الجمعة، 27 يناير 2017

كيفيّة مساعدة التّلميذ على تحقيق النّجاح المدرسيّ


مادونا عسكر/ لبنان

النّجاح المدرسيّ غير مرتبط بالحصول على علامات عالية، لأنّه واقعيّاً، ثمّة تفاوت في المستويات بين تلميذ وآخر، إن من ناحية الاستيعاب، أو القدرات، أو الأسلوب المتّبع في الدّراسة. ممّا لا شكّ فيه أنّ التّلميذ يواجه صعوبات دراسيّة، ففي المدرسة ومع كلّ المناهج المتّبعة، يُطلب منه استخدام كلّ طاقته في التّحصيل الدّراسيّ الّذي يهدف إلى توسيع الآفاق الفكريّة والذّهنيّة، في سبيل أن ينموَ فكريّاً ونفسيّاً وجسديّاً بشكل سليم. ما يساعده  على توظيف كلّ قدراته وخاصة مقدرته على التّأقلم مع كلّ الأوضاع المستقبليّة أو المهنيّة. كما يُطالَب التّلميذ من أهله ببذل كلّ الجهود بهدف التّفوّق، إلّا أنّ الأهل بشكل عام يتعاطون مع التّحصيل العلمي وكأنّه استحقاق دائم. فيتوتّرون باستمرار، ممّا ينعكس ارتباكاً وقلقاً دائميْن على التّلميذ فتتقلّص قدرته على التّجاوب بشكل صحيح في جوّ من الرّاحة والأمان والسّهولة.
- كيفيّة تأمين الجوّ المناسب للتّلميذ:
تستند كيفيّة الاهتمام بالتّلميذ ومساعدته على تحقيق نجاحه إلى المبادئ التّالية:
- التّشجيع: الكلمة التّشجيعيّة أساسيّة لكلّ ما يقوم به التّلميذ، وهي تسانده وتدفعه ليكمل مشروعه. من المهم لفت النّظر إلى النّجاحات الّتي يحقّقها، والتّحدّث معه باستمرار عن نشاطه ومشاكله وأصحابه، مع الحرص على عدم انتقاد كلّ تصرّف سلبيّاً. فكلّ انتقاد سلبيّ يؤلم التّلميذ ويقلّل من حماسه في اختبار قدراته.  كما أنّ التّشجيع يستند إلى تخصيص الوقت الكافي لمساعدة التّلميذ  على تحقيق كلّ اهتماماته وواجباته المدرسيّة، ومساعدته على التّعبير عن الصّعوبات الّتي يواجهها، وذلك بالتّفكير معه ومواكبته. المدرسة لا تقتصر على الورقة والقلم والمسابقة والدّرس، بل تتخطّى هذه العناصر لتؤسّس لهيكليّة حياة كاملة ينمو فيها التّلميذ على جميع الأصعدة.
- الالتزام: على الأهل أن يلتزموا من خلال حضورهم الضّروري في حياة أولادهم. والحضور يعني الوعي لما يحصل في حياة الأولاد. كما ينبغي الإصغاء لكلّ ما يمرّ في حياتهم، فيخصّصون الوقت الكافي للاستماع إليهم. كذلك الاهتمام بالنتائج المدرسيّة، ومعرفة كيفيّة قراءتها. فغالباً ما يقرأ الأهل المعدّل كنتيجة نهائيّة، وهذا أمر فاشل جدّاً. فالأفضل والأمثل قراءة نتيجة كلّ مادّة بمادّتها لتبيان تقدّم التّلميذ من تراجعه. وبالتّالي يُعالَج الموضوع بالطّريقة الممكنة لمساعدة التّلميذ على تحقيق نجاحه.
- النّظام: بقدر ما يحدّد الأهل نظاماً واضحاً وجادّاً، يحدّد من خلاله ساعات العمل الدّراسيّ بشكل ثابت، يلقى التّلميذ الإطار السّليم والصّحيح ليوظّف كلّ طاقاته الفكريّة.


سبع نصائح لتفادي التّعاسة


سبع نصائح لتخطّي التّعاسة، تمسّ حياتنا اليوميّة،  وتسلّط الضّوء على ملّ ما نعيشه. نتوجّه إلى الأشخاص الّذين لم يشعروا بعد بالسّعادة، أو قضوا حياتهم يبحثون عنها وهي بين أيديهم. لكنّهم لم يتعرّفوا على كيفيّة الاستفادة منها، أو لم يتمكّنوا من استغلال الظّروف كي تُبنى حياتهم على الفرح.
غالباً ما نبحث عن السّعادة في الرّبح المادي، أو تعدّد العلاقات، أو الاكتفاءات العاطفيّة، معتقدين أنّ هذه الأهداف تحقّق لنا السّعادة. بيد أنّ السّعادة تنبع من الدّاخل الإنساني وليس العكس، وبالتّالي فالبحث عنها داخليّ وليس خارجيّ. يقول الكاتب الفرنسي جول رونار- Jules Renard، إنّ السّعادة تبدأ عندما تصمت التّعاسة. كذلك الفيلسوف أرسطو يذكر أنّه من الحكمة أن نسعى إلى اللّذة، لكنّ الحكمة الفضلى تتجلّى في انعدام التّعاسة من حياتنا. وبناء على هذين المبدأين نورد سبع نصائح عمليّة، علّها تضفي على الحياة السّعادة والبهجة.
- النّصيحة الأولى: الخطوة الأولى تتجلّى في  اتّخاذ القرار بعيش السّعادة. لا ريب أنّه لا يكفي اتّخاذ القرار، بيد أنّه علينا توظيف كلّ طاقاتنا وقدراتنا في السّعي لرؤية السّعادة، وعدم البقاء في موقع المتفرّج، منتظرين السّعادة كهبة. بل دورنا يظهر في الثّورة على أنظمة ومقاييس حياتنا، والمنطق في وجهات النّظر، فتستحيل الأمور ذات طعم ولون مختلفين.
- النّصيحة الثّانية: عدم إفساح المجال للمشاعر السّلبيّة. فالعاطفة السّلبيّة تتحدّد في ظرف معيّن ولا يجوز أن تستمرّ معنا بشكل دائم، فنتأفّف باستمرار ونكرّر ظروفها. وبقدر ما نقطع الطّريق على العواطف السّلبيّة، نحيا السّعادة.
- النّصيحة الثّالثة: الاهتمام بالنّفس وبقيمتها، وذلك بعدم الانعزال عن الآخرين، وقطع العلاقة مع العالم الخارجي. فالانقطاع عن العالم يؤكّد التّشبّث بالواقع التّعيس، ويخلق خللاً يصعب تخطّيه. الاهتمام بالذّات هو بمثابة اعتراف بالقدرة على السّعي نحو الأفضل، وبالتّالي خلق جوّ من السّعادة.
- النّصيحة الرّابعة: التّخلّي عن فكرة الكمال المثاليّ. ففكرة الكمال تجنح غالباً إلى الهوس، فلا يعود الفرد قادراً على التّمتّع بالحياة ودوافعها، والتّلذّذ بلحظات الفرح الّتي يمرّ بها.
- النّصيحة الخامسة: التّوقّف عن استيعاد الظروف التّعيسة التي تمرّ بها، وعن تكرارها باستمرار دون تحقيق أيّ هدف، ما يزيد من التّعاسة.  فالغرق في التّفكير يحوّلها إلى لعنة ولا يحلّ المشكلة.
- النّصيحة السادسة: الحدّ من العواطف العدائيّة. فالشّخص التّعيس يشعر أنّ من حوله أعداء له، إذ إنهم يستمتعون بحياتهم. وهذا يتطلّب تغييراً جذريّاً في النّظرة إلى الآخر، والتّخفيف من الانتقاد والسّخرية واستبدال هذا السّلوك بالبحث عن الفرح والجمال.

- النّصيحة السّابعة: تذوّق أوقات الرّاحة ولحظات السّعادة، واستغلال اللّحظات الجميلة. كذلك مشاركة الآخرين أفراحهم فندخل معهم عالم السّعادة.

أهمّية اللعب عند الأطفال

مادونا عسكر/ لبنان

بعض التّيارات الفكريّة تتحدّث عن أهمّيّة اللّعب عند الأطفال، كوسيلة لتنمية قدراتهم الفكريّة والنّفسيّة، وذلك من خلال استخدامهم مخيّلتهم وكيفيّة تصوّرهم للأمور.  كما أنّ البعض يرى أنّ اللّعب يسمح للطّفل بالتّعبير عن شعوره الدّاخليّ، فيحوّل كلّ الضّغوط الّتي واجهها خلال العام الدّراسي ليفرّغها في اللّعب، ما يؤدّي إلى إحساس بالرّاحة وعيش للانفتاح.
- تحديد معنى اللّعب:
اللّعب هو ترك الّذات في قلب النّشاط للتّرفيه عن النّفس والاستمتاع. ليس للّعبة بحدّ ذاتها هدف خاص بها، وإنّما ومن خلال اللّعب، يأخذ الطّفل ما هو بحاجة إليه. بشكل أو بآخر، للّعب هدف تربويّ يسمح للمربّين بالوصول إلى أهدافهم التّربويّة. ويمكن للّعب أن يكون مصدراً مهمّاً لاكتشافات الطّفل الجديدة، وبالتّالي عمليّة النّموّ الفكري والجسدي والرّوحي.
- باللّعب يكتشف الإنسان ذاته والعالم من حوله:
أن يلعب الطّفل فهذا يعني أن يكتشف محيطه وبيئته. ما يجعل من اللّعب وسيلة لاكتشاف الجسد ومحدوديّته، ويتيح للطفّل تعلّم كيفيّة استخدام المتوفّر لديه. كما أنّ امتلاك بعض الألعاب يحوّل طريقة اللّعب إلى سياسة تربويّة، تترك عند الطّفل علامات استفهام تجريبيّة، من خلالها يكتشف قيمة الأشياء، وإمكانيّة التّعاطي معها. هذا الاكتشاف لا يختصّ فقط بالألعاب وإنما بالقيّمين على الطّفل في فترة اللّعب. فيجد الطّفل أن أهله فخورون به إذا ما قام بعمل إيجابيّ، كالرّسم أو العمل اليدوي... فتتطوّر العلاقة بين الأهل والأطفال، وعندها يحقّق اللعب هدفه التّربوي. وبالتّالي يشعر الطّفل بوجوده وقيمته الفعّالة في محيطه، ما يكسبه مقدّرات ومعطيات تجعله في ما بعد إنساناً ناضجاً.
- اللّعب وسيلة لتحريك المخيّلة:
بتحريك المخيّلة واستدراج ملكاتها يصبح الطّفل خلّاقاً في حياته اليوميّة. فالأشخاص غير الخلّاقين يصعب العيش معهم، لأنّهم لا يملكون مرونة التّصرّف أمام أبسط المشاكل. وبالتّالي فإنّ اللّعب يحقّق للطّفل قدرة على خلق الحلول للصّعوبات واختبارها، وذلك يكون يتشغيل المخيّلة وتدريبها، فيبدع.    

من خلال الاكتشافات الّتي يختبرها الطّفل، ينمّي قدرات التّعلّم. وفي كلّ مرّة يكون هو سيّد الموقف في اللّعبة، يشعر أنّه مقدّر وذو قيمة، تجاه ذاته وتجاه محيطه. فتزداد ثقته بنفسه وتتقوّى شخصيّته، ويدخل بعلاقة مع الآخرين. واللّعب كوسيلة تعبيريّة، يدفع أولادنا لأن يكونوا أكثر انفتاحاً على الآخر، ويجعلهم يتّبعون الطّرق السّليمة ليأخذوا المبادرات ويسيروا نحو النّضج بخطى ثابتة. 

قراءة في " أناشيد وقصائد للفتيات والفتيان "، للكاتب الفلسطيني فراس الحج محمد


لعلّ أصعب ما يواجه الكاتب في صياغة النّصوص الأدبيّة هو الولوج في عالم الأطفال. هذا العالم الخاص جدّاً والّذي يتطلّب الكثير من الإحساس بالمسؤوليّة، إذ يستحيل الكاتب في هذا العالم إلى زارع يبذر أفكاره وأحلامه وأهدافه في أرض بريئة نقيّة، لم تدرك بعد خبرات العالم السّلبيّة والإيجابيّة. والطّفل يشبه البحر في اقتباله لكلّ الأمور، فهو يقبل كلّ شيء دون الكثير من التّحليل والتّفكير، ولا يمتلك القدرة الكافية لتقييم ما يعطى إليه حتّى يختار أو يرفض.
من هنا تقع على عاتق الكاتب الّذي قرّر صياغة نصوص تعنى بالأطفال، مسؤوليّة كبيرة، حيث أنّه وهو الزّارع ينبغي أن يبذر كلّ فكر يدعو للخير والمحبّة والجمال، فيبني عالم الطّفل على أسس إنسانيّة متينة.

هذا ما نجح الكاتب " فراس الحج محمد " بالقيام به، من خلال أناشيد وقصائد موجّهة للفتيان والفتيات. يلج من خلالها عالمهم الطّفوليّ البريء، ويطعّم جذورهم بسهولة ممتنعة بالفرح والمحبّة، ويحثّهم على القراءة  والتّعلّم ويبني لهم عالم الأبجديّة بحروف تغنّي وتتسلّل إلى أذهانهم بشكل سلس ومحبّب. كما يعزّز في داخلهم روح البحث عن الخير والحقّ والجمال دونما وعظ مملّ وإنّما على وقع كلمات ترنّ كما الإيقاع وصور هادئة بسيطة تأخذ الطّفل إلى عالم خاص يبني فيه أحلامه وأهدافه ونجاحه، فيكون غده إشراقة وطن رايته المحبّة والسّلام.

إلى روح مي زيادة ( بمناسبة اليوم العالمي للمرأة)


مادونا عسكر/ لبنان
"مي زيادة"، زهرة لبنان ومصر وفلسطين، الكاتبة الرّائدة في دفاعها عن المرأة واستنهاضها من بؤس العبوديّة والرّائدة في حثّ المجتمع على تحريرها والوثوق بجوهرها، ما زالت مقالاتها حاضرة، وكأنّها تلقيها اليوم في شرقنا المسكين الّذي ما زال بمعظمه يستعبد المرأة ولا يحترم كيانها الإنسانيّ القادر على منح العالم أجيالاً غنيّة بالإبداع الفكري والعمليّ.
"إنّ المرأة تاريخ استشهاد طويل"، تقول مي زيادة، ولعلّها إلى الآن ما زالت تقبع في معتقلات العقول المتحجّرة والجاهلة. وحتّى  في البلدان الّتي تثابر فيها المرأة على إثبات حضورها الفعّال، هناك من يسعى إلى إعادتها إلى العصور الجاهليّة، وسلبها حقّها في التّعبير والقرار. ناهيك عن العنف الّذي تعاني منه، جسديّاً ومعنويّاً، في مجتمعات ذكوريّة تعتبر نفسها وصيّة عليها وكأنّها لم تبلغ سنّ الرّشد بعد. على الرغم من ذلك تسعى المرأة جاهدة لكسر كلّ القيود كيما تثبت باستمرار لمجتمعاتها أنّها بفكرها وعلمها وشخصيّتها الإنسانيّة قادرة على التّغلّب على كل ّ قيد، وأنّها ليست نصف المجتمع وحسب وإنّما هي أساسه المتين.  وتذكر ميّ، في مقالتها (ترقية الشّعوب): "كلّ إصلاح وارتقاء لا يقوم على أساس متين تتزعزع أركانه وينهار بنيانه، وما أساس كلّ إصلاح إلا المرأة. فمهما وضع مفكرونا من خطط حكيمة وبرامج صحيحة ليجعلوا من النّشء المصري شعباً أرقى علماً وأخلاقاً فإنّ برامجهم وخططهم لن تٌثمر الثّمرة المطلوبة ما لم يبدأ بترقية الفتاة وتعليمها تعليماً صحيحاً.  فهي مديرة المدرسة الأولى، وصاحبة البيئة التي سيتكوّن فيها ذلك النّشء والّتي لها أعظم الأثر في تقويم أخلاقه ومستقبل حياته."
إنّ إصلاح المجتمعات يبدأ من حيث يجتمع العقل والعاطفة معاً ليؤسّسا قواعد متينة ترتكز عليها الأجيال في سبيل تقدّم أوطانها. والمرأة إنسان قبل أن تكون أنثى، وبالتّالي وجب احترام إنسانيّتها والنّظر إليها بعقول منفتحة. وهذا ما يجب على المرأة أن تفرضه وليس لها أن تنتظر من أحد أن يمنّ عليها بحرّيتها وحقوقها.
في سنة 1939م انخرطت المرأة البريطانيّة في العمل بدون أن تتقاضى راتباً، وبذلك فرضت نفسها وقدراتها وشخصيّتها. والمرأة اليوم مدعوّة لمقاومة أيّ تعنيف أو أسر أو إقصاء بحكمة واتّزان مراعية واجباتها دونما التّخلّي عن حقها في الإنسانيّة. ونردّد مع زهرة النّهضة، مي زيادة: "ثقوا بجوهر المرأة! ثقوا بابنة اليوم تجدوا أبناء الغد أهلًا للثقة."





التّربية بين المحبّة والسّيطرة


يواجه الأهل اليوم مشكلة حقيقيّة وعقيمة تتجلّى في عدم القدرة على تربية الأبناء على الطّاعة. وذلك إمّا بسبب عدم معرفة مفهوم الطّاعة وإمّا بسبب اعتبار كلمة طاعة معيقة لنموّ شخصيّة الأبناء، إمّا لأنها باتت فكرة قديمة لا تجاري عصرنا الحالي ولا تواكب التّربية الحديثة. ونسمع الكثير من الآباء والأمّهات يقولون: "لا أستطيع السّيطرة على ابني أو ابنتي".
هذا الخلل أو هذه المشكلة لا يعود سببها إلى الأبناء وإنّما تبدأ مع الآباء والأمّهات. فكلمة طاعة لا تعني الخضوع بالمعنى القمعيّ للكلمة أو تنفيذ الأمر دون اعتراض، وبالتّالي فإنّ كلمة سيطرة لا تتناسب مع التّربية ولا توجّه الأبناء بشكل سليم. فالقمع يخلق عبيداً سيتمرّدون لاحقاً أو يتصرّفون بالخفاء بما يتناسب وأهوائهم.
الطّاعة هي فعل محبّة وثقة بالشّخص الواجب طاعته، وهي تسليم إرادي ناتج عن قناعة وإدراك بأنّ هذا الشّخص هو مصدر الأمان والخير والحبّ. قد لا يكون أبناؤنا يتمتّعون بهذا الإدراك وهم يطيعوننا إلّا أنّهم يعون في داخلهم أنّ أهلهم لا يريدون لهم إلّا الخير، شريطة أن يتقن الأهل كيفيّة تدريب الأبناء على الطّاعة. هذه التّقنيّة تدعى المحبّة والاهتمام وتربية الطّفل منذ صغره على الالتزام بالقوانين إراديّاً وعلى تقبّل المحاسبة عند عدم الالتزام. وذلك يكون بالحوار والمناقشة وتبيان الصّواب من الخطأ. ليست الطّاعة أن نعلّم أبناءنا على قول (نعم) كيفما كان ولأيّ كان، وإنّما مساعدتهم على فهم المطلوب منهم حتّى ينفّذوا إراديّاً بدون أيّ شعور بالقمع أو التّرهيب.
كلّ الآباء والأمّهات يحبّون أبناءهم بدون أدنى شكّ، ولكنّ قسماً منهم يحبّ محبّة تنطلق من الذّات البشريّة، فيبني شخصيّة ابن/ ابنة هشّة وسطحيّة وضعيفة تودي به إلى الهلاك. وأمّا القسم الآخر فيستمدّ محبّته من الله فتكون المحبّة معلّمة ومؤثّرة، قوامها الاحترام للكلمة الأبويّة الّتي تشكّل مرجعاً بالنّسبة للأبناء. 
 التّواصل المحبّ بين الأهل وأبنائهم لا يُخلق من فراغ وإنّما وعي أنّ المحبّة ليست استهتاراً أو تلبية رغبات بشكل عشوائيّ، وإنّما المحبّة فعل إلهيّ في نفوس البشر تنير أذهانهم بالحكمة وتفتح بصائرهم وتعلّمهم كيفيّة التّعامل بصدق وأمانة مع أبنائهم.



الثلاثاء، 24 يناير 2017

مصر الثّورة


مادونا عسكر/ لبنان

قراءة في كتاب "مصر الثّورة، (الانتصار والانكسار )"
للكاتب والرّوائي المصري " محمد أبو بطّة "
"كل حرف تقوله أو تكتبه يؤثر سلباً أو إيجاباً حتًى على هؤلاء الًذين يبدون وكأنًهم غير مهتمًين بما تقول أو تكتب فانتقِ حروفك مسموعة أو مقروءة وانتقِ زمانها فهي آثار تقود البعض إلى الحقيقة أو تقودهم إلى الضلال ولك نصيب فى ما حصدوا من حقائق أو ضلالات. ( مدحت البكري)
كثر هم المحلّلون السّياسيّون والكتّاب والمثقّفون الّذين يعبّرون عن آرائهم في زمن الأزمات العصيبة، وكثر هم من يتطرّفون في تعبيرهم فلا يقدّمون إلّا وجهة نظرهم بغضّ النّظر عن الحقائق الواقعيّة وبغضّ النّظر عن احترام الرّأي الآخر وإن كانوا يدّعون الدّفاع عن حرّيّة الرأي والتّعبير ويحملون شعار احترام الآخر واختلافه عنهم فكريّاً وعقائديّاً وسياسيّاً. فتستحيل مقالاتهم وتحليلاتهم سلاحاً من نوع آخر يساهم في إشعال الفتن وتغذية النّعرات الطّائفيّة والصّراعات الفكريّة، وكأنّي بهم يشركون أنفسهم في اللّعبة السياسيّة لهدف يرجونه في أنفسهم.  ممّا يدفعنا لنقدّم كلّ الإحترام والتّقدير إلى الكاتب "محمد أبو بطّة" لكونه من المثقّفين الّذين يعلمون ويدركون أنّهم مسؤولون عن الكلمة الّتي يتفوّهون بها وبالتّالي مسؤولون عن المتلقي لهذه الكلمة. 
"مصر الثّورة "، كتاب يعرض فيه الكاتب " محمد أبو بطة "، أوضاع مصر بدءاً من ثورة الخامس والعشرين من يناير، مستعرضاً شتّى المراحل الّتي مرّت بها الدّولة المصريّة، مدقّقاَ في تفاصيل الأحداث بمنتهى الموضوعيّة والرّصانة الفكريّة ومنتقداً بشكل لاذع كيفيّة تعامل المصريّين مع الأوضاع الرّاهنة إن على مستوى الحكّام والمسؤولين وكيفيّة إدارتهم للأزمة في الوطن وإن على مستوى الشّعب المصري وكيفيّة استيعابه لخطورة الظّروف الرّاهنة.
لا يرمي الكاتب من خلال هذا الكتاب تحليلاً سياسيّاً وحسب وإنّما يريد به تقويم السّلوك الإنسانيّ الفكري والمعرفي، من خلال إيقاظ الحسّ التّحليليّ لدى المواطن بهدف مراقبة الأحداث، فينمّي فيه الوعي السّياسيّ والتّحليليّ لتجنّب نتائج كارثيّة قد تأتي بها الصّراعات والنّزاعات الحاصلة في السّاحة المصريّة، سواء أكانت صراعات طائفيّة أم سياسيّة.
يتدرّج الكاتب في تحليله منطلقاً من أزمة ما قبل الانتخابات المصريّة الّتي أثارت الكثير من البلبلة عقب إعلان جماعة الإخوان المسلمين عن ترشيح مرشّحاً للإخوان للمنصب الرّئاسي. ويقرأ الكاتب الواقع المتازّم بموضوعيّة متميّزة ثم يعرض الوقائع بتفاصيلها ويحلّلها بدقّة، فينقل فكر كلّ التّيارات والأحزاب، حتّى الهواجس الشّعبيّة وذلك بعرض الرّأي والرّأي المضاد مناقشاً كلّ الثّغرات السّياسيّة الّتي حضّرت للأزمة المصريّة والّتي ساهمت باشتعال الأزمة لاحقاً. كما يشدّد الكاتب على دور الإعلام الأساسيّ والمحوريّ في الأزمة ويحمّل المسؤوليّة لجميع القوى الثّوريّة في ما تدفعه مصر اليوم من ثمن باهظ إذ يقول: "لا بد أن أسجل أنّ جميع القوى الثّورية أخطأت خطأً تاريخياً يوم غادرت الميادين فور تنحّي رأس النّظام السّابق! فقد أسقط الشّعب الرّئيس ولم يسقط النّظام! هذه الحقيقة التّاريخية وهذا الخطأ التّاريخي يدفع الشّعب المصري ومن ثمّ مصرنا الحبيبة ثمنه حتّى الآن!"
   ينطلق الكاتب في تحليله من الأحداث التّاريخيّة ليسقطها على الأزمة الحاليّة فيكوّن رؤية واضحة تبرّر نتيجة ما يحصل في مصر اليوم إن على الصّعيد السّياسيّ أو الاقتصدي أو الاجتماعيّ. ويبيّن مدى تورّط الأحزاب في البحث عن مصالح شخصيّة وفرديّة لا ترقى إلى مستوى مصلحة البلاد، والدّخول في زواريب السّياسة المقيتة الّتي تحقّق مصلحة السياسات العالميّة والّتي لا يهمّها مصلحة الدّولة المصريّة. ويخلص إلى تبيان التباسات الحالة الانتخابيّة من ناحية قلّة الوعي الانتخابي بما يتضمّنه من نقص في التّدريب على العمليّة الانتخابيّة، ومن ناحية تأثير الإعلام من خلال برامجه السّياسيّة الّتي ترمي إلى تحليلات ومناقشات أقلّ ما يقال فيها وهميّة واستباقيّة، ومن ناحية التّطلّع إلى شخص الرّئيس المنتخب وإلى الجماعة أو الحزب الّذي ينتمي إليه دونما الاهتمام بمصلحة الوطن والتّضافر والتّعاون في القيام به من جديد.
يمكننا تقسيم الكتاب إلى ثلاث مراحل:
- المرحلة الأولى: أزمة مصر ما قبل الانتخابات حتّى فوز مرشّح جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحريّة والعدالة بمنصب رئاسة الجمهوريّة وغالبيّة المقاعد النّيابيّة في مجلس الشّعب المصري.
- المرحلة الثّانية: الإخوان المسلمون وكيفيّة إدارة الحكم، والتّأثيرات الخارجيّة على الإعلام المصري والصّراع القائم في السّاحة المصريّة.
- المرحلة الثّالثة: إعلان سقوط الرّئيس المصري د. محمد مرسي والبديل الأسوء، عودة حكم العسكر.
من هنا يمكننا القول أن الكاتب بنى تحليله ثم صياغة النّصوص على مراحل أربعة معتمداً المعايير التّالية:
1-             المنهج التّحليلي:
يمنهج الكاتب تحليله المستخدم في معالجة الواقع، انطلاقاً من أحداث سابقة موظّفاً إيّاها في الأحداث الآنيّة فنرى تدرّجاً تطوّريّاً محدّداً يصل من خلاله إلى واقع الحقائق السّياسيّة. ولا شكّ أن الكاتب يرى جذور الأزمة في النّظام السّابق الّذي مهّد إلى حدوث أزمة ما بعد الثّورة، إذ إنّ الفساد الّذي تملّك الدوّلة والمسؤولين فيها سبّب خللاً كارثيّاً في البنية الأساسيّة للدّولة، اقتصاديّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً. ممّا أدّى إلى استحكام في أركان الدّولة ويبيّن بذلك أنّ النّظام ما زال قائماً رغم سقوط رأس النّظام، ويحاول بشتّى الوسائل استعادة حضوره القويّ على السّاحة المصريّة مفتعلاً غالبيّة الأحداث الّتي أدّت إلى تدهور الحالة المصريّة.
ولا يزال الكاتب يتعمّق في ثغرات الأزمة الحاليّة أي ما بعد الانتخابات، ويظهر للقارئ ضلوع جماعة الإخوان المسلمين فيها إذ إنّهم وهم يعلنون أنّ هدفهم الدّائم هو الدّعوة، إلّا أنّهم يبتغون الوصول إلى السّلطة. ومن يتأمّل نشاطهم السّياسي المتناقض والّذي يبرّرونه بحركيّة السّياسة، يفهم أنّ هدفهم السّلطة. "وعندما نتأمل موقف الإخوان المسلمين بهدوء سنقرأ العجب ونكتشف العجب!  فهم يتلوّنون مع كلّ موقف ويبرّرون كلّ قرار حتّى لو كان القرار الأوّل عكس القرار الثّاني تماماً! وعندما تسألهم يجيبونك بكلّ بساطة أنّ السّياسة عالم الحركة وليست عالم الجمود! ويبرّرون أنّ من يتمسّك بالسّكون والجمود سيجد نفسه خارج الميدان (بالطبع خارج ميدان السياسة!). إذن فهدفهم الأسمى ليس الدّعوة بل السّلطة والحكم!...  ويشير الكاتب أنّ حلّ الأزمة يكمن في فصل الجماعة عن الحزب السّياسي وليس دمج الاثنين في إدارة السّلطة، إذ إنّ من أراد الدّعوة عليه تطليق السّلطة والعكس صحيح، فرجل الدّعوة يختلف عن رجل السياسة. فإن احترف الأوّل السياسة سيجد نفسه في مأزق خطير، وإن احترف الثّاني الدّعوة فلن يجد مريدين كثيرين له لأنّهم سيشكّكون في نواياه. " فهل يفعلها الإخوان بمنتهي الشفافية أم أنهم سيكتبون نهايتهم العملية بأيديهم في عصر الشفافية الذي نعيشه  وسنعيشه إن شاء الله؟!." والجدير بالذّكر أنّ جماعة الإخوان المسلمين عاشت ما يقارب السّتين عاماً جماعة محظورة النّشاط، كما عانت المطاردة والسّجن والاعتقالات والإعدام بلا محاكمات ردحاً من الزمن...  " وما إن قامت الثّورة حتّى سارعت الجماعة المحظورة للخروج إلى النّور وافتتاح مقرّات رسميّة لها مع رفع شعارها عليها ثمّ أعلنت عن تأسيس حزب سياسي لتمارس الجماعة السّياسة من أوسع أبوابها وبطريقة مشروعة وقانونيّة !." وما لبثت الجماعة بعد معركة شرسة وفوز مرشّح الحزب والجماعة بمنصب رئاسة الجمهوريّة، أن تصرّفت باستعلاء تجاه من انضمّوا إلى حزب الحرّيّة والعدالة فالولاء في الأساس للجماعة وليس للحزب، " فتمّت إعادة تشكيل القيادات على المستويات العليا والوسطى والدّنيا ليكتشف أعضاء الحزب من خارج الجماعة أنّهم خارج تلك التّغييرات والتّشكيلات على جميع المستويات!". وستعزّز هذه الإخفاقات لاحقاً، كما يشير الكاتب، إلى المزيد من الخوف من سيطرة التّيّار الإسلامي. هذا الخوف الّذي يتأرجح بين المنطق والمبالغة، في حين يشهد الإسلام اليوم حرباً شرسة وقاسية إعلاميّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً. ولا شكّ في أنّ هذا الخوف قد يكون غير مبرّر أحياناً إلّا أنّه في مكان تساهم السّياسات والحركات المتطرّفة في المزيد من تشويه صورة الإسلام وكأنّي بها حركات مأجورة تلعب دوراً أساسيّاً في هذه الحرب.
ولا يغيب عن الحقائق السّياسيّة من وجهة نظر الكاتب تعمّد السّياسات العالميّة كالسّياسة الإسرائيليّة والأميريكيّة الاستفادة من الأزمة المصريّة بل تعزيز الصّراعات في الداخل المصري. إنّ ضعف الدّولة المصريّة يحصّن الداخل الإسرائيليّ ويحافظ على قوّة إسرائيل، خاصّة وأنّ الدّول المجاورة لها كالعراق وسوريا تشهد صراعات  داخليّة عنيفة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى كلّما ضعف جهاز الدّولة وبنيته الاقتصاديّة ستُغرق الدّولة الأميريكيّة مصر بمزيد من الدّعم المالي حتّى تنال ما تخطّط من أجله. وبالتّالي يصبح القرار المصريّ تحت رحمة القرار الأميركي، ما يسميه الكاتب احتلالاً. بالمقابل لا ينفي الكاتب ميلاد معارضة حقيقيّة أنتجها الإعلان الدّستوريّ، إن جاز التّعبير، فشهدت مصر معارضة حقيقيّة، ( جبهة الإنقاذ الوطني)، إلّا أنّها فقدت بريقها ومؤيّديها عندما استمرّت في غيّها ورفضها الحوار الوطني مع الرّئيس والحكومة، بعد أن جاء الاستفتاء في ديسمبر ليعلن أنّ للشعب المصري وللعالم أجمع أنّ الشّعب المصري يؤيّد الرّئيس مرسي.  
إنّ التّحليل الّذي رمى إليه الكاتب بدءأ من أزمة ما قبل الانتخابات مروراً بأزمة الحكم وانتهاء بإعلان سقوط الرّئيس مرسي، يعود إلى حسن عرضه للحقائق بشفافيّة ودون انحياز لفريق أو لآخر، معتمداً التّحليل المنطقي والموضوعيّ غير متأثّر بالعواطف الشّخصيّة. " فالإنسـان الّذي تتحكّم بـه العواطف لا يرى إلّا جانبا ًواحداّ من المـــوقف". ( سبينوزا ).
2- المعلومات المستخدمة:
استخدم الكاتب معلومات واقعيّة، منطلقاً من أرض الواقع حتّى بلوغ غايته المرجوّة وهي إظهار الحقائق وفق تحليل سياسيّ ناضج لا يهدف إلى تعزيز الصّراعات، ولا يقصد إشعال الفتن السّياسيّة والطّائفيّة، وإنّما إلى كسر الضّبابيّة المحيطة بالجوّ العام المصري وتبيان الحقائق، لعلّ هذا التّحليل يعيد التحام الشعب الواحد بعد أن انقسم بين معارض وموال حتّى وصل به الأمر إلى الاصطدام في ما بينه. كما يريد الكاتب من هذه الحقائق، تبديد الخوف المسيطر على البعض أو الأغلبيّة من الفكر الإسلامي الّذي بحسب رأيه، يحسن أن يأخذ فرصته، بعد أن اختبر الشّعب المصري السّياسة الدّيكتاتوريّة وسياسة الانفتاح والسّياسة الرّأسماليّة الفاحشة. ويميّز الكاتب بين الفكر الإسلامي والحكم الدّيني الّذي يدعو إليه البعض بهدف السّلطة، ويؤكّد أنّ الإسلام ليس بحاجة لجماعة الإخوان المسلمين، إذ يقول: " إن الإسلام أكبر من أي جماعة مهما كانت! فقد كمل الإسلام في حياة الهادي البشير محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ولم تعد هناك حاجة لظهور دعوة جديدة بمرشد جديد إلّا إذا كان هذا المرشد يريد أن يدلّنا إلى دين جديد بأتباع جدد!.".  ويزيد قائلاً: " إنّ الإسلام ونبيّ الإسلام علّم النّاس التّفكير والتّدريب على القيادة لا التّدريب على الانقياد بلا تفكير!.
كما أنّ كلّ المعطيات والمعلومات الّتي استند إليها الكاتب ليست رأياً شخصيّاً وإنّما حقائق يعرفها الجميع إلّا أنّ الاختلاف عليها اختلاف نظريّ. من هنا يتدبّر الكاتب في جعل هذه الحقائق وهذه المعلومات قاعدة أساسيّة يحرّك من خلالها فكر المواطن فيرى الأمور جليّة  ويبقى له إمّا أن يقتنع برؤية الكاتب المستقبليّة وإمّا أن يناقشها.
3-  قدرة الأفكار المتولِّدة في القبض المعرفي على الوقائع الماضية، أو الوقائع الرّاهنة:
ونعني بهذا قدرة الكاتب على تفصيل الحقائق وقدرته على تبيان الإيجابيّات والسّلبيّات والغوص في التّفاصيل، وتفكيك مضمونها ثمّ نقدها لبلوغ هدفه الأسمى الّذي هو كسر مفهوم الإنحياز الأعمى لطرف أو لآخر واعتبار المصلحة العليا للوطن فقط، أيّاً كان توجّه الأفراد أو التّيّارات الحزبيّة والسّياسيّة. فعندما يكون الهدف مصلحة الوطن ينبغي التّنازل عن بعض التّشبّث والتّطرّف بالآراء حتّى ننهض بالوطن بدل أن تتحوّل أعظم ثورة عرفها التّاريخ الحديث، على حدّ قول الكاتب، ونعني بها الثّورة المصريّة، إلى معقل للوطن فيسقط هو بدل أن يسقط النّظام.
في نصّ بعنوان "الشّعب يريد إسقاط الوطن"، يحمّل الكاتب مسؤوليّة الشّرذمة الوطنيّة لكلّ الشّعب المصري على حدّ سواء، بدءاً من الرّئيس المصري د. محمد مرسي، مروراً بجماعة الإخوان المسلمين، والتّيّار السلفي الجهادي، وجبهة الإنقاذ، ووزارة الدّاخليّة، والإعلام، ورجال النّظام السّابق، والموظّفون وصولاً إلى الشّعب. ويحمّل بذلك كلّ منهم مسؤوليّة إسقاط الوطن من خلال إخفاقات كان يمكن تفاديها لو أنّ مصلحة الوطن كانت الأولى. ولا يخفي الكاتب خيبته بما وصلت إليه الحالة المصريّة، إذ يقول: " يشترك الجميع في إسقاط الوطن ولن أجافي الحقيقة إذا قلت أن العالم أجمع بلا استثناء يريد إسقاط مصر الثورة! ولكن ما يدمي القلب ويملأ القلوب حسرة أنّ أبناء الوطن أنفسهم يريدون أيضاّ إسقاط مصر... فالعالم الغربي كلّه بقيادة الولايات المتّحدة الأمريكية يريد إسقاط مصر الثّورة خاصّة بعد وصول مرسي لسدّة الحكم خشية نجاح المشروع الإسلامي فتحذو جميع الدول الإسلامية حذوه فتضيع المصالح الغربية للأبد!.  والعالم العربي أيضاّ يريد إسقاط مصر الثّورة وأيضاّ بعد وصول مرسي لرئاسة الجمهورية لأنه سيشجع التيارات الإسلامية على تكرار التجربة المصرية – حال نجاحها – في كل البلاد العربية وهو ما لا يريده حكام تلك الدول ملوكاّ كانوا أم رؤساء جمهوريات!. والعالم الغربي والعربي لا يمثّل شيئاّ بدون الشّعب المصري نفسه لذا استدرجوا الشّعب المصري كلّه بلا استثناء ليساعدهم في إسقاط مصر!."
4- القدرة، من خلال تحقيق ما سبق، على التّنبؤ بالوقائع القادمة:
بناء على ما سبق من عرض للوقائع وتحليلها والتّعمّق بها، يعرض الكاتب رؤيته المستقبليّة في البديل الأسوء، ( عودة حكم العسكر ). ويبني رؤيته أوّلاً على حالة الفوضى الّتي تشوب الدّاخل المصري في غياب مريب للأمن الدّاخلي، ثانيّاً على المشاكل المفتعلة والّتي ستفتعل، ثالثاً الانحدار السّياسي والاقتصادي والاجتماعي، ليكون الحلّ الوحيد للأزمة بل الحلّ الأسوء، هو عودة حكم العسكر عن طريق انقلاب عسكري، وليس عن طريق عودة المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة (وإعلان السيسي - نفسه - رئيساً للجمهوريًة حتًى إجراء انتخابات برلمانيًة جديدة ). وينبّه الكاتب ويشدّد على خطورة هذا الحلّ الّذي قد يكون هو البديل الوحيد، ويرسم ملامح المستقبل الأسود، وليس أفضل منه في التّعبير عن هذا المستقبل الأليم في قوله: "  لو حدث هذا البديل – لا قدّر الله- سيتمّ القبض على كلّ النّخبة السّياسيّة الحاليّة حكومة ومعارضة! سيتمّ إعلان الأحكام العرفيّة من أوّل لحظة لآخر نفس في حياة السّيسي! سيعود القهر والإرهاب والذلّ! لن يعترض أحد ولن يخرج الشّباب مرّة ثانية ولن تقوم لنا قائمة ولن تكون لنا قيمة بل سنكون أسوأ الشّعوب قاطبة! لن يرحّب بنا أحد ولن نرى النّور ثانية!. "
في كتاب لعلّه الأفضل بين الكتب السّياسيّة، وبنظرة واقعيّة وموضوعيّة واتّزان فكريّ وعاطفيّ، وحرّيّة رأي وتعبير تدرك مدى مسؤوليّة الكلمة، وتأثيرها على المتلقّي، ساهم الكاتب المصري القدير " محمد أبو بطّة " بتأريخ مرحلة من تاريخ مصر، موجّهاً القارئ العربي بشكل عام والقارئ المصري بشكل خاص إلى أهمّيّة تقييم الأمور وتحليلها والنّظر إليها من زوايا مختلفة حتّى يصل إلى نتيجة واحدة، ألا وهي النّهوض بمصر. ولا يحصر الكاتب معنى مصر في كونها دولة عربيّة قويّة وحسب، إنّما يتطلّع إلى مصر أمّ الدّنيا، الحضارة الحاضنة لكلّ الشّعوب على مختلف أديانهم وانتماءاتهم واعتقاداتهم. مصر الّتي نظم فيها شاعر النّيل حافظ ابراهيم قصيدة طويلة، نجتزئ منها هذين البيتين للدلالة على مصر الحضارة والتاريخ والقوة:
وَقَفَ الخَلقُ يَنظُرونَ جَميعاً
 
كَيفَ أَبني قَواعِدَ المَجدِ وَحدي
  
وَبُناةُ الأَهرامِ في سالِفِ الدَه
 
رِ كَفَوني الكَلامَ عِندَ التَحَدّي
  


الاثنين، 23 يناير 2017

في ملامسة الحقيقة الإنسانيّة


قراءة في قصيدة "هو هادئ وأنا كذلك" (*)  للشّاعر محمود درويش
مادونا عسكر/ لبنان
يجسّد الشّاعر الكبير محمود درويش في هذه القصيدة البديعة منحوتة فلسفيّة تضاهي شتّى النّظريّات الفلسفيّة والاجتماعيّة والنّفسيّة الّتي تحدّثت عن الإنسان وعلاقته بالآخر. وهي "منحوتة"؛ لأنّ الشّعراء يحفرون فكرهم بقلوبهم وينقشون كلماتهم في النّفوس فيحرّكونها ويوقظون في داخلها وعي المحبّة الخالصة. وأمّا الفلاسفة، ومع كلّ الاحترام لفكرهم النيّر وعقولهم المستنيرة، إلّا إنّهم يبثّون بعض الجفاف ولا يحرّكون النّفوس. فهم يكتفون فقط بطرح الجدليّة ومناقشتها ويستدرجون العقول لإقناعها.  ومحمود درويش من الكبار الّذين لمسوا النّفوس وأشعلوا فيها نيران المعرفة والحبّ والحرّيّة واليقين، وتحوّلوا بعد رحيلهم إلى لغة تحاكي الإنسان وتتفاعل معه.
"هو"، ضمير للغائب يعود إلى الإنسان وتحديداً إنسانيّة الإنسان. ونرى هذا الـ "هو" في القصيدة مشابهاً للشّاعر تماماً ولا يفرّق بينهما إلّا أمر واحد. فللوهلة الأولى نفهم أنّ الشّاعر يتحدّث عن نفسه أو كأنّه أمام مرآة تعكس ظاهره وداخله العميق. ثمّ ما نلبث أن نصطدم في الفرق ونتلمّس حضور شخصين في القصيدة، فنحتار ونعاود القراءة مرّات ومرّات حتّى يتراءى لنا الحضور الفعليّ للآخر.  
- الهدوء والاطمئنان.
وكأنّي بالشّاعر يريد تسليط الضّوء على أنّ حضور الآخر لا يشكّل هاجساً ولا يستدعي الخوف والاضّطراب، (هُوَ هادِئٌ، وأنا كذلكَ). إنّه حضور ضروريّ ومهم في الحياة الإنسانيّة. ولا يحدّد لنا درويش هويّة هذا الآخر، لأنّه يريد به كلّ آخر، أي كلّ شخص في هذا العالم. هذا الحضور الأساسي والّذي من المفترض أن يكون مطمئناً، يشرّع أبواب الانفتاح والالتقاء ويمهّد للتّواصل الإنساني النّابع من الهدوء والسّكون ليحقّق لاحقاً المحبّة والسلام.
- اختلاف مشروع:

(يَحْتَسي شاياً بليمونٍ، وأَشربُ قهوةً)، عباراتان تبيّنان الاختلاف المشروع بين البشر، وتأتي عبارة (هذا هو الشّيء المغاير بيننا) لتؤكّد على ما ورد سابقاً، وهو أنّ الاختلاف لا يلغي ذاك اللّقاء الإنساني ولا يؤثّر في إرساء الطّمأنينة والهدوء، بل لعلّه يعزّز العلاقات الإنسانيّة ويمنحها رونقاً وجمالاً حتّى تغدو سامية. فهو اختلاف ظاهريّ أو لنقل بديهيّ وليس اختلافاً في الجوهر الإنساني، ولا نقرأ فيه تنازعاً أو تباينا،ً وإنّما المعنى ما زال يحتفظ بالهدوء والأمان.
لا ننكر أنّ الاختلاف الإنساني يبرز في التّفاوت المعرفي والاجتماعي والعلائقي والعقائدي، وإنّما شتّى الاختلافات والاعتقادات الشّخصيّة لا تهدّد الجوهر الإنساني ولا تنزع عنه صفته السّامية المرتكزة على القيمة. فالإنسان قيمة بحدّ ذاته بغضّ النّظر عن معتقداته أو عاداته وتقاليده وموروثاته الاجتماعيّة والدّينيّة. ما يحدّد قيمته هي إنسانيّته، وكلّ ما يعرّف عنه فكريّاً واجتماعيّاً وعقائديّاً لا يزيد أو ينقّص من هذه القيمة وإنّما يسعى بها إلى الاكتمال الإنساني، خاصّة إذا عرف الإنسان كيف يتشارك مع الآخر من خلال اللّقاء المنفتح والمحبّ.
- الخوف والاحتراس:
أولى الخطوات نحو النّزاعات والصّراعات تكمن في ما تظهره هذه العبارات من خوف وحذر مخفيّين من الآخر(هو لا يراني حين أنظرُ خِلْسَةً، أنا لا أراه حين ينظرُ خلسةً). فالخوف هو العقبة الوحيدة الّتي تمنع الإنسان من التقدّم والانفتاح، فيرغب في الانعزال ويجنح إلى الانطوائيّة والتّقوقع على نفسه. ما يجعله رافضاً لكلّ جديد ومتطوّر، ويبقى غارقاً في تقوقعه حتّى يتفجّر كبته حقداً وغضباً على الآخر. لو أعدنا النّظر في كلّ النّزاعات البشريّة وجدنا أنّ سببها الأساسيّ هو رفض الآخر وعدم قبوله كما هو. إلّا أنّ محمود درويش ذهب إلى ما هو أعمق من ذلك، ألا وهو الحذر الاستباقي وغير المبرّر، أيّ التكهّنات الّتي يفرضها إمّا المحيط الاجتماعي والدّيني والثّقافي وإمّا سطوة الإعلام والسّياسة والتّربية الصّارمة والمنغلقة. هذا لا ينفي الواقع المرير الّذي تحياه الإنسانيّة من نزاعات وصراعات، تكمن أسبابها في السّلطة والتّحكّم والسّيطرة وتحقيق المصالح والمآرب. لكنّ هذه النّزاعات مستمدّة من الخبث الإنساني بمعنى آخر من الظّاهر الهادئ الّذي يخفي في طيّاته حذراً وخوفاً وريبة.
يعيد الشّاعر رسم جوّ الطّمأنينة والهدوء في القسم الثّاني، ولكن هذه المرّة نقرأ تباعداً بيّناً نتيجة الحذر (هو هادئٌ، وأنا كذِلكَ. يسألُ الجرسونَ شيئاً، أسألُ الجرسونَ شيئاً...). الحركات المشتركة بين الشّخصين لا تنفي ولادة السّلبيّة في نفسيهما، فالخوف يطرح أفكاراً سلبيّة شتّى في النّفس الإنسانيّة وقد تصحّ أو لا. لكنّها في جميع الأحوال تؤدّي إلى نتائج غير سليمة لأنّ النّظرة اختلفت، وبدأت النّفس تحترز وتتأنّى وتبني شيئاً فشيئاً جدار العزلة تحضيراً للنّزاع أو أقلّه لحتميّة عدم التّواصل والالتقاء. تبادل التصرّفات وتشابهها لا يعني بالضّرورة الاتّفاق عليها. فمتى حلّ الخوف أحدث خللاً في النّفس الإنسانيّة حتّى ولو لم يمسّ  الجوهر الإنسانيّ.
في هذا المقطع يظهر جليّاً انتقال الحالة الإنسانيّة من الإيجابيّة إلى السّلبيّة. ففي حين أنّ الأبيات الأولى حافظت على إيجابيّة التّصرّف (يسألُ الجرسونَ شيئاً، أسألُ الجرسونَ شيئاً...)، إلّا أنّ الأبيات اللّاحقة جنحت إلى السّلبيّة مع استخدام الشّاعر لحرف النّفي (لا)، (أنا لا أقول لَهُ: السماءُ اليومَ صافيةٌ وأكثرُ زرقةً. هو لا يقول لي: السماءُ اليومَ صافيةٌ) والسّماء الّتي تمثّل صفاء العلاقة بدأت تتلبّد شيئاً فشيئاً وتترجم اضطراباً داخلياً يمهّد لاضطراب واقعيّ. والأبيات (قطَّةٌ سوداءُ تعبُرُ بَيْنَنَا، فأجسّ فروةَ ليلها ويجسُّ فَرْوَةَ ليلها...) أحدثت انفصالاً معيّناً بين الشّخصين من ناحية النّمط العلائقي لذا نرى الشّاعر يستخدم حرف النّفي (لا) بدل أن يبقي على إيجابيّة العبارة.
- الإنسان مرآة الإنسان.
رغم هذا الانفصال الضّمنيّ بين الشّخصين إلّا أنّ درويش يدرك في العمق أنّ شتّى العوامل المؤثّرة في النّفس الإنسانيّة والمسبّبة للابتعاد عن الآخر لا تنفي كونه مرآة، (هل هو المرآةُ أبصر فيه نفسي؟). الآخر مثلي ولا يختلف عنّي، هو أنا وأنا هو، والإنسان لا يدرك ذاته إلّا من خلال الآخر بل ولا يحقّقها إلّا من خلاله وبالاشتراك معه والانفتاح عليه. ويقولها المفكّر العراقي "عبد الرّازق جبران" بعبارة أجمل: "الإنسان كأس الإنسان". وهذه الفكرة لا تتبدّل ولا تتغيّر، فالإنسان هو الإنسان مذ وجد وسيظلّ حافظاً للقيمة الإنسانيّة في ذاته حتّى آخر شخص في التّاريخ. هي الظّروف الّتي تتبدّل والنّمط التفكيري والاجتماعي والتّربوي. فهو منذ البدء يحمل في ذاتيّته الخصال الإنسانيّة ذاتها ولكن ثمّة من يبحثون عن الآخر وثمّة من يستبعدونه ويرفضوه بل ويقتلونه.
- انعدام الرّؤية.
(ثم أَنظر نحو عينيه، ولكن لا أراهُ...). هنا تكمن المواجهة، ويتجلّى أهمّ عامل للخوف وهو عدم رؤية الآخر على الرّغم من حضوره الحقيقيّ. ونسأل، هل من يقتلون لأسباب عنصريّة وعقائديّة وسياسيّة...، يرون ضحيّتهم وإن نظروا إليها؟ هل يدركون حقيقةً أنّها قيمة إنسانيّة؟ بالطّبع لا، فلو رأوا  لما أقدموا على هذا الفعل.
الخوف يعمي البصر والبصيرة ويعطّل العقل ويدمّر الرّوح فيمسي الإنسان آلة تتحرّك بوجب أمر خارجيّ. كما أنّ الخوف وسيلة مهمّة في يد من أراد استخدام البشر في تنفيذ مصالحه الشّخصيّة. فهو يتيح له استنفار قواهم ضد الآخر فيستخرج كل طاقاتهم السّلبيّة ويوجّهها نحوه ليستبعده.
تظنّ أنّك تخاف فتبتعد (أتركُ المقهى على عَجَلٍ)، ويتهيّأ لك أنّه ينبغي عليك أن تهيّئ نفسك للدّفاع (أفكّر: رُبَّما هو قاتلٌ). ولكنّ درويش يذهب إلى العمق أكثر مرّة أخرى ليغوص أكثر في الدّاخل الإنساني، ليفهمنا أنّ الخوف كامن في نفس كلّ واحد منّا، وكلّنا على استعداد لنبذ الآخر ما لم نسعَ جاهدين لاحترام القيمة الإنسانيّة (أو رُبّما هو عابرٌ قد ظنَّ أني قاتلٌ... هو خائِفٌ، وأنا كذلكْ!).
الخوف قاتل القيمة الإنسانيّة، فكلّ قاتل خاف من ضحيّته فقتلها خوفاً. إمّا خوفاً على السّلطة أو على المكانة الاجتماعيّة أو خوفاً من فقدان الاستمراريّة والذّوبان في الآخر، أو خوفاً من إظهار خوفه، يقول نيلسون مانديلا: "الجبناء يموتون مرّات عديدة قبل موتهم، والشّجاع لا يذوق الموت إلّا مرّة واحدة"، فالجبان يقتل نفسه عدّة مرّات وهو يتجرّأ على رفض الآخر واستبعاده ونفيه. ثمّ يقتل نفسه عندما يقتله ظنّاً منه أنّه انتصر وحافظ على وجوده. وأمّا الشّجاع فهو من يتخطّى خوفه على جميع المستويات ويتحرّر منه وينطلق بانفتاح عقليّ ونفسيّ وروحيّ نحو الآخر مدركاً أنّ به ومعه يتحقّق اكتمال الإنسانيّة.
-----------------
(*) ديوان: لا تعتذر عما فعلت، ص ٨٧- ٨٨

دار رياض الريس لندن  طبعة ١ سنة ٢٠٠٤

النّضج العاطفي وتجليات الحبّ في قصيدة "يحطّ الحمام"* للشّاعر محمود درويش


مادونا عسكر/ لبنان
نهضت هذه القصيدة على ارتحال بين  السّماء والأرض. وتبتدئ معلنة الذّروة ( أعدّي لي الأرض كي أستريح  فإني أحبّك حتّى التّعب...). فتتجلّى لنا في الكون الشّعريّ الّذي ابتناه الشّاعر معالم العاطفة البالغة منتهى النّضج، وملامح العشق المكتمل. وكأنّي به بلغ ذروة العشق حدّ التّوحّد بالحبيبة. يتراءى لنا حضوراً ثنائيّاً إذ نشهد حواراً بين شخصين، إلّا أنّه موحّد اللّغة واللّهجة والاندماج العاطفي. يبيّن انصهاراً بيّناً وواضحاً بين جسدين متّحدين في روح واحدة. (ونحن لنا حين يدخل ظلٌّ إلى ظلّه في الرّخام/ أنا وحبيبي صوتان في شفةٍ واحدة).
- بين الأرض والسّماء:
(يطير الحمام، يحطّ الحمام).
عبارتان متضادتان تحملان برمزيّتهما تارة معانقة السّماء وطوراً مساكنة الأرض. وتتكرّران على ثماني مراحل مترافقتين، حتّى تستقرّ المرحلة التّاسعة والعاشرة على عبارة ( طار الحمام)، لإعلان بلوغ المقام العشقيّ. وتتكرّر العبارة مرّتين في المقطع السّادس في سياق واحد متّحدٍ لتؤكّد الانصهار الكيانيّ بين الحبيبين (أنا وحبيبي صوتان في شفةٍ واحدة)، ولتبلّغنا الكمال العشقيّ في البيت الأخير (يطير الحمام). ولئن كان العدد (10) يرمز إلى الكمال بين العالم الإلهيّ والعالم الأرضيّ، أتت عبارة (يطير الحمام)، كمرحلة ما بعد الكمال، يتجلّى فيها العشق الممجّد، والمالئ الكيانين، بل الموحّد بينهما في المجد.
 تظهر لنا المراحل الثّمانية صعوداً وهبوطاً للحالة العشقيّة، يؤسّسان لمرحلة الاتّحاد المبدئيّ ما قبل الانصهار الكلّيّ جسداً وروحاً. والهبوط لا يعني بدلالته الشّعريّة الانحدار أو الارتباك العشقيّ، وإنّما يعبّر عن حالة العشق التّواق إلى الاكتمال بالصّعود (يطير الحمام)، وحالة الألم الحاضرة في الكيان المحبّ، الظّامئة للصّعود المتواصل (يحطّ الحمام).
- الحبيبة البداية والنّهاية:
يفتتح الشّاعر قصيدته بتنهيدة عشق يطلقها من أعماق روحه، وكأنّي بها تعبّر عن نهاية النّضال العشقيّ، والوصول إلى برّ الحبيبة: (أعدِّي ليَ الأرضَ كي أستريحَ فإني أُحبُّكِ حتى التَعَبْ).
تشكّل الحبيبة أرض الميعاد بالنسبة للشّاعر حيث رجاء اللّقاء النّهائيّ، والرّاحة التّامة والسّعادة الأبديّة. ولعلّ الشّاعر استبدل الموت بالتّعب ليقصي النّهايات عن العشق، فلا يمسّه الموت أو الحدود الأرضيّة (وإني أُحبُّكِ, أنتِ بدايةُ روحي, وأنت الختامُ). يذهب بنا هذا البيت عميقاً إلى عوالم العشق كحقيقة متجلّيّة، إذ يعطي للشّاعر قيمته الحياتيّة والوجوديّة. فبالحبيبة ابتدأ وبها يتشكّل الختام المكمّل للمسار الوجوديّ كقيمة. وبين البداية والنّهاية حبيبان مصلوبان على خشبة العشق المرتفعة أفقيّاً باتّجاه العشق الأعلى، والمترامية في العالم. يموت الواحد في الآخر عشقاً حتّى يولدا في الأبد. (وأُشْبِهُ نَفْسِيَ حين أُعلِّقُ نفسي على عُنُقٍ لا تُعَانِقُ غَيرَ الغَمامِ).
- حبيبي لي وأنا له:
في مشهد قدسيّ يتجلّى العشق الرؤيويّ (Apocalyptiqueأي المرتفع عن العالم والخارج عنه. هي رؤية العاشق للمعشوق غير المرتبطة بالنّظر وإنّما المرتبطة بالإحساس العميق والبصيرة. (وندخل في الحُلْمِ، لكنَّهُ يَتَبَاطَأُ كي لا نراهُ). العاشقان في العالم يهيمان في الحالة العشقيّة الّتي يرمز لها الحلم. ولو أنّهما ما برحا مكبّلين بعنصريّ الزّمان والمكان، إلّا أنّهما يستظلّان بأنوار الأبد كامتداد للحالة العشقيّة الكاملة. (وحين ينامُ حبيبي أصحو لكي أحرس الحُلْمَ مما يراهُ.. وأطردُ عنه اللّيالي الّتي عبرتْ قبل أن نلتقي). يبتدئ الزّمان العشقيّ في لحظة التّكوين الأولى ولا ينتهي إلّا بولادة جديدة. ويتواصل كحالة يقينيّة مستمرّة لا يؤثّر فيها الزّمان والمكان والحالة الإنسانيّة الأرضيّة. (وَنَمْ يا حبيبي لأهبط فيك وأُنقذَ حُلْمَكَ من شوكةٍ حاسدهْ).
-  الحالة العشقيّة انتظار لا وصول، قدوم لا حلول:
العشق حقيقة مفعمة بالألم، والخوف، واللّهفة، والشّوق. مقتضياته شديدة، وأحكامه قاسية لطيفة، ومنطقه صارم قويّ عذب رقيق. (لأني أحبك خاصرتي نازفهْ// وأركضُّ من وَجَعي في ليالٍ يُوَسِّعها الخوفُ مما أخافُ)، لا يريد الشّاعر المكوث عند الحدود الأرضيّة والاكتفاء بعاطفة مؤقّتة تشبع حاجة أو رغبة، بل يريد أن يحيا حياة عشقيّة كاملة متكاملة تعتقه والمعشوق من القيود الزّمنيّة. العاشق في حالة انتظار وشوق دائمين (تعالي كثيراً، وغيبي قليلاً// تعالي قليلاً، وغيبي كثيراً). ويأبى لقاء تقليديّاً يخمد نار العشق، ويحوّله إلى رماد (تعالي تعالي ولا تقفي، آه من خطوةٍ واقفهْ).
بالمقابل ليس العشق حالة تفصل بين الرّوح والجسد، وإنّما هو العشق للكلّ. لكنّ نبذ الاكتفاء والتّمسّك بالشّوق المتّقد، ينمّيان هذا العشق ويسموان به إلى ما هو أبعد من الشّهوة الأرضيّة والرّغبة الجسديّة. (أحبُّكِ إذْ أشتهيكِ. أُحبُّك إذْ أشتهيك... أخاف على القلب منك،  أخاف على شهوتي أن تَصِلْ... أحبك يا جسداً يخلق الذكريات ويقتلها قبل أن تكتملْ). لا يبحث العاشق عن ارتواء آنيّ بل يروي ظمأه من أنهار العشق  حتّى يظلّ متشوّقاً للمعشوق. (حبيبي، سأبكي عليكَ عليكَ عليكْ.. لأنك سطحُ سمائي.. وجسميَ أرضُكَ في الأرضِ.. جسمي مقَامُ).
-  ونام القمرْ على ختام ينكسرْ وطار الحمامُ:
نهاية احتفاليّة ترسم ثنائيّة الحياة والموت، وتظهر مرحلة العبور من الحالة العشقيّة إلى الموعد المكتمل. (رأيتُ على الجسر أندلُسَ الحب والحاسَّة السادسهْ). وترمز الحاسّة السّادسة إلى الخروج عن نطاق الحواس والهيام في الامتلاء والغنى. وإن بدا المشهد مؤلماً في الحوار المنطوق بصوت واحد، فليعبّر عن ألم العبور وثمن الاكتمال. (أعاد لها قلبَها وقال: يكلفني الحُبُّ ما لا أُحبُّ// أعادتْ له قلبَهُ وقالت: يكلفني الحُبُّ ما لا أُحبُّ). إنّه مشهد النهايات المفتوحة على البدايات، ( ونام القمرْ... على ختام ينكسرْ... وطار الحمامُ). يقابل نوم القمر فجر جديد، والختام ينكسر فلا يبلغ منتهاه، ويحلّق العشق عالياً في سماء جديدة يسبح في رحابها عاشقان متحدان في كيان واحد. (وحطَّ على الجسر والعاشِقْينِ الظلامُ... يطيرُ الحمامُ... يطيرُ الحمامُ).
-----------

(*) من ديوان "حصار لمدائح البحر"- 1984. 

الانتظار المفعم بالجلالة


قراءة في قصيدة "درس من كاما سوطرا"* لمحمود درويش
مادونا عسكر/ لبنان
لا يمكن للشّوق إلّا أن يكون راقياً، سامياً، يحلّق خلف الأزمنة والأمكنة. وكلّما ارتقى، اتّقد واضطّرم، وعصفت به قوّة الانتظار المستمرّ. هو الشّوق الذّي لا يبلغ نهاية ولا منتهى، هو حالة الظّمأ الدّائم الأبديّ، والولوج في سرّ الانتظار الذّي لا يُدرك بل يُعاش.
تلك المعاني نستشفّها من قصيدة "درويش"، ويطيب لنا الإصغاء إلى لهفة الشّوق الّتي تعبق بها حروف القصيدة.
تتكرّر كلمة (انتظرها) مع كلّ حالة من حالات القصيدة وتتدرّج من أولى لحظات الانتظار إلى بلوغ الوحدة والانصهار. ويبقى الانتظار محور القصيدة، ومحور قلب الشّاعر، حتّى بعد اللّقاء.
هو انتظار مفعم بالجلالة والأبّهة، فتمنحك القصيدة إحساساً بأنّك في عالم العظمة، حيث الانتظار شرف رفيع، ورقّة لا متناهية، فالمنتطر فارس نبيل والمتوَقَّع مجيئها، روح أو كيان من عالم غير محسوس وغير مدركٍ. كأنّه ينتظر من لا يعرفه الأرضيّون، بل روح آتية من خارج الزّمان لتحلّ في زمان الفارس وتبدّل معالم حياته.
بكأس الشراب المرصّع باللازرود انتظرها،
على بركة الماء حول المساء وزهر الكولونيا انتظرها،
بصبر الحصان المعدّ لمنحدرات الجبال انتظرها،
بسبع وسائد محشوة بالسحاب الخفيف انتظرها،
بنار البخور النسائي ملء المكان انتظرها،
برائحة الصندل الذكرية حول ظهور الخيول انتظرها،
يتسرّب إلى تلك الأبيات، انتظار هادئ، يترافق والارتواء من كأس الوقت المرصّع بالأحجار الكريمة، حيث يظهر كأنّه كنز ثمين مُنح للمنتظِر، ليترقّب الحضور. ويتجلّى حيّاً من خلال رمز الماء، الّذي هو الحياة، وقويّاً يشابه استعداد الأحصنة للولوج في منحدرات الجبال الصّعبة والوعرة. وتختلط رائحة البخور النّسائي برائحة الصّندل الذّكريّة لتشكّل وحدة حاضرة قبل اللّقاء.
في هذا المقطع المعطّر بزهر الكولونيا ورائحة الصّندل والبخور، نتبيّن انتظاراً صبوراً، وقوراً مشتعلاً في آن. وكأنّ "درويش" يرسم لوحة سورياليّة ساحرة، يخطّ فيها الكلمات عطراً يتجسّد في انتظار شغوف نبيل وهادئ، ولكنّه مشتعل ومتّقد.  
ولا تتعجل فإن أقبلت بعد موعدها فانتظرها،
وإن أقبلت قبل موعدها فانتظرها،
ولا تُجفل الطير فوق جدائلها وانتظرها،
لتجلس مرتاحة كالحديقة في أوج زينتها وانتظرها،
لكي تتنفس هذا الهواء الغريب على قلبها وانتظرها،
لترفع عن ساقها ثوبها غيمة غيمة وانتظرها،
وخذها إلى شرفة لترى قمراً غارقاً في الحليب وانتظرها،
وقدم لها الماء، قبل النبيذ، ولا
تتطلع إلى توأمي حجل نائمين على صدرها وانتظرها،
ومسّ على مهل يدها عندما
تضع الكأس فوق الرخام
كأنك تحمل عنها الندى وانتظرها،
 يدعو الشّاعر المنتظرَ إلى التّريّث وعدم استعجال المجيء، رغم الشّوق المتّقّد، والمترقّب، فليس الموعد الدّقيق هو غاية الانتظار، بل الغاية الحقيقيّة هي استمراريّة الشّوق كشعلة تشتعل بذاتها لا تنطفئ ولا تهمد. فإن أتت قبل الموعد أو بعده، يبقى الشّوق عاصفاً في النّفس لا يرويه لقاء ولا يشبع توقه الحضور. ويهيّء المترقّبُ جوّاً راقياً رومنسيّاً، ويهتمّ بأدقّ التّفاصيل الّتي تليق بالرّوح الّتي ينتظرها والّتي لا بدّ أنّها آتية. وتسيطر الرّقّة في هذا المقطع، فيدعو الشّاعر المنتظر إلى التّعامل مع الآتية بليونة وحنوّ، كي تكون الآتية مرتاحة ومتنعّمة. وهي الحاضرة بوهجها السّماويّ، يخشى الشّاعر عليها من غرابة العالم، فيحاول تقديم كلّ ما يليق بحضورها الجلل.
تحدّث إليها كما يتحدث ناي
إلى وتر خائف في الكمان
كـأنكما شاهدان على ما يعد غد لكما وانتظرها
ولمّع لها ليلها خاتما خاتما وانتظرها
في حضورها رهبة وخشوع، فيكون الحديث معها همساً شاعريّاً ولغة خاصّة غير تقليديّة، ما يدلّ عليه "درويش" بحديث النّاي إلى وتر خائف في الكمان.  هو حديث راق كما الموسيقى، ترتفع بالإنسان إلى الأعالي، وتفيض على روحه تامّلات السّماء. هو حضور آنيّ وأبديّ في آن معاً، لأنّه امتداد الأمس إلى الغد اللّامتناهي وغير المحدود بخطوات الوقت وقيود المكان. فيغرق المنتظر والآتية في وحدة تأمّل الأبد وبيقى الانتظار مضطّرماً.

وانتظرها
إلى أن يقول لكَ الليل:
لم يبقَ غيركما في الوجود
فخذها، برفق، إلى موتك المشتهى
وانتظرها!…
ويقودهما الشّوق إلى الإنصهار في قلب اللّيل حيث السّكينة والسّكون، فيخلو العالم إلّا من وجودهما، ومن شوقهما الشّغوف إلى الانتقال بالموت إلى الأبد حيث لا ينتهي الشّوق والانتظار بل يتحوّلان إلى حقيقة تُعايَنُ  وتُعاش في النّور السّرمديّ، الأزليّ. 

ــــــــــــــــــــــــــــــ
* القصيدة من ديوان "سرير الغريبة"، دار رياض الريس، لندن، الطبعة الأولى، (125-128).