الخميس، 19 يناير 2017

في دائرة مقال (النّساء الشّاعرات وقوّة الشعر) لفراس حج محمد



مادونا عسكر/ لبنان


الشّاعر الفاعل والشّاعرة المفعول به

قد يوحي العنوان (الشّاعرات وقوة الشعر) أنّ الأستاذ فراس يفصل بين الشّعر الذّكوري والشّعر النّسوي، بيد أنّ الموضوع متعلّق بالشّعر قبل الشّاعرات. الشّعر الحالة العليا/ الوحي الّتي تقود الشّاعر فتكتُبه. ولبلوغ المقصد المرجو إيصاله من هذا المقال ينبغي التّجرّد من العنصريّة بين الرّجل والمرأة، ومحاولة الولوج في الكيان الإنسانيّ ككلّ، ثمّ الوقوف أمام الذّات كيما نتمكّن كشاعرات من إدراك الحالة الشّعريّة الّتي تنقصنا بشكل أو بآخر لنشكّل مرجعاً أو نموذجاً شعريّاً.
"إن هناك شيئاً ما كان يعوق النّساء عن كتابة الشّعر، وأنّ المشكلة قد تكون ذات صلة بعراقة هذا الفنّ ومزيته، قد يكون الأمر شئنا أم أبينا، متمثّلاً في أنّ هناك قدراً من الصّفة الذّكوريّة في النّموذج الأعلى للشّاعر وهو ما يصعب على المرأة الانسجام معه" (قوة الشعر، فنتن، ص233-234). لا ريب إذا ما ناقشنا وجهة نظر جايمس فنتن وتبيّنا السّبب الّذي يحول دون بلوغ المرأة رتبة النّموذج الشّعريّ. وما هي الأسباب الحقيقيّة الكامنة في تركيبتها الإنسانيّة الّتي تحول بينها والوصول إلى هذا المقام.
إذا كان الأمر يتعلّق بالجانب الذّكوري من حيث التّركيبة الّذكوريّة المختلفة عن التّركيبة الأنثويّة، فلا بدّ من الوقوف عند هذه النّقطة والتّعمّق بها، لعلّنا نتلمّس خيطاً يقودنا إلى الحقيقة. بين الرّجل والمرأة شئنا أم أبينا فرق في التّركيبة الجسديّة والنّفسيّة والرّوحيّة، والمرأة غالباً مفعول به في حين أنّ الرّجل هو الفاعل. وإذا كنّا سنوافق فنتن في وجهة نظره فهذا يعني أنّ الشّاعر النّموذج فاعل وليس مفعولاً به. وبالتّالي فالمرأة المفعول به لا تستطيع أن تبلغ مقام النّموذج إذا ما بقيت عند حدود المفعول به. وتتراءى لنا النّقطة الأهمّ ألا وهي الشّعر الفعل. إّذا كان الشّاعر فاعلاً، فالشّعر هو الفعل، وإذا كان الشّاعر هو من يُكتب لا من يَكتب فهو في النّموذج المفعول به من الشّعر. وعلى ضوء ذلك نستنتج أنّ على المرأة أن تنتقل من المفعول به الواقعي لتتحوّل إلى الفاعل الشّعري، لا أن تكون مفعولاً به شعريّاً.
الشّعر/ الوحي ينضوي تحته الشّاعر الموحى له، فتأتي القصيدة حالة تكتب نفسها بالشّاعر، وليس العكس. وهنا نعود إلى القصد الأساسي من المقال، وهو عدم الفصل بين الشّعر الذّكوري والشّعر النسوي، ففي الحالتين الشّاعر هو المفعول به في الشّعر، لذا فالنّماذج الشّعريّة نادرة. فكتّاب الشّعر كثر، وأمّا الشّعراء فقليلون.
(إذا كان الشّعر فنّا ذكوريّاً فإن اقتراب النّساء منه سيكون بلا طائل إلّا في حالة واحدة: أن تتخلّى المرأة عن صفاتها الأنثويّة وتتلبّس لبوس الشّاعر الذّكر). إذا جارينا الأستاذ فراس حج محمد في وجهة نظره فإلى أي مدى يمكن للمرأة أن تتخلّى عن صفاتها الأنثويّة؟ وأيّ خطر نفسي سيكولوجي ستواجه في هذه الحالة؟ وهل هذه هي الوسيلة الوحيدة لبلوغ النّموذج الشّعري وترك بصمة نسويّة في الشّعر؟.
قد تتمكّن المرأة بطريقة أو بأخرى قمع أنثويّتها لكن من الصّعب الحديث عن تخلٍّ كلّيّ. وما أشار إليه أ. فراس حول الشّاعرة الإغريقيّة سافو، لا يؤكّد تخلّيها عن صفاتها الأنثويّة، جلّ ما حصل أنّها قمعت هذه الصّفات ولعلّه لسبب سيكولوجيّ، بل أكثر من ذلك اتّخذت النّموذج الذّكوري أيّ الجانب الفاعل بدل المفعول به واقعيّاً. وبالتّالي فهي لم تتحرّر من تركيبتها الأنثويّة بالعمق. بالمقابل تركت سافو دلالة واضحة في عالم الشّعر وأثراً نموذجيّاً، فهل يعود السّبب إلى تلمّسها مبدأ الفاعل أم إلى أمر آخر؟ لن نتمكّن من إيجاد الجواب القاطع لأنّ الجواب مرتبط بالحالة الفاعلة والشّاعر الفاعل. ومن العسير تعريف هذه الحالة لأنّها كائنة في كلّ نموذج على حدة. ولا بدّ أنّ كلّ شاعر يخضع لهذه الحالة بتفرّد وتميّز.
كان سعيد عقل يعتبر نفسه إله الشّعر، وعلى الرّغم من شهاداته المتعدّدة الّتي لا نعرف عنها شيئاً، كان يكتفي بلقب (الشّاعر) لأنّه كان يعتبره كلّ المجد. كان سعيد عقل مسكوناً بالشّعر/ الوحي، وفي آخر أيّامه يذكر الشّاعر اللّبناني هنري زغيب أنّ سعيداً كان يستيقظ ليلاً يتلو الشّعر ويتّصل به ليدوّنه. ما يمكننا أن نفهمه جليّاً بأنّ الشّاعر يرتبط بحالة هي الكاتبة وهو المدوّن لها. وما نقرأه في قصائده هي الحالة العليا. لا شكّ في أنّ الشّاعر يتميّز بفكر معيّن وذلك لأنّه ينصهر في هذه الحالة ويتماهى معها، إلّا أنّها هي الأصل.
وهذا سبب منطقي يعرّفنا إلى أهميّة القصيدة الّتي تخاطب الوجد لا العقل. فنقرأ قصائد قد لا نفهمها وإنّما نحسّها. فأيّ أهميّة لقصيدة يفهمها العقل؟ وأي مجد لها إذا أتت معانيها واضحة للعقل؟ الشّعر قيمة للتأمّل والغوص في عمقها والانتشاء بجمالها دون أن تلمس الأرض.
الشّعر إله والمنضوون إليه نادرون، أي النّماذج الشّعريّة. والشّاعر إله يتساوى مع الشّعر إذا ما انغمس في الحالة الشّعريّة وامتزج بها. وكي لا أُفهم خطأ، لا علاقة للشّعر الإله والشّاعر الإله بالذّات الإلهيّة. وإنّما الشّعر حالة قدسيّة والشّاعر قدّيس في محرابها. ولكي تترك المرأة تحديداً دلالة وأثراً في الشّعر لا بدّ أن تخضع لهذه الحالة/ الإله. بل أن تنصهر بها، وتتماهى معها، وتنتفح على النّور الشّعري/ الوحي. عليها أن تتحّرر من النّموذج الذّكوري كما ذُكر في المقال، والأهمّ أنّ عليها أن تتحرّر من البوح الّذي يتنافى مع الشّعر، وتصغي للشّعر ليكتُبها.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق