الأحد، 7 أكتوبر 2018

المجاهدات الرّوحيّة لبلوغ الوطن الإلهيّ




مادونا عسكر/ لبنان
"يا ابن البشر، إن تحبّ نفسي فأعرض عن نفسكَ، وإن ترد رضائي فأغمض عن رضائكَ لتكون فيّ فانياً وأكون فيكَ باقياً." (الكلمات المكنونة- حضرة بهاء الله)
إنّ الكلام الإلهيّ لا ينقطع ولا يتوقّف ولا يعرف الأمس واليوم والغد. فالكون بأسره تحت نظر الله منذ البدء وإلى الأبد. "إنّ ألف سنة في عينيك مثل يوم أمس بعد ما عبر، وكهزيع من اللّيل" (مزمور 4:90). والله يحدّث كلّ إنسان ولا يسمعه إلّا المنفتح على الخير والحبّ والجمال. في كلّ إنسان نزعة إلى العلو، إلى قلب الله. وهذه الرّحلة أو هذا الحجّ إليه يتطلّب تدرّجاً في الجهاد الرّوحيّ ومثابرة على المسير نحو النّور، وعزم على التّحرّر من كلّ قيد يمكن أن يشكّل حاجزاً بين الإنسان والله.
حضرة بهاء الله، الّذي جاء بتعاليم روحانيّة واجتماعية جديدة تتوافق وعصرنا الحديث، بحسب الدّين البهائيّ، علّم أن هناك إلها واحدا، وأنّ الأديان جميعًا من عند الله، وأنّ الوقت قد حان للبشريّة لكي تدرك وحدتها وتتآلف. ويظهر لنا الاختبار الإيمانيّ الخاصّ لحضرة بهاء الله من خلال مؤلّفاته وكتبه العديدة. إلّا أنّني سأتوقّف عند كتاب "الوديان السّبعة" الّذي يشرح فيه حضرة بهاء الله التّدرّج الرّوحيّ لبلوغ الوطن الإلهيّ. وبهذا، فنحن أمام اختبار أدّى إلى ترجمة حديث القلب أو  تدرّج حضرة بهاء الله في هذه المراحل السّبعة ليرتقي تدريجيّاً من العالم نحو الله. (وبعد – فإنّ للسّالكين إلى الوطن الإلهيّ من المسكن التّرابي مراتب سبعا معلومة يسمّيها البعض "الوديان السّبعة" ويدعوها آخرون المدن السّبع، وقيل إنّ السالك لن يرد بحر قرب الوصال، ولن يرشف من خمر لا مثال إلّا إذا هجر نفسه وهواها، وبلغ هذه الأسفار أقصاها ومداها.)
يدلّ عنوان الكتاب على المضمون الرّوحانيّ ويكشف صوفيّة حضرة بهاء الله، كحالة ترتقي نحو الله بحثاً عن ملاقاته وذلك من خلال سبع مراحل يتدرّج فيها الإنسان لتكتمل العلاقة في المرحلة السّابعة. ولئن كان للرّقم سبعة الّذي يجمع العالم الإلهي المرموز إليه بالرقم ثلاثة والعالم الأرضيّ المرموز إليه بالرّقم أربعة، دلالة الكمال. تشكّل معنى العنوان (الوديان السّبعة) المنطلق من التّراب نحو العلو. ولعلّ كلمة (وديان) تشير إلى العمق الإنسانيّ الّذي سيتحرّر منه الإنسان تدريجيّاً منطلقاً من الوادي إلى قمّة الجبل. وكأنّي بحضرة بهاء الله يتطلّع إلى الجبل مجازيًّا ويشرح كيفيّة الصّعود من الوادي.
يمكن اعتبار الأقسام الأربعة الأولى متعلّقة بالمجاهدة الأرضيّة والأقسام الثّلاثة الباقية مرحلة العلاقة الفعليّة مع الله حيث إنّ الرّوح تحرّرت وانطلقت نحو الله.
في الوادي الأوّل "وادي الطّلب"، يتحلّى الإنسان بالصّبر والمثابرة مطهّراً قلبه وسمعه عن كلّ ما رأى. فتبدأ رحلة التّجرّد وإفراغ الذّات من  كّل ما فيها استعداداً للامتلاء من النّور الإلهيّ. وفي ذات الوقت يتمدّد الإنسان في العالم روحيّاً من خلال بناء العلاقة مع الآخر في أي مكان بحثاُ عن سرّ المحبوب الإلهيّ. وهنا نتلمّس العلاقة العموديّة الأفقيّة المشتركة بين كلّ المحبّين. فبلوغ قلب الله يبدأ بعلاقة المحبّة مع الآخر. (والسّالك في هذا السّفر يفترش كلّ تراب ويسكن كلّ بلد ويتوسّم جمال المحبوب في كلّ وجه ويطلب الصّديق بكلّ دار، ويجالس أية جماعة في مجمع، ويرافق كلّ شخص عساه أن يلمح فيه سرّ محبوبه أو يشاهد في وجه ما جمال معشوقه.) والمعنى الضّمنيّ لكلام حضرة بهاء الله يدلّ على أهمّيّة حضور الآخر في ارتقاء الرّوح نحو الله. ولا بدّ من أنّ الدّيانة البهائيّة الّتي تدعو إلى وحدة البشريّة، تعي أنّ تآلف البشر ووحدتهم تبلّغهم قلب الله.
في الوادي الثّاني "وادي العشق"، يتبيّن الشّوق إلى الله إذا ما لمس الإنسان شعاعاً من نوره. فينجذب إليه ويشتعل شوقه إلى السّماء. ويتحدّث حضرة بهاء الله عن عنصر الألم، كعنصر مهمّ في هذه المرحلة المرافقة للعشق الّذي يمنح العاشق القدرة على احتمال كلّ ألم في سبيل إعلاء الكلمة الإلهيّة. ولا يحتمل العاشق الألم مرغماً وإنّما تلقائيّاً في سبيل معشوقه. بل يصبح العشق معبد العلاقة مع الله، (أشعل نار العشق ثمّ احرق الحياة طرا // ثمّ اخط بقدمك داخل كعبة العشّاق)
في الوادي الثّالث "وادي المعرفة"، بالعشق تتكوّن المعرفة، أو العشق هو المعرفة فهو الّذي إذا ما امتلك العاشق أنار عقله فاستنار وبدأ بتلمّس الحقائق والأسرار، فيبصر بقلبه ما لا يرى ولا يُدرك. (في هذه الرّتبة يرضى السّالك بالقضاء ويرى الحرب صلحاً ويدرك في الفناء معاني البقاء ويرى بعين الظّاهر والباطن في آفاق الوجود وأنفس العباد أسرار المعاد ويلحظ بالقلب الرّوحانيّ الحكمة الصّمدانيّة في المظاهر الإلهيّة اللّامتناهية يرى في البحر قطرة ويلحظ في القطرة أسرار البحر.) يحيلنا هذا المعنى إلى قول القدّيس يوحنّا الإنجيليّ (من لا يحبّ لم يعرف الله، لأنّ الله محبّة)، فيربط المعرفة للعالم الإلهيّ بالحبّ، لأنّه بالحبّ نعرف الحبّ. وينكشف لنا جوهره. وبنوره نعاين النّور، فالشّيء بالشّيء يُعرف.
في الوادي الرّابع، "وادي التّوحيد" يرتقي  الإنسان فوق العالم متحرّراً من شهواته منجذباً نحو المعشوق فقط. بمعنى أنّه أصبح يرى العالم من فوق، بالنّور الإلهيّ، لا بعقله المحدود، فيرى الله في كلّ شيء دونما الحديث عن حلول أو اتّحاد مراعياً شرح كيفيّة رؤية الله في كلّ شيء إذ يقول: "لأنّ صاحب البيت يتجلّى في بيته فتستضيء أركان بيته جميعاً بضيائه وما فعل النّور وأثره إلّا من المنير حيث يتحرّك به الجميع وبإرادته يقومون... وحاشى أن يكون في هذا البيان ريح الحلول أو تنزيل لعوالم الحقّ إلى مراتب الخلق، فلا يشتبه الأمر عليكم، ذلك بأنّ الحقّ مقدّس بذاته عن الصّعود و النّزول والدّخول والخروج، لم يزل عن صفات الخلق غنيّا ولا يزال لم يدركه أحد ولم تصل إلى كنهه نفس."
في  الوادي الخامس "وادي الاستغناء"، يفتقر الإنسان إلى كلّ شيء ويغتني بالله. هو في العالم إلّا أنّ روحه تنعم في الأبديّة الإلهيّة. ومن العسير شرح هذه الحالة لأنّها فوق اللّغة وأعمق من أن توصف بالكلمات. "يمكن شرح حال العارفين قلبا لقلب، فليس هذا منهج القاصد ولا هذا حدّ المكتوب"، ويصف ابن الفارض هذه الحالة بقوله:
وأسكت عجزا عن أمور كثيرة             بنطقي لن تحصى ولو قلت قلّت
في الوادي السّادس، "وادي الحيرة"، أي الدّهشة لما يحياه الإنسان في حضرة النّعيم الإلهيّ. فالبالغ هذه الحالة سكر بالمحبّة  والجمال، ما عبّر عنه ابن الفارض قائلاً: "زدني بفرط الحبّ فيك تحيّرا// وارحم حشى بلظى هواك تسعّرا". فالسّكر يأتي بعد فرط المحبّة والعشق.
في الوادي السّابع، "وادي الفقر الحقيقي والفناء الأصلي" يكون التّخلّي النّهائي عن العالم بالافتقار إليه، والعيش في دائرة الحقيقة الّتي يعبّر عنها حضرة بهاء الله قائلاً: "والافتقار عن النّفس والغنى بالمقصود وأمّا ذِكر الفقر في هذا المقام يعني الفقر عن كلّ ما في عالم الخلق والغنى بكلّ ما في عالم الحقّ."
لعلّ حضرة بهاء الله كتب "الوديان السّبعة" وهو في المرحلة السّابعة، حتّى إذا ما شرع في الكتابة أصغى إلى حديث القلب، حديث الله السّاكن فيه. فأبصر المحبّة وعاين قدرتها على الارتقاء بالإنسان وخلاصه من بؤسه وشقائه.  فأعاد قراءة جهاده الشّخصيّ في سبيل بلوغ الوطن الإلهيّ. ولعلّ ما أتى في الكتاب بعض ممّا في قلبه، فإنّ العاشقين عاجزون عن نقل الحالة حرفيّاً لأنّها حالة للتأمّل بصمت. (عندما بلغ القلم وصف هذه الحال // تحطّم القلم وتمزّق القرطاس).

النّفري والانفتاح على النّور الإلهيّ



مادونا عسكر/ لبنان
"سرّ، فأنا دليلك إليّ" (النّفّري)
بعد مقتل الحّلاج، يقول الدّكتور يوسف زيدان، صمت الصّوفيّون حوالي قرنٍ ونصف. ولعلّ صمتهم كان خوفاً من مصير شبيه بمصير الحلّاج أو لعلّه أيضاً مسيرة تأمّل مفعمة بالإصغاء والعشق. إلّا أنّ النّفري خرج عن صمته لينقل لنا ما يشبه الوحي، بل إنّ النّفري انفتح على النّور الإلهيّ حتّى أنّه ارتشف النّور وصاغه بلغة مكثّفة  ورمزيّة تتخطّى المعنى الحرفيّ. إذ من العسير نقل اللّغة الإلهيّة بوضوح تام، فالإنسان مهما بلغ من معرفة وقرب من الحقيقة لا بدّ من أنّ اللّغة عاجزة عن إبراز المعنى التّام. فالمنطق الإلهيّ مغاير للمنطق الإنسانيّ، كذلك اللّغة. وبالتّالي وجب الغوص في العمق حتّى يتمكّن الإنسان من تلمّس مقاصد الله. الله، سيّد التّاريخ، يزرع الكلمة في قلب العالم، ونوره المغدق على العالم لا ينضب. من أنواره، يستقي العاشقون فينطقون بالإلهيّات.
"المواقف والمخاطبات"، كتاب ارتكز على ثلاث عبارات (قال لي/ أوقفني/ يا عبد). وكأنّي بالنّفري غارق في رؤيا وينقل وحياً. فتكرار الفعل (قال) بانتظام دلّ على إصغاء تام من قبل النّفري حتّى يتمكّن من فهم اللّغة الإلهيّة ونقلها. والفعل (أوقفني) يشير إلى حضور النّفري في حضرة الكلمة. (أوقفني وقال لي)، إشارة إلى ولوج النّفري في عمق اللّحظة، لحظة التّجلّي الّتي تخرج عن الزّمان والمكان. ولا نعرف شيئاً عن سيرة النّفري وتكوينه الصّوفيّ واختباره الشّخصيّ مع الله. وكأنّي به نقص ليظهر الله. ولم يبق منه إلّا النّفحات الإلهيّة.
يصغي النّفري إلى صوت الله العميق في قلبه  ويصف بدقّة عمق هذا الصوت من خلال ما يرتدّ في داخله من لغة إلهيّة. فيقول: "وقال لي قربك لا هو بعدك وبعدك لا هو قربك، وأنا القريب البعيد قرباً هو البعد وبعداً هو القرب." كذلك يقول: "وقال لي القرب الّذي تعرفه مسافة، والبعد الّذي تعرفه مسافة، وأنا القريب البعيد بلا مسافة."  "وقال لي أنا أقرب إلى اللّسان من نطقه إذا نطق، فمن شهدني لم يذكر ومن ذكرني لم يشهد."
بقدر ما يقترب المتصوّف من النّور يتبيّن أسرار الكون، لا لعبقريّة في ذاته، وإنّما بفعل الاقتراب من النّور الكاشف للحقائق. والموضوع ليس بالسّهل كما يُظنّ، بل إنّه يحتمل ما يحتمل من الصّعوبة والمشقّة بقدر ما يغمر الإنسان سعادة وغبطة. فلئن تمكّن النّفري من نقل الكلمة الإلهيّة أفرغ ذاته ليمتلئ من الله. ولقد بلغ ما بلغ من التّحرّر الدّاخليّ فظهرت الكلمة وإنْ بالرّموز والإشارات. وللرّمز مساحة كبيرة من الحرّيّة الّتي تسمح بقول المسكوت عنه كما تسمح للفاحص بالغوص في أبعاد الكلمة. "وقال لي أنت معنى الكون كلّه". وقال لي أريد أن أخبرك عنّي بلا أثر سواي". إذا كان الإنسان معنى الكون كلّه، فلا ريب أنّ فيه يتمّ البحث عن المعنى الإلهيّ. بمعنى آخر، إنّ في الإنسان نفحة إلهيّة تقوده إلى معرفة الله وإلّا فبيننا وبينه هوّة عميقة تحول بيننا وبينه. لكنّه مهما بلغنا من معرفة وإصغاء يبقى المعنى الأصيل في القلب إذ تعجز اللّغة عن التّعبير عنه عند اهتياج العشق. كذا يقول النّفري: "كلما اتّسعت الرّؤية ضاقت العبارة". العبارة الّتي تحجب المعنى ولعلّها إذا بلّغت تبلّغ الجزء اليسير منه. "وقال لي هذه عباراتي وأنت تكتب فكيف وأنت لا تكتب؟". في هذا القول سرّ المسكوت عنه، لا لخوف وإنّما لتوهّج الكلمة والعجز عن وصفها؛ لأنّها كنه لا وصف.
ولبلوغ المعنى ينبغي إدراك العلم، ولكنّ العلم الّذي في الله لا في الإنسان. فهو النّبع الّذي منه يستقي الكلّ المعرفة والحكمة. "وقال لي من لم يغترف العلم من عين العلم لم يعلم الحقيقة ولم يكن لما علمه حكم، فحلّت علومه في قوله لا في قلبه، كذلك تحلّ في من علم." "وقال لي إن كنت أجير العلم  أعطاك الثّواب، وإن كنت أجير المعرفة أعطتك السّكينة. ولفظ (العلم) في الفكر الإلهيّ مساوٍ للحكمة. فبالحكمة الإلهيّة يدرك الإنسان بعض الحقائق، لأنّ بها، أي الحكمة، يستنير العقل ويتّجه صعوداً نحو الله، فينظر إلى العالم بالفكر الّذي في الله. "ابتغاء الحكمة يبلغ الى الملكوت" (الحكمة 21:6)
وإذا كان كتاب "المواقف" يعكس رؤيا أو اختباراً عشقيّاً حميماً عاشه النّفري مع الله، فكتاب "المخاطبات" ينقلنا إلى إدراك النّفري لمعنى الحضور الإلهيّ، أشارت إليه لفظة (يا عبد). فلا ريب أنّ النّفري ككلّ الصوفيّة يعرف حجمه أمام الله ولكن يمكننا القول إنّ كلمة (العبد) تعني العابد أو خادم العشق الإلهيّ. "يا عبد إن لم تعرف من أنت منّي لم تستقرّ في معرفتي." "يا عبد إن لم تستقرّ في معرفتي لم تدرِ كيف تعمل لي." "يا عبد إن عرفت من أنت منّي كنت من أهل المراتب."
لله علامات في التّاريخ لا يمكن تجاهلها. ومهما غرق هذا الكون في شقائه وبؤسه لا بدّ من ناظرين وباحثين عن وجه الله في قلب المآسي والأزمات. فوجهه الّذي لا يغيب وعينه الّتي لا تنام وحضوره الّذي ليس مثله يفعل في الكون بقوّة متمنطقة بالحبّ والجمال. إنّ الّذين يبحثون عن الله في اتّجاهات شتّى، يضلّون لا محالة. فالله، هنا، فيك، أقرب منك إليك. إن أصغيت إليه بصمت تسمعه، وإن أغمضت عينيك تراءى لك نوره، وإن عشقته تجلّى.


