الاثنين، 23 يناير 2017

نور الحقيقة وسرّ الاتّحاد


مادونا عسكر/ لبنان

قراءة في نصّ للشّاعر التّونسي يوسف الهمامي

 - النّص:
أنا - أنت
نحن ساقيتان تلتقيان معاً
بين حقول الشّمس والحلم
قبل نهاية العالم برجفة واحدة..


 - القراءة:
تشبه هذه الشّذرة إلى حد بعيد لوحة الرّسام النّمساوي غوستاف كليمت - "القبلة"- من حيث المضمون المعبّر عن الاتّحاد العشقي الكيانيّ (أنا- أنت) الذي يحافظ على تفرد المتّحِدّيْن. فالاتّحاد لا يعني ذوبان الواحد في الآخر بل المعنى الأوضح والأجلّ للاتّحاد يكمن في انصهار الشّخصيْن مع ملازمة كلّ منهما لدوره وإشراقته. 
النّصّ/ الشّذرة لوحة تقول معنىً منبعثاً من حالة شعريّة، تولّد فيها الحرف في داخل الشّاعر ليمنح للصّمت شكلاً شعريّاً. وكأنّي به يجسّد الكلمة، فتمسي مرئيّة للعين، عذبة للسّمع، وقادرة على محاكاة الحواسّ من خلال الجسد الّذي مُنح لها. بالمقابل، اللّوحة قصيدة صامتة تُتلى على مسمع العين ثمّ تتسرّب إلى العمق الإنساني لتحرّك فيه كلّ معاني الجمال.
بالحديث عن تجسّد الكلمة نجد هذه العمليّة الإبداعيّة في نصّ الشّاعر يوسف الهمامي كما في لوحة كليمت. وبالتّالي فنحن أمام شذرة تجسّد الكلمة في لوحة ولوحة تجسّد الكلمة في نصّ. وبين اللّوحة والنّصّ/ الشّذرة علاقة حميمة من حيث المضمون والشّكل. وإذا أمكن استخدام (أنا- أنت) كعنوان لنصّ الشّاعر، فالعنوان (القبلة) للوحة كليمت يتقارب من معنى الانصهار والاتّحاد العشقيّ.
كما أنّ عبارة (أنا- أنت) تحمل في عمقها الإنسانيّ حقيقة الوحدويّة الكونيّة الّتي تتّخذ بعداً أعمق من الاتّحاد الجسديّ. بالعودة إلى لوحة كليمت يظهر لنا الاتّحاد الجسديّ كمبدأ أوّل بحيث يظهر لنا واقعيّاً الأنوثة الغارقة في الحلم والاحتواء. إلّا أنّ كليمت استفاد من الألوان والخطوط والزّخرفات ليُظهر جليّاً الوحدويّة بين الشّخصيْن، محافظاً على تفرّد كلّ منهما. وفي لوحة الشّاعر الهمامي نذهب إلى عمق أبعد، وحالة استثنائيّة تخلق حركة ديناميكيّة في الاتّحاد العشقيّ. ما نفهمه من جملة (نحن ساقيتان تلتقيان معاً.)
حافظ الهمامي على تفرّد الأنا والأنت من خلال الضّمير (نحن)، الّذي يعزّز الفرادة والاتّحاد في آن. فيتجلّى للقارئ الاتّحاد الفكري والرّوحي من جهة، وأهميّة السّعي لبلوغ اللقاء من جهة أخرى. السّاقية في حالة جريان مستمرّ لا يحدّه حدود، وبالتّالي فالسّاقيتان السّاعيتان إلى اللّقاء تمتزجان لتتوحّدا في جريان واحد. (تلتقيان معاً.)
ولمّا كان اللّقاء قد تمّ بين حقول الشّمس والحلم، تشكّل الوجود الحركيّ الديناميكيّ الّذي سيروي حقول النّور (الشّمس) والوحي الملهم (الحلم). وجودٌ حاضر أمام نور الحقيقة والوحي الشّعريّ يغوص في سرّ الاتّحاد بالمعنى القدسي لكلمة (سرّ) وليس بمعنى حدود يقف عندها الطّرفين المتّحديْن. فالسّرّ حقيقة تمّ اكتشافها وتلمّسها، وبالتّالي فالخطوة التّالية هي الولوج فيها كحياة لا تخمد فيها الحركة، ولا يضمحلّ فيها العيش. الحقيقة/ النّور حياة معيشة، غذاؤها الوحي، أي انسكاب النّور في داخل الاتّحاد العشقيّ.
في لوحة كليمت يظهر اتّحاد العاشقين في وحدة يتجلّى فيها الالتحام الكيانيّ، إلا أنّ كليمت حافظ على إبراز الوجهين المتماهيين واليدين المتعانقتين، معبّراً عن تكامل داخل الوحدة الكينونيّة. بالمقابل أظهر الشّاعر يوسف الهمامي اتّحاد الأنا.. أنت، مع الحفاظ على الوجهيْن المتماهييْن (ساقيتان)، واليديْن المتعانقتيْن (تلتقيان). وأعرب عن اتّحاد دائم أبديّ يهيم بين حقول الشّمس والحلم. ما خلق تمايزاً بين الشّذرة واللّوحة. وإن بدا لنا في لوحة كليمت لقاء حميميّاً اتّحاديّاً أغرق الحواسّ في مفهوم واحد للانصهار، إلّا أنّ الشّذرة حلّقت بنا في سماوات عالية حيث الأبد اللّا محدود.
تمّ اللقاء عند الشّاعر قبل نهاية العالم برجفة، ما يجعلنا نتعرّف إلى اللّحظة (الرّجفة) الّتي يحياها هذا اللّقاء كحركة كونيّة لا تلتفت إلى أمس أو غد، وإنّما حاضر أبديّ في كنف النّور. وبريشة الوحي صاغ الكلمات الموحى بها، وخلق لوحة تخلد بمضمونها الدّلاليّ. فالكلام الموحى به كما الوحي نور لا يخمد عبقه ولا يتلاشى تأثيره.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق