الجمعة، 7 فبراير 2020

العوالم العلوية وتجدّد المعنى



قراءة في نصّ للشّاعر التّونسي يوسف الهمامي
مادونا عسكر/ لبنان
- النّص:
أثمرتني شجرة
في ركن أصفى
من السّماء
..
وضعني الغيم
في يد الفاتحة
يد الفاتحة أفاضتني
..
الأرض مادتْ
عباءة الكون تجلّدَتْ
الرّحم أحاط
- القراءة:
يدور هذا النّصّ في العوالم العلويّة إذ يستهلّ الشّاعر نصّه بعنصرين أساسيّين يوجّهان النّصّ إلى ما قبل الخلق، أو بمعنى أصحّ يكشفان عن تأمّل الشّاعر الشّخصيّ في مصدر وجوده، (شجرة/ السّماء). لذلك ينبغي أن يتنبّه القارئ إلى رمزيّة الشّجرة الرّوحيّة في هذا النّصّ الّتي تتّخذ معنى أعمق وأبعد من الدّلالة اللّفظيّة. فالشّاعر جعل الشّجرة في ركن أصفى من السّماء. وبذلك يكون قد تخطّى دلالة السّماء بالمعنى الكتابيّ المراد به ما بعد الموت، أو الحالة الّتي سيؤول إليها المؤمنين إلى ما هو أصفى من السّماء التّي هي صافية. ولا ريب أنّ الشّاعر أراد بالقول (أصفى من السّماء) قلب الله أو الدّائرة الإلهيّة المطلقة.
ولئن اتّخذت الشّجرة رمزيّة روحيّة، استخدمها الشّاعر بصيغة النّكرة من باب المطلق للإشارة إلى شجرة فريدة متفرّدة Unique لا مثيل لها، أو لا يشبهها شيء في العالم الحسّيّ. ولعلّ استخدام الفعل (أثمر) في صيغة الماضي دلّ على تجدّد الشّاعر نفسه. فكأنّه يشير إلى تجدّد الخلق وتجدّد ذاته الحاضرة في قلب الله.
(أثمرتني شجرة/ في ركن أصفى من السّماء) حالة خارجة عن الزّمان والمكان، حاضرة قبل الوجود، لكنّها حاضرة كذلك في ذهن الشّاعر وفي عمقه الإنسانيّ. وكأنّي بالفعل (أثمر) يستعيد ذهنيّاً وروحيّاً هذه الحالة المتمدّدة في الوجود بأسره. فوجوده وكينونته امتداد لهذه الشّجرة الّتي أثمرته وما زالت تثمره في ركن أصفى من السّماء. 
الشّجرة تخرج من الأرض، لكنّ شجرة الشّاعر في ركن أصفى من السّماء، فهي خارجة من ذلك الرّكن الأصفى إن جاز التّعبير، وبالتّالي فالشّاعر خارج من الشّجرة كما هي خارجة من السّماء. وإذ اعتمد الشّاعر الفعل (أثمر) فللدّلالة على انبثاق كانبثاق النّور من النّور الأعظم. فيحيلنا إلى الآية 35 في سورة النّور "اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لّا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ". وفي هذه الآية السّماويّة النّورانيّة يتجلّى فعل النّور الإلهيّ وتفاعله مع المنجذب إلى هذا النّور، الإنسان. فالله يوقد من شجرة مباركة زيتونة يكاد زيتها يضيء. وما الزّيتونة إلّا بعد من أبعاد النّور الإلهيّ الّتي يكاد يضيئ زيتها وذلك بحكم المتفاعل مع هذا النّور. فبقدر ما يتفاعل الإنسان مع النّور يقترب ويبصر. وما الشّجرة المباركة إلّا عنصر من عناصر النّور الإلهيّ. ولعلّ الشّاعر في قوله (أثمرتني شجرة في ركن أصفى من الصّفاء) أراد أن يشير بشكل أو بآخر إلى عنصر النّور الّذي أثمره، أو أوجده. وقد يمكننا القول إنّ الشّاعر يدرك بدرجة ما في عمق ذاته بعضاً من تجليّات النّور الّذي يملأ الوجود. فالله نور السّماوات والأرض متغلغل في الوجود وما بعده، وتلمّس نوره فيض يتجلّى في نفس الإنسان، كلّ بحسب قدرته.
عنصران آخران في القسم الثّاني من النّصّ يحدّدان أكثر عمق المعنى السّماويّ للنّصّ (الغيم/ الفاتحة). في غالب الظّنّ يرمز الغيم إلى الحضور الإلهيّ الّذي تقف أمام نوره نفس الشّاعر. والفاتحة الّتي كنيت بأمّ الكتاب والرّكن الأعظم من أركان الصّلاة أفاضت الشّاعر. وما هذا المعنى إلّا بعد إيمانيّ  اختباريّ خاصّ وحميميّ لدى الشّاعر يعبّر عن تلمّس حقيقة ما تعيد تفسير الخلق في فكر الشّاعر وروحه انطلاقاً من تأمّل فلسفيّ وإيمانيّ على حدّ سواء. ما أغرق الشّاعر في عمق النّور الإلهيّ المشار إليه في القسم الأخير من النّصّ (الرّحم أحاط)
الأرض مادتْ
عباءة الكون تجلّدَتْ
الرّحم أحاط
الأرض التّي يتحدّث عنها الشّاعر أرض جديدة، أو سماويّة، لا علاقة لها بالعالم الأرضيّ. ولبس الكون عباءة الحضور الإلهيّ النّور. الأرض أرض الله والكون كونه، وما الرّحم الّذي أحاط الشّاعر وكونه إلّا هذا الحضور النّور الّذي يجذب إليه الله من يشاء.



الجمعة، 17 يناير 2020

العلم والإيمان قوّتان لا تصارع بينهما



مادونا عسكر/ لبنان
يقول الفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل إنّ العلم لا يهدف إلى إنشاء حقائق ثابتة وعقائد أبديّة، بل يهدف إلى الاقتراب من الحقيقة بالتّقريب المتتالي دون الادّعاء أنّ الدّقة النّهائيّة والكاملة قد تحقّقت في أي مرحلة. ما يعني أنّ العلم يتّخذ مسار البحث المستمرّ عن الحقيقة ضمن ميكانيزم تفكيريّ يحدّده المنطق والاكتشاف  والتّجربة والنّتائج. ولا ريب في أنّ العلم لا يهدف إلى بناء عالم أبديّ أو توجيه الإنسان إلى العالم العلويّ. بل على العكس يروم إلى البحث في حركة التّاريخ وحركة الوجود والتّنقيب في هيكليّة الحياة الإنسانيّة على الأرض، ومعرفة مدى قيمتها من الكون بأسره، بغضّ النّظر عن تحديد ماهيّة العالم العلويّ أو العالم الإلهيّ. على عكس الإيمان الّذي يعتمد على تجذير العقيدة، وتحديد الحقائق الثّابتة الأبديّة والتشبّث بها كحقيقة لا ريب فيها.
من هنا يبدو تعارض قاسٍ بين المبدأ العلميّ والمبدأ الإيمانيّ إلّا إذا حصل فصل فكريّ متجرّد بين الاثنين، أي فصل بين لغة العلم ولغة الإيمان لتعارض جوهر المبدأين. فالمبدأ العلميّ جوهره عقليّ، وأمّا الإيمانيّ فقلبيّ. والمعرفة العلميّة تختلف عن المعرفة الإيمانيّة، فالأولى معرفة عقليّة تتحدّد بمقدّمات ونتائج، وأمّا الثّانية فمعرفة قلبيّة عميقة تتحدّد بحسب كلّ شخص وبحسب علاقته مع العلو. وبالتّالي فليس من ضرورة للحديث عن تعارض أو لا. ولا ينبغي الحديث أصلاً عن تعارض؛ لأنّ اللّغتين مختلفتين، وكلّ لغة تعبّر عن ذاتها في ما يخصّ الوجود والكون والخلق والنّهايات. ولمّا كانت اللّغتان مختلفتان وتمتلكان خصوصيّة في النّمط التّفكيريّ فلا مجال للحديث عن تعارض أو توافق. بل الأوْلى ترك كلّ لغة تتّجه في مسارها الخاصّ. وإذا تعارضت لغة العلم مع لغة الإيمان أو بمعنى أصحّ تنازعت اللّغتان وتجاذبتاـ يتعطّل مسار الإنسان التّطوّريّ والتّقدّميّ المواكب لحركة التّاريخ. فيتراجع الإنسان علميّاً وإيمانيّاً وإنسانيّاً، ويغرق في الجهل والسّخافة والتّدمير الممنهج حتّى لا يبقى من إنسانيّته إلّا غرائز تندفع فوضويّاً لتمنع العقل من الفكر الممنهج  وتعطّل الإيمان، فيتحوّل تعلّقاً بالقشور لا بالجوهر. وبقدر ما يتخطّى الإنسان دمج اللّغتين العلميّة والإيمانيّة، ويتجرّد من إسقاط الإيمان على العلم أو العكس، يحتفظ بإيمانه كأمر مشخّص ويسير قدماً في العلم كمسار لا بدّ منه للنّموّ والتّطوّر. تلك القدرة مرتبطة بالقدرة على التّحرّر الذّهنيّ والفكريّ من مبدأ امتلاك الحقيقة الإيمانيّة وربطها بالعلم لإثبات حقيقتها. وبقدر ما يدرك الإنسان أنّ لغة العلم غير لغة الإيمان يكون قد تحرّر من الصّراع القائم بين العلم والإيمان.
يقول القدّيس بولس في رسالته الأولى إلى كورنثس (8:1): " الْعِلْمُ يَنْفُخُ، وَلكِنَّ الْمَحَبَّةَ تَبْنِي"، وهنا يفصل بولس بين لغة العلم ولغة الإيمان، دون أن يستبعد العلم، لأنّه لم يقل إنّ العلم يدمّر والمحبّة تبني بل قال إنّ العلم ينفخ، أي إنّه إذا حوّل الإنسان إلى محتكر للحقيقة. لأنّه يتابع ويقول في الآية (2): " فإن كان أحد يظنّ أنّه يعرف شيئاً، فإنّه لم يعرف شيئاً بعدُ كما يجب أن يعرف". ما يعيدنا إلى قول سقراط: "كلّ ما أعرفه أنّني لا أعرف شيئاً"، وكذلك ما ذكره راسل عن أنّ العلم لا يهدف إلى إنشاء حقائق ثابتة وعقائد أبدية، بل يهدف إلى الاقتراب من الحقيقة بالتّقريب المتتالي دون الادّعاء أنّ الدّقة النّهائيّة والكاملة قد تحقّقت في أي مرحلة.
لكنّ بولس يعود ويقول إنّ المحبّة تبني، فالمحبّة لغة الإيمان تحاكي العمق الإنسانيّ وتبني فيه ما هو أبعد من الوجود الإنسانيّ الأرضيّ، وتطلق العنان لحرّيّته الدّاخليّة. وإذ يستنير بها العقل يتحرّر ويحاكي لغة العلم على اعتبارها لغة ضروريّة للتّقدّم والتطوّر. ويبقى العلم علماً والإيمان إيماناً. ولئن كان الإيمان مشخّصاً فلكلّ أن يؤمن بما يشاء ويترك العلم يمضي في مساره دون تعقيدات لا معنى لها. وقد يقود العلم إلى الإيمان بشكل أو بآخر، وقد يقود إلى الإلحاد، ومع ذلك من غير الممكن أن تتّحد اللّغتان؛ لأنّ ما للعلم هو للعلم، وما للإيمان هو للإيمان. للعلم منطقه ومقدّماته وأبحاثه ونتائجه، وللإيمان المحبّة الّتي تبني وترتقي به إلى العلوّ الإلهيّ. وأمّا العقائد والتّصوّرات الإيمانيّة والكتب المقدّسة فلا تتّخذ مساراً علميّاً إلّا في ما يخصّ العالم الإلهيّ. فالكتب المقدّسة ليست كتباً علميّة أو تاريخيّة وإنّما كتب روحيّة، تعزّز قيمة المحبّة الّتي تبني وتوطّد العلاقة بين العلوّ والعمق، بين الله والإنسان. وبقدر ما تبني المحبّة الإنسان يتقدّم نحو الإله، بغضّ النّظر عن مفهوم الإله عند كلّ شخص أو جماعة. وبقدر ما يتقدّم يزداد حبّاً وذوباناً في الذّات الإلهيّة ولا يعود يبحث عن الله في العلم أو بمعنى أصح، لا يعود ويبحث عن ماهيّة الله وعن كيف ولماذا ومتى، لأنّه بلغ الـ "هو".
ويتجلّى المعنى ذاته في سورة طه الآية 114: "فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا"، وأمّا في القول (ربّ زدني علماً) معنى أعمق للفظ (علم). إنّ هذا اللّفظ يترادف ومعنى المحبّة الّتي بها نعرف الله. فالآية تبتدئ بـ (تعالى الله الملك الحقّ)، ما يعني أنّ الاستدلال على المعنى يبدأ من علوّ أو يدور في العلم الإلهيّ، ولا ينطلق من الإنسان وإنّما من الله. وبالتّالي فكلّ المعاني المستقاة من الآية تدور في فلك العالم الإلهيّ. ثمّ يضيف (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) ليجعل من الكلمة الإلهيّة لغة المحبّة الّتي يمتلئ منها القلب ليعود ويحاكي لغة الله. لذلك يقول (ربّ زدني علماً) أي (ربّ زدني حبّاً)؛ لأنّ العلم بالله غير متاح إلّا بتمتمات إنسانيّة، وأمّا المعرفة القلبيّة المعتمدة على المحبّة الإلهيّة تتلمّس الله في الذّات الإنسانيّة. ولو كانت دلالة اللّفظ (علماً) مرتبطة بالعلم الإلهيّ فثمّة تناقض والتباس إذاً، لأنّ الإنسان لا يعلم الله فكيف يقول (زدني)؟ لكنّ المعنى العميق يكمن في الحبّ الإلهيّ الّذي يفيض في القلب فيحاكي القلب بلغة الحبّ الإلهيّة والحضور الإلهيّ، فيكون المعنى الحقيقيّ والعميق "ربّ زدنيّ حبّاً" ليستدلّ الإنسان ويتلمّس الـ"هو".
ليس من فصل بين العلم والإيمان، كما أنّه ليس من توافق، ولعلّ البحث في إثبات العلم إيمانيّاُ وإثبات الإيمان علميّاً مضيعة للوقت واعتراض لمسيرة التّقدّم الإنسانيّ. فليتّخذ كلّ مساره حتّى تلقى الإنسانيّة إنسانيّتها وتتحقّق بقدر ما يتيح لها العلم وبقدر ما يحلّق بها الإيمان كعلاقة حبّ بين الله والإنسان. والبحث عن إنسانيّة الإنسان وتحقيقها يحتاج إلى العلم والمحبّة، فالعلم من دون محبّة يحوّل الإنسان إلى وحش، وإذا استبعدت المحبّة العلم وحاربته لا تكون محبّة، وإنّما خداع وخبث ومراءاة.
قوّة العلم لا حدود لها، لأنّ العقل البشري قوة من قوى النّفس لا يستهان بها، كما يقول ابن سينا. والإيمان قوّة لا حدود لها، لأنّها قوّة الحبّ الّتي منها تُستمدّ كلّ قوّة تسعى وتخدم إنسانيّة الإنسان.

الجمعة، 10 يناير 2020

الذات الإلهيّة بين العلم والعبادة



مادونا عسكر/ لبنان
تكمن هوّة عظيمة بين العلم والعبادة كتلك الموجودة بين الكمال والنّقص. وملايين السّنين الّتي مضت والأخرى الآتية تسهم في اتّساع هذه الهوّة ما لم يتيقّن الإنسان أنّ الوجود الإلهيّ الخارج عن الزّمان والمكان، مغاير تماماً للوجود الإنسانيّ. وكلّ فكر يؤكّد علمه بهذا الوجود الإلهي أو يحتكر الحقيقة لشخصه أو جماعته يعيق التّأمّل وتطوّر الفكر ونموّه بحكم السّيطرة على العقول وإشغالها بصراعات تافهة مع أنّها تبدو مصيريّة. وهي تافهة وسطحيّة قياساً على الرّؤية التّأمّلية بهذا الوجود، والأكوان المحيطة بنا، وحضور الإنسان الهزيل في هذه الأكوان، وعدم قدرته على استيعابها، ورؤيته الملتبسة لها. ولئن كان الاستيعاب العقليّ والفكريّ للوجود المادّيّ ضعيف فلا ريب أنّ القدرة على استيعاب الوجود الإلهيّ أضعف، بل معدوم إلّا من خلال التّصوّرات العقائديّة الّتي بالكاد تقدّم تمتمات عن الحضور الإلهيّ. وبقدر ما يعي العقل أنّه عاجز عن إدراك هذا الحضور بتمامه، وبقدر ما يقتنع بأنّ الدّخول إلى عالم الوجود الإلهيّ اختبار شخصيّ وعلاقة عميقة لا يمكن تفسيرها أو تأكيدها بالأدلّة القاطعة، لأنّ الدّليل مشخّص ومرتبط بين الإنسان والله، تتهاوى الصّراعات والنّزاعات الّتي يقودها الإنسان بشكل عام باسم الله.
لعلّ انكباب العقل على محاولة إدراك الجوهر الإلهيّ وإصراره على معرفته اليقينيّة يضلّ عن الطّريق الصّحيح الّذي يقود إليه. ولعلّه ليس مطلوباً من الإنسان أن يعرف جوهر الله أو الاجتهاد في فهم هذا الحضور الإلهيّ فهماً عقليّاً. وإنّما المطلوب محاكاته في العمق بلغة أخرى غير تلك الّتي يتوجّه بها الإنسان إلى الله وكأنّه يعرفه تماماً. يقول القدّيس يوحنّا فم الذّهب: "ليست طبيعة الله غير مدركة وحسب، بل عنايته بنا وتدابيره فوق إدراكنا". الإنسان أمام محيط واسع جدّاً وعميق جدّاً، وما هو إلّا نقطة لا تقوى على استيعاب المحيط بأكمله. فالنّقطة تعي ذاتها بقدر ضئيل، لأنّها تدرك كينونتها الظّاهرة. وأمّا إدراكها الكامل والعميق لذاتها غير ممكن لأنّها مرتبطة بالمحيط. وبقدر ما تتوغّل في عمقه تستشفّ بعضاً من كينونتها. ما يذكّر بنصّ لمحيي الدّين بن عربي في الفتوحات المكّيّة:
لو علمته لم يكن هو،
ولو جهلك لم تكن أنت:
فبعلمه أوجدك،
وبعجزك عبدته!
فهو هو لِهُوَ: لا لَكَ
وأنت أنت: لأنَت ولَهُ!
فأنت مرتبطٌ به،
ما هو مرتبطٌ بك.
الدّائرة مطلقةً
مرتبطةٌ بالنّقطة
النّقطة مطلقةً
ليست مرتبطة بالدّائرة
نقطةُ الدّائرة مرتبطةٌ بالدّائرة.
الـ "هو" الّذي لا يحدّه اسم أو حضور أو زمان أو مكان، الخارج عن محدوديّة الفكر الإنسانيّ يتعارض وأيّة صورة أو تصوّر يمكن تكوينه عنه. إنّه الـ "هو" الّذي ليس مثله شيء. وإذا كان هو الّذي هو لا يشبه أيّ شيء يمكن من خلاله الاستدلال عليه فالتّصوّر عنه يبقى ملتبساً أو ناقصاً. فالعلم به ليس علماً به بل بتصوّر شخصيّ عنه. والتّأكيد على اليقين المعرفيّ عنه يتنافى وقدرة الإنسان الفكريّة على تحديد جوهره أو طبيعته، لأنّ النّاقص لا يحدّد الكامل. وبحكم أنْ ليس مثله شيء تنبغي محاكاته بتجرّد فكريّ وقلبيّ. ويعتمد هذا التّجرّد على البحث التّأمّلي في الكائن الّذي ليس مثله شيء بعيداً عن كلّ شيء ندركه بالحواس أو بالعقل بحكم المحدوديّة والنّقص. هذا الوجود المتفلّت من كلّ شيء والحاضر والحاضن لكلّ شيء يفترض محاكاة متفلّتة من كلّ شيء. ولعلّ الأنا الإنسانيّة العميقة لا الظّاهرة قادرة على هذا التّأمّل، لأنّ في هذه الأنا ما هو أبعد من كينونتها الظّاهريّة، وفي عمقها وجود يخترق الحدود، وهو الوجود العالم بها. ولو كان غير عالم بها لما وجدت.
لو علمته لم يكن هو،
ولو جهلك لم تكن أنت:
فبعلمه أوجدك،
وبعجزك عبدته!
عبد الإنسان الله انطلاقاً من ضعفه وعجزه ما لا يقوده إلى العلم به. وأمّا الّذي اختبره في أعماقه، في الأنا المتفلّتة من الحدود سلك سبيل الذّوبان فيه. فعرفه بقدر ما عرفت الأنا حضوره في عمقها. وأمّا "هو" فبعلمه أوجد الإنسان، وعلمه عشق بذاته يفوق الإدراك. لذلك فالإنسان مرتبط به بحكم العلم الإلهيّ الّذي أوجده. لكنّ الله ليس مرتبط بالإنسان لأنّ الله هو العشق/ المحيط الحاضن لذرّة عشق، الإنسان. 
الدّائرة مطلقةً
مرتبطةٌ بالنّقطة
النّقطة مطلقةً
ليست مرتبطة بالدّائرة
الذّات الإنسانيّة مرتبطة بالذّات الإلهيّة من حيث حرّيّة العشق، فالعشق غير مشروط وغير مقيّد وغير خاضع لظروف ولا يتضاءل، بل إنّه يمضي ويستعر حتّى تضيق الذّات بذاتها. فالعشق الإلهيّ فيض في العمق الإنسانيّ يعمل في أغوار النّفس ويجذبها إليه. فدائرة العشق مطلقة مرتبطة بذرّة العشق/ الإنسان. وعمق الإنسان ذي النّفحة الإلهيّة مطلق مرتبط بالمعشوق الإلهيّ. (نقطةُ الدّائرة مرتبطةٌ بالدّائرة).

السبت، 4 يناير 2020

الطّائفيّة وارتداداتها في العقلية والسّلوك اليوميّ



مادونا عسكر/ لبنان
من الإشارات الّتي تؤكّد أنّنا ما زلنا دون مستوى التقدّم العلميّ والإنسانيّ بشكل عامّ، حديث غالبيّتنا عن الطّوائف والمذاهب. فهذا الفكر المنغمس في القوقعة والعبوديّة لشعارات سخيفة تبرهن على ثقافة المجتمع الّتي يمكن أن نسمّيها ثقافة التّفاهة. فالّذين ما زالوا ينتفضون ويتجمهرون كلّما أحسّوا بخطر اهتزاز عرش الطّائفة يعبّرون عن جهل مقيت حتّى وإن كانوا يعتدّون بعلمهم وثقافتهم. فالمسألة سطحيّة وتعبّر عن عقل فارغ إلّا من الاستعداد لفعل أيّ شيء من أجل المحافظة على الطّائفة والعقيدة. ولئن غرق العقل في مستنقع التّعصّب الطّائفيّ والمذهبيّ تعذّر عليه تبيّن عناصر التّقدّم الفكريّ؛ لأنّه منشغل دائماً في البحث عن دفاع واهم عمّا يمكن تسميته بالحصن الطّائفيّ. وفي كلّ مرّة يعبّر الإنسان عن دفاعه عن طائفته، فذاك يعني أنّ طائفته ملجأه الوحيد، وأنّه لا يملك قراراً ذاتيّاً ومنطقاً سليماً يمكّنه من اتّخاذ قرارته الشّخصيّة بمعزل عن سجن الطّائفة. ولا ريب في أنّ مبدأ التّعصّب يترادف والجهل. فالمتعصّب شخص جاهل لعمق المفاهيم ومتعلّق بالقشور. يتصرّف بردّات فعل غرائزيّة دعمها الجهل واستدعى قعر الدّائرة الإنسانيّة، فيستخدم أبشع الوسائل لما يعتقده دفاع عن الطّائفة.
لو بحثنا في تاريخ نشوء الطّوائف لوجدنا أنّها نتجت عن خلافات ونزاعات ونتج عنها أحقاد تأصّلت في النّفس، وقتال بغيض تربّى من خلاله الإنسان على العنف أدّى إلى إراقة الدّماء من أجل اللاشيء. ولا نجد في الانشقاقات الطّائفيّة إلّا استئثاراً بالعقل الإنسانيّ وتحكّماً بقدراته الفكريّة وإغراقه بالمزيد من الجهل. هذا الاختراع الإنسانيّ الفاشل الّذي هو الطّائفة يعيق التّقدّم الإنسانيّ فيتعثّر في مساره الطّبيعيّ في النّموّ والتّطوّر ويجعله أسير المتمسّكين بهذا الاختراع، ليستحكموا ويتحكّموا ويغذّوا الفكر الإنسانيّ بمبدأ العداء للآخر فيعزّزوا الصّراعات والخلافات المؤدّية إلى مزيد من الانشقاقات. فالإنسان المتعصّب طائفيّاً عدائيّ في عمقه وفي أسلوب تفكيره وفي سلوكه تجاه الآخر المختلف عنه حتّى وإن تحدّث ونادى بشعارات التّخلّي عن الطّائفة. كما أنّه يُعلي الطّائفة على الانتماء الدّينيّ، لأنّه يجهل المعنى العميق للرّسالة الدّينيّة. فهو ضمناً يدافع عن جماعة يعتقد أنّها تؤمّن له الأمان؛ لأنّه غير قادر على الاندماج في مفهوم المجتمع الّذي ينطلق من مساهمة الفرد في تقدّمه وتطوّره. وهو غير فاعل في هذا المجتمع، لأنّه يسعى عبر طائفته للانخراط فيه، ما يؤدّي إلى خلل يضرّ بالمصلحة العامّة. فالطّائفة أو المجموعة الطّائفيّة تسعى للمصلحة الخاصّة وللحماية الخاصّة. وفي خضمّ الأزمات تتقوقع على ذاتها أكثر فأكثر وتخلق حصوناً إضافيّة فيتباعد أفراد المجتمع حدّ اغتراب الواحد عن الآخر. فتعيش مجموعات مختلفة ضمن المجتمع الواحد. وكلّ حديث عن تخلٍّ عن الطّائفة غير مرتبط بالوعي الثّقافيّ والفكريّ شعارات ما تلبث أن تذوي مع أوّل خلاف.
يفترض التّخلّي عن الطّائفة وعياً بالمفهوم الإنسانيّ والمفهوم الإيمانيّ على حدّ سواء. في ما يخصّ المفهوم الإنسانيّ وجب تعزيز الوعي وإرسائه على جميع المستويات، وإعادة بناء مفهوم الانتماء، والتّحرّر من الخوف المتجذّر في الفكر والنّفس من الآخر، وإعادة بناء الوعي الإنسانيّ المعتمد على المنطق والفهم والقدرة على إبداء الرأي بشكل شخصيّ وبمعزل عن الزّعيم الإله. ما يقودنا إلى إعادة بناء مفهوم الإيمان. فالزّعيم الطّائفيّ إله الشّخص الطّائفيّ؛ كلامه منزل وشخصه منزّه وقراراته لا جدال فيها، ما يعني أنّ الشّخص الطّائفيّ غارق في عبوديّة الجهل الإيمانيّ حتّى وإن ادّعى التّديّن والالتزام الدّينيّ.  كما أنّه منغمس في ازدواجيّة مخيفة. يعبد إلهاً من منطلق دينيّ ويعبد إلهاً آخر من منطلق طائفيّ، ويكون الولاء للإله الثّاني أقوى وأشرس. وتكون العبادة لإله الطّائفة عبادة مطلقة، وكأنْ لا مثله شيء، وكأنّ خلاصه لا يأتي إلّا منه.
بالمقابل  يعزّز الفكر الطّائفي فكرة الإعلاء الوهميّ للذّات، فيتهيّأ للشّخص الطّائفي أنّه دائماً على حقّ، وأنّه معرّض دائماً للاضّطهاد. وكلّ فكرة أو حديث يهدّد طائفته حرب معلنة عليه، فيتشدّد ويستعد دوماً للدفاع عن نفسه انطلاقاً من الدّفاع عن الطّائفة. وأمّا إله الطّائفة فجالس على عرشه، لا تهمّه طائفة ولا يبالي لمفهوم إنسانيّ أو إيمانيّ. كلّ ما يكترث له المزيد من تأجيج الصّراعات والنّزاعات ليضمن بقاءه وربّما خلوده.
"ويل لأمّة تكثر فيها المذاهب والطّوائف وتخلو من الدّين" (جبران خليل جبران)، فهذه الأمّة المتخمة بالطّوائف، المترعة بالأفكار المتشدّدة والمتعصّبة، أشبه بمعتقل للإنسانيّة، لأنّها تسهم في قمع الفكر والتّقدّم وتعزّز الصّراعات وإهدار الدّماء واستدعاء الموت من أجل "لا شيء". والتّاريخ الطّائفيّ حافل بالمجازر والعنف المدمّر والحقد الأعمى.
من المؤسف،  بل من المعيب أنّنا ما زلنا نتحدّث عن النّزاعات والصّراعات الطّائفيّة في حين أنّ العالم يتقدّم علميّاً وفكريّاً وثقافيّاً. يبدو أنّنا ما زلنا في القعر، ولا نملك إلّا أن نسلّط الضّوء بكثافة على هذا المرض المزمن، لعلّنا نعالجه بإعمال المنطق والعقل، وتهذيب الفكر والنّفس، والتّثقيف العام.

الجمعة، 13 ديسمبر 2019

جدليّة الثّبات بين الأرضيّ والسّماويّ / قراءة في لوحة "عاشقة البحر" - L'innamorata del mare – للرسّام الإيطالي بومبيو مارياني



مادونا عسكر/ لبنان


"ليس على الرّسام أن يرسم ما يراه ، بل ما سوف يُرى" (فنسنت فان غوخ)
إنّها الرّؤية الجماليّة، الثّورة الّتي تنتزع من العالم قبحه حتّى يستبين السّحر والجمال. عين الرّسّام بصيرة النّاظر إلى اللّوحة والمعاين للجمال. وبقدر ما يعاين الرّسّام الجمال ينقله إلى بصيرة النّاظر فيستفزّ دهشته وإنسانيّته وتستفيق في أعماقه نسمة الجمال الأولى. لذلك يقول الموسيقار السّويسريّ إرنست ليفي: "إنّ الإنسانيّة ستبدأ بالتّحسّن عندما تأخذ الفنّ على محمل الجدّ كما الكيمياء أو الفيزياء أو المال."  في الفنّ ثقافة الجمال، والإنسانيّة خُلقت على صورة الجمال الأسمى ولا بدّ لها من أن تتفاعل معه.
ينساب الجمال من  لوحة الرّسّام الإيطاليّ مارياني إذ يجسّد أعماق عاشقة البحر الّتي ترنو إلى السّماء. يتجلّى في اللّوحة البحر كرمز للحرّيّة المنطلقة نحو السّماء والدّالّة على الاتّصال الأرضيّ السّماوي الكامن في العمق الإنسانيّ. وتبرز السّماء كرمز للحرّيّة المطلقة الّتي بدأت مع رمزيّة البحر لتكتمل في السّماء. كما يعبّر في ذات الوقت عن التّناقض القاسي بين الأرض والسّماء، تجسّده الألوان المتضادّة. 
تقف العاشقة المتّشحة بالأبيض على أرض صلبة  متشقّقة  وقاتمة، أشبه بأرض خالية من الحياة. تستند إلى صخرة، وتتطلّع إلى فوق، متخطّيةً الخطّ الجامع بين البحر والسّماء. ما يدلّ على شوق إلى العلوّ الّذي لا ترويه رمزيّة البحر للحرّيّة ولا يحدّه ذلك الخطّ. وإن دلّت الصّخرة على الثّبات، فهي من ناحية أخرى تدلّ على القسوة، حيث التّضاد بين لونها وألوان السّماء. ففي حين أنّ السّماء تمتزج ألوانها بين الأزرق والأبيض والأصفر، تحافظ الأرض على لون واحدٍ قاتم. فتظهر قسوة الواقع مقابل فرح العلوّ ورحابته. قد تكون الأمواج اللّطيفة الّتي ظهرت في اللّوحة معبّرة عن تدرّج المراحل التّحرّريّة حتّى يستبعد الرّسام رمزية الموت عن هذا المشهد. فالبحر في هذه اللّوحة تحديداً  كما يظهر لنا من خلال الألوان الّتي اختارها مارياني لا يحمل معنى الموت.  
أمام أبعاد ثلاثة، الأرض والبحر والسّماء، تعكس نظرة العاشقة الهائمة  حزناً  نتج عن اختبار لقسوة الواقع، حوّلته إلى توق إلى التّخلّي عن الثّبات الأرضيّ الباحث عن الثّبات السّماويّ. تحيد نظرها عن الأرض كنوع من رفض للثّبات على الأرض الّذي يبدو في اللّوحة رامزاً إلى اختبار العلاقة بين العلوّ والعمق.
 تبدو العاشقة وحيدة ظاهريّاً لكنّ نظرتها تلمّح إلى امتلاء خاصّ يظهر في شكل حوار ضمنيّ صامت. دلّت عليه النّظرة إلى البعد الثّالث الخارجة عن إطار الأرض والبحر. ولعلّ الوقوف الثّابت على الأرض والنّظرة الثّابتة إلى السّماء ما هما إلّا إشارة إلى ثبات النّظرة الإيمانيّة والرّجاء بالحرّيّة. 
تتدرّج ألوان السّماء حتّى يصفو الأزرق نهائياً فتتناقض تماماً مع الأرض ويظهر البعد الرّابع، ألا وهو عمق العاشقة الّذي يرمز إليه ثوبها الأبيض. الأبيض المنبعث من وسط قتامة الأرض يطاول زرقة السّماء ويجعلنا نرى ما ينبغي أن نراه من جمال عاشقة اختبرت الأرض، اشتاقت إلى السّماء وتنتظر الاكتمال فيها.  
 


الجمعة، 6 ديسمبر 2019

مقامات العشق المتجليّة في وحدة الخلق/ نصوص للشّاعر التّونسي يوسف الهمامي نموذجاً



مادونا عسكر/ لبنان

إذا كان الشّعر ذلك العالم السّرّ الّذي يصعب تفسيره، فالشّاعر هو المبدع الّذي امتزج في هذا العالم وسبح في أثيره إلى غير رجعة. يتأمّل ما يحيط به بدقّة، فيتّجه أفقيّاً نحو الكون ومكنوناته وعناصره. ويتأمّل أسرار هذا الكون وأصوله وغايته وهدفه. فيتّجه عمودياً ليلج العالم الإلهيّ ويستبصر بهاءه. فيكون الشّعر أدباً في حضرة الجمال الإلهيّ. وبالتّالي فالشّعر تصوير لهذا الجمال انطلاقاً من يد الله مبدعة الجمال. فإذا ما كتب الشّاعر كان ريشة في يد مبدع الجمال يصوّر البهاء كتابة.
ولئن غاص الشّاعر في عالم الجمال الإلهيّ، غرق في حبّ الله الّذي لم يعد يبحث عنه. وإنّما يرنو إليه حبّاً، ويتّصل به عشقاً ويكتشف حقيقته هياماً، حتّى تنكشف له الرّؤى ويفيض الحبّ الإلهي ويمسي الشّعر أدباً في حضرة الحبّ الإلهيّ.  وفي حضرة الحبّ، لا بدّ من الحديث عن تجربة حقيقيّة تقودنا إلى التّساؤل عمّا إذا كان الشّاعر يرى فعلاً الله. فالشّاعر وهوَ في خضمّ المناجاة قد يقول ما لا يُقال، وقد لا يتمكّن من كتمان المكاشفة؛ وذلك لأنّ الحبّ أقوى من الكتمان وأعظم من الإخفاء.
إلّا أنّ نصوص الشّاعر يوسف الهمامي تخلص إلى ما هو أبعد من المناجاة والعبادة، لتخلق خطّاً صوفيّاً يقوده الوحيّ إلى تجلّي الحبّ الإلهيّ في النّصّ، بل إلى جعل الكلمة جسداً يتحرّك داخل النّصّ. فيظهر تفاعل الشّاعر مع الوحي، من جهة. ومن جهة أخرى انقياده التّلقائيّ إلى الإصغاء العميق إلى الصّوت المرتدّ في داخله، الّذي يبلّغ الشّاعر الشّعر. كما أنّه ينكشف ما هو أبعد من العشق في قلب الشّاعر. فإذا كان الشّعر أدباً في حضرة الحبّ الإلهيّ فلا ريب أنّ الشّاعر عاشق يتفاعل مع عشق يرفعه إلى مقام أرفع:
أنا لا أعشق
إنّما أتلذّذ جمال الله
في خلقه..
وما التّلذّذ بالجمال الإلهيّ إلّا ارتشاف وحي الحبّ والانصهار في تفاصيله، والتّماهي  وحقيقته. فنحن هنا أمام شاعر خاضع للشّعر تماماً يُكتَبُ ولا يَكتُبُ. يسمح للوحي أن يتسرّب إلى عمق أعماقه حتّى يعود ويعكس بهائه في القصيدة. يحيا تفاصيل الله ممتلئاً من العشق الإلهيّ. هذا الوجدان المغمور بالحبّ الإلهيّ والمتفاعل معه يعوزه اعتماد مبدأ عشق الإله الشّخص لا الفكرة. ما يدفعنا إلى قناعة تشرح رؤية الشّاعر لله:
أرى الله..
لم أعد أبحث عن براءة الواجهة
دِبْرُ القميص صار مثل قُبُله
(أرى الله/ لم أعد أبحث). عبارتان متلازمتان تبيّنان بلوغ الشّاعر قلب الحقيقة. يتعايش معها ويدور في فلكها. ولكن هذا لا يعني أنّ الشّاعر يرى شخص الله، أم أنّ الذّات الإلهيّة انكشفت له. إنّ كيان الشّاعر الهائم في العشق الإلهيّ يبصر الله الشّخص من خلال اتّحاده الرّوحيّ بشخص آخر، ألا وهو المحبوبة. هذا الاتّحاد العشقيّ المرتقي بالكيانين جاعلاً إيّاهماً واحداً. وتبدو هذه الوحدة متجليّة في نصوص الهمامي، وهي تتّخذ خطّ العشق الإلهيّ. وتشكّل درباً للوصول إلى الله، بل إلى رؤيته:
الله غمرني بك
حتى فضتُ بك
..حُبًّا لَهُ
/
أنت دابّة روحي إليه
أعيشك كي أعيش أبدا
تتشكّل الوحدة بين الحبيب والمحبوب بفعل المشيئة الإلهيّة، وتفيض حبّاً يعود إليه. فيحبّ الشّاعر محبوبته بقلب الله والعكس صحيح. ولعلّ هذه الوحدة تنفي حضور الشّخصين ضمنيّاً ليظهر شخصاً واحداً (الأنا- أنت) عابداً عاشقاً لله. الأنا في الأنت، والأنت في الأنا، والأنا- أنت في الله. فيصير الكلّ في الكلّ المطلق (الله). من هنا يمكن للقارئ أن يفهم أنّ الشّاعر يرى الله فعلاً في  حقيقة الوحدة. بل إنّه في عمق قلب الله حتّى أنّه يغيب عن ذاته ليتفرّغ لرؤيته وحسب من خلال المحبوبة:
سَجَدَ سهوًا
عندما مرّتْ بباله
وهو يصلي!..
يصلّي الشّاعر بالعشق المتحوّل إلى صلاة، فيسجد إذا ما مرّت المحبوبة بباله. يشير هذا النّصّ الشّعريّ المتّشح بالقداسة، إلى توجّه الكيان بكلّيّته إلى الله. فتغدو الصّلاة في الله وبالله ولله. سجود العقل المستنير (عندما مرّت بباله)، بلوغ الشّاعر مرحلة الصّلاة اللّاكلاميّة (لا أحد يتكلّم، لا أحد يسمع). اعتناق العشق مذهباً لبلوغ ذروة الصّلاة بل لبلوغ النّور الإلهي. الأنا- أنت، مسافة عشق بين الشّاعر والله:

أنت – أنا
لا مسافة بين مُعتكفٍ
وكَلِيمِه..
..
الحروف أنفاس
عند النّداء
يُصلّي الحميم بِحَمِيمِه
نصوص متكاثفة تجعل من الألفاظ لحظات شاعريّة، وليس فقط قصائد وجملاً شعريّة، محققّة رسالتها في الجمال اللّغويّ والمعنويّ المفتوح على المطلق والسّاعي إلى تماهي جميع الموجودات بما فيها اللّغة في ذات واحدة، يدلّ على الوحدة الشّموليّة للكون والإنسان والذّات الإلهيّة.

   



الجمعة، 29 نوفمبر 2019

في الفرق الدّقيق بين الشّهيد والضّحيّة



مادونا عسكر/ لبنان
كلّ زمن عبر ويعبر وسيأتي، يحمل في طيّاته آلاماً جمّة وجروحاً تحفر في النّفوس. وقد يتناسى الإنسان جروحه، إلّا أنّها تبقى في عمق العمق أثراً بالغاً يستيقظ كلّما تداعت الظّروف وتحرّكت السّياسات واندلعت الحروب وحلّ الموت وحصد آلاف الأرواح. قد يموت النّاس  دفاعاً عن الوطن، أو عن قضيّة سياسيّة أو حزبيّة أو دينيّة. وفي شتّى الأحوال ثمّة التباس حول اعتبار هؤلاء الأشخاص شهداء أم ضحايا. ولعلّنا نخلط بين مفهوم الضّحيّة ومفهوم الشّهيد. والفرق بينهما شاسع ودقيق، ولا يجوز استغلال مبدأ الشّهادة كلّما توفّي شخص في حالة حرب أو اشتباك أو تصفية حسابات سياسيّة أو حزبيّة أو فرديّة. كما لا يجوز استغلال مبدأ الشّهادة إعلاميّاً لخلق جوّ من التّشنّج وتعزيز التّحريض لإثارة للغرائز.
الشّهيد هو من اختار طوعاً أن يحيا مسيرة حياة توصله إلى الشّهادة. لذلك لا نستطيع أن نطلق على كلّ الّذين يموتون في أوطاننا لقب "شهداء". وبعد الخيار، يأتي القرار الّذي يجعل من مسيرة حياتهم، مسيرة خاصّة جدّاً تتأقلم مع الواقع الّذي آمنوا به، واعتبروه حقيقة مطلقة، وبالتّالي يتناسب القرار مع الخيار الّذي عاشوه. ومن هذا المنطلق، تبدأ مسيرتهم كشهداء، وتطال حياتهم وهم أحياء. هي مسيرة نضال، وسلوك طريق واضح وانطباع خاصّ لما آمنوا به، إلى أن يصلوا لعيش شهادة الدّم. هدف الشّهيد واضح، وهو يعي أنّ الخطّ الّذي اتّبعه يؤدّي به إلى شهادة الدّم، وهو مستعدّ دائماً إلى أن يضحّي حتّى النّهاية، ولو بسفك الدّماء. ويُطلق لقب "شهيد" على من اختار طوعاً ودون أيّ ضغط اجتماعيّ أو دينيّ أو عائليّ، بل بملء إرادته الحرّة أسلوب  حياته. كما يدفع الشّهيد ثمناً باهظاً للوصول إلى هدفه، والثّمن يخصّه وحده، ولا يمكن أن يحمّله لشخص آخر، ممّن يعرفونه أو حتّى يحبّونه من أهله أو أصدقائه أو معارفه .
إذاً، فالشّهيد، يختار مسيرة حياة، ويناضل في سبيل هدف، ويدفع ثمنه بإرادته الحرّة والطّوعيّة. وهذا الثمن بالنّسبة لمن اختار أن يكون في مصاف الشّهداء، يبلغ أقصاه في شهادة الدّم.
إلّا أن ما نراه فعليّاً هو إمّا التباس حول مفهوم الشّهادة، وإمّا استغلال له بهدف التّخدير أو امتصاص النّقمة أو إنعاش الغرائز في سبيل الفتك والانتهاك أو تحويل مسار الأمور. ولو دققنا في الأحداث التّاريخيّة والأحداث الحاليّة وجدنا أنّ قلّة من الضّحايا الّتي هلكت في الحروب والنّزاعات والصّراعات، شهداء. وأمّا الأغلبيّة فضحايا استُغلّوا وماتوا دون أن يكون هدفهم الموت.
فالضّحايا هم الّذين يدفعون ثمن أهداف غيرهم، ويموتون دون أن يختاروا ذلك، وهم أبعد ما يكون عن هذه الأهداف. فهؤلاء الّذين يلقون مصرعهم في انفجار أو في حادث إرهابيّ، هم ضحايا، لأنّهم لم يختاروا طوعاً أن يموتوا. لذا فالإنسان الضّحيّة يعيش الظّلم والقهر، وبالتّالي يدفع ثمن ما لم يختره وما لم يقرّره، وذنبه الوحيد أنّه أُقحم في لعبة الموت. هناك آخر قام عنه بخيار معيّن وقرّر، وبالتّالي يُسفك دمه دون هدف.
والضّحيّة شخص مجرّد من كلّ قرار، ويوظّف طاقته وقوّته كي يستمرّ بالرّغم من كلّ القرارات الّتي أُخذت عنه في سبيل أن تجعل منه ضحيّة. كما أنّه مجرّد من كلّ هدف إلّا هدف البقاء. فالضّحيّة تصارع البقاء وتناضل من أجل البقاء حيّة راجيةً تحقيق أهدافها على شتّى أنواعها. وهي لا تسعى وإن في ظلّ الصّراعات والنّزاعات إلى الموت.
الموت هو الموت، لا يفرّق بين إنسان وآخر. والأهم من الطّريقة الّتي يموت فيها الإنسان هو أسلوب الحياة الّتي يحياها. ولا بدّ من القول إنّ الموت في سبيل قضيّة ساميّة أسمى ما في الوجود، لكنّ الأهم هو السّلوك الحياتيّ لتحقيق هذه القضيّة. فالّذين يرحلون يتركون آثارهم مضاءة في الذّاكرة، وقد تتلاشى الذّاكرة مع الضغوطات الحياتيّة والانهماكات اليوميّة. وقد تنتعش ليخرج الفاشيّ من جسد الضّحيّة، كما يقول محمود درويش. إنّها الدّائرة المقفلة، دائرة العالم الغارق في الأنانيّة والاستغلال والصّراعات.
الّذين يرحلون، شهداء كانوا أم ضحايا يمضون إلى عالم أفضل من عالمنا التّعيس. والإنسان كائن مقدّس، وإن اختار الشّهادة فطوبى له، فما من حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل أحبّائه. وإن لم يختر وسقط وروت دماؤه الأرض، فدماؤه مقدّسة لأنّها دماء أريقت بفعل سطوة القهر والظّلم والانتهاك.