المحبّة لا تسقط أبداً



مادونا عسكر/ لبنان
"من أنت يا سيّد؟"
السّؤال الّذي نقل القدّيس بولس من الموت إلى الحياة في لحظة تدفّق النّور الإلهيّ. وبولس الّذي كان يُدعى شاوول، ذاك المتطرّف المتعصّب الّذي بلغ ما بلغه من قسوة وشراسة ضدّ المسيحيّين في ذلك الوقت  حاربهم  واضطهدهم باسم الدّفاع عن الشّريعة، عن الله (أعمال الرّسل 22). 
لا يمكن فهم انقلاب بولس من النّقيض إلى النّقيض بمعزل عن العشق الإلهيّ الّذي بادر فأحبّ فولد بولس من جديد. وكلّ ما يُحكى عن القدّيس بولس وعن تحوّله غير المفهوم وعن تأسيسه للمسيحيّة نتج عن تفكيك لشخصيّة بولس بمعزل عن العشق الإلهيّ. والأمر غير ممكن، لأنّه من العسير بل من المستحيل أن يتحوّل شخص من مجرم  بحجّة الدّفاع عن الله إلى عاشق قرّر أن يخسر كيانه من أجل الله. "ما كان لي ربحاً، فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة. بل إنًي أحسب كلً شيء أيضاً خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربّي، الّذي من أجله خسرت كلّ الأشياء، وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح، وأوجد فيه" (الرّسالة إلى فيليبي 9،8،7:3).
الخسارة في مبدأ بولس ترادف الموت، أي أنّ بولس دخل الموت بالمعنى المجازيّ ليعتنق "الحياة" بمفهومها الوجوديّ والنّهيويّ. تخلّى بولس عن كينونته من أجل ربحها في الله فاستنار عقليّاً ومعرفيّاً وعشقيّاً. ولو طالعنا رسائله الأربع عشر بدقّة تلمّسنا عمق المعرفة النّورانيّة الّتي من خلالها يذهب بولس إلى ما هو أعمق وأبعد من تأسيس لديانة، وأرفع من بناء الدّولة المسيحيّة كما يقال.  إنّ بولس في اللّحظة الّتي عاين فيها مجد الله انتهى العالم بالنسبة له. "حدث لي وأنا ذاهب ومتقرّب إلى دمشق أنّه نحو نصف النّهار، بغتة أبرق حولي من السّماء نور عظيم. سقطتّ على الأرض، وسمعت صوتاً قائلاً لي: شاول، شاول! لماذا تضطهدني؟ فأجبت: من أنت يا سيّد؟ فقال لي: أنا يسوع النّاصريّ الّذي أنت تضطهده." (أعمال الرّسل 8،7،6:22)  تشير العبارة (نحو نصف النّهار) المترافقة وعبارة (أبرق نور عظيم) إلى حدث  غير عاديّ أسقط بولس أرضاً. ولا بدّ من أنّ  لفظ السقوط هنا دلالة على زلزال أحسّه بولس في كيانه كلّه. هذا النّور العظيم الّذي تدفّق وسط النّهار أسر بولس في لحظة تدفّق العشق الإلهيّ.  في هذه اللّحظة النّورانيّة حصل الفعل النّورانيّ وردّ الفعل المباشر، لأنّ بولس أعاد وسأل: "ماذا أفعل يا ربّ؟". بولس عاين النّور، دخله وتفاعل معه وكأنّي به تدرّج في العشق دفعة واحدة. فالسّؤال (ماذا أفعل يأ ربّ) سؤال إراديّ يطلق بولس في رحاب النّور من النّور وإليه. هذا الاختبار الرّوحيّ العميق أسقط بولس أرضاً ليرفعه إلى مقام العشق حيث الاستنارة الفكريّة والقلبيّة.
- بولس المفكّر:
عندما نقرأ بولس ينبغي أن نفهم رسائله إنسانيّاً قبل الشّروع في فهمها ضمن الإطار الدّينيّ. فبولس المستنير عقليّاً انطلق من الفكر الإلهيّ لا من فكره الشّخصيّ، وهنا تكمن صعوبة الغوص في رسائله والتّدقيق في المعنى الّذي يريد إبلاغه. بولس الفرّيسيّ المتزّمت والمتعصّب، الّذي اضطهد بعنف المسيحيّين وأسلمهم إلى الموت وشهد على موت بعضهم استحال إلى مفكّر إنسانيّ يسعى جاهداً إلى زرع الحبّ الإلهيّ في العالم ونشهد في قوله في رسالته إلى الأولى إلى ثيموتاوس (4:2): "الله يريد أن جميع النّاس يخلصون، وإلى معرفة الحقّ يقبلون." والإشارة إلى جميع النّاس تمنح فكر بولس سمة شموليّة سامية تتجلّى فوق التّعصّب والتّقوقع. وعبارة (الله يريد) تؤكّد الاصغاء التّام والعميق إلى صوت الله في داخله. ما يشير إلى الفكر الإلهيّ الّذي انتهجه القدّيس بولس. وفي رسالته إلى غلاطية (28:3) يلغي كلّ تمييز عرقي أو جنسيّ أو طبقيّ أو ثقافيّ ليجعل من الإنسان قيمة بحدّ ذاتها انطلاقاً من المحبّة الإلهيّة الّتي يتساوى أمامها الجميع: "ليس يهوديّ ولا يونانيّ. ليس عبد ولا حرّ. ليس ذكر وأنثى، لأنّكم جميعاً واحد في المسيح يسوع."  الكلّ واحد أمام عرش المحبّة الإلهيّة، وبهذا تنتفي كلّ تفرقة واختلاف عنصريّ مع الحفاظ على المواهب الخاصّة بكلّ شخص. ويشرح بدقّة هذا الأمر في رسالته الأولى إلى الكورنثيّين (7،6،5:12) قائلاً:  "فأنواع مواهب موجودة، ولكنّ الرّوح واحد. وأنواع خدم موجودة، ولكن الرّبّ واحد. وأنواع أعمال موجودة، ولكنّ الله واحد، الّذي يعمل الكلّ في الكلّ. ولكنّه لكلّ واحد يعطي إظهار الرّوح للمنفعة."
لقد اشتغل بولس على الفكر الإنسانيّ الّذي مصدره إلهيّ فولج الفكر والنّفس وتأمّلها على ضوء الله وتأمّلها في ذاته أوّلاً فبلغ المعرفة الذّاتيّة الّتي أسهمت في كيفيّة معرفة الإنسان لذاته. في حين أنّ سقراط يقول: "اعرف نفسك بنفسك"، يقول بولس:"اعرف نفسك في الله المحبّة". لقد عرف بولس ذاته عندما استنار فانكشفت له تناقضاته، وجوانبه المظلمة وتحرّر منها بالعشق لله. ويشرح الصّراع الإنسانيّ في رسالته إلى روما (20،19،18:7) الّذي يردّه إلى الخطيئة قائلاً: "فإنّي أعلم أنّه ليس ساكن فيّ، أي في جسدي، شيء صالح. لأنّ الإرادة حاضرة عندي، وأمّا أن أفعل الحسنى فلست أجد لأنّي لست أفعل الصّالح الّذي أريده، بل الشّرّ الّذي لست أريده فإيّاه أفعل. فإن كنت ما لست أريده إيّاه أفعل، فلست بعد أفعله أنا، بل الخطيئة السّاكنة فيّ". والخطيئة ليست سوى الانفصال عن الله ورفضه، فالانفصال عن الحبّ شرّ والاتّحاد به كمال. كما أنّ بولس يمنح الجسد معنى منفصلاً عن اللّحم والدّم، ونلاحظ في قوله (ليس ساكن فيّ، أي في جسدي) ترادف بين الأنا والجسد. فالجسد هو الكيان الإنسانيّ الّذي إذا ما رفض الحبّ الإلهيّ تخبّط في شروره. ولا يتّجه بولس إلى تحقير الجسد بل إلى البحث في كيفيّة الارتقاء به إلى مستوى القيمة. فالمسيحيّة الّتي تؤمن بالتّجسّد الإلهيّ لا يمكن أن تحتقر الجسد بالمعنى الّذي يروّج له، حتّى وإن غالى البعض في تحقيره. وذلك يعود إلى طبيعة الفهم الإنسانيّ للموضوع. لكن الجسد عند بولس هو الإنسان كلّه. كما أنّه لا يتكلّم عن الجسد بتجرّد، وإنّما عن الجسد/ الإنسان المخلوق من التّراب الضّعيف النّاقص السّريع العطب. "إنّ إنساننا العتيق قد صلب معه ليبطل جسد الخطيئة، كي لا نعود نستعبد أيضاً للخطيئة." لقد أوضح لنا الفكر البولسيّ معنى الحرّيّة الحقيقيّة المرتبطة بالولادة الجديدة بالعشق الإلهيّ فأعطانا المعنى الإنسانيّ المتفلّت من كلّ دخيل عليه.
- بولس العاشق:
عندما يتدفّق النّور الإلهيّ في قلب الإنسان يأسره بالكامل. ينتزع منه قلبه المتصلّب ويزرع فيه قلباً إلهيّاً. فتستحيل العلاقة عشقاً لله وعشقاً للإنسان. فليس من علاقة مع الله بمعزل عن الإنسان.
في غمرة العشق كتب بولس قصيدة عشق إلهيّ في رسالته الأولى إلى كورنثس، بلّغ فيها الطّريق الأبلغ كمالاً، طريق المحبّة الّتي لا تسقط أبداً. المحبّة الشّخص الّتي من دونها لا يبلغ أحداً الكمال. المحبّة جوهر الإنسان المخلوق على صورة الله، السّبيل إلى المعرفة الإلهيّة والإنسانيّة. ذاك العشق الّذي به خُلق الإنسان وإليه يصبو. "إنّنا ننظر الآن في مرآة، في لغز، لكن حينئذ وجهاً لوجه. الآن أعرف بعض المعرفة، لكن حينئذ سأعرف كما عرفت. أمّا الآن فيثبت: الإيمان والرّجاء والمحبّة، هذه الثلاثة ولكنّ أعظمها المحبّة."
لا يتحدّث بولس عن المحبّة نظريّاً وإنّما أبصرها بحقّ، وشهد لها وتفاعل معها وجاهد من أجلها  وبلّغها للنّاس. لقد عاش بولس تفاصيل المحبّة بكلّ معنى الكلمة وعانى ما عاناه وسلّم حياته مواجهاً الموت من أجلها. "إن كنت أتكلّم بألسنة النّاس والملائكة ولكن ليس لي محبّة، فقد صرت نحاساً يطنّ أو صنجاً يرنّ. وإن كانت لي نبوّة، وأعلم جميع الأسرار وكلّ علم، وإن كان لي كلّ الإيمان حتّى أنقل الجبال، ولكن ليس لي محبّة، فلست شيئاً. وإن أطعمت كلّ أموالي، وإن سلّمت جسدي حتّى أحترق، ولكن ليس لي محبّة، فلا أنتفع شيئاً."
كلّ ما يفعله الإنسان وكلّ ما يبلغه من مجد ورفعة وتقوى، إن كان من علم أو معرفة، من خدمة أو مساندة، من صلوات وأصوام وطقوس، تسقط كلّها ما لم تلتحم بالعشق الإلهيّ. فالعشق أصل وغاية، منه ننطلق وإليه نخلص، لأنّ المحبّة لا تسقط أبداً.

الإشراقيّة في مذهب السّهرورديّ الصّوفيّ



مادونا عسكر/ لبنان
كلّ عشق لا يؤتي ثماراً لا يعوّل عليه. فالعشق منهل الاستنارة والحكمة واضطرام القلب الّذي عاين المجد الإلهيّ. والعاشق المستنير نبيّ عهد جديد، عهد العشق الّذي أقيم بينه وبين محبوبه الإلهيّ. إنّه الحامل كلمة الحبّ بحكم الولوج في قلب الحقيقة، والحامل النّور بحكم امتلائه من النّور الّذي لا ينضب. النّبوّة جزء لا يتجزّأ من كيان العاشق الإلهيّ، لأنّه بات يحيا داخل الدّائرة العشقيّة، فباتت له منهج حياة. ولكلّ عاشق نبيّ آياته العشقيّة الّتي تندرج ضمن إطار الفكر والمعرفة ليكون رسول العشق الإلهيّ في قلب العالم.
شهاب الدّين السّهرورديّ، العاشق الشّهيد وشيخ الإشراق، نبيّ ظهرت فيه آيات العشق، فتجلّى مذهبه النّورانيّ، إن جاز التّعبير. فالنّور أساس الإشراق عند السّهروردي، وهو مبدأ الوجود استناداً إلى الآية في القرآن الكريم: "اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ". سورة النّور (35). وقد أورد الشّهرزوري في كتابه (نـزهة الأرواح) بعضاً من كلامه الفلسفيّ الصّوفيّ الّذي يشير فيه إلى تلك الأنوار وحضورها في مذهبه العشقيّ: "أوَّل الشّروع في الحكمة الانسلاخ عن الدّنيا، وأوسطه مشاهدة الأنوار الإلهيّة، وآخره لا نهاية له."
قال قطب الدّين الشّيرازي في مقدّمة كتاب (حكمة الإشراق للسّهروردي): "السّهروردي من كبار مفكري الفلسفة الإشراقيّة، ولا يعني (الإشراق) هنا الذّوق والكشف فقط، وإنّما استعمله السّهروردي استعمالاً خاصاً فقد ذهب إلى أنّ "الله نور الأنوار"، ومن نوره خرجت أنوار أخرى هي عماد العالمَين المادّي والرّوحي، وأضاف السّهروردي أنّ (النّور الإبداعيّ الأوّل) فاض عن (الأول) الّذي هو (الله/ نور الأنوار)، وتصدر عن النّور الإبداعيّ الأوّل أنوار طوليّة سمّاها (القواهر العالية)، وتصدر عن هذه القواهر أنوار عرضيّة سمّاها (أرباب الأنواع)، تدير شؤون العالم الحسّي. وابتدع السّهروردي عاملاً أوسط بين العالمين العقليّ (نور الأنوار) والعالم الماديّ، سمّاه (عالم البرزخ) و(عالم المُثُل)، وهذا يذكّرنا- ولا ريب - بعالم المُثُل في فلسفة أفلاطون.
ولا ريب في أنّ السّهروردي غرق في نور الأنوار مستمدّاً منه المعرفة الإشراقيّة الّتي ستتجلّى آيات عشقيّة في العديد من الكتب الّتي تشكّل إرثاً مهمّاً في تاريخ الإنسانيّة. فالمعرفة المتّصلة بالله النّور تنعكس على العالم من خلال العشّاق الأنبياء الّذين يشكّلون بشكل أو بآخر امتداداً لهذا النّور.
آيات نبوَة الهَوى بي ظَهَرَت//  قَلبي كَتَمت وَفي زَماني اِشتَهرت
هَذي كَبدي إِذا السَماء اِنفَطَرَت / شَوقاً وَكَواكِب الدُموع اِنتَثَرَت
نلاحظ في البيت الأوّل من قصيدة "آيات نبوّة الهوى بي ظهرت" أنّ النّبوّة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالعشق الإلهيّ كونها تحمل أنواره بل كلمته النّورانيّة. وليس بذلك تعدٍّ على قابليّة الوحي الإلهيّ، بل لعلّه تأكيد أنّه لا بدّ للنّبيّ من أن يكون عاشقاً. لكنّ السّهروردي يشترط للنّبوّة البحث والعشق معاً حتّى تتجلّى المعرفة وتشرق أنوارها. ويحيلنا البيت الثّاني إلى سورة الانشقاق في القرآن الكريم الآيات السّتّ الأولى منها، الّتي يرد شرحها في كتاب "التّأويلات النّجميّة في التّفسير الإشاريّ الصّوفيّ" لنجم الدّين أحمد بن عمر الكبري. فيفسرها على هذا النّحو: إذا انشقّت سماء قلبك (وأذنت لربّها) في انشقاقها و(حُقّت) أي: تطيع ربّها وهو يوم قادح... "إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)."
وإذا ما انشقّت سماء صدر السّهرورديّ شوقاً لله تدفّق النّور إلى قلبه، مركز العشق والحياة مع الله، وانصهر بالنّور واستنشقه وتوزّعت آيات النّور على العالم. فالنّور بالنّور يُعرف، والدّخول فيه يعوزه التّفلّت من العالم حتّى يتمكّن العاشق من نثره. وهنا بعض من تفسير ضمنيّ للوحي الّذي هو انفتاح على النّور الإلهيّ. وبقدر ما يغرق العاشق في النّور يستلهم منه آياته وبذلك يرتقي إلى رتبة النّبوّة كعلاقة سماويّة أرضيّة. فالنّبيّ يمدّ يداً إلى العلوّ يستقي منه النّور وأخرى إلى الأرض ليزرع فيها النّور. إلّا أنّ هذا النّبيّ المنصهر بالنّور الإلهيّ يعاين بقلبه المجد الإلهيّ ويحيا به ومعه. فتستحيل حياته مراحل نورانيّة تتدرّج حتّى تبلغ المقام الأرفع والاكتمال النّورانيّ الّذي يتحتّم بالموت. فالعاشقون إذا ما وصلوا إلى مراحل متقدّمة ضاق بهم العالم وضاقت بهم أرواحهم وباتوا منتظرين الموت بشوق عظيم، لأنّه الخطوة النّهائيّة نحو الحرّيّة والاكتمال. لقد صاح الحلّاج في سوق بغداد قائلاً: "أيّها النّاس اعلموا أنّ الله قد أباح لكم دمي فاقتلوني، اقتلوني تؤجروا وأسترح، اقتلوني تُكتبوا عند الله مجاهدين وأُكتب أنا شهيدا''. وعبّر السّهروردي عن هذا التّوق العميق إلى الله، بل إنّه تكشّف له بالنّور حقيقة الاكتمال العشقيّ:
قُل لِأَصحابٍ رأَوني مَيتا// فَبَكوني إِذ رأوني حزنا
لا تَظُنّوني بِأَنّي مَيّتٌ//  لَيسَ ذا المَيت وَاللَه أَنا
أَنا عصفورٌ وَهَذا قَفَصي//  طِرت مِنهُ فَتَخلى رَهنا
وَأَنا اليومَ أُناجي مَلأ//  وَأَرى اللَه عَياناً بِهنا
وكأنّي بالموت لحظة التّحرّر من السّجن/ القفص/ العالم والتّحليق لملاقاة الله وجهاً لوجه والمكوث فيه ومعه أبداً. وما كان للسّهروردي أن يلامس الحقيقة إلّا لانصهاره بالنّور الإلهيّ وانفتاحه عليه. ما جعله كاشفاً لبعض من الأسرار الإلهيّة:
لِأَنوارِ نورِ اللَه في القَلب أَنوارُ//  وَللسرّ في سرّ المُحبّين أَسرارُ
وَلمّا حَضَرنا للشّرابِ بِمجلسٍ//  وَخفّ مِن عالم الغَيب أَسرارُ
وَدارَت عَلَينا لِلمَعارف قَهوة // يَطوفُ بِها مِن جَوهرِ العَقلِ خمارُ
فَلَمّا شَرِبناها بإِقراه فمها//  أَضاءَ لَنا مِنها شُموس وَأَقمارُ
وَكاشَفنا حَتّى رَأَيناهُ جَهرَةً//  بِأَبصار صِدقٍ لا يُواريهِ أَستارُ
وَخالَفنا في سكرِنا عِندَ نَحونا//  قَديمٌ عَليمٌ دائمُ العَفوِ جَبّارُ
سَجَدنا سُجوداً حينَ قالَ تَمَتّعوا//  بِرُؤيَتنا إِنّي أَنا لَكُم جارُ
عندما يشرق نور الله في القلب يرتفع العاشق إليه منفصلاً عن الزّمان والمكان بفعل تجلّي النّور. فيعاين ما يقوى على معاينته من الحقيقة الّتي يعجز كثيرين عن تلمّسها ولعلّهم يدركونها نظريّاً أو لا يدركونها. وفي حضرة هذا التّجلّي يرتشف العاشق عشق الله، فيتلمّس الحقائق الّتي لا يعرفها العالم وقد لا يطيق أن يعرفها. وكلّما ارتوى من النّور ازداد التّوهّج والإشراق حدّ الالتحام بالنّور ورؤية النّور الأعلى. وما حالة السّكر إلّا لحظة النّشوة المطلقة، لحظة اللّقاء بالله، بالحبّ، بالنّور. فلا ريب أنّك ستسقط ساجداً بكلّ كيانك، تلامس الأرض في حضرته لتحلّق إليه.

المتصوّفون وشريعة الحبّ الإلهيّ



مادونا عسكر/ لبنان
"لقد خلقتنا لك يا الله و تظلّ نفوسنا مضطربة حتّى  تستريح فيك" (المغبوط أغسطينس)
إذا كان الإنسان المتّسم بالضّعف البشريّ والمحدوديّة على المستوى الفكريّ والنّفسيّ والرّوحيّ تأسره ومضة عشق من حيث لا يدري، فيهيم عشقاً. وينعزل ليتأمّل سرّ هذا العشق المبلّغ الحقيقة، ويبيع كلّ شيء ليشتري هذه السّعادة الفائقة التّصوّر بروحه وعقله وأحياناً بدمه. وإذا كان الإنسان المتضادة عواطفه والمتقلّبة، والحامل للتّناقضات العاطفيّة والسّلوكيّة، الإنسان الهشّ الّذي يتهاوى ببساطة، يخرج إلى العالم ليبوح بهذا العشق ويبشّر به النّاس حتّى وإن وصل به الأمر إلى الموت. وإذا كان هذا الإنسان المخلوق من تراب يعصف به العشق ويرفعه  إلى ذرى الأعالي، فيغيب عن العالم وهو ما برح فيه. إذا كان الإنسان يحبّ بهذه القوّة فكيف يكون حبّ الله؟
قبل الغوص في الإجابة لا بدّ لنا أن نتساءل إذا ما كان الله حاضراً فعلاً، أم إنّه مجرّد وهم كما يقول البعض أو فكرة تطوّرت عبر العصور أو اختراع إنسانيّ؟ والسّؤال نابع من مأساة الإنسانيّة قبل كلّ شيء. فالإنسان يقف مذهولاً عاجزاً أمام أحداث وأزمات ونزاعات دمويّة وكوارث مدمّرة ويتساءل: "أين الله من كلّ ما يحدث؟ لماذا لا يتحرّك؟" كثيرون تخلّوا عن الله واستبعدوه، وآخرون أنكروا وجوده، وآخرون يتّهمونه ويحقدون عليه. ولعلّ عدم البوح بهذه الأمور علناً والاحتفاظ بها في القلب خوفاً، يعذّب الإنسان ويقلقه. فالإجابات إمّا مخدِّرة وإمّا غير مقنعة وإمّا قمعيّة. أين هو الله؟ كيف نثبت وجوده؟ كيف نتأكّد من حضوره ومعيّته؟ كيف نفكّك هذا السّرّ الّذي يستميت العقل في سبيل معرفته؟
إذا أردنا أن نتلمّس حقيقة الوجود الإلهيّ لا بدّ لنا من الانطلاق من الإنسان، تحديداً أولئك المتصوّفين الّذين يعكسون بعضاً من العشق والنّور الإلهيّ. أولئك المختلفون في العقائد والانتماءات والتّوجّهات، والجنسيّات، والبعيدون بعضهم عن بعض زمانيّاً ومكانيّاً طريقهم واحد، ألا وهو العشق الإلهيّ. هذه الحالة، أي العشق، الّتي يشتركون فيها بلا لبس تؤكّد حضور شخصٍ يجذبهم بعشقه فيتفاعلون معه بلا حساب. ولا يجوز أن نطلق على هذا الشّخص صفة المُحبّ لأنّه لو كان مُحبّاً وحسب لوقع في إمكانيّة الضّدّ أي انتفاء فعل الحبّ. يولد الإنسان مهيّأً للعشق الإلهيّ لكنّه لا يولد عاشقاً مكتملاً، فبلوغ تمام العشق يعوزه جهاد روحيّ وفكريّ. ما يعني أنّ اللّحظة العشقيّة المتولّدة في الإنسان، الّتي تجذبه وتبدّله وتخلقه من جديد مرتبطة بمصدر لا يتبدّل ولا يتغيّر. ولا بدّ من أن يكون هذا المصدر شخصاً فالحبّ تفاعل بين شخصين. ولمّا كان لا يتبدّل ولا يتغيّر فذاك يعني أنّه لا يفعل وإنّما هو الفعل Le verbe. وعدم التّبدّل يدلّنا على كينونة هذا الشّخص غير المرتبط بالزّمان والمكان لأنّه لو ارتبط لدخل في التّناقضات الكونيّة والإنسانيّة وبالتّالي سنشهد تبدّلاً على مستوى المتصوّف. بيد أنّنا نراه في ثبات عظيم يزداد عشقاً وهياماً ويلوذ أكثر فأكثر في العشق حتّى يموت عشقاً. والحوار القائم بين المتصوّف العاشق الّذي نراه والمعشوق الّذي لا نراه يؤكّد حضور الشّخص المصغي لهذا الحوار كما يؤكّد تفاعلاً يقينيّاً نستدلّ عليه في الحالة الصّوفيّة العشقيّة الّتي تتوقّد في قلب المتصوّف وفي اختباره الحياتيّ وسلوكه.
تعلّمنا الحالة العشقيّة أمرين مهمّين: الأوّل أنّ المتصوّف المشبع بالعشق الإلهيّ ينظر إلى كلّ تفصيل في هذا العالم بعين الحبّ. لذلك لم نسمع متصوّفاً يتساءل عن حقيقة الوجود الإلهيّ. هو يحيا في العالم ويخدمه على قدر ما يتيسّر له انطلاقاً من الحبّ. يقرأ الكتب المقدّسة ببصيرة الحبّ، لذلك يفهم بصمت وحكمة. وهذا هو الفرق بين المتصوّف العاشق والآخرين. ما زال كثيرون واقفين عند حدود الحرف القاتل ويستغلّونه ليتحكّموا ويستحكموا ويتسلّطوا على البشر. ولعلّهم السّبب الأساس في ابتعاد النّاس عن الله. أولئك الّذين قال فيهم القدّيس بولس: "بسببكم يُجدّف على اسم الله". المتصوّف ارتفع عن الحرف الّذي يقتل ولاذ بالرّوح المحيي فعرف الحبّ، وتعرّف على الشّخص، مصدر الحبّ. فلماذا لا يسأل المتصوّف عن حقيقة الحضور الإلهيّ؟ ولماذا يبحث عن وجه الله في الأزمات والمصاعب؟ ذلك لأنّه لا يحتاج للسّؤال وهو في قلب الحقيقة الّتي هي العشق بذاته. فكيف يسأل عمّن يراه؟
المتصوّفون يعكسون احترام الله لاختلافنا عنه، فيحترمون اختلافه عنّا ويدركون أنّه ليس خادماً لمتطلّباتنا وإنّما شريكاً لكلّ خطوة في حياتنا. كما أنّهم بسلوكهم العشقيّ يدينون المتسلّطين المدّعين الإيمان الّذين يحاربون ويقاتلون ويقتلون باسم الله. فالشّعاع البسيط يكشف الظّلمة. كما أنّهم يعكسون حضور شخص العشق باتّحادهم به فحين نراهم نرى قبساً من نوره وبعضاً من حبّه الّذي لا يدرك. وأقول بعضاً لأنّه يصعب على الإنسان أن يحيط بالحبّ الإلهيّ الكامل. من هنا نفهم معنى أنّ من يرى الله يموت. فيبرز الموت ببعدٍ آخر مغاير عن الّذي نعرفه. إنّه لحظة اكتمال الحضور واللّقاء بين الله والإنسان. قال جلال الدّين الرّومي: "لن أموت قبل أن أعرفك. قال من يعرفني لا يموت". المحبّون فقط يعرفون الحقائق الإلهيّة لأنّهم يتفاعلون معها ويعاينونها ببصائرهم بالحبّ. "من لم يحبّ لم يعرف الله، لأنّ الله محبّة" يقول القدّيس يوحنّا الإنجيليّ. ولم يعنِ بقوله فكرة أو نظريّة بل إنّه اختبر عميقاً أنّ المعرفة مرتبطة بالحبّ، ولا تكون إلّا بالحبّ. ولا يصل الإنسان إلى الله إلّا بالحبّ. ما يدحض كلّ فكر وحكمة ونظريّة وأيديولوجيا وبحث علميّ لأنّ الله لا يُعرف إلّا بالحبّ. المتصوّفون ومن شدّة العشق يبحثون عن الرّحمة أمّا من لم يذق طعم العشق بعد فيبحث عن العدل ومنتهى العدل منتهى الظّلم. المتصوّفون يتفهّمون وأمّا الآخرون فيدينون ويحكمون. المتصوّفون ارتفعوا وارتقوا عن الشّريعة وأمّا الآخرون فمنغمسون بها لمصالحهم الشّخصيّة. لقد أدركوا أنّ الشّريعة الوحيدة هي الحبّ ومن أجلها خُلقوا وإليها يصبون.
الله الشّخص هو الحبّ ولو لم يكنّ حبّاً لما شهدنا هؤلاء المتصوّفين العاشقين هائمين حتّى الموت. ولرأيناهم يتبدّلون وتارة يحبّون وطوراً يحقدون. ولأنّ الله حبّ لا يمكن أن نطلب منه الشّرّ، ولا يجوز أن نحتكره في صفوفنا ليثأر لنا. ولا يُستطاع أن ننحدر به إلى مستوى منطقنا بل ينبغي أن نرتفع إلى الفكر الّذي فيه بالحبّ. عندها نحترم أنّه مختلف عنّا بالطّبيعة والفكر والعشق.
يقول القدّيس يوحنّا سابا: "تجاسرت لأتكلّم عن الحبّ الإلهيّ فإذا بي أتكلّم عن الله لأنّ الله محبّة." ولعلّي تجاسرت وبقيت عند حدود التّمتمات. ومن ذا الّذي إذا عشقه أسعفته اللّغة وهي العاجزة والقاصرة؟ ما عرفه إلّا المحبّون وما أحبّه إلّا منفتحو القلوب والبصائر. وما اختلفوا على حضوره وتسميته ووصفه. سمّهِ ما شئت، إنّه الحبّ.


ماذا بعد الاتّحاد بالله؟



مادونا عسكر/ لبنان
الاتّحاد بالله هو الغاية الأسمى الّتي ينشدها كلّ عاشق، وهي الحالة الضّروريّة الّتي يجدر بكلّ إنسان أن يسعى إليها كي يفهم سرّ وجوده، ويتحقّق من أهمّيّة حضوره في هذا العالم. وإذا رفضنا مبدأ هذه الغاية غير مقتنعين بها، ممتنعين عن تحقيقها وبلوغها، فما هي غاية الوجود الإنساني وإلى أين ينتهي؟ وما هي قيمة الإنسان وقيمة أعماله وسعيه واكتشافه لذاته ما لم يكن هذا السّعي مرتبطاً بالحبّ؟ وإذا ارتبط الإنسان بالحبّ فلا بد من أنّه يخلص إليه. وهنا مصداقيّة الاتّحاد بالله ويقين هذه العلاقة المبتدئة قبل الوجود والمكتملة في ما بعده. فالإنسان كان في فكر الله قبل أن يُخلق. وعمليّة الخلق تندرج في إطار الحبّ الإلهيّ (وخلق الإنسان على صورته كمثاله). لقد خلق الله الإنسان من صلب محبّته لذلك كانت صورة الإنسان على صورة الله الحبّ. ويد الله الّتي جبلت الإنسان بالتّراب منحته اتّصالاً مكيناً بالأرض من حيث ترابيّته، ومشروع ارتباط وثيق بالله. من هنا نفهم سبب الحضور الإنسانيّ في العالم. السّبب يفسّر الغاية. خُلق الإنسان من صلب المحبّة الإلهيّة ليتعرّف عليها ويكتشفها ويسلكها ويكتمل بها. والمحبّون لا يتميّزون عن سواهم إلّا بالمحبّة وبانفتاحهم على النّور الإلهي والمحبّة الإلهيّة. ولم يولد هؤلاء المحبّون في حالة مختلفة عن سواهم، ولكنّهم ما إن سمعوا صوته لانت قلوبهم وسلكوا الطّريق الأشدّ صعوبة حتّى بلوغ من أحبّهم أوّلاً. وكلّما ولجوا في النّور غرقوا أكثر واكتشفوا الله الشّخص وارتبطوا به، بل واتّحدوا به وصاروا وإيّاه واحداً.
غاية العشق الاتّحاد بالله، فما هي غاية هذا الاتّحاد؟
عندما نتحدّث عن اتّحاد بالله نحارب اللّغة من أجل أن نجتهد في إيجاد تعبير ملائم عن هذه الوحدة مع الحبّ الأسمى، إنّ الله يجري في دم المحبّ بل في كيانه، ويمسي هذا المحبّ كتلة عشق تتنقّل في هذا العالم، يفكّر بالحكمة الإلهيّة ويحبّ بقلب الله. والاتّحاد بالله ليس النّهاية، فالمحبّ بهذا الاتّحاد ولج الحقيقة الّتي من العسير أن يسكت عنها. فينتقل بها إلى حالة البوح. البوح حالة؛ لأنّه نتيجة الاتّحاد. لا يقرّر المحبّ البوح، وإنّما فعل الحبّ الإلهيّ يفجّر كلّ العشق ودور المحبّ أن يخدم الإنسانيّة بهذا العشق على جميع المستويات. فالاتّحاد بالله لا يفصل المحبّ عن العالم، وإنّما يُخرجه منه، لأنّه بات غريباً عنه. ومن عمق الغربة يحدّث عن وطنه الأمّ، قلب الله. وبقدر ما يرفع هذا الاتّحاد الإنسان إلى أسمى درجات الوجود وما بعده يمتدّ به في رحاب العالم ليكون ضمير العالم وسرّه. فتمسي العلاقة عموديّة مع العلو أفقيّة مع العمق تحيا في قلب التّاريخ وتتخطّاه في آن. لذلك نرى المحبّين ذوي إرادة تفوق التّصوّر، لأنّهم متّحدون بمن هو الإرادة. ونراهم  متمنطقين بالعشق منتهجين رؤيته حدّ أنّ البعض يحسبهم مجانين. يفهمون ويشرحون ويسلكون بالعشق لذلك لا يفهم لغتهم البعيدين ويفهمها القريبين ويهرعون للقاء الله الحبّ.
العاشقون كتب مقدّسة تحمل الكلمة الإلهيّة، كلمة الحبّ لأنّ الله يريد أن يبلغ جميع النّاس هذا العشق. والخليقة تئنّ إلى العشق الإلهيّ وتتعطّش إليه شاءت أم أبت. ففي الإنسان نفحات الله وفيه روح الله، ولولا هذه الرّوح لبقي مجرّد جثّة. المحبّون المتّحدون بالله يروون هذا العطش، يمسكون بأيدي البشر ليسلكوا معاً درب النّور. تضيق صدورهم بهذا العشق ولا يمكنهم كتمانه حتّى ولو واجهوا الموت.
هل يصحّ أن أقرّر إذن؟ إنّ طبيعة الخلق تفرض طبيعة للعلاقة بين الخالق والمخلوق، هذا الخالق الّذي أودع خلقه المحبّة والرّوح، فهل يعقل أن ينفصلا؟
الله أودع في الإنسان ما يؤهّله للاتّحاد به، بل إنّ الله حاضر في كلّ واحد فينا، ومتجلّ فينا بأكثر من أمر، بالصّورة والمثال، والرّوح، والخلقة، إنّنا إذن مهيّأون للاتّحاد به، ولكن لن نقف عند هذا الاتّحاد فناء في الخالق وحسب، ولكن نبحث عن الحبّ في النّاس ومع النّاس وللنّاس، ونحقّق الإرادة الإلهيّة في جعل العالم أفضل وأنقى. بهذه الكيفيّة تكون الصّوفيّة الحقّة دافعة للعمل بنفس قويّة وإرادة لا تعرف الكلل أو الملل ولا تتقاعس عن الاستمرار حتى نهاية رحلة الحياة وصولا إلى الخلود الأبديّ لما بعد هذه الحياة.

الاتّحاد بالمعشوق غاية كلّ عشق




مادونا عسكر/ لبنان
كلّ عشق لا يخلص إلى اتّحاد لا يعوّل عليه. ويتّخذ هذا الاتّحاد طابعاً سرّيّاً قدسيّاً يُخضع العقل ولا يَخضع له. فالعقل غير قادر على تحديد كيفيّة هذا الاتّحاد وتعريف جوهره. ومهما بلغنا من معرفة نبقى عند حدود التّمتمات. ولئن كنّا أمام وصف غير موصوف لحالة تقتضي اختباراً شخصيّاً، لا يعبّر عنها ولا يفهمها إلّا المختبر لهذه الحالة. ولا يبوح بها إلّا من سلب عقله هذا العشق الإلهيّ وانغمس في اللّحظة وانتُزع من الزّمان والمكان، لزمنا أن نتأمّل بصمت هذه اللّحظة الحقيقة، لحظة الاتّحاد بالله الشّخص. الله الشّخص لا الوهم، لا الفكرة، لا المعبود غير المعروف. إنّه الشّخص الّذي يكشف ذاته للعاشق، فيتعرّف عليه ويهيم به ويظلّ في حالة اكتشاف له. فالعشق الّذي يخلص إلى الاتّحاد حالة اكتشاف لله لا تنتهي بالاتّحاد. فالاتّحاد الّذي يعني أنّ الشّيئين أو الشّخصين يصيران واحداً، رحلة عشق أبديّ؛ تبدأ هنا، وتكتمل هناك في أفق الرّبّ الرّحيبة.
كيف يمكن أن نعشق الله دون أن نخلص إلى الاتّحاد به ونصير وإيّاه شخصاً واحداً؟ قد  يكون مفهوم الاتّحاد مرفوضاً قطعاً. وقد ينتج عنه تكفير العاشق واتّهامه بالشّرك بل إهدار دمه. لكنّ هذا لا ينفي مبدأ الاتّحاد بالله وقوّة تأثيره في العاشق الإلهيّ. عندما نتحدّث عن عشق  فلا ريب أنّنا نعشق من نرى، ونحسّ، ونعرف، وإلّا فنحن أمام عاشق واهم، أو على أكثر تقدير عاشق نظريّاً يحبّ الله كونه ولد في محيط يعبد الله، فالتّأثّر بالبيئة الإيمانيّة لا يؤدّي بالضّرورة إلى عشق إلهيّ، لأنّ هذا العشق يحتاج إلى علاقة شخصيّة. العشق يولد في الإنسان كالبرق دون أن يعرف متى وأين وكيف ولماذا. وكأنّي بالقلب ينفتح على النّور الإلهيّ حتّى يتراءى له شخص الله. وهنا ينتهي كلّ شيء ليبدأ كلّ شيء. لا يستطيع أحد أن يقول إنّه يعشق الله ويزهد بالدّنيا تاركاً كلّ مغرياتها، متخلّياً عن كلّ شيء فيها من أجل فكرة الله. ولا يقوى أحد على قبول الموت بفرح عظيم ولهفة عظيمة إلّا إذا كان يرى شخص الله حقيقة. الله، شخص رآه العاشق، ولمسه وأحسّ به وصار وإيّاه واحداً. وما عاد قادراً إلّا على الانغماس فيه أكثر فأكثر. يمسي الموت بالنّسبة له فعل حرّيّة بامتياز، الحرّيّة الكاملة، الحرّيّة الحقيقيّة الّتي ينالها الإنسان بالعشق فقط. العاشق يَقبَل الموت ولا يُقبِل عليه. فهو لا يسعى إلى الانتحار، لا لاعتبارات دينيّة وتشريعيّة، وإنّما لأنّ المفاهيم تبدّلت. فالعاشق لله يمتلك الفكر الّذي في الله. يقبل الموت كقبوله لأيّ أمر قبول التّواضع والمعرفة بأنّ كلّ شيء يؤول للخير الّذي يريده الله. والله يريد أنّ يهيم أحبّاؤه عشقاً به ويختبروا ويذوقوا طعم الرّبّ ويحيوا في هذه الحياة اختبار معرفته ليبلغوا إليه. ومن لم يتعرّف على الله المحبّة هنا لن يعرفه حتّى ولو وصل إليه.
"رأَيتُ ربّي بعين قلبِ//  فقلتُ من أنت قال أنت" (الحلّاج)
(رأيت/ فقلتُ/قال) أفعال تترجم لقاء واقعاً بالفعل. وفعلا القول يؤكّدان حواراً بين شخصين بادر به الحلّاج بسؤال (من أنت). عبارة تحيلنا إلى سؤال القدّيس بولس حين عاين الرّبّ (من أنت يا سيّد) مع فارق الواقع والظّروف ولحظة اللّقاء، ولكن مع الاشتراك في المبادرة الإلهيّة في كشف ذاتها وغياب الحسّ والوعي وانعدام الشّعور بالذّات أمام حضور الله الطاغي الغامر.
"وفي فنائي فنا فنائي // وفي فنائي وجدت أنت"، "فقلتُ: من أنت؟ قال: أنت" (الحلّاج)، اتّحاد بين الله والإنسان بقوّة النّعمة الإلهيّة لا بقدرات الإنسان. الإنسان يقبل النّعمة ويجتهد في سبيل استحقاقها. ولو أنّ الحلّاج كان واهماً أو مدّعياً هذا الاتّحاد بالله وهذا العشق الخالص لتراجع لحظة موته عن كلّ ما قاله. فالإنسان يخاف الموت إلّا أنّ الموت لا يخيف العاشق الإلهيّ لأنّه متّحد بمن هو الحياة.
" روحه روحي وروحي روحه // إن يشا شئتُ وإن شئتُ يشـا" (الحلاج)
فالمتّحد بالله لا يخشى الموت لأنّه تخطّاه أصلاً بفعل هذا الاتّحاد. والعاشقون لله لا يموتون وإنّما ينتقلون به إليه.
"من سيفصلنا عن محبّة المسيح؟ أشدّة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف؟ ولكنّنا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالّذي أحبّنا. فإنّي متيقّن أنّه لا موت ولا حياة، ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوّات، ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علوّ ولا عمق، ولا خليقة أخرى، تقدر أن تفصلنا عن محبّة الله الّتي في المسيح يسوع ربّنا." (القدّيس بولس)
لا شيء يفصل العاشق عن محبّة الله، لأنّ المسافة بينهما أُلغيت، والموت أُبطلَ، والحياة في العالم خسارة أمام بهاء جماله وجلاله، والحياة فيه لا يسعها العالم ولا يفهمها. يضطرب المتمسّكون بالحرف أمام العاشقين ويرتبكون ويدّعون الدّفاع عن الله، وكأنّ الله يحتاج لمن يدافع عنه.
دعوا العشّاق يجولون في هذا العالم. دعوهم يعلنون مجد الله الحيّ ليخلص هذا العالم من بؤسه وشقائه. دعوهم يعبّرون عن أنفسهم فنرى الله فيهم. دعوهم يكفرون بالعالم ولا تحجبوا عنّا نور الله. لن يخلص هذا العالم إلّا بالعشق. فافتحوا قلوبكم وارتشفوا النّعمة الإلهيّة وعانقوا الله وذوقوا وانظروا ما أطيب الرّبّ.

ثلاث خطوات سابقة على الاتّحاد العشقيّ الكامل



مادونا عسكر/ لبنان
"فَإن رُمتَ الحُضورَ اليومَ لا تُغفِلهُ يا حَافِظ

متَى ما تلقَ من تَهوَى دَع الدُّنيَا وأهمِلْهَا" (حافظ الشّيرازي)

في هذين البيتين للشّيرازي تجسيد لمعنى اللّقاء بالحضور والاستغناء به عن كلّ شيء في سبيل بلوغ تمامه. كما أنّ هذين البيتين يحملان في عمقهما اختباراً عشقيّاً عبّر عنه الشّيرازي بالحضور واللّقاء والتّخلّي عن الدّنيا والاتّحاد بالحبّ. فالحضور أوّل شرط من شروط الاتّحاد بالمحبوب.
من يفهم حقيقة العشق الإلهيّ ويعي أنّ الله حبّ فلا بدّ من أن يدرك معنى الاتّحاد بالله. وإن لم يخلص بنا هذا العشق إلى الاتّحاد بشخص الله، فذاك يعني أنّ بيننا وبينه هوّة كبيرة، وأنّ هذا العشق أقرب إلى الوهم. فالحب حالة تفترض التّفاعل بين شخصين، وتنمو هذه العلاقة تدريجيّاً حتّى تبلغ ذروتها بالاتّحاد الكيانيّ. وإذا رفضنا مبدأ الاتّحاد بالله فنحن ننزع عن الله جوهر الحبّ، لأنّ الله الحبّ يمنح ذاته للإنسان فيكون الحبّ فعلاً إلهيّاً. وبين الفعل الإلهيّ، إن جاز التّعبير، وردّ الفعل الإنسانيّ لقاء حميم يختبره العاشق دون سواه، ويصعب التّعبير عنه تماماً لأنّه علاقة إلهيّة إنسانيّة تفوق قدرة العقل على الاستيعاب. إنّ بقاء مفهوم الحبّ الإلهيّ عند حدود تطبيق الشّرائع والالتزام بفروض الصّلاة والواجبات الطّقسيّة يندرج في إطار العاطفة أو الخوف. فقد يطبّق الإنسان الشّريعة خوفاً أو حبّاً لكنّ هذا الحبّ يبقى على مسافة بين العلو والعمق. وأمّا الحبّ الإلهيّ والصّلة الحقيقيّة الحميمة بين الله والإنسان الّتي تؤدّي إلى الاتّحاد فهي أمر آخر. العاطفة تحمل الكثير من التّناقضات وقد تتبدّل وتتغيّر وقد تخضع لتمرّد العقل، وقد تصطدم بمفاهيم جديدة تسيطر على تفكيرها أو واقع يبدّلها فتنكر الله وتستبعده. أمّا الحبّ فهو لحظة الجنون بالله، أي أنّ الإنسان يتخلّى عن ذاته كلّيّاً ليلقاها في الله. وهذا التّخلّي تجرّد عميق يحتاج إلى جهاد روحيّ وفكري واختبار شخصيّ يبلغ بالإنسان إلى هذه الحقيقة الّتي إذا ما دخلها يستحيل عليه الرّجوع. والحقيقة هي أنّ الله الحبّ لا يحبّ وإنّما ينسكب بكلّيّته في الإنسان والعاشق لله يسكن بكلّ كيانه في الله، ولكن ليس بقوّته الشّخصيّة وإنّما بالنّعمة الإلهيّة. فالله هو الّذي هيّأ الإنسان لهذا الحبّ. والعاشق لله هو من سمح للحقّ أن يأتي إليه لأنّه يعلم ضمناً أنّه لا يمكنه الذّهاب إليه أو بمعنى أصحّ لا يعرف السّبيل. وهذا الاتّحاد ليس مجازيّاً وإنّما حقيقيّ، لكنّه اتّحاد سرّيّ / Mystère  لأنّ العاشق وحده معنيّ به. لكنّه بالمقابل ينعكس النّور من خلاله على العالم.
أن تحبّ الله يعني أن تحيا تفاصيل الله، أن تنغمس في حالة العشق بالنّعمة حتّى لا تعود ترى إلّاه. أن تتجرّد وتخلع إنسانك العتيق لتلبس الإنسان الجديد. فالإنسان الجديد أي الإنسان كما خلقه الله على صورته ومثاله استنار بالحبّ الإلهيّ ويمارس الفضائل الإلهيّة (الإيمان والمحبّة والرّجاء) وبالتّالي ممارسة هذه الفضائل يقود إلى الاتّحاد بالله. يقول القدّيس باسيليوس الكبير:"إن النّفس الّتي كبحت دوافعها الطّبيعيّة عن طريق النّسك الشّخصيّ وبمساهمة الرّوح القدس تتأهّل – بحسب حكم الله العادلللبهاء الموهوب للقدّيسين". الحبّ فعل خلق والله بالحبّ يخلقنا كلّ حين إذا ما ارتبطنا به بالحبّ.
ولا يمكن للعاشق أن يصل إلى مرحلة الاتّحاد الكامل إذا لم يمرّ بحالة الحبّ المجرّد عن أيّ مصلحة سوى مصلحة الحبّ ذاته، كما عبّرت عنه رابعة العدويّة في قولها:
أحبّك حبّين حبّ الـهـوى
وحبّاً لأنّك أهـل لـذاكـا
فأمّا الّذي هو حبّ الـهوى
فشغلي بذكرك عـمّن سواكـا
وأمّا الّذي أنت أهـل لـه
فكشفك لي الحجب حتّى أراكا
فكشف الحجاب، بعد الحضور واللّقاء مرحلة ضروريّة قبل الوصول إلى الاتّحاد. إنّ هذا الكشف الّذي أظهره الفعل (أراك). والرّؤية هنا حقيقة لا مجاز استناداً إلى عبارة (كشفك لي الحجب). ما يعني أنّ الله كشف عن ذاته وتجلّى لها. وإلّا كيف تستخدم رابعة فعل (أراك) وكيف رأت؟ إنّ الرّؤية محصورة هنا بالقلب الّذي انفتح على الله السّاكن فيه حقّاً فرآه.
وحين يقول القدّيس بولس (حياتي هي المسيح) أمات ذاته بالفعل ولبس المسيح أي صار الاثنان واحداً بمعنى معنى. إنّه الكمال العشقيّ، والعاشق الكامل هو العارف. ولا يراد بالعارف الانشغال الفكريّ، وإنّما الكمال الّذي يتحقّق بتنقية الذّات. وفي ذات السّياق يقول جلال الدّين الرّومي:
"ممتلئ بك، جلداً، دماً، وعظاماً، وعقلاً وروحاً، لا مكان لنقص رجاء، أو للرجاء، ليس بهذا الوجود إلاك."، إنّ ما شعر به جلال الدّين الرّومي لهو اللّحظة البارقة الّتي تسبق الاتّحاد الكامل بالله، فامتلاء الشّخص بالمحبوب هو استعداد كامل لاستقباله كجزء في كينونته الرّوحيّة والعقليّة والمادّيّة. إنّه نتيجة الفعل وردّة الفعل، نتيجة العشق بين الله والإنسان. حين ينسكب الله فيكَ حتّى تمتلئ منه وتسكن إليه بكلّك، أنت في حالة مهيأ فيها للاتّحاد معه.
لن يصل العاشقون إلى الاتّحاد دون المرور بكلّ تلك المقامات والمجاهدات، ولكن إن وصلوا إلى هذه الحالة الّتي هي من أجلّ المنح الإلهيّة للعاشق ساعتئذ لا شيء يمكن أن يكون غيرها. فالاتّحاد بالله ليس انتهاكاً أو تعدّياً على الذّات الإلهيّة، ويجب أن لا نخاف من ذلك، فهو ممكن من أي شخص جاهد وصابر للوصول إلى هذه المرتبة العليا، فلماذا نخاف هذا الاتّحاد؟ ولماذا نرفضه؟ أخوفاً؟ أم تواضعاً؟ أم تكبّراً؟ إن كان خوفاً فالخوف لا يستوي مع الحبّ. وإن كان تواضعاً فالتّواضع هو التّخلّي عن الذّات لتلقاها في الله. ولعلّه تكبّراً على النّعمة الإلهيّة الّتي هيّأتك منذ البدء للحبّ.
إنّ سبب وجودنا وغايته واحد، ألا وهو اللّقاء بالله والتّعرّف عليه والعيش معه والانغماس به في علاقة عشقيّة حميمة حتّى نخلص إليه. إنّه حقّاً سرّ الاتّحاد بالله الّذي يفوق كلّ عقل وكلّ تصوّر. ولو كان العقل يدركه بقدرته فكأنّنا نخضع الله لقدراتنا المحدودة الضّعيفة. حاشا. "ونحن قد عرفنا وصدّقنا المحبّة الّتي لله فينا. الله محبّة، ومن يثبت في المحبّة، يثبت في الله والله فيه." (1يوحنّا 16:4)