مادونا عسكر/ لبنان
عندما نتحدّث عن العشق الإلهيّ، أو الحالة الصّوفيّة الّتي تعكس هذا
العشق، لا بدّ من الارتقاء بمعنى الحبّ حتّى نتمكّن من خوض غمار هذا العشق
والتّعرّف على سرّه الّذي يُستقى من الفعل الإلهيّ لا الإنسانيّ. فلو كان الحبّ
فعلاً إنسانيّاً لما رأينا العالم في تراجع مستمرّ، ولما شهدنا حالات عنفٍ يسلك
بها الإنسان بحجّة الحبّ. ولمّا كان الحبّ فعلاً إلهيّاً وجب الارتقاء إلى هذا
المقام، أي إلى مستوى الكلمة الإلهيّة، حتّى نتبيّن أوّلاً كيفيّة السّلوك فيه، ونفهم
إنسانيّتنا الباحثة عن الحبّ على ضوء الكلمة ثانياً.
ليس أفضل من سفر نشيد الأنشاد في الكتاب المقدّس، القصيدة الأعظم
الّتي تترجم الحبّ الإنسانيّ والإلهي، وتحاكي فلسفة الحبّ كعلاقة بين رجل وامرأة
(العروس والعريس) الّتي تتغلغل فيها صوفيّة العشق على المستوى الجسديّ والرّوحيّ
معاً. ومن السّذاجة أن نقف عند مستوى الحرف في هذا النّشيد لنكتفيَ بالقول إنّ هذه
القصيدة أو هذا النّشيد مجرّد قصيدة تعبّر عن الحبّ الجنسيّ. ولو دقّقنا في
العبارات الواردة في القصيدة، لتبيّنّا التّماهي بين صوفيّة الجسد وصوفيّة الرّوح
اللّتين تمتزجان حتّى تكوّنا الكيان الواحد، فلا يعود الجسد منفصلاً عن الرّوح.
إنّ الّذين اكتفوا بالمعنى الجنسيّ لهذا النّشيد، لم يروا حقيقةً من
الحبّ إلّا الإشباع الغرائزيّ. وإن اقتصر الحبّ على هذا الأمر فهو حتماً ليس حبّاً
وإنّما مجرّد نزوة تندرج في إطار الحبّ البشريّ المرادف للعاطفة، غير المرتقي بعد
بمعاني الحبّ السّامية.
يصوّر هذا النّشيد الحبّ الكيانيّ بين الرّجل والمرأة الّذي يعبّر عنه
بتعابير بشريّة ترتكز على ألفاظ جسديّة. لكنّ القارئ ما يلبث أن يتبيّن ارتقاء في
هذه العلاقة الجسديّة الرّوحيّة. ثمّ يلاحظ صوفيّة الجسد الّتي تدلّ على نقاء هذه
العلاقة الحسّيّة المنصهرة بالعلاقة الرّوحيّة. ولعلّ هذا النّشيد يشرح ضمناً
الفرق بين العلاقة الجنسيّة المحدودة بإشباع اللّذة وبين الحبّ. ولا ريب أنّ الفرق
شاسع.
يتحدّث نشيد الأنشاد عن علاقة حبّ عميق بين رجل وامرأة، عروس وعريس،
أي زوج وزوجة. ولم يتحدّث عن لقاء شخصين في حالة شهوة جنسيّة، حتّى وإن أراد البعض
اعتبارها كذلك. فالدّلالات اللّفظيّة المدرجة في النّشيد تدلّ القارئ البالغ
روحيّاً والنّاضج إنسانيّاً وإيمانيّاً على أنّ الإنسان رجلاً وامرأة، وعلاقة
الحبّ بينهما، أبعد من لحظات تحدّدها الشّهوة وتأسرها اللّذة الجسديّة. فالعريس
يناجي عروسه بكلمات ترشدنا إلى صوفيّة العلاقة. يخاطب العريس عروسه مستخدماً كلمة
(أختي) خمس مرّات، و(رفيقتي) و(حمامتي). كذلك العروس تستخدم لفظ الأخ، لتأتي هذه
الكلمات في سياق عشقيّ فريد يسمو بالحبّ إلى العالم السّماويّ.
وإن استخدمت الدّلالات الحسّيّة الجسديّة (القبلات/ الفم/
الثّدي/الخدّين/ العنق...) فللدّلالة على كيانيّة العشق وعدم انفصال الجسد عن
الرّوح. ولئن كنّا أمام وحدانيّة الجسد والرّوح ارتقت هذه العلاقة العشقيّة إلى
مستوى العشق الإلهيّ، أي الحبّ المستمدّ من الله والمنسكب في قلب العروسين. تشير
إلى هذا الحبّ الآية (3:6): "أنا لحبيبي وحبيبي لي"/ والآية (10:7)
"أنا لحبيبي وإليه اشتياقي". وهنا ترتسم ملامح العلاقة الحميمة من جهة،
ومن جهة أخرى تتجسّد وحدانيّة الصّورة بين الرّجل والمرأة اللّذين يكوّنان معاً
صورة الله. "خلق الإنسان على صورته كمثاله، ذكراً وأنثى خلقهم" (تكوين
27:1). هذه العلاقة ليست روحيّة بحتة، بل هي علاقة كيانيّة اتّحاديّة، ولكي تبلغ
مقامها الّذي على صورة الله لا بدّ أن تستمدّ الحبّ منه. فتستحيل العلاقة عشقيّة
إلهيّة بامتياز.
وعلى الرّغم من أنّنا نقرأ حواراً بين الحبيب والحبيبة أو العريس
وعروسه، إلّا أنّنا نشهد الحبيب يبحث عن محبوبته ويبذل جهداً لتقبله عريساً لها
والعكس صحيح. وذلك ليدلّ على أنّ هذا الحبّ القائم بين الرّجل والمرأة حركة أبديّة
لا تنتهي ولا تحدّها حدود. هي علاقة يغذّيها الشّوق المستمرّ الّذي لا يهدأ ولا
يستكين:"أحلّفكنّ يا بنات أورشليم إن وجدتنّ حبيبي أن تخبرنه أنّي مريضة
حبٍّ" (8:5)/ "أنام وقلبي مستفيق. ها صوت حبيبي يدقّ: افتحي لي يا أختي،
يا رفيقتي! يا حمامتي، يا كلّ شيء لي، رأسي امتلأ بالطّلّ، وجدائلي بندى
اللّيل".
نلاحظ في عبارة (صوت حبيبي يدقّ) أنّ الحسّيّ يمتزج بالرّوحيّ،
فالصّوت يلحّ على اللّقاء كاليد الطّارقة على الباب. وعبارة (مريضة حبّ) تبيّن
انغماس الشّخص في ذروة العشق.
إنّ التّفاصيل الدّقيقة والشّاملة الّتي يتناجى بها الحبيب والمحبوبة
وتحاكي الجسد تبرهن على عشق يتدرّج تصاعديّاً حتّى يبلغ الاتّحاد الكيانيّ
العشقيّ. "اجعلني كخاتم على قلبك كخاتم على ساعدك لأنّ المحبّة قويّة كالموت
والغيرة قاسية كالهاوية، لهيبها لهيب نار لظى الرّب" (6:8). إنّ النّار الّتي
تضطرم في قلب الحبيبين هي نار الحبّ الإلهيّ الّذي يزهر شوقاً مستمرّاً، وتوقاً
مستديماً حتّى لا تخبو نار الحبّ ولا تخمد. "اهرب يا حبيبي وكن كالظّبي أو كغفر الأيائل على جبال
الأطياب" (14:8). وليس طلب الهروب في هذه الآية إلّا تعبيراً عن طلب المزيد
من الشّوق، واستبعاد اللّقاء الزّمنيّ المكانيّ، ورجائه كاملاً في قلب الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق