الاثنين، 23 يناير 2017

الرمزية ومدلولاتها في ديوان "من عبادان نحو العالم الفرنكوفوني" للشّاعر الإيراني جمال نصاري


مادونا عسكر/ لبنان

عندما تعجز اللّغة يحضر الشّعر بانسيابه العذب ومنطقه الأعلى وروحانيّته المتّقدة. يحضر، وتحضر معه فضائل العالم الشّعريّ الملامس للأرض المطاول للسّماء. "من عبادان إلى العالم الفرنكوفوني" ديوان تتجلّى فيه قدرة الشّاعر جمال نصاري على تخطّي  اللّغة بل تطويعها وكسر قيدها العاجز، وتحرير الكلمة من حرفيّتها ورفعها إلى مستوى "المعنى" مستخدماً الرّمز لتخطّي المعنى الحرفي والغوص في أعماق سرّ الكلمة ليمسيَ الشّعر رتبة  الإنسان الملامس للكمال.
تتميّز لغة الشّاعر جمال نصاري بالبعد الكوني المتفلّت من المعاني الضّيّقة والمنفتح على أسرار الكون غير المدركة بالعقل الضّيّق المحدود. الحبّ/ الموت/ الصّلاة/ العقيدة الكونيّة... ملامح الكون الشّعريّ المتمرّد على التّقليديّة والتّعبير السّهل.
يرسم الشّاعر في ديوانه لوحات سرياليّة ننظرها فنبصرها لنعاين حقيقة لامسها الشّاعر وعبّر عنها مستدرجاً العقل الباطن للنّطق بما يخالج النّفس فينساب الشّعر كنهر يجرف معه  رواسب علقت في دواخلنا، ويرتقي بنا إلى الحبّ الكونيّ الّذي تخضع له كلّ الحقائق المزيّفة عن الحبّ. كما يعالج واقعاً إنسانيّاً تمرّس بالوجع والأسى.
- المبالغة في الرّمزيّة:
يكثّف الشّاعر استخدام الرّمز في قصائده، بل يبالغ في استخدامه حتّى لا تكاد القصيدة  تخلو منه. ولعلّ ذلك يعود بالدّرجة الأولى إلى ارتقاء الشّعر إلى مستوى العالم المقدّس. بمعنى آخر، للكون الشّعري مكانة خاصّة محاطة بما يشبه الوحي، وبالتّالي فلا بدّ أن ترتقي لغته إلى مستوى "السّرّ". وإذ أستخدم لفظة "السّرّ"، فلا أعني بذلك حائطاً مسدوداً لا يمكن اختراقه، وإنّما السّرّ/ Mystère الّذي يحتاج من القارئ حفراً عميقاً في اللّغة الشّعريّة كيما يستنبط مقاصد الشّاعر.
يقول مالارميه: "إنّ الشّيء المقدّس والّذي يريد أن يظلّ مقدّساً يتجلّل بالسّرّ". وأهميّة الشّعر تكمن في كونه يتجلّل بالسّرّ حتى يحافظ على مكانته الّتي تتوسّط السّماء والأرض. ولا ريب أنّ الشّاعر جمال نصاري يدرك أهميّة هذه المكانة، فيعلي شعره رتبة السّرّ/ Mystère، وذلك من خلال استخدام الرّمز المكثّف مستقياً إيّاه من الأسطورة والدّين والإبداع الشّخصيّ، أي خلَق رموزاً خاصّة يتفرّد فيها لابتكار لغة خاصّة فيه.
استخدم الدّين الرّمز ليعبّر قدر الإمكان عن اللّغة الإلهية المنسكبة في قلب الكاتب، واعتمدت الأسطورة الرّمز للتضخيم الواقع الحقيقيّ ليصبح متجذّراً أكثر في نفس المتلقّي. وفي الدّيوان نشهد الرّمز كعامل تفاعليّ مع الواقع ثمّ تخطّيه للتّعبير عمّا لا يمكن التّعبير عنه بحرّيّة.
وتشكّل الرّموز في الدّيوان مفاتيح نستدلّ من خلالها على مكنون لغة نصاري، فيعبر القارئ إلى دواخله ويعاين المسكوت عنه في ضمير الشّاعر. وهي، أي الرّموز، جزء لا يتجزّأ من الرؤيا الشّعريّة الّتي يعرّفها الشّاعر اللّبناني يوسف الخال كونها "لا تشرح العالمَ أو تفسّره أو تنقله أو تكشفه وإنّما تريد خلقه من جديد على محكّ تجربة الشّاعر وبواسطة حدسه ومخيّلته". هذا ما يتجلى في ديوان "من عبادان إلى العالم الفرنكفوني". فتجربة الشّاعر بين الواقع الدّينيّ والسّياسيّ والاجتماعيّ انكشفت للقارئ من خلال الرّمز الّذي حمل مدلول الحياة والاتّجاه نحو العالم العلويّ لإعادة خلق مفاهيم إنسانيّة جديدة، أو بمعنى أتمّ إعادة تجديد المفاهيم الإنسانيّة الأصيلة.
نلاحظ جليّاً أنّ الشّاعر ينظر إلى العالم من علٍ، أي بعين الموحى له، وهو المغترب عن هذا العالم. يرنو إليه بعين الشّاعر فيعاين خلله بدقّة، ويكشف تفاصيل ظلمته على ضوء الوحي الشّعريّ.
أكتبي على قبري
رجل مجهول امتلك مشاعري
وحلّق في اللّامجهول. (1) 
يظهر  فكر الشّاعر ورؤيته لمحيطه وواقعه من خلال غربته عن العالم. فهو غريب  ومجهول في  واقع تؤذيه حقيقته، وتؤلمه أيديولوجيّاته. إلّا أنّ الموت يفتح له باب الحياة/ الحقيقة ويظهر هذا جليّاً في عنوان القصيدة  "عندما أموت" كما في مضمونها. فعبارة (عندما) السّابقة للموت، تمنح القارئ آفاقاً جديدة تعلن الحياة لحظة الموت ذاته؛ لاقترانها في سياق القصيدة وارتباط هذا الظرف بفعل الحياة. (عندما أموت... فعندئذٍ سأرجع طفلاً بريئاً/ عندما أموت... سأترك أسئلتي مفتوحة...). ولا يقف الشّاعر عند حدود الحياة بل يتخطّاها لتتجلّى القيامة رمزاً خالداً يعبّر عن الشّاعر الخالد. إذن فالموت رمز القيامة، أي الخطوة النّهائيّة نحو الحرّيّة المطلقة واستمراريّة الحياة. (فعندئذٍ ستجتمع أجزائي/ وسأكتب شعراً..). من هذا العلو الّذي ارتقاه الشّاعر يرنو القارئ إلى عالمه، ويعاين معه وجع الأرض والإنسان على جميع المستويات.
وفي نقد لاذع للواقع الدّيني يستعين الشّاعر بالرّجل الرّمز والمرأة الرّمز اللّذين يكوّنان معاً صورة الحبّ الإلهيّ. هذه الصّورة ارتسمت منذ البدء إلّا أنّ الدّين هشّمها وشوّه الرّباط المقدّس بين الصّورتين واستغلّتها السّياسة المرتبطة بالدّين.
 في بلاد نجيبة
الحبيبة
لا تصل إلى حبيبها
مرّتين
فالبيت قصر شرعيّ
تقرأ فيه سورة النّساء (2)
إلّا أنّ هذه الصّورة تطال المجتمع بأسره حتّى تتشكّل ملامح الجريمة المستمرّة بحقّ الإنسانيّة، فتستحيل نجيبة رمزاُ للضحيّة المنتظرة الخلاص، ومصطفى رمز المخلّص بل الإله.
تعيش نجيبة مع طيفها
وترى على جناحيه
ثلاثة أحرف تقرأ عموديّاً
الألف: لا إله موجود في حيمة العرب
الميم: فقدت الماء ومصطفى خيال لا ينسى
اللّام: لم تحتضن الفجر يوماً
والحبيب يحمل صخرته على كتفه
هل أراد الشّاعر جمال نصاري إعجازاً ما في هذه السّطور، ليبقى الأمل (ألف/ ميم/ لام/ أمل) سرّاً لا يمكن إدراكه، أم أنّ تلك الحروف الّتي تقرأ عموديّاً تتّجه نحو السّماء ولا يمكن إدراكها على أرض الواقع؟ يظهر الحبيب/ المخلّص الّذي رمز إليه الشاعر بمصطفى مصلوبا في العالم يحمل على كتفه الوجع الإنسانيّ، وجع الحبّ. (والحبيب يحمل صخرته على كتفه). وفي ذات الوقت يبحث مصطفى عن ذاته بل أُسقط ونجيبة  من جنّتهما.
ونجيبة تصرخ بوجه قاتلها
لم أنزلتنا من الجنّة
لم نأكل التّفاحة بعد
السّقوط بالمفهوم الدّيني نتج عن رفض الإنسان لله الحبّ، فأٌخرج من الجنّة. وأمّا هنا فيُطرد منها لأنّه أحبّ. ولعلّ العقاب أبديّ، يرمز إليه الرّقم (ألف) الّذي يحمل دلالة الخلود.
فمصطفى قريب منّي وبعيد
خمسون متراً أفقيّ اللّحظة
وصلبوا طيفه في غرفتي
لتكتمل دورة الموت في جسدي
ويبتعد ألف سنة ضوئيّة
حتّى يحتفل أبي بفحولته.
ويبالغ الشّاعر في الرّمزيّة إلى حتميّة العقاب ولانهايته باستخدام لفظة (الضّوئيّة) ليكثّف صورة الواقع القاسي والممارسة الدّينيّة الفاشلة.
مصطفى/ المختار/ الحبيب الّذي يرمز إلى الحبّ يحمل في ذاته الألوهة والنبّوءة والإمامة وفعل الخلاص. وبهذا تتّضح معالم الحقيقة الّتي يؤمن بها الشّاعر الرّائي، حقيقة الحبّ الإله. يتخطّى الشّاعر في هذه السّطور العقيدة الّتي يعبدها الإنسان أكثر من الله ويتمسّك بها بعيداً عن ربّ العقيدة. ويتطلّع إلى عقيدة أسمى منبعها قلب الإله، الحبّ. (وكلّ الدّيانات متّهمة بدم مصطفى/ هكذا يقول طيف نجيبة)، فهنا يتلاشى كل شيء يحمل صبغة دينية، من آلهة وأنبياء وأولياء، ليكون مصطفى هو وحده كل ذلك، فالإله الرامز إلى العالم المطلق، والخلق المتجدّد، والقوّة الفاعلة في الضّمير الإنسانيّ. والنّبيّ حامل الكلمة الإلهيّة والمبلّغ إيّاها للعالم/ الحبّ الفاعل. وعليّ رمز الحكمة والمعرفة، والمسيح المخلّص يجتمعون في مصطفى رمز الإنسان الإله. فيتجلّى لدى القارئ المفهوم العقائديّ الكونيّ الّذي يتطلّع إلى النموّ والصّبوّ نحو المستقبل. وتظهر أهميّة الإنسان وقدرته الّتي تخوّله استعادة إنسانيّته من خلال التّحرّر من جلباب الدّين للانطلاق نحو خلاص الإنسانيّة بالحبّ.
ولا يقف الشاعر عند هذا الحد في استخدام الرموز الدينية، فثمّة مقارنة يعقدها الشاعر بين صورة المسيح وصورة الحسين للدّلالة على انصهارهما في كلّ ضحيّة مع اختلاف واقع المسيح وواقع الحسين. إلّا أنّ الاثنين تمّ رفضهما ونبذهما ما دفع الشّاعر لاتّخاذهما رمزاً للإنسانيّة المغدور بها. ويعرّف هذان الرّمزان  الشّهادة بمعناها القويّ والمطلق، يقول نصاري:
ثقافة تحيا في ماضيها
وأنا لا أملك المرآة
لأرى المسيح
يمتدّ ف يجسد أبي
بين أرض وسماء
والحسين ينبعث من روما
إلى كربلاء (3)
- المرأة الرّمز:
احتلّت المرأة الرّمز مكانة خاصّة في الديوان، فعبّر الشّاعر عن آلامها ومعاناتها من جهة، وعن قوّتها وتأثيرها من جهة أخرى، ويوليها الشّاعر أحيانا رتبة الألوهيّة، فيمنحها صفة الخلق، والإلهام، فتجعله أكثر قدرة على كتابة الشعر:
سيخفق القلب مرّات
فعندئذٍ ستجتمع أجزائي
وسأكتب شعراً
في فلسفة الشّفاه... آه (4)
كما حضرت المرأة باعتبارها أمّا، ترمز إلى الحياة وانتهاء البؤس وامّحاء الشّقاء لتظهر حياة جديدة يولد فيها الإنسان الجديد المتفلّت من تاريخه المثقل بالحزن والألم.
عندما أموت
سأرى أبي في السّنين الّتي فارقني بها
فعندئذٍ سأسترجع طفولتي
وستولد أمّي من جديد (5)
ولا شكّ في أنّ الشّاعر لا يتحدّث عن أمّه وحسب، وإنّما عن الأمّ بشكل مطلق ليوليها رتبة الموجّهة والمرشدة للأبناء حيث تعلمهم الأمّ "أبجديّات الحبّ والغزل"، فيستعيد الإنسان/ الابن طفولته بالولادة الجديدة.
ومن صور المرأة ورموزها كذلك في الديوان تحضر المرأة العاشقة، تلك المرأة الّتي تمتلك كيان الشّاعر، فيوليها أهميّة خاصّة. موظفا لفظ الخيوط ليعبر بذلك عن المشاعر والأحاسيس الّتي تحفر في عمق الشّاعر. فالمرأة خلقت من ضلع الرّجل، وهي بذلك جزء من كيانه ملتحمة فيه، تمتدّ في كيانه وتخترق آفاقه وتطلّعاته:
ليس لي سوى الأرض
والمرأة الّتي تغزل خيوطها
على أضلعي
في زمن الخرافة
والحداثة
وما بعد الحداثة) (6)
ويلتفت الشاعر كذلك إلى نموذج آخر من نماذج المرأة الواقعية، ألا وهي المرأة المستَغلّة، والمجاهرة في استخدام جسد المرأة إعلاميّاً ودينيّاً وسياسيّاً. والواقع السّياسي الّذي ادّعى المساندة والدّعم ساهم في هذا الاستغلال ليحقّق مآربه الشّخصيّة:
 في البثّ المباشر
وضعت امرأة بكارتها
في المزاد الدّينيّ
انتصرت كوباني
هل سترى أميركا هذا الفيلم في الإعادة؟ (7)
إن اللغة الشعرية في الديوان صغيت بالاعتماد على الرموز والإشارات الموحية، مما جعل الديوان حافلا بالكثير منها، حاولتُ في هذا المقال البحث عن أهم مدلولاتها في الرموز الكبرى، وتشكّل علامات بارزة فيه. وقد منحت العبارة الشعرية ميزتها الخاصة، والتي تسم الشاعر بأسلوبها الدال عليه.
-------------------
 (1) عندما أموت- ص 13
(2) نجيبة ومصطفى – ص 29
(3) الجريمة- ص 39
(4) عندما أموت- ص 19
(5) عندما أموت- ص 16
(6) أنا الأرض بشهواتها- ص 49
(7) المعصية- ص 55


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق