إذا كان العقل هو روح الحرّيّة كما
يقول الشّاعر اللّوكسمبورغي (لينتز)، فلا بدّ من أنّه يرتقي درجات السّموّ
العشقيّ. فروح الحرّيّة المتمثّلة بالتّفلّت من العناصر الّتي تحول بين الإنسان
وبلوغ الحقيقة، تحتاج حالة عشقيّة خاصّة يخفق لها العقل. قد لا نتنبّه إلى
الانجذاب العقليّ الّذي يحصل بين فكرين. ذاك الانجذاب الّذي يخلق حالة من الأسر
والاشتياق إلى الحقيقة. فالعقل الفلسفيّ الّذي يسعى جاهداً باحثاً عن الحقيقة هو
في حالة عشق لها. وهو المأسور بها، يكرّس حياة كاملة لملامستها. والتّبادل الفكريّ
يؤجّج حالة الانجذاب ويسهم في خلق علاقة حميميّة سواء أكانت هذه العلاقة بين شخصين
أو بين الله والإنسان كما نعاين حالة الانجذاب عند الصّوفيين. فالصّوفيّ عاشق
انفتح بعقله على النّور الإلهيّ، وسمح له أن يتسرّب إلى قلبه. ما يعني أنّ العقل
العاشق هامَ في النّور حدّ انخطاف القلب.
والعشق العقليّ مختلف عن البحث
العقليّ؛ لأنّه بلغ رتبة أرفع من التّحليل والتماس المعرفة. إنّه لحظة ما بعد
الحالة الصّوفيّة الّتي يتماهى فيها العقل المستنير والقلب المتقّد. فلا تنفصل
الاستنارة العقليّة عن الانفتاح القلبيّ والرّوحيّ. قد لا تكون هذه الحالة ثابتة،
لأنّها تخضع لبشريّة الإنسان، وقد تختلف من شخص إلى آخر، لكنّها قائمة بحدّ ذاتها.
وبالحديث عن حالة عشقيّة فضرورة الاختلاف حتميّة. إذا كانت سطوة الكلمة تلتهم
العقل وتؤثّر عليه بشدّة وهي، أي الكلمة، القوّة الخارقة الّتي تستحوذ على الفكر
فتبدّله وترتقي به. فذاك يعني أنّ العقل يدخل في حالة عشق مع الكلمة وسرّها.
عندما بلغ الحلّاج رتبة ما بعد
الحالة الصّوفيّة وانصهرت الاستنارة العقليّة بالهيام القلبيّ العاشق لله، هتف:
"أنا الحقّ". وبذلك عبّر عن أرفع حالات العشق الّذي بلغ ما بلغه من
معاينة للحقيقة. ما دفعه إلى الاستعداد للموت في سبيل التّحرّر الكامل ليلتقي بها.
وإذا قال إنّه الحقّ، فليعبّر عن اتّحاد عشقيّ عقليّ قلبيّ، بل كيانيّ. يؤكد القدّيس غريغوريوس النّزينزي على أنّ الله لا يمكن إدراكه،
ولكن يستشفّه العقل بعض الاستشفاف، وذلك
لكي يُعطى للعقل دافع وحافز لينجذب إلى الله، لأنّه حسب رأيه، عدم إدراكه كليًا
فيه إحباط وفشل وخيبة أمل من الدّنو منه. هذا الاستشفاف العقليّ للحضور
الإلهيّ هو التّأمّل بإمعان في الحقيقة
والانجذاب لها حدّ الالتحام بتفاصيلها، فيستسلم لها القلب العاشق. ونمسي أمام عشق
متحرّر من العاطفة الهشّة، متدرّج صعوداً نحو العشق الإلهيّ. فالعشق أعظم من
عاطفة، وأعمق من مشاعر قد تتبدّل في أيّ وقت وتحت أيّ تأثير. العشق حالة اختلاج
العقل وانسحاق القلب أمام النّور وارتجاف المعرفة أمام الجمال الأسمى. فهل يخفق
العقل إذا ما غازله النّور وأرسى بظلاله على جذوره المتمدّدة في القلب؟
مادونا عسكر/ لبنان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق