معنا ونحن لا نكاد نشعر به. فلوحة الرّسّام النّمساويّ غوستاف كليمت "القبلة" جمال يتجسّد في الرّاني إليها فيحمله في داخله ويغتسل به كلّما لوّث القبح الأعماق.
قد تكون القبلة محور اللّوحة إلّا أنّ هذه القبلة عنوان للاتّحاد التّام بين الرّجل والمرأة، العاشقين الملتحمين حبّاً وعشقاً. وهي قبلة مقدّسة دلّت عليها وضعيّة الرّجل والمرأة معاً. كما رمزت إليها الحركة الهادئة بين العاشق والمعشوقة. وهي مقدّسة لأنّها تصوّر اتّحاداً روحيّاً لا جسديّاً وحسب، ويظهر ذلك من خلال تفاصيل الجسدين الغائبة نسبيّاً، إلّا ممّا يدلّ على تمايز الشّخصيّتين حتّى لا يبدوَ الاتّحاد الرّوحيّ كذوبان الواحد في الآخر، فتمّحي شخصيّة الواحد دون الآخر.
يقبّل العاشق حبيبته على خدّها فتحملنا هذه الحركة إلى صورة من صور العشق الكامل في سفر نشيد الأناشيد (2:5): "أنا نائمة وقلبي مستيقظ، صوت حبيبي قارعاً افتحي لي يا أختي يا حبيبتي يا حمامتي يا كاملتي لأنّ رأسي امتلأ من الطّلّ وقصصي من ندى اللّيل". في نشيد الأناشيد يحاكي العاشق محبوبته مع أنّه يمنحها كينونة الأخت. ما يدلّ على قداسة العلاقة وعمقها الضّارب في الوجدان العشقيّ السّماويّ. وفي اللّوحة ما يشبه هذه الصّورة، من ناحية أنّ المرأة مغمضة العينين هائمة في صوت المحبوب الّذي يصغي له قلبها. ومن ناحية أخرى، تتماهى قدسيّة القبلة والحالة العشقيّة بمعزل عن الجسد. ذاك لا يعني التّفلّت من الجسد، بل يعني الالتحام الكيانيّ الّذي يحيط بعلاقة الرّجل بالمرأة كيانيّاً لا جسديّاً وحسب. بمعنى أصحّ، هو اتّحاد بين "المرأة" و"الرّجل"، لا بين الأنثى والذّكر.
 وإذا كانت القبلة رمزاً للانصهار الرّوحيّ بحيث يلتقي العاشقان في كيان واحد، وإذا كان الانصهار دلالة على بلوغ ذروة العشق، فتفاصيل اليدين، إن من جهة المرأة أو من جهة الرّجل، دلّت على الاحتواء العشقيّ، العنصر الأساسيّ المؤدّي إلى هذا الاتّحاد.
تظهر يدا الرّجل العاشق ملتفّتين حول وجه المرأة، لتبيّنا احتواءً للحبّ المتجسّد في المرأة ذاتها. ويشكّل تباين المستوى الجسديّ البسيط بينهما حركة عشقيّة أقرب إلى القداسة، فالمرأة راكعة، حافية القدمين، وكأنّي بها في حالة صلاة، وأمّا الرّجل فمستقيم منحنيَ الرّأس كفعل ارتشاف لهذه الصّلاة. ما يشير إلى ذروة الحبّ المترفّع عن كلّ ما يدور من حوله. وتأتي الحركة تفاعليّة بالتّدقيق إلى يد المرأة الملتفّة حول عنق الرّجل لتظهر بدورها أهميّة الاحتواء حتّى لا يختلّ التّوازن بين الشّخصين، فيفقد الاتّحاد معناه الجوهريّ. لا ريب أنّ كليمت استفاد من الألوان والزّركشات ليجسّد هذا الاتّحاد، ويظهره باللّون الذّهبيّ الّذي يبدو طاغياً على اللّوحة، أو جاذباً للنّاظر إليها، حتّى يكون محور اللّوحة الحالة العشقيّة وليس القبلة وحسب.  
يحيط بالعاشقين فراغ تتخلّله أنوار خافتة توحي بالحالة الرّوحيّة المقدّسة. ونلاحظ عن يمين اللّوحة بدءاً يتمثّل بالزّهور كأساس يرتكز عليه العاشقان، لكنّه منفتح على اللّانهاية. فرسم الزّهور ينتهي عند أقدام المرأة ليبقى الفراغ النّيّر محيطاً بهما رامزاً إلى خلود الاتّحاد بين العاشقين.
إنّه وإنّها تلك اللّغة الكائنة في قصائد الشّعراء الّذين رسموا بالكلمات فأسمعوا صوت الألوان في جملهم، وإنّه وإنها تلك اللّوحة اللّونية المترجمة بالخطوط، أليست الكتابة أيضاً لوناً من الألوان ومجموعة من الخطوط على هيئات أخرى، ذهنيّة تستحضر الجمال وتؤطّره في القصيدة وتطلقه في فضاء من الانفعال الجمالي الّذي لا ينضب؟

الثلاثاء، 20 مارس 2018

السّماء...


السّماء...ما السّماء؟
أحشاء "المرأة" الأولى
المباركة بين النّساء
المتجلية في فكر الله قبل إشارة: "كُن"المتماهية مع العالم والمنفصلة عنه
المتّضعة، حتّى إنّ الملائكة انذهلت من صحوة التّراب
المتعالية، حدّ مجاورة خلاص الله الجالسة عند أقدام الرّبّ
المعلّمة الأمّ
الإنسان المضمّخ بطيب الإله
المتصوّفة بالجسد والرّوح
الممجّدة بالعشق الّذي أفاضه روح العليّ
الصّامتة عشقاً لتزهر اللّغة
المتكلّمة حتّى انبهار الصّمت
الواقفة عند الصّليب تحمي بستر جناحيها أجيالاً يعطش إليها الرّبّ.أيّتها السّيّدة الفائقة القداسة
ازرعي في نفوسنا بسمة
لنحصد مواعيد الحياة.إليكِ
تنسّمات الوجد المترامية إلى ما بعد الدّهر
وسنابل خضراء تجثو لك كلّما عصفت النّعمة في الأرض
إليكِ
روح الورد، أيّتها الّتي يهيم بها الجمال.


السبت، 24 فبراير 2018

الارتقاء المطلق في حضرة العشق / قراءة في نصّ للشّاعر التّونسي محمد بن جماعة

مادونا عسكر/ لبنان


- أوّلا النّصّ:

"عندما أخرُّ عاشقًا
أقتفي أثرَ الكون المطلق
من العمر السّريع..
لا أتعجّل النّهايات
حتمًا سيُغلق البابُ.. لا
يبقى إلاّ السقف بلا جدران
لا أرى فيه
سوى زوايا الحبّ القائمة
في رقصة غافية
بفستان غضّ"..!

- ثانياً القراءة:

"في حضرةِ من أهوى
عَبَثت بي الأشواق
حدّقتُ بلا وجهٍ
ورقصتُ بلا ساق" (محمد الفيتوري)


يقتفي الشّاعر محمد بن جماعة في هذا النّصّ الشّعريّ آثار الصّوفيّين الكبار الّذين بلغوا ما بلغوه من مقام عشقي يرتقي بكيانهم إلى ذرى الأعالي الإلهيّة. يتيهون عشقاً في حضرة الحبّ الحقيقة، ينطقونه، ويدخلون دائرته بروحانيّة عالية يطوّعون من خلالها إنسانهم جسداً وروحاً.
يمكن إدراج هذا النّصّ ضمن الأدب الرّؤيويّ (Apocalypse )، فالشّاعر يفتتح النّصّ بما يشبه الانكباب على الأرض والسّجود. لكنّنا هنا أمام حالة أقوى من السّجود، إذا يقول الشّاعر (عندما أخرُّ عاشقًا). قد تعبّر هذه الحالة عن صوفيّة الحالة الّتي وصل إليها الشّاعر، كأنّي بنسمات إلهيّة تجتاح قلبه فيسقط أمام الحقيقة، حقيقة الرّؤيا. وبالتّالي فنحن أمام اختبار عميق للشّاعر أدخله في عمق التّجربة الصّوفيّة. فانبعثت الرّؤيا من داخله واتّخذ عشقه بعداً كونيّاً اتّسم بأبعاد ثلاثة:

- البعد الأوّل: أرضيّ/ سماويّ
يخرّ الشّاعر عاشقاً ليقتفي أثر الكون المطلق. ولا ريب أنّه عنى بالكون المطلق، ما كان قبل الكون وما سيكون بعده. بل عنى أيضاً تحوّله من مادّة إلى حالة. فلسنا أمام نظريّة كونيّة يتأمّلها الشّاعر أو يحاول ولوجها. وإنّما الشّاعر في عمق هذا التّحوّل.
عندما أخرُّ عاشقًا
أقتفي أثرَ الكون المطلق
من العمر السّريع..
العشق سبيل إلى الحقيقة، إلى جوهر الفكر والوجود. وفي حركة خاصّة يمضي الشّاعر إلى كونه، ليأخذ مكانته منه وفيه. ولقد استدلّ الشّاعر على هذا الجوهر الّذي قادته إليه الحالة العشقيّة. وكشف عن سكرة العشق المترقّبة البدايات مع أنّه يتحدّث عن نهايات.
لا أتعجّل النّهايات
حتمًا سيُغلق البابُ...
لكنّها نهايات مفتوحة على الولادة الجديدة. أو لعلّها اللّقاء الحتميّ بالعشق الشّخص. فقلب الشّاعر سيغلق حتماً بمعنى التّسليم للعشق لينفتح على الأسرار الكونيّة.

- البعد الثّاني: سماويّ/ سماويّ
إذا كانت النّهايات مفتوحة على البدايات فلأنّ الشّاعر امتزج بالعشق الّذي أنار عينه الثّالثة ليرى ما لا يُرى. فتنكشف له معالم الكون المطلق (لا يبقى إلاّ السّقف بلا جدران). يشير لفظ (السّقف) إلى الذّروة العشقيّة الّتي بلغها الشّاعر المتفلّت من القيود، والمتحرّر من سجن العالم. فها هو يتطلّع إلى فوق بالمعنى الكيانيّ لا الحسّيّ وحسب. وما لفظ (السّقف) إلّا دلالة على خروج الشّاعر من ذاته وتخطّيها نحو عالم أرحب. عالم مقدّس خرّ الشّاعر ساجداً بل عاشقاً أمامه.
لقد امتزج الشّاعر بالعشق حدّ التّفلّت من نفسه. فأصبح هو، أي العشق، من يحيا به لا الشّاعر حيّ بذاته. ولعلّها اللّحظة الذّروة الّتي يصل إليها المتصوّف. لحظة التّماهي مع العشق حتّى يصير الاثنان واحداً.
لا أرى فيه
سوى زوايا الحبّ القائمة
تعبّر الزّوايا عن استحكام الحبّ بالشّاعر. وهي بمثابة بناء مجازيّ اللّغة، حقيقيّ المعالم، يسكنه الشّاعر ويلتحم به. وإن دلّ الفعل (رأى) على أمر، فهو يدلّ على مكاشفة ومعاينة الحبّ ممجدّاً. فلا يبلّغ معناه الحسّيّ بل الرّؤيويّ، حيث تتلاحم الرّؤيا والشّاعر. فيدور في فلكها، كصوفيّ في غمر التّجلّي. (في رقصة غافية/ بفستان غضّ"..!) وإذا كان الصّوفي في رقصته يصبو إلى بلوغ الحالة العشقيّة. فشاعرنا صوفيّ يدور في عمق الحالة العشقيّة ليبلغ ما بعد العشق.

- البعد الثّالث: الشّعر/ الكون المطلق
ابتنى الشّاعر نصّه في لحظة مكاشفة، فحمل النّصّ تعريفاً لعالم الشّعر الّذي ينتمي إليه الشّاعر. وبين السّجود عشقاً وحركة الرّقص الغافية تجلّت ملامح عالم الشّعر. فالشّاعر لم يرتقِ تدريجيّاً سلّم العشق في النّصّ. وإنّما حلّ النّصّ فيه فجسّده كلاماً. نطقَ الشّعر فتلا الشّاعر مقطوعته العشقيّة في رقصة غافية.