الخميس، 19 يناير 2017

الذّات المتشظّية وإستراتيجيّة البحث عن الضّجيج


قراءة في المجموعة القصصيّة "ضيوف ثقال الظّلّ" للكاتب الأردنيّ جعفر العقيلي.
مادونا عسكر/ لبنان
عندما يستخدم الكاتب ضمير "أنا" في أسلوبه السّرديّ، يكون القارئ على بيّنة أنّه أمام فكر خصب بالخبرات الشّخصيّة، والمعرفة الضّمنيّة للصّراعات الإنسانيّة الذّاتيّة. ما نشهده في المجموعة القصصيّة "ضيوف ثقال الظّلّ" للكاتب جعفر العقيلي. فنفهم أكثر دلالة عنوان المجموعة القصصيّة الّتي سترشدنا إلى "ضيوف ثقال الظّلّ" داخل الذّات الإنسانيّة الّتي يتلمّس الكاتب بعضاً من أوجه صراعاتها، كالوحدة، والغربة، أو الاندماج القسريّ في واقع يضجّ بالعلاقات غير المرغوب فيها، على الرّغم من ضرورتها الاجتماعيّة والعمليّة.
 غالبيّة قصص المجموعة رُوِيَت بضّمير المتكلّم (أنا)، تخلّلتها قصص استخدم فيها الكاتب الضّمير المخاطَب (أنتَ) الذّي يفترض وجود الأنا. ما يكشف عن المحوريّة الذّاتيّة التي تدور في محيطها الأحداث الّتي تؤثّر في الفرد بشكل عام. ويضعها العقيلي في إطار شخصيّ ذاتيّ ليلامس ما هو أشبه بالاعترافات أو الاستذكار لأحداث ووقائع تهشّم الدّاخل الإنسانيّ وتقيّد حريّة انطلاقه.
هي علاقة مع الذّات، توق إلى التّصالح معها حتّى تتحقّق الاستقلاليّة والحرّيّة. فالتّصالح مع الذّات يسهم في تعرّف الإنسان إلى وجوديّته، هدفها وأسبابها. أمّا الغربة عنها وانتفاء اللّقاء بين الإنسان وذاته أشبه بسجن يسكنه الإنسان رغم امتلاك مفاتيحه.
في قصّة "الرّأس والمرآة"، يحاور البطل ذاته أمام المرآة، فيوحي للقارئ وكأنّه أمام بحث عن ذاته المغتربة عنه، على الرّغم من التّعرّف عليها ظاهريّاً:
 "إنها رأسي؛
الوجه النّاحل الّذي ورثته عن جدّي لأبي، العينان المغروزتان في أعماقه، الأنف المضغوط الباسط قاعدته فوق أرجاء وجنتين ضامرتين، والفم الممتدّ حتّى أطراف الأذنين المنكمشتين بعيداً..
بالتّأكيد إنّها هي.. رأسي الّتي أعرفها جيّداً؛
الشَّعر المتجعّد بخصلاته المتماوجة كيفما اتّفق، الجبهة المفلطحة الّتي تضيق عند حدود الحاجبين، والنّدبة السّوداء الّتي تزيِّن حنطة خدّي الأيسر.
نعم، لا أشكُّ في مقدرتي على معرفتي −أقصد معرفة رأسي−، فما زلت أذكرها تماماً بكامل  بؤسها الّذي رأيتها فيه آخر مرّة.." (ص9).

يمهّد المونولوج للولوج داخل الشّخصيّة ومحاكاتها لذاتها والتّعبير عن معاناتها من واقع مرير، فتهرب إلى اللّاواقع المؤدّي إلى غربة داخليّة. ويكشف هذا المونولوج عن معالجة ذاتيّة تجسّد لقاء مع الذّات، يتعرّف عليها الكاتب بأدقّ تفاصيلها الخارجيّة. يظهر ذلك الوصف الدّقيق للرّأس الّتي لها دلالة على احتواء الفكر والخبرة الإنسانيّة. إلّا أنّ البطل يؤكّد تيهه عنها وعدم معرفته لنفسه رغم دقّة الوصف الخارجي، فمعرفة الإنسان لذاته ليست مقصورة على الشّكل الخارجيّ وحسب. (لا أشكُّ في مقدرتي على معرفتي −أقصد معرفة رأسي−). تحيل المعرفة النّاقصة لذات البطل القارئ إلى نوع من القطيعة بينه وبين كينونته.
خلق الحوار القائم بين البطل وذاته حركة تجذب انتباه القارئ، خاصّة أنّ الكاتب يحاول استنطاق الأغوار الإنسانيّة. وكأنّي به يخرجها من إطارها الجامد إلى الحركة المجسّدة لتتوضّح للقارئ أغواره الشّخصيّة.   يؤدّي الوصف الخارجيّ الدّقيق مهامه في فصل المعرفة بين الخارج والدّاخل. ففي حين يتعرّف البطل على شكله الخارجيّ إلّا أنّه يجهل شخصه، الكائن الحقيقيّ/ القيمة الإنسانيّة: "كلُّهم عرفوني، إلاّ أنا.. يا للحسرة، لمْ أعد أعرفني!" (ص 13).

وإن كان الضّيوف الثّقال الظّلّ مجتمعاً مفروضاً على الفرد، إلّا أنّهم يتركون ثقل حضورهم في العمق الإنسانيّ فيمسي غير قادر على التّفلّت منهم إلّا بالهروب إلى عزلة شديدة. ما يكشفه مشهد قصّة "ضيوف ثقال الظّلّ"، كتجربة  اجتماعيّة حياتيّة يختبرها الإنسان تعبّر عن تطفّل الآخر عنوة في الحياة الشّخصيّة، يقيّد حياة الإنسان، ويحدّ من حرّيّتها. ولعلّ الإشارة إلى أرقام الهواتف الكثيرة المرتبطة بأشخاص كثيرين، بغضّ النّظر عن فعاليّة حضورهم أم لا، دلالة على ثقل تأثيرهم في النّفس، والضّغط النّفسيّ الّذي يشكّله هذا الحضور. "كان لا ُ بدَّ أن أتخلّص من أولئك الكثيرين الّذين عرفتهم، وأطردهم من بين أوراقي الّتي يسكنونها  رغماً عنّي منذ سنين؛ أكنُس ذاكرتي من بقايا أسمائهم، وملامحهم، وألقابهم، وأرقام هواتفهم، لأُعيد تأثيثها من جديد، كما أحب وأشتهي، بعد أن خلق وجودهم في داخلي زحاماً لا يطاق." (ص 15).
تعالج هذه الفكرة بدقّة صراعاً داخليّاً عميقاً بين الذّات المقيّدة الرّاغبة بشدّة من التّخلص من أؤلئك المنغمسين في حياتها، وبين الارتباك من اتّخاذ المبادرة. وكأنّ استحقاق التحرّر أمر صعب وشاق. "رغم النتائج، كان الأمر يتطلّب قراراً جريئاً كهذا، فما عدت أحتمل الفوضى في أركان حياتي الّتي أسعى أن تكون دائماً في أفضل حالات ترتيبها." (15). يظهر لنا السّاردُ/ البطل شخصيّة مشرذمة، تسكنها الفوضى من جهة، والتّوق إلى السّكينة من جهة أخرى. وإن قادها هذا التّشرذم إلى خطوة جريئة في التّخلّص من تلك الأرقام/ الأشخاص، إلّا أنّ القارئ سيتبيّن له أن الثّقل النّفسيّ والمعاناة الحقيقيّة يكمنان في غياب الاتّزان النّفسيّ لدى الشّخصيّة. ففعل التّحرّر أتى ظاهريّاً، ولم يعالج عميقاً ذلك القيد المفروض عنوة. فبعد أن أحرق البطل الدّفاتر الّتي عليها أرقام الهواتف،  تحرّر ماديّاً من ثقل ضيوفه، إلّا أنّ هاجسهم ظلّ قائماً: "في ما أذكر، اضيقَّ المكان وأنا أحاول اختراق الجدار الّذي اصطدم به ظهري، هرباً من ضربات موجعة فوق كلّ شبر من جسدي، بينما قهقهات شامتة، تعلو.." (20)
في قصّة "ضجيج" يستعرض الكاتب شخصيّة البطل المتفلّت من القيود الاجتماعيّة والعائليّة بعد تمرّد إراديّ، وحصول على استقلاليّة مرجوّة. إلّا أنّ هذه الشّخصيّة تبدو مرتبكة لاحقاً من النّتيجة الّتي أدّت إلى وحدة قاتلة، وكأنّي ببطل القصّة يعبّر عن ازدواجيّة في الطّبع، أو عدم قدرة على استحقاق الحرّيّة الشّخصيّة، أو تجذّر التّبعيّة في أعماق الذّات لدرجة أنّ البطل وبعد عشرة أسابيع من العزلة، تغيّر شعوره بالوقت، وبدل التنعّم بالاستقلاليّة والحرّيّة، أحسّ بأنّ بيته الّذي بحث عنه وأراده بعيداً عن الضّجيج الخارجيّ أشبه بقبر يضيق عليه: "ما أشدّ وطأة العزلة الّتي اخترتها بإرادتي"، هجست وأنا أقاسي وحدة تزداد كلّ صباح. وألحّ عليّ السّؤال: هل من عاقل يختار "منفى" ليستأنف حياته فيه؟ (ص 43).
هل نحن أمام شخصيّة مزدوجة، أم أنّنا أمام شخصيّة أنهكتها التّبعيّة حدّ صعوبة التّأقلم مع الحرّيّة الشّخصيّة والاستقلاليّة. أم إنّ الكاتب أراد من خلال البطل تحديد مفاهيم التمرّد وتحقيق الحريّة بعيداً عن الانعزال؟
لمّا اهتدى البطل إلى حلّ بعد عناء، خلق ضجيجاً لا يقلّ غرابة عن الضّجيج الخارجيّ. وإنّما الفرق بين الاثنين أنّ الأوّل إراديّ، والثّاني اختياريّ. قرار الانعزال أوقع البطل في ورطة بل خلق في نفسه توقاً إلى ضجيج أعنف. "استدعيت متخصّصاً في الكهرباء، وطلبت منه ضبط جرس الباب الخارجيّ، ليرنّ كلّ ثلاثين دقيقة وحده، قبل أن يتوقّف بعد عشرين ثانية أوتوماتيكيّاً. هي وسيلة للتّحايل على ما أنا فيه، فكلما سمعت الرّنين أوهمت نفسي أنّ هناك شخصاً ينتظر خلف الباب كي أفتحه له، لكنّني، لِلؤم في نفسي، أتركه يعود أدراجه وفي ظنّه أنّني لست في البيت!... ولأنّ زيادة الخير خير، اشتريت دزّينة من السّاعات بأحجام مختلفة، مزوّدة بمنبّهات ذات أصوات متباينة في الإيقاع والحدّة؛ من النّاعم الرّومانسي إلى الفجّ الغليظ، وضبطتُ كلّاً منها عند وقت معيّن." (44).
لا يقف القارئ في هذه القصّة أمام بطل ذي شخصيّة مرتبكة وحسب، وإنّما بدأ يدخل في تفاصيل حالة نفسيّة أشبه بمرض الوهم الّتي فيها تتعطّل مهام الحواس الأصليّة وتشذّ عن طبيعتها، فتغيّر الحقائق وتشوّهها. قد لا نكون أمام حالة مرض الوهم، لكنّ البطل خلق ما يشبه الوهم ليخرج من عزلته. وإذا به يصدّ الوهم ويخرج من سجن ليدخل سجناً آخر، أشدّ قسوة وعنفاً. بل إنّه بدأ يتأقلم مع الواقع الجديد ويشخصن السّاعات ويمنحها أسماء ويدلّلها... إلى أن استحال هذا الواقع ضجيجاً لا يحتمل، وكاد البطل يفقد  عقله. وكأنّي بواقعه يتمرّد عليه. ما جعله يتمرّد بدوره لكن بطريقة معاكسة فيعلن هزيمته ويهرع إلى الشّارع فاقداً كلّ الامتيازات الّتي سعى إليها. "عندها حملت ما تيسّر من أغراضي في حقيبة وهرولت إلى الشّارع معلناً هزيمتي، وها أنذا أكتب قصّتي في المقهى، وقد قرَّرت ألاّ أعود إلى بيت تسكنه كلُّ تلك الأصوات.. بيت كان لي وحدي!" (46).

ضيوف جعفر العقيلي الثّقال الظّلّ لا يأتون من خارج الذّات وحسب، وإنّما هم الأصوات الإنسانيّة الدّاخليّة، أو الذّوات المتعدّدة الكامنة في الإنسان. وهم ثقال الظّلّ إذا ما افتقد الإنسان إلى الحكمة والاتّزان الفكريّ والنّفسي، كيما يتمكّن من التّخلّص من ثقلهم ومن إقحام حضورهم لحياة الإنسان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق