مادونا عسكر/ لبنان
الاتّحاد بالله هو الغاية الأسمى الّتي ينشدها كلّ عاشق، وهي الحالة
الضّروريّة الّتي يجدر بكلّ إنسان أن يسعى إليها كي يفهم سرّ وجوده، ويتحقّق من
أهمّيّة حضوره في هذا العالم. وإذا رفضنا مبدأ هذه الغاية غير مقتنعين بها،
ممتنعين عن تحقيقها وبلوغها، فما هي غاية الوجود الإنساني وإلى أين ينتهي؟ وما هي
قيمة الإنسان وقيمة أعماله وسعيه واكتشافه لذاته ما لم يكن هذا السّعي مرتبطاً
بالحبّ؟ وإذا ارتبط الإنسان بالحبّ فلا بد من أنّه يخلص إليه. وهنا مصداقيّة
الاتّحاد بالله ويقين هذه العلاقة المبتدئة قبل الوجود والمكتملة في ما بعده.
فالإنسان كان في فكر الله قبل أن يُخلق. وعمليّة الخلق تندرج في إطار الحبّ
الإلهيّ (وخلق الإنسان على صورته كمثاله). لقد خلق الله الإنسان من صلب محبّته
لذلك كانت صورة الإنسان على صورة الله الحبّ. ويد الله الّتي جبلت الإنسان
بالتّراب منحته اتّصالاً مكيناً بالأرض من حيث ترابيّته، ومشروع ارتباط وثيق بالله.
من هنا نفهم سبب الحضور الإنسانيّ في العالم. السّبب يفسّر الغاية. خُلق الإنسان
من صلب المحبّة الإلهيّة ليتعرّف عليها ويكتشفها ويسلكها ويكتمل بها. والمحبّون لا
يتميّزون عن سواهم إلّا بالمحبّة وبانفتاحهم على النّور الإلهي والمحبّة الإلهيّة.
ولم يولد هؤلاء المحبّون في حالة مختلفة عن سواهم، ولكنّهم ما إن سمعوا صوته لانت
قلوبهم وسلكوا الطّريق الأشدّ صعوبة حتّى بلوغ من أحبّهم أوّلاً. وكلّما ولجوا في
النّور غرقوا أكثر واكتشفوا الله الشّخص وارتبطوا به، بل واتّحدوا به وصاروا
وإيّاه واحداً.
غاية العشق الاتّحاد بالله، فما هي غاية هذا الاتّحاد؟
عندما نتحدّث عن اتّحاد بالله نحارب اللّغة من أجل أن نجتهد في إيجاد تعبير
ملائم عن هذه الوحدة مع الحبّ الأسمى، إنّ الله يجري في دم المحبّ بل في كيانه، ويمسي
هذا المحبّ كتلة عشق تتنقّل في هذا العالم، يفكّر بالحكمة الإلهيّة ويحبّ بقلب
الله. والاتّحاد بالله ليس النّهاية، فالمحبّ بهذا الاتّحاد ولج الحقيقة الّتي من
العسير أن يسكت عنها. فينتقل بها إلى حالة البوح. البوح حالة؛ لأنّه نتيجة
الاتّحاد. لا يقرّر المحبّ البوح، وإنّما فعل الحبّ الإلهيّ يفجّر كلّ العشق ودور
المحبّ أن يخدم الإنسانيّة بهذا العشق على جميع المستويات. فالاتّحاد بالله لا
يفصل المحبّ عن العالم، وإنّما يُخرجه منه، لأنّه بات غريباً عنه. ومن عمق الغربة يحدّث
عن وطنه الأمّ، قلب الله. وبقدر ما يرفع هذا الاتّحاد الإنسان إلى أسمى درجات
الوجود وما بعده يمتدّ به في رحاب العالم ليكون ضمير العالم وسرّه. فتمسي العلاقة
عموديّة مع العلو أفقيّة مع العمق تحيا في قلب التّاريخ وتتخطّاه في آن. لذلك نرى
المحبّين ذوي إرادة تفوق التّصوّر، لأنّهم متّحدون بمن هو الإرادة. ونراهم متمنطقين بالعشق منتهجين رؤيته حدّ أنّ البعض
يحسبهم مجانين. يفهمون ويشرحون ويسلكون بالعشق لذلك لا يفهم لغتهم البعيدين ويفهمها
القريبين ويهرعون للقاء الله الحبّ.
العاشقون كتب مقدّسة تحمل الكلمة الإلهيّة، كلمة الحبّ لأنّ الله يريد أن
يبلغ جميع النّاس هذا العشق. والخليقة تئنّ إلى العشق الإلهيّ وتتعطّش إليه شاءت
أم أبت. ففي الإنسان نفحات الله وفيه روح الله، ولولا هذه الرّوح لبقي مجرّد جثّة.
المحبّون المتّحدون بالله يروون هذا العطش، يمسكون بأيدي البشر ليسلكوا معاً درب
النّور. تضيق صدورهم بهذا العشق ولا يمكنهم كتمانه حتّى ولو واجهوا الموت.
هل يصحّ أن أقرّر إذن؟ إنّ طبيعة الخلق تفرض طبيعة للعلاقة بين الخالق
والمخلوق، هذا الخالق الّذي أودع خلقه المحبّة والرّوح، فهل يعقل أن ينفصلا؟
الله أودع في الإنسان ما يؤهّله للاتّحاد به، بل إنّ الله حاضر في كلّ واحد
فينا، ومتجلّ فينا بأكثر من أمر، بالصّورة والمثال، والرّوح، والخلقة، إنّنا إذن
مهيّأون للاتّحاد به، ولكن لن نقف عند هذا الاتّحاد فناء في الخالق وحسب، ولكن
نبحث عن الحبّ في النّاس ومع النّاس وللنّاس، ونحقّق الإرادة الإلهيّة في جعل
العالم أفضل وأنقى. بهذه الكيفيّة تكون الصّوفيّة الحقّة دافعة للعمل بنفس قويّة وإرادة
لا تعرف الكلل أو الملل ولا تتقاعس عن الاستمرار حتى نهاية رحلة الحياة وصولا إلى
الخلود الأبديّ لما بعد هذه الحياة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق