نظرة في "درجات الكمال
التّسع" للقدّيس يوحنا الذّهبيّ الفم
مادونا
عسكر/ لبنان
كثيرون
يبحثون عن الكمال وذاك مطلب إنسانيّ فطريّ يسعى إليه الإنسان. لكنّ هذا البحث عن
الكمال غالباً ما يرتبط بالظّاهر الإنسانيّ فيتوه الإنسان عن الطّريق الحقيقيّ
الّذي يبلّغه الكمال، خاصّة إذا كان غير مدركٍ لدلالة الكمال. أو يرتبط بالكمال
الإلهيّ، وذاك غير ممكن دون المرور أوّلاً بالكمال الإنسانيّ. ما يسلّط الضّوء
عليه القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم في "درجات الكمال التّسع"، مظهراً
السّبيل إلى الكمال الإنسانيّ بهدف بلوغ الكمال الإلهيّ. وحين نتحدّث عن كمال
إلهيّ لا نريد به المساواة مع الله. وإنّما الكمال الإلهيّ أو الاكتمال بالله هو
اتّحاد عشقيّ يفوق التّصوّر كما يفوق قدرة الإنسان نفسه على العشق. فإذا بلغ
الإنسان هذا الاتّحاد بلغ الكمال الحقيقيّ الّذي يخرجه من العالم ليحيا مع الله
وبالله وهو في قلب العالم.
دخل
القدّيس يوحنّا فم الذّهب في عمق التّركيبة الإنسانيّة المعقّدة، ولم يقف عند حدود
الوعظ. فمعلّم المسكونة يسهم في بناء
الإنسان الكامل الّذي على صورة الله ومثاله.
-
الدّرجة الأولى: ألّا يبدأ الإنسان بظلم أخيه:
تتعدّد أوجه الظّلم ودرجاته.
من الظّلم بالفكر، إلى القول، إلى الفعل. ولعلّ القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم أراد
بالدّرجة الأولى معنى الظّلم الّذي ينطلق من الفكر الّذي لا يقلّ أهمّيّة عن
الظّلم بالفعل. فالفعل نتيجة وبالتّالي فلا بدّ من استئصال الظّلم من الفكر أوّلاً
حتّى لا يبلغ الظّلم الفعليّ. تلك هي الدّرجة الأولى الّتي تبدأ بتنقية الفكر
أوّلاً فلا يبدأ الإنسان بظلم أخيه الإنسان. وعبارة (ألّا يبدأ) تضع الإنسان أمام
حالته الأولى أو صورته الأولى الّتي على صورة الرّبّ، وتبقيه في حالة النّقاء حيث
أنّه لا يقدم على ظلم أخيه ولا يكون المبتدئ بالظّلم. ما يعني أنّ المبتدئ بالظّلم
لا يسعه ارتقاء أولى درجات الكمال؛ لأنّ في الظّلم تعدّياً على الآخر، وبالتّالي
انفصال عن الله أي عن المحبّة. فكيف يمكن للإنسان عندها أن يخطو نحو الكمال؟
- الدّرجة الثّانية: إذا أصيب
الإنسان بظلم فلا يثأر لنفسه بظلم أشدّ، وإنّما يكتفي بمقابلة العين بالعين
والسّنّ بالسّنّ (المستوى الناموسي القديم):
ينتقل القدّيس يوحنا الذّهبيّ
الفم من الظّلم بالفكر ليعالج التّركيبة الإنسانيّة في ردود أفعالها. وهو الّذي
يعي أنّه من غير الممكن أن يبلغ الإنسان الكمال دون الانتقال من مشروع إنسان إلى
إنسان. كما أنّه من غير الممكن أن يتخلّى عن ردود أفعاله دون التّدرّب على ضبط
النّفس ضمن إطار المحبّة وليس ضمن إطار القمع. (إذا أصيب الإنسان بظلم فلا يثأر
لنفسه بظلم أشدّ)، وما عبارة (بظلم أشدّ) إلّا تدريب على ضبط النّفس فيكتفي
الإنسان بردّة فعل طبيعيّة تجاه الظّلم الّذي أصابه. ويعامِل بحسب ما عومل وبحسب
الطّبيعة الإنسانيّة الّتي ما زالت عند حدود الإنسان القديم الّذي لم يولد بعد من
جديد بالمسيح. فالمولود من جديد مولود بحسب الرّوح فيصبح ابناً لله. وبحسب هذه
البنوّة يتصرّف. ما يقودنا إلى الدّرجة الثّالثة.
- الدّرجة الثّالثة: ألّا يقابل الإنسان من يسيء إليه بشرّ يماثله، إنّما يقابله بروح هادئ:
إنّ ضبط النّفس هو ضبط فكريّ ونفسيّ في آن. فالإنسان إذا ما بلغ الدّرجة الثّالثة انشغل عن العالم مهتمّاً بما فوق. فيمتلئ هدوءاً وسكينة تسمحان له بمقابلة فعل الشّرّ بصمت الحكمة والتّفهّم والمحبّة. وإلّا فكيف يقابل الإنسان الشّرّ بروح هادئ ما لم يكن ممتلئاً بالحبّ الإلهيّ؟ هذا الاستيعاب الفكريّ والنّفسيّ والرّوحيّ دليل تمرّس بالمحبّة الإلهيّة لأنّ الطّبيعة الإنسانيّة تميل إلى مقابلة الشّرّ بالشّر، إمّا انطلاقاً من الحقوق والواجبات، وإمّا انطلاقاً من ردّة الفعل التّلقائيّة دفاعاً عن النّفس. ومقابلة الشّرّ بروح هادئ لا تلغي الدّفاع عن النّفس كما يظنّ البعض، بل إنّ الرّوح الإنسانيّة الهائمة في المحبّة الإلهيّة تدرك عمق الآخر فتقابل بهدوء لتُعمل الحكمة أي العقل المستنير في كيفيّة التّعامل مع هذا الفعل.
- الدّرجة الرّابعة: يتخلّى الإنسان عن ذاته،
فيكون مستعدّاً لاحتمال الألم الّذي أصابه ظلمًا وعدوانًا :
يتّسم
قول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم بالدّقّة: (يتخلّى الإنسان عن ذاته) فهو إن
تمسّك بها أي إن تمسّك بإنسانيّته الخارجة عن المحبّة الإلهيّة فلن يكون مستعدّاً
لتحمّل أي شيء. والتّحمّل قدرة تلقائيّة نتيجة الدّرجات الثّلاث الأولى. وهو
يتطلّب وعياً شديداً ومحبّة كبيرة حتّى لا يستحيل إلى خضوع واستسلام. فالفرق شاسع
بين الاستسلام والتّحمّل. الاستسلام خضوع لفعل الشّر وضعف وخوف. وأمّا التّحمّل
فهو بهدف الارتقاء والتّرفّع عن فعل الشّر الّذي يهين المحبّة الإلهيّة ويجرح الله
في صلب محبّته. فيكون تحمّل الظّلم إدراكاً لأسباب الفعل بقوّة وحكمة المحبّة.
- الدّرجة الخامسة: في هذه المرحلة لا يحتمل
الألم وحسب، وإنّما يكون مستعدًا في الدّاخل أن يقبل الآلام. أكثر مما يودّ الظّالم
أن يفعل به، فإن اغتصب ثوبه يترك له الرّداء، وإن سخّره ميلًاً يسير معه ميلين:
قبول الآلام جزء لا يتجزّأ من
المحبّة. وعلى عكس ما يظنّ البعض أنّ احتمال الألم نوع من تخدير للطّاقة
الإنسانيّة. الاحتمال يحتاج إلى قوّة محبّة هائلة لا يقوى عليها إلّا من امتلأ
حبّاً. "المحبّة تحتمل كلّ شيء، وتصدّق
كلّ شيء، وترجو كلّ شيء، وتصبر على كلّ شيء." (1كورنثس
7:13). المحبّة تحتمل وتصدّق وتصبر،
لأنّها قوّة بمنطق الله لا بمنطق العالم. ومن يتدرّج سلّم الكمال لا بدّ من أنّه
تمنطق بالمحبّة الإلهيّة ووعى أنّها فعل إلهيّ لا إنسانيّ.
في الدّرجة
الخامسة، بعد أن تخلّى الإنسان عن ذاته، أي أفرغها من التّشوّهات وامتلأ من
الله يكون مستعدّاً ليحتمل الألم النّاتج عن غربته في العالم. لذلك يستغني عن كلّ
شيء ويمسي كلّ مقتنىً غير مهمّ ولا قيمة له، لأنّ المحبّ خرج من منطق العالم وبات مأخوذاً
بالنّور الإلهيّ. فأيّ قيمة لمقتنىً أو ملك أمام عظمة الله. "بل إنّي أحسب كلّ شيء أيضاً خسارة من أجل فضل معرفة المسيح
يسوع ربّي، الّذي من أجله خسرت كلّ الأشياء، وأنا أحسبها نفاية لكي أربح
المسيح" (فيليبي 8:3). وليس الحديث هنا عن آلام جسديّة؛ لأنّها
أمر طبيعيّ، وإنّما الحديث عن ألم المحبّة.
- الدّرجة السّادسة: أنّه يحتمل الظّلم
الأكثر ممّا يودّه الظّالم دون أن يحمل في داخله كراهيّة نحو العالم:
يفقد
السّالك درب الكمال كلّ قدرة على الكراهية؛ لأنّه ممتلئ بالمحبّة ومستنير بها.
والامتلاء بالمحبّة يتحدّد بالقدرة العقليّة على الاستنارة والتّفكير بالمنطق
الإلهيّ. كما يتبيّن من خلال السّلوك الّذي ينطلق من الحبّ الإلهي لا من الحبّ
الإنسانيّ. يلغي هذا الامتلاء كلّ قدرة على الكراهية أو الحقد أو النّقمة فيصبح
الإنسان حاملاً الطّبع الإلهيّ إن جاز التّعبير، غير مدرك لمعنى الكراهية أو
الحقد.
-
الدّرجة السّابعة: لا يقف
الأمر عند عدم الكراهيّة وإنّما يمتدّ إلى الحبّ... "أحبّوا أعداءكم":
لا
يكفي ألّا نكره فالفاقد للإحساس لا يكره ولا يحبّ. وقد يمرّ أي إنسان في هذه الحياديّة
إذا ما بلغ حدّة ما في مشاعره أو تعرّض إلى أذى شديد. إلّا أنّ الكمال لا يعرف هذه
الحالة، لأنّ الإنسان السّاعي إلى الكمال مغمور بالمحبّة كفضيلة إلهيّة لا كشعور
عاطفيّ تجاه أشخاص محدّدين. ولقد استند القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم على قول
السّيّد المسيح "أحبّوا أعداءكم" ولعلّ الكلمة الأصحّ الّتي تضبط
المعنى أكثر هي (معاديكم). فيصبح القول "أحبّوا معاديكم". لأنّ المحبّ
العاشق لله لا أعداء له؛ لأنه لا يعتبر أحداً عدوّه. لكنّه يواجه معادين للمحبّة. واللّافت في هذه
العبارة (أحبّوا أعداءكم) أنّ الفعل (أحبّوا) في صيغة الأمر. ما يعني أنّ الحبّ
الإلهيّ قرار وفعل إراديّ. الكمال هو أن تقرّر أن تحبّ. ما يصعب على الذّات
الإنسانيّة المنفصلة عن المحبّة الإلهيّ، غير الممتلئة بها. لذلك نرى الإنسان
يتخبّط بين مشاعر الحبّ والكره، وذلك لأنّ الحبّ الإنسانيّ عاطفة هشّة.
- الدّرجة الثّامنة: يتحوّل الحبّ للأعداء
إلى عمل، وذلك بصنع الخير "أحسنوا إلى مبغضيكم"، فنقابل الشرّ بعمل خير:
يدخلنا
القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم في دائرة العمل الإلهيّ، عمل الحبّ. تقرّر أن تحبّ
فتفعل وتعمل من أجل أن يمتلئ الكون كلّه حبّاً حتّى يتلاشى الشّرّ ويندثر. في
الدّرجة الثّامنة، تبرز قيمة الخير كقوّة محوّلة لفعل الشّرّ. فمقابلة الشّرّ
بالخير حكمة لا يفهمها إلّا من تمنطقوا بالمحبّة الإلهيّة. "أيّها الحبيب، لا تتمثّل بالشّرّ بل بالخير، لأنّ
من يصنع الخير هو من الله، ومن يصنع الشّرّ، فلم يبصر الله." (3 يوحنّا 11:1) الممتلؤون من الله، من الحبّ يترفّعون حكماً عن كلّ
ردّة فعل منافية للمحبّة، لأنّه إذا أبصرت الحبّ ومازجت روحك روحه فكيف لك ألّا
تقابل كلّ أمر بالحبّ؟
- الدّرجة التّاسعة والأخيرة: يصلّي المؤمن
من أجل المسيئين إليه:
ذروة
الكمال الدّخول في سرّ الحبّ، الصّلاة، الصلة بالله الحبّ. فالصّلاة ليست ترداداً
لآيات وعبارات، وإنّما هي صلة عميقة بالله. صلاة في داخل الدّاخل من أجل أن يغزو
الحبّ العالم حتّى يخلص من شقائه. وبذلك وإذا ما بلغ الإنسان رتبة الكمال امتزج
بالله وبالإنسان. فالحبّ يسير باتّجاه عموديّ نجو الله وآخر أفقيّ نحو الإنسان
وإلّا فكيف يمكن أن تحبّ الله الّذي لا تراه ولا تحبّ أخاك الّذي تراه؟ (1يوحنّا
20:4).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